المستطرف الصغير منتخبات من مَجمع الأمثال

جرى كلام في غربة كتب التراث العربي عن الأجيال الجديدة، بيني وبين ابنتي “ننسار” خريجة كلية الصيدلة من جامعة حلب السورية، حين رأتني أُطيل النظر في كتاب مَجمع الأمثال لأبي الفضل أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم النيسابوري الميداني، المتوفى سنة 518 من الهجرة. قالت: يا أبت بيننا وبين هذا الكتاب ألف عام، وأراك تمعن فيه، وكأنك اكتشفت كنزًا. قلتُ: أصبت كبد الحقيقة بقولك هذا يا ابنتي، وقد أدهشتني عبارة نقلها محقق الكتاب الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد عن أبي الحسن البيهقي تقول: “كان مصنف كتاب مَجمع الأمثال يأكل من كسب يده، وقد صاحب الفضل في أيام نفد زاده، وفني عتاده، وذهبت عدته، وبطلت أُهبته، فقوم سناد العلوم بعد ما غيرتها الأيام بصروفها، ووضع أنامل الأفاضل على خطوطها وحروفها”.

نعم – أبقاك الله وحفظك يا ابنتي، وأتم نعمته عليك- فإني لم أر في هذا الكتاب غير هذا الرأي. وقد كانت هذه النسخة من مَجمع الأمثال جليسة مُحببة لشهور عديدة، والجليس الصالح كحامل المسك إما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحًا طيبًا، وقد وجدت عند الميداني عالمًا غنيًا من البشر الذين خاضوا في الحياة خوض مدرك عارف بحقائقها.

نعم، فاجأني مَجمع الأمثال بما يحمل من معارف في أنواع العلوم: من دين وفلسفة وسياسة واقتصاد واجتماع ولغة ونبات وحيوان وطبخ وأزياء. وهنالك رواية تقول: بعد ما ألف الزمخشري كتاب (المستقصى في الأمثال) اطلع على مَجمع الأمثال للميداني، فدهش من حسنه، وجمال صنعته، ويقال ندم على تأليفه المستقصي في الأمثال، لكونه دون مَجمع الأمثال في حسن التأليف والوضع وبسط العبارة وكثرة الفوائد.

قالت ننسار: يا أبت إذا كان الأمر كذلك، وأظنه كذلك، فالرأي أن تعمل لنا مستطرفًا صغيرًا تنخل فيه منتخبات من حكايات وطرائف وردت في مَجمع الأمثال، تهذب لفظها، وتختصر طويلها، وتختار أجملها وأكثرها قربًا من عصرنا، وتخرج كل ذلك للناس، علّها تكون تنبيهًا حسنًا لقيمة التواصل مع تراث الآباء والأجداد.

قلتُ: هذا – أصلحك الله ورعاك، وجنبك الزلل وسدد خطاك- ما عزمت عليه -بعون الله وتوفيقه- لأنه ثمَّة كتب في الأدب العربي – القديم والحديث – أُلفت في هذا الباب وشاعت بين الناس من أشهرها كتاب: المستطرف في كل فن مستظرف، لمحمد بن أحمد بن منصور الأبشيهي من أهل مصر المحروسة، عاش بين عامي 1388-1448 ميلادي. وأيضًا كتاب: الظرف والظرفاء لأبي الطيب محمد بن إسحاق بن يحيى الوشاء. وفي العصر الحديث ألف الباحث العراقي هادي العلوي البغدادي – طيب الله ثراه في دمشق- كتابين صدرا عن دار المدى، الكتاب الأول: المستطرف الجديد وهو مختارات من التراث العربي. والكتاب الثاني: المستطرف الصيني وهو مختارات من تراث أهل الصين.

وآمل أن أكون قد وفقت في اختيار نصوص هذه المنتخبات من مَجمع الأمثال، وإخراجها صحيحة، فذلك ما أرجوه، وإن يكن فيه تقصير عن الغاية، فيشفع لي ما بذلته من جهد.

ما أرخص الجمل لولا الهرة

ضلَّ بعير في البادية، فأقسم صاحبه لئن وجده ليبيعنه بدرهم، فأصابه بعد حين، فقرن به هرة وقال: أبيع الجمل بدرهم، وأبيع الهرة بألف درهم، ولا أبيعهما إلا معًا، فقيل له: ما أرخص الجمل لولا الهرة.

تعست العجلة

كان فند مولى عائشة بنت سعد بن أبي وقاص، وكان أحد المغنين المجيدين، وله يقول ابن قيس الرقيات:

قل لفند يشيّع الأظعانا

طالما سر عيشنا وكفانا

وكانت عائشة أرسلته يأتيها بنار من الجوار، فصادف قومًا يخرجون إلى مصر، فخرج معهم، فأقام بمصر سنة، ثم قدم، فأخذ نارًا، وجاء يعدو، فعثر، وتبدد الجمر، فقال: تعست العجلة.

أبي يغزو، وأمي تحدث

ذكروا أن رجلا قدم من غزاة، فأتاه جيرانه يسألونه عن الخبر، فجعلت امرأته تقول: قتل من القوم كذا، وهزم كذا، فقال ابنها متعجبًا: أبي يغزو وأمي تحدث.

بأبي وجوه اليتامى

كان النعمان بن المنذر يضحك من رجل يعمل في الفلاحة، ولا يجيد ركوب الخيل، يقال له سعد القرقرة. وكان للنعمان فرس يقال له اليحموم يردى من ركبه، فقال يومًا لسعد: اركبه واطلب عليه الوحش، فامتنع سعد، فقهره النعمان على ذلك، فلما ركبه نظر إلى بعض ولده وقال: بأبي وجوه اليتامى. أي أفدي بأبي وجوههم. فضحك النعمان وأعفاه من ركوبه.

بعض البقاع أيمن من بعض

تعرض أعرابي لمعاوية في طريق وسأله، فقال معاوية: مالك عندي شيء، فتركه ساعة ثم عاوده في مكان آخر، فقال: ألم تسألني آنفًا، قال: بلى، ولكن بعض البقاع أيمن من بعض، فأعجبه كلامه ووصله.

جاورينا وأخبرينا

عشق رجلان امرأة، وكان أحدهما جميلًا وسيمًا والآخر دميمًا، فكان الجميل منهما يقول: عاشرينا وانظري إلينا، وكان الدميم يقول: جاورينا وأخبرينا، فكانت تدني الجميل، فقالت: لأختبرهما، فقالت لكل واحد منهما أن ينحر بعيرًا. ثم أتتهما متنكرة، فبدأت بالجميل فوجدته عند القدر يلحس الدسم ويأكل الشحم، فاستطعمته فأمر لها بأسوأ لحم البعير، فوضع في قصعتها، ثم أتت الدميم فإذا هو يقسم لحم البعير ويعطي كل من سأله، فسألته، فأمر لها بأذكى اللحم، فوضع في قصعتها، فرفعت الذي أعطاها كل واحد منهما على حدة، فلما أصبحا غدوا إليها فوضعت بين يدي كل واحد منهما ما أعطاها، وأقصت الجميل، وقربت الدميم وتزوجته.

جوع كلبك يتبعك

ملك من ملوك حمير كان عنيفا على أهل مملكته: يغصبهم أموالهم، ويسلبهم ما في أيديهم، وكانت الكهنة تخبره أنهم سيقتلونه، فلا يحفل بذلك، وإن امرأته سمعت أصوات السؤال فقالت: إني لأرحم هؤلاء لما يلقون من الجهد، ونحن في العيش الرغد، وإني لأخاف عليك أن يصيروا سباعًا وقد كانوا لنا أتباعًا. فرد عليها: جوع كلبك يتبعك.

فلبث بذلك زمانًا، ثم أغزاهم فغنموا ولم يقسم فيهم شيئا، فلما خرجوا من عنده قالوا لأخيه وهو أميرهم: قد ترى ما نحن فيه من الجهد، ونحن نكره خروج الملك منكم أهل البيت إلى غيركم فساعدنا على قتل أخيك، واجلس مكانه. وكان قد عرف بغيه واعتداءه عليهم، فأجابهم إلى ذلك، فوثبوا عليه فقتلوه.

الحذر قبل إرسال السهم

تزعم العرب بأن الغراب أراد ابنه أن يطير، فرأى رجلًا قد وتر سهمًا وسدد ليرميه، فطار الفرخ، فقال أبوه: اتئد يا ولدي حتى تعلم ما يريد الرجل، فقال له: يا أبت الحذر قبل إرسال السهم.

كذلك النجار يختلف

نظر ثعلب في بئر، فإذا في أسفلها دلو، فركب الدلو الأخرى الفارغ من الماء، فانحدرت به، وعلت الأخرى التي فيها ماء، فشرب، وبقي في البئر، فجاءت الضبع فأشرفت فقال لها الثعلب: انزلي فاشربي، فقعدت في الدلو، فانحدرت بها وارتفعت الأخرى بالثعلب، فلما رأته مصعدًا قالت له: أين تذهب؟ قال: كذلك النّجار يختلف. النّجر والنّجار: الأصل.

أحمق من جحا

هو رجل من فزارة، وكان يكنى أبا الغصن. فمن حمقه أن عيسى بن موسى الهاشمي مر به وهو يحفر بظهر الكوفة موضعًا، فقال له: مالك يا أبا الغصن؟ قال: إني قد دفنت في هذه الصحراء دراهم ولست أهتدي إلى مكانها، فقال عيسى: كان يجب أن تجعل عليها علامة، قال: قد فعلت، قال: ماذا؟ قال: سحابة في السماء كانت تظلها، ولست أرى العلامة.

ومن حمقه أن أبا مسلم الخرساني لما ورد الكوفة قال لمن حوله: أيكم يعرف جحا فيدعوه إلي؟ فقال يقطين: أنا، ودعاه، فلما دخل لم يكن في المجلس غير أبي مسلم ويقطين، فقال: يا يقطين أيكما أبو مسلم؟

كل شاة برجلها معلقة

ولي وكيع بن سلمة بن زهير بن إياد أمر البيت بعد جرهم، فأقام صرحًا بأسفل مكة عند سوق الخياطين اليوم- زمن الميداني مصنف مَجمع الأمثال- وجعل فيه أمة يقال لها حزورة، وبها سميت حزورة مكة، وجعل في الصرح سلمًا، فكان يرقاه ويزعم أنه يناجي الله تعالى، وكان ينطق بكثير من الخبر، وكان علماء العرب يزعمون أنه من الصديقين، وكان من قوله: مرضعة أو فاطمة، ووادعة وقاصمة، والقطيعة والفجيعة، وصلة الرحم، وحسن الكلام، ومن كلامه: زعم ربكم ليجزين بالخير ثوابًا، وبالشر عقابًا، إن من في الأرض عبيد لمن في السماء. فلما حضرته الوفاة جمع قومه وقال: اسمعوا وصيتي، الكلم كلمتان، والأمر بعد البيان، من رشد فاتبعوه، ومن غوى فارفضوه، وكل شاة برجلها معلقة.

إنما نعطي الذي أعطينا

أبو الذلفاء رجل من أهل الوبر خلفته من الإناث، فتزوج امرأة حرة كريمة، فولدت له بنتًا فصبر، ثم ولدت له بنتًا ثانية فصبر، ثم ولدت له بنتًا ثالثة فهجر الزوجة، وتحول عنها إلى بيت قريب منها، فلما رأت ذلك أنشدت:

ما لأبي الذلفاء لا يأتينا

وهو في البيت الذي يلينا

يغضب إن لم نلد البنينا

وإنما نعطي الذي أعطينا

فلما سمع الرجل ذلك طابت نفسه ورجع إليها.

تأبى له ذلك شغاف قلبي
تزوج رجل امرأة وله أُم كبيرة، فقالت المرأة للزوج: لا أنا ولا أنت حتى تخرج هذه العجوز عنا، فلما أكثرت عليه احتمل العجوز على عنقه ليلًا، ثم أتى بها واديًا كثير السباع، فرمى بها فيه، ثم تنكر لها، فمر بها وهي تبكي، فقال: ما يبكيك يا عجوز؟ قالت: طرحني ابني ههنا وذهب وأنا أخاف أن يفترسه الأسد، فقال لها: تبكين له وقد فعل بك ما فعل؟ هلا تدعين عليه، قالت: تأبى له ذلك شغاف قلبي، أي دخل حبه تحت الشغاف. والشغاف: غلاف القلب وهو جلدة دونه كالحجاب.

كالعاطف على العاض

يقال: ناقة عاطف، تعطف على ولدها. وأصله أن ابن المخاض ربما أتى أمه يرضعها فلا تمنعه، وربما عض على ضرعها فلا تمنعه أيضًا. وابن الناقة يدعى فصيلًا إذا شرب الماء وأكل الشجر، وهو بعد يرضع، فإذا أرسل الفحل في الشول دعيت أمه مخاضًا، ودعي ابنها ابن مخاض.

الحديث ذو شجون

كان لضبة بن إلياس بن مضر ابنان يقال لأحدهما سعد وللآخر سعيد، فنفرت إبل لضبة تحت الليل، فوجه ابنيه في طلبها، فتفرقا فوجدها سعد، فردها، ومضى سعيد في طلبها فلقيه الحارث بن كعب، وكان على الغلام بردين فسأله الحارث إياهما، فأبى عليه، فقتله وأخذ برديه، فكان ضبة إذا أمسى فرأى تحت الليل سوادًا قال: أسعد أم سعيد؟ فمكث ضبة بذلك ما شاء الله أن يمكث، ثم إنه حج فوافى عكاظ فلقي بها الحارث بن كعب ورأى عليه بردي ابنه سعيد، فعرفهما، فقال له: هل أنت مخبري عن هذين البردين اللذين عليك؟ قال: بلى لقيت غلامًا وهما عليه فسألته إياهما فأبى عليَّ فقتلته وأخذت برديه هذين، فقال ضبة: بسيفك هذا؟ قال: نعم، فقال: فأعطنيه أنظر إليه فإني أظنه صارمًا، فأعطاه الحارث سيفه، فلما أخذه من يده هزه، وقال: الحديث ذو شجون، ثم ضربه به حتى قتله، فقيل له: يا ضبة أفي الشهر الحرام؟ فقال: سبق السيف العذل.

تشمرت مع الجاري

ركب زهير بن أبي سلمى مع ابنه كعب سفينة في بعض الأسفار، فأنشد زهير قصيدته المشهورة:

أمن أم أوفى دمنة لم تكلم

بحومانة الدراج فالمتثلم

وقال لابنه كعب: دونك فأحفظها، فقال: نعم وأمسيا فلما أصبحا قال له: يا كعب ما فعلت العقيلة؟ يعني القصيدة، قال: يا أبت إنها تشمرت مع الجاري، يعني نسيتها فمرت مع الماء، فأعادها عليه، وقال: إن شمرتها يا كعب شمرت بك على أثرها. يقال: تشمرت السفينة إذا انحدرت مع الماء وشمرتها إذا أرسلتها.

أحلم من الأحنف

هو الأحنف بن قيس، وكنيته: أبو بحر، واسمه صخر، من بني تميم، وكان في رجله حنف، وهو الميل إلى إنسيه. وكان حليمًا موصوفًا بذلك، حكيمًا معترفًا له به. قال قيس ابن عاصم المنقري: حضرته يومًا وهو يحدثنا إذ جاءوا بابن له قتيل، وابن عم له كتيف، فقالوا: إن هذا قتل ابنك هذا، فلم يقطع حديثه، حتى إذا فرغ من الحديث التفت إليهم فقال: أين ابني فلان؟ فجاءه، فقال: يا بني قم إلى ابن عمك فأطلقه، وإلى أخيك فادفنه، وإلى أم القتيل فأعطها مائة ناقة فإنها غريبة لعلها تسلو عنه.

كيف أعاودك وهذا أثر فأسك

أخوان كانا في إبل لهما فأجدبت بلادهما، وكان بالقرب منهما واد خصيب وفيه حية تحميه من كل أحد، فقال أحدهما للآخر: يا فلان، لو أني أتيت هذا الوادي الخصيب فرعيت فيه إبلي وأصلحتها فقال له أخوه: إني أخاف عليك الحية، ألا ترى أن أحدًا لا يهبط ذلك الوادي إلا أهلكته، قال: فو الله لأفعلن، فهبط الوادي ورعى به إبله زمانًا، ثم إن الحية نهشته فقتلته، فقال أخوه: والله ما في الحياة بعد أخي خير، فلأطلبن الحية ولأقتلنها أو لأتبعن أخي، فهبط ذلك الوادي وطلب الحية ليقتلها، فقالت الحية له: ألست ترى أني قتلت أخاك؟ فهل لك في الصلح فأدعك بهذا الوادي تكون فيه وأعطيك كل يوم دينارًا ما بقيت؟ قال أو فاعله أنت؟ قالت: نعم، قال: إني أفعل، فحلف لها وأعطاها المواثيق لا يضرها، وجعلت تعطيه كل يوم دينارًا، فكثر ماله حتى صار من أحسن الناس حالا، ثم إنه تذكر أخاه فقال: كيف ينفعني العيش وأنا أنظر إلى قاتل أخي؟ فعمد إلى فأس فأخذها ثم قعد لها فمرت به فتبعها فضربها فأخطأها ودخلت الجحر، ووقعت الفأس بالجبل فوق جحرها فأثرت فيه فلما رأت ما فعل قطعت عنه الدينار، فخاف الرجل شرها وندم، فقال لها: هل لك في أن نتواثق ونعود إلى ما كنا عليه؟ فقالت: كيف أعاودك وهذا أثر فأسك؟

خذ من الرضفة ما عليها

الرضف: الحجارة المحماة وغر بها اللبن، واحدتها رضفة، وهي إذا ألقيت في اللبن لزق بها منه شيء، فيقال: خذ ما عليها، فإن تركك إياه لا ينفع.

قال الأصمعي: أصل ذلك الطعام أنهم كانوا إذا أعوزهم قدر يطبخون فيها عملوا شيئًا كهيئة القدر من الجلود وجعلوا فيه الماء واللبن، وما أرادوا من زاد، ثم ألقوا فيها الرضف – وهي الحجارة المحماة – لتنضج ما في ذلك الوعاء.

أعطني حظي من شواية الرضف

امرأة غريرة كان لها زوج يكرمها في المطعم والملبس، وكانت قد أوتيت حظًا من جمال فحسدت على ذلك فابتدرت لها امرأة لتشينها، فسألتها عن صنيع زوجها، فأخبرتها بإحسانه إليها، فلما سمعت ذلك قالت، وما إحسانه، وقد منعك حظك من شواية الرضف؟ قالت: وما شواية الرضف؟ قالت: هي من أطيب الطعام، وقد استأثر بها عليك فاطلبيها منه، فأحبت قولها لغرارتها، وظنت أنها قد نصحت لها، فتغيرت على زوجها، فلما أتاها وجدها على غير ما كان يعهدها، فسألها ما بالها، قالت: يا ابن عم تزعم أني عليك كريمة، وأن لي عندك مزية، كيف وقد حرمتني شواية الرضف؟ بلغني حظي منها. فلما سمع مقالتها عرف أنها قد دهيت، فأصاخ وكره أن يمنعها فترى أنه إنما منعها إياها ضنًا بها، فقال: نعم وكرامة، أنا فاعل الليلة إذا راح الرعاء، فلما راحوا وفرغوا من مهنهم ورضفوا غبوقهم دعاها فاحتمل منها رضفة فوضعها في كفها، وقد كانت التي أوردتها قالت لها: إنك ستجدين لها سخنًا في بطن كفك فلا تطرحيها فتفسد، ولكن عاقبي بين كفيك ولسانك، فلما وضعها في كفها أحرقتها فلم ترم بها، فاستعانت بكفها الأخرى فأحرقتها، فاستعانت بلسانها تبردها به فاحترق، وخاب مطلبها.

من أين تؤكل الكتف؟

قال بعضهم: تؤكل الكتف المطبوخة في المرق من أسفلها، ومن أعلى يشق عليك، ويقولون: تجرى المرقة بين لحم الكتف والعظم، فإذا أخذتها من أعلى جرت عليك المرقة وانصبت، وإذا أخذتها من أسفلها انقشرت عن عظمها وبقيت المرقة مكانها ثابتة.

لا يعلم ما في الخف إلا الله والإسكافي

وقف كلب بباب دكان إسكافي، وأطال الوقوف، نهره صانع النعال قائلًا: ماذا تريد من الوقوف ببابي؟ إلا أن الكلب تمهل، وراح يحشر أنفه في حوض الماء، ويُبعثر قوالب الخشب المنقوعة، فما كان من الإسكافي إلا أن رماه بخف شُدَّ على قالب الخشب، فأوجعه جدًا، فجعل الكلب يصيح ويجزع، فقال له أصحابه من الكلاب: أكل هذا من خف؟ فقال: لا يعلم ما في الخف إلا الله والإسكافي.

رجع بخفي حنين

حنين إسكافي من أهل الحيرة ساومه أعرابي بخفين، فاختلفا في الثمن حتى أغضبه، فأراد غيظ الأعرابي، فلما ارتحل الأعرابي أخذ حنين أحد خفيه وطرحه في الطريق، ثم ألقى الآخر في موضع آخر، فلما مر الأعرابي بأحدهما قال: ما أشبه هذا الخف بخف حنين ولو كان معه الآخر لأخذته، ومضى، فلما انتهى إلى الآخر ندم على تركه الأول، وقد كمن له حنين، فلما مضى الأعرابي في طلب الأول عمد حنين إلى راحلته وما عليها فذهب بها، وأقبل الأعرابي وليس معه إلا الخفان، فقال له قومه: ماذا جئت به من سفرك؟ فقال: جئتكم بخفي حنين.

 

إنك خير من تفاريق العصا

غُنية امرأة من أهل الوبر فقيرة لديها ولد وحيد كثير التلفت إلى الناس مع ضعف جسد ودقة عظم، فواثب يومًا فتى فقطع الفتى أنفه، فأخذت غنية دية أنفه، فحسنت حالها بعد فقر مدقع، ثم واثب آخر فقطع أذنه، فأخذت ديتها، فزادت حسن حال، ثم واثب آخر فقطع شفته، فأخذت الدية، فلما رأت ما صار عندها من الإبل والغنم والمتاع، وذلك من كسب جوارح ابنها حسن رأيها فيه وذكرته في أرجوزتها فقالت:

أحلف بالمروة حقًا والصفا

إنك خير من تفاريق العصا

فقيل لأعرابي: ما تفاريق العصا؟ قال: العصا تقطع ساجورًا، والسواجير تكون للكلاب وللأسرى من الناس، ثم تقطع عصا الساجور فتصير أوتادًا، ويفرق الوتد، فتصير كل قطعة شظاظا، فإن جعل لرأس الشظاظ كالفلكة صار للبختي مهارًا، وهو العود الذي يدخل في أنف البختى، وإذا فرق المهار جاءت منه تواد، وهي الخشبة التي تشد على خلف الناقة إذا صرت، هذا إذا كانت عصًا، فإذا كانت قناة فكل شق منها قوس بندق، فإذا فرقت الشقة صارت سهامًا، فإن فرقت السهام صارت حظاء، فإن فرقت الحظاء صارت مغازل، فإن فرقت المغازل شعب به الشعاب أقداحه المصدوعة وقصاعه المشقوقة على أنه لا يجد لها أصلح منها وأليق بها.

إنَّ العصا قُرعت لذي حُلم

أول من قُرِعت له العصا عمرُو بن مالك بن ضُبَيْعة أخو سعد بن مالك الكِناني، وذلك أن سعدًا أتى النعمانَ بن المنذر ومعه خيل له قادها، وأخرى عَرَّاها، فقيل له: لم عَرّيت هذه وقُدْت هذه؟ قال: لم أقد هذه لأمْنَعَهَا ولم أعر هذه لأهَبَهَا. ثم دخل على النعمان، فسأله عن أرضه، فقال: أما مَطَرها فغَزير، وأما نبتها فكثير، فقال له النعمان: إنك لَقَوَّال، وإن شئت أتيتك بما تَعْيا عن جوابه، قال: نعم، فأمر وَصيفًا له أن يَلْطِمَهُ، فلطَمه لَطْمة، فقال: ما جواب هذه؟ قال: سَفِيه مأمور، قال: الْطِمْه أخرى، فلطمه، قال: ما جوابُ هذه؟ قال: لو أَخِذ بالأولى لم يعد للأخرى، وإنما أراد النعمان أن يتعدَّى سعد في المنطق فيقتله، قال: الطمه ثالثة، فلطمه، قال: ما جواب هذه؟ قال: رَبٌّ يؤدب عبده، قال: الْطِمْه أخرى، فلطمه، قال: ما جواب هذه؟ قال: مَلَكْتَ فأسْجِحْ، قال النعمان: أصَبْتَ فامكُثْ عندي، وأعجبه ما رأى منه، فمكث عنده ما مكث. ثم إنه بَدَا للنعمان أن يبعث رائدًا، فبعث عمرًا أخا سَعْد، فأبطأ عليه، فأغضبه ذلك فأقسم لئن جاء ذامًّا للكلأ أو حامدًا له ليقتلنه، فقدم عمرو، وكان سعد عند الملك، فقال سعد: أتأذن أن أُكلمه؟ قال: إذَنْ يقطع لسانك، قال: فأشير إليه؟ قال: إذن تقطع يدك، قال: فأقرع له العصا؟ قال: فَاقْرَعْها، فتناول سعد عَصَا جليسِه وقَرَع بعصاه قرعةً واحدة، فعرف أنه يقول له: مكانك، ثم قرع بالعصا ثلاث قرعات، ثم رفعها إلى السماء ومَسَح عَصَاه بالأرض، فعرف أنه يقول له: لم أَجد جَدْبًا، ثم قرع العصا مرارًا ثم رفعها شيئًا وأومأ إلى الأرض، فعرف أنه يقول: ولا نَبَاتًا، ثم قرع العصا قرعةً وأقبل نحو الملك، فعرف أنه يقول: كَلِّمه، فأقبل عمرو حتى قام بين يدي الملك، فقال له: أخْبِرْنِي هل حمدت خِصْبًا أو ذممت جَدْبا؟ فقال عمرو: لم أذمم هُزْلا، ولم أحمد بَقْلا، الأرضُ مُشْكِلة لا خِصْبُها يعرف، ولا جَدْبُها يوصف، رائدُها واقف، ومُنْكِرها عارف، وآمنُها خائف.

في بيته يؤتى الحكم

التقطت الأرنب ثمرة، فاختلسها الثعلب فأكلها، فانطلقا يختصمان إلى الضب فقالت الأرنب: يا أبا الحسل فقال: سميعًا دعوت، قالت: أتيناك لنختصم إليك، قال: عادلًا حكمتما، قالت: فاخرج إلينا، قال: في بيته يؤتى الحكم، قالت: إني وجدت ثمرة، قال: حلوة فكليها، قالت: فاختلسها الثعلب، قال: لنقسه بغى الخير، قالت: فلطمته، قال: بحقك أخذت، قالت: فلطمني، قال: حر انتصر، قالت: فاقض بيننا، قال: قد قضيت.

كصوت الطبل

تزعم العرب أن الأسد رأى الحمار، فرأى شدةَ حوافِرِه وعظم أذنيه وعظم أسنانه وبطنه، فهَابَهُ وقال: إن هذا الدابة لمنكر، وإنه لَخَليق أن يغلبني، فلو زُرْتُه ونظرت ما عنده، فدنا منه فقال: يا حمار أرأيت حوافرك هذه المنكرة لأي شيء هي؟ قال: للأكم، فقال الأسد: قد أمنت حوافره، فقال: أرأيت أسنانَكَ هذه لأي شيء هي؟ قال: للحنظل، قال الأسد: قد أمنتُ أسنانه، قال: أرأيْتَ أذنيك هاتين المنكرتين لأي شيء هما؟ قال: للذباب، قال: أرأيت بطنك هذا لأي شيء هو؟ قال: كصوت الطبل، فعلم أنه لا خوف منه، فافترسَهُ.

علّقوا في عنق الأسد جلجلًا

كان الأسد يغشى بيوت بنى عجل فيفترس منهم الناقة بعد الناقة والبعير بعد البعير فقالت بنو عجل: كيف لنا بهذا الأسد فقد أضر بأموالنا؟ فقال أحمق من فيهم: علقوا في عنق هذا الأسد جلجلًا، فإذا جاء على غفلة منكم وغرة تحرك الجلجل في عنقه فأدركنا غايته.

 

 

مشاركة: