مقدمة كتاب (المجتمع المدني اليوم) لجاد الكريم جباعي

سيصدر قريبًا، قبل نهاية العام الحالي، عن ميسلون للثقافة والترجمة والنشر، كتاب جديد للمفكر السوري جاد الكريم الجباعي، وهو بعنوان (المجتمع المدني اليوم). يتناول الكتاب الموضوعات الرئيسة الآتية: إطار نظري، المجتمع المدني من إنتاج نفسه، سيرة حياة المفهوم، حدود المفهوم ودلالاته، مبادئ إنتاج السلطة، المجتمع التقليدي، المجتمع المدني الحديث، المجتمع المدني والسوق، الحامل التاريخي للثقافة والسياسة، المنظمات الوسيطة، المشاركة المتكافئة، تكافؤ المعاني والقيم، العقد الاجتماعي، الحريات والحقوق، الاندماج الاجتماعي، الانعتاق السياسي، الديمقراطية وشروط إمكانها.

وفي ما يأتي ننشر مقدمة هذا الكتاب التي كتبها مؤلف الكتاب الأستاذ جاد الكريم الجباعي، وهي بمنزلة إطلالة سريعة على الموضوعات السابقة.

تحاول هذه الدراسة أن تشتق مفهوم المجتمع المدني من تعيُّناته المختلفة المعطاة لنا، اليوم؛ بغية الوقوف على إمكانات تشكله في البلدان المتأخرة، وعمليات إعادة إنتاجه في البلدان المتقدمة، وفهم الظاهرات الاجتماعية والثقافية والسياسية ومنظومات القيم، ونقدها، ووضع سياسات تترجم النقد إلى برامج عمل جمعي ومجتمعي. لذلك اهتمت بأثر الملكية الخاصة وتقسيم العمل الاجتماعي وأثر السوق والتبادل المتكافئ أو اللامتكافئ في التنظيم الاجتماعي–السياسي، وفي إنتاج السلطة وتعيين مبادئها وآليات اشتغالها وأشكال ممارستها. كما اهتمت بدور المنظمات الاجتماعية الوسيطة، بين الفرد والدولة، بصفتها فضاءات من الحرية، وأثر هذا كله في إنتاج المعرفة والثقافة، في سياق عملية/ عمليات الإنتاج الاجتماعي، وأثر هذه المنظمات في سيرورة التحسن الذاتي على مختلف الصعد، الفردية والجمعية. وألقت الضوء على العلاقات الضرورية بين السلطة والحرية، وبين الحرية والمساواة، على نحو مختلف عن الرؤى الأيديولوجية السائدة. وهي، أي هذه الدراسة، بالإجمال، محاولة لاستحضار مفهوم المجتمع المدني إلى المجال المعرفي–الثقافي في بلادنا، واستدماجه في الوعي الاجتماعي، بعد غياب وتغييب طويلين، تمخضا عن أسوأ النتائج.

ثمة، على الأرجح، ثلاثة عوامل أسهمت في تغييب مفهوم المجتمع المدني عن الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة، ردحًا طويلًا من الزمن. أول هذه العوامل هو “صعود المد القومي”، الذي تعود إرهاصاته إلى أواسط القرن التاسع عشر–أوائل القرن العشرين، في سياق ما سمي “حركات التحرر القومي”، التي شكلت التباساتها الفكرية والأيديولوجية، وهشاشتها السياسية والأخلاقية، وعيَ النخب الثقافية والسياسية، على مدى العقود التالية. وقد استلهمت تلك الحركات عمليات التوحيد القومي، في كل من ألمانيا وإيطاليا، وتجارب الاشتراكية القومية في الاتحاد السوفييتي السابق، ولا سيما تقديس “الجماهير”، وعبادة “الحزب الثوري”، وتأليه القائد الفرد، والإيمان بحتمية الوحدة العربية وانتصار الاشتراكية… إلخ. الإيمان والتقديس والتأليه والعبادة والأمل، وهي خصائص الدين، هي التي تؤكد أن الأيديولوجيات القومية كلها “محوَّلة عن عقائد دينية”، وذات طبيعة دينية. هذه الخصائص، أي الإيمان والتقديس والتأليه والعبادة والأمل، هي التي تفسر تلازم الأيديولوجية القومية والأيديولوجية الإسلامية وتداخلهما، لدى “حركات التحرر القومي” العربية واستطالاتها، ولا نستبعد الأمر نفسه عن حركات التحرر القومي غير العربية. بل يمكن القول إن الأيديولوجيات القومية ليست ذات جذور دينية فحسب، بل هي “محوَّلة عن عقائد دينية”، منذ تعاشقت الإثنيات والعقائد الدينية، وصارت الإثنية والعقيدة الدينية وجهين متلازمين للوجود الاجتماعي. هذا التعاشق هو الذي وسم سائر المجتمعات التقليدية أو ما قبل الصناعية، أو مجتمعات ما قبل الثورة الصناعية ونمو التقسيم الاجتماعي للعمل؛ فالإثنية والعقيدة كلتاهما مؤسستان على تجاذب المتشابهين والمتشابهات، وتنابذ المختلفين والمختلفات؛ في حين أن الوضع الصحيح اجتماعيًا وسياسيًا ومعرفيًا وأخلاقيًا هو تجاذب المختلفين والمختلفات، لدواع مختلفة، و/ أو تنابذهم/ـن، لأسباب مختلفة. وهذا لا ينفي تجاذب المتشابهين والمتشابهات في البني الطبيعية وشبه الطبيعية، كالعائلات الممتدة والعشائر والجماعات الإثنية والمذهبية، التي تظل ثاوية في ثنايا المجتمع أو طيَّاته، وفي فجوات التاريخ.

العامل الثاني هو ما سماه ياسين الحافظ “تقلدة المبادئ والأفكار والقيم الحديثة”، أي تأويل الأفكار والمبادئ والقيم الحديثة، الوافدة إلى الثقافة العربية من الغرب، وفق “نموذج التفكير والإدراك والتمثل والتقدير والعمل” المملوكي – العثماني، الذي لا يزال سائدًا ومسيطرًا إلى يومنا وساعتنا، أي وفق العادات والتقاليد المعرفية والسلوكية والإنتاجية والأخلاقية المتوارثة كابرًا عن كابر، وجيلًا عن جيل، إلى يومنا وساعتنا. فقد تحول مفهوم المجتمع المدني إلى “مجتمع أهلي” ذي بنى بطركية رثة ومتخلفة، وسلطات دينية مسيَّسة، وسلطات سياسية مدَّينة وممذهبة أو مطيَّفة، تُظهر، وتُضمر جميع “طبائع الاستبداد”، قبل أن يتحول الاستبداد التقليدي نفسه إلى استبداد كلي مُحدَث ومحدَّث، كالذي وسم النازية والفاشية والستالينية ونسخها العربية الرديئة. وتحول مفهوم الديمقراطية إلى “شورى”، وأضيفت إليه صفة “التوافقية”، وتحول مفهوم العلمانية إلى “دهرية” موسومة بالزندقة والإلحاد، والانحلال الأخلاقي، بحكم التسمية، ليس غير. وتحول حق الاقتراع العام إلى مجرد مغالبة كمية (عددية) بين العشائر والإثنيات والطوائف، وإلى نوع من حرب أهلية دورية، ولكنها باردة، تحمل إمكانات حرب لاهبة ومدمرة (وظلم ذوي القربى أشد مضاضة…)، كما هي الحال في العراق اليوم. ولم يكن هذا كله ممكنًا لولا غلبة الفقه على الفكر، بل لولا تحول الفكر إلى فقه سلفي وأصولي مسيَّس، بالمعنى الرديء للسياسة، أي بمعنى التدافع والمغالبة، وتداول السلطة والثروة بمقتضى العصبية وقوة الشوكة ومبدأ الغَلَبَة. الفقة المسيَّس المسمى فكرًا هو الذي يغذي الحرب الأهلية الباردة ويتغذى منها. فلا تكون السياسة حربًا والسلطة تسلطًا إلا بهذه الشروط، وما يتصل بها.

أما العامل الثالث، فهو ما سماه ياسين الحافظ أيضًا “تصفية مكتسبات المرحلة الليبرالية”؛ ومن أبرز مكتسبات تلك المرحلة انطلاق سيرورة تشكُّل مجتمع مدني حديث، ودولة وطنية حديثة، دولة حق وقانون لجميع مواطنيها ومواطناتها بالتساوي[1]، من طريق نمو التقسيم الاجتماعي الحديث للعمل، بصورة أساسية، وما ينتجه تقسيم العمل من أشكال التعاون والتضامن، التي تعبر عنها النقابات والجمعيات والأحزاب السياسية، وتشكل جنين سوق وطنية وحماية جمركية، ونظام ضريبي…. علاوة على حرية التعبير، وحرية الصحافة، وحق الاقتراع العام، الذي يلغي النفوذ السياسي للدين والطائفة الدينية، والنفوذ السياسي للجماعات الإثنية والطبقات الاجتماعية أيضًا، بحكم دورية الانتخابات المحلية والتشريعية، وفصل السلطات ونشوء البلديات والمجالس البلدية، وحصر السيادة الوطنية في المؤسسة التشريعية، واحتكار الدولة للعنف.

تصفية هذه المكتسبات والمنجزات، التي قلما نوليها الأهمية، التي تستحق، هي التي انتهت ببلادنا، وانتهت بنا، إلى الكارثة، غير المسبوقة، في تاريخنا، وفي تاريخ العالم، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

ويمكن أن نضيف إلى هذه العوامل الآثار الكارثية التي تسببت بها الأحزاب العقائدية أو الأيديولوجية المسماة أحزابًا سياسية، في مجالات المعرفة والثقافة والأخلاق، سواء كانت موالية للسلطة أو معارضة لها، كالأحزاب القومية، البعثية والناصرية وأمثالها، كحركة القوميين العرب، وجبهات التحرير الوطني، والأحزاب الشيوعية التي تنسب نفسها إلى الماركسية–اللينينية، وأحزاب “اليسار الجديد”، وجماعات الإسلام السياسي السنية والشيعية، وكلها مناهضة للمبادئ والقيم الليبرالية، ومناهضة لحرية الفرد وحقوق الإنسان بوجه خاص، ومناهضة للدولة الوطنية تحت شعارات مختلفة. فقد أسهمت هذه الأحزاب (والجبهات التقدمية) والجماعات الإسلامية في تفكيك الروابط الاجتماعية، وتدمير إمكانات الوحدة الوطنية، وحالت دون انتظام المجتمعات، التي ابتليت بها، وفق تنظيم الإنتاج، بل حالت، حيثما استولت على السلطة، دون نمو الإنتاج الاجتماعي، ودون نمو قوى الإنتاج، ووضعت يدها على عملية تقسيم العمل الاجتماعي وآليات الاصطفاء الاجتماعي، وعلى النقابات والجمعيات والنوادي وسائر تنظيمات المجتمع الأخرى، بما فيها التنظيمات والبنى التقليدية.

لعل نمو التقسيم الاجتماعي للعمل، وتخصص العلوم وتفرُّعها، واتجاه المعرفة نحو العوالم الميكروية، بعد الانتقال التاريخي الحاسم من الكوزموس (الكون اللامحدود) إلى الإيكوس، أي إلى البيئة، والمنظومات البيئية أو الإيكولوجية، المتكاملة، الذاتية التشكُّل والاشتغال والنمو والتعديل والترميم، ووعي الإنسان أنه ليس مجرد مشاهد في مسرح الوجود، بل هو مشارك في الوجود فاعلًا فيه ومنفعلًا به، وهذان الفعل والانفعال هما الأساس الأنطلوجي للمعرفة والأخلاق، وأساس النظم الاجتماعية والثقافية والسياسية والأخلاقية…

لعل هذه جميعًا من أخص خصائص الثورات، التي أطلقت سيرورة الحداثة: الثورة الكوسمولوجية (الكوبرنيكية) والثورة العلمية – التكنولوجية، والثورة الصناعية، والثورة الديمقراطية. فمن التعسف فصل عمليات التشكل الاجتماعي ونمو المجتمعات المدنية الحديثة عن هذه الثورات، التي دشنت الأزمنة الحديثة، ومهدت الطريق الذاهبة من الحضارة إلى المدنية. ففي خضمها تشكل، في رحم التاريخ، جنينُ الإنسان الخالق، (بالتأنيث والتذكير)، جنين الفردِ الحر المستقل المسؤول عن إنسانيته وعن الإنسانية قاطبة[2] والمسؤول عن بيئته، على أنقاض الإنسان المخلوق، إنسان المجتمعات البطركية، وعلى أنقاض آلهتها الأرضية و”السماوية”.

نموذج التفكير والإدراك والتمثل والتقدير والعمل، الذي أنتجته الحركة القومية تلفيقًا من النموذج المملوكي – العثماني، وبعض “حداثة” سطحية وزائفة، وعروبة إسلامية، وشيء من رومنتيكية ثورية، ونزعة تقنوية بإهاب علموي… هو النموذج الذي لا يزال سائدًا في “العالم العربي” عمومًا وفي شرق المتوسط على وجه الخصوص، وهو الذي أنتح ما سمي بالصحوة الإسلامية، التي تتصادى مع الخمينية. هذا النموذج القومي – الإسلامي الاشتراكي جعل المعرفة تذكرًا وتوهمًا، (ماضويات ومستقبليات) والفكر فقهًا، والثقافة إعلامًا، و”السياسة” دينا، والدين “سياسة”، علاوة على تسييس “الفكر” والفقة والذاكرة والخيال. ولا يزيد مفهوم المجتمع، في خطابه التاريخي، عن مفهومي “الأمة” و”الجماعة” بدلالاتهما القديمة والوسيطة. فلا يزال معظم المثقفين العرب ينظرون إلى مجتمعاتهم على أنها “مجتمعات إسلامية” وإلى الجماعات غير الإسلامية على أنها “كسور الأمة”، وينظرون إلى “الإسلام” على أنه “روح العروبة” و”هوية الأمة” ورسالتها الخالدة، إلى العالم.

المجتمع المدني، بالتعريف، هو ما يتوسط العلاقة الجدلية بين الفرد والنوع، ويتوسط العلاقة بين الفرد والدولة، في أفق الإنسانية؛ هو نسيج من علاقات اجتماعية وإنسانية منتجة للثروة والمعرفة والثقافة والسياسة والأخلاق، ومنتجة للسلطة/ السلطات، بتوسط الفاعلية – الانفعالية (العمل، والإنتاج الاجتماعي، المادي والروحي)؛ فهو، من ثم، نسيج حديث من علاقات اجتماعية–إنسانية مُنتِجة للثروة والمعرفة والثقافة والسياسة والأخلاق، ومنتجة للسلطة، خلافًا للذين لا يرون فيه، أي في المجتمع المدني، سوى “… قابلة متسترة على عملية إجهاض سياسية، (و) عملية لا تسييس، أو مجرد “عميل مزدوج، يعادي السياسة باسم الديمقراطية، ثم يدير ظهره للديمقراطية باسم كونها معركة سياسية… “[3]. أو “.. مفهوم غامض يسترخي خارج السياسة، في أسوأ الحالات، وتتيح كثرة معانيه وغموضه أن يتم تطويعه في خدمة عدة أنواع من السياسات في أفضلها”، علاوة على كونه بورجوازيًا غربي المنشأ.

المجتمع المدني هو الذي ينتج السياسة، وهو الذي ينتج السلطة/ السلطات المختلفة، ولا سيما السلطة التشريعية السيدة، التي تمثل الإرادة العامة، والوحدة الوطنية، والسيادة الوطنية، وتعمل في سبيل المنفعة العامة، وتحمي مواطناتها ومواطنيها وتصون حريتهم وكرامتهم. وهو الذي ينتج السلطة البيداغوجية، (التربوية–التعليمية)، التي تمكنه من إعادة إنتاج نفسه؛ إنه يفعل ذلك، في سياق إنتاج الثروة المادية والروحية، وفي سياق إنتاج المعرفة والثقافة، وإنتاج القيم وإنتاج الأعراف والقوانين. هذه المنتجات كلها ذات أصل مشترك ومرجع مشترك، ووظائف مشتركة وغايات مشتركة.

تعريف المجتمع المدني بأنه ما يتوسط العلاقة الجدلية بين الفرد والنوع وبين الفرد والدولة في الوقت ذاته، يكشف النقاب عن حقيقة أن العائلة الممتدة والعشيرة والطائفة الدينية والجماعة الإثنية، أي التشكيلات والبنى، التي تلتهم الأفراد، وتحولهم إلى أرقام، تتقوى بها وتتفاخر بها، وتتقاتل بها، إنما تخفي العلاقة الوجودية أو الأصلية بين الفرد والنوع، وتوهنها، فلا يدرك الفرد نفسَه، ولا يُدرَك على أنه إنسان، كائن كلي، حر ومستقل، كينونة حرة ومستقلة، بل يُدرك نفسه، ويُدرَك على أنه واحد من أبناء العشيرة وأرومتها الإثنية، وواحد من أتباع الطائفة أو المذهب، في الوقت نفسه. وإذ تخفي البنى والتشكيلات التقليدية علاقةَ الفرد بالنوع، وتوهنها، تَحُول دون إمكان المواطنة المتساوية. لذلك توصف هذه البنى والتشكيلات، بحق، بأنها بنى وتشكيلات ما قبل وطنية، وما دون وطنية. ذلك أن علاقة أي فرد بمواطنيه ومواطناته هي الشكل الوطني لعلاقته بالنوع، أي بالجماعة الإنسانية كلها، أو لا تكو ن علاقة وطنية. لذلك فرقنا، على نحو جذري، بين العلاقات الوطنية بصفتها علاقات بين ذوات حرة ومستقلة، تتجه نحو أفقها الإنساني، وبين العلاقات ما قبل الوطنية، بصفتها علاقات بين محمولات، أو بين “هويات” فرعية قاتلة.

الخطاب العربي عن المجتمع المدني ليس خطابًا شعوريًا أو انفعاليًا فقط، بل هو خطاب “سياسي–تاريخي”، سلفي وأصولي أساسًا، ومنغلق على ذات نرجسية، ووعي مرآتي، ومشاغل ذاتية ومحلوية، (إثنية ومذهبية) خطاب عنصري مريض بالتجانس وكراهية المختلف، وكراهية الاختلاف؛ في حين أن المجتمع المدني، بالتحديد، هويَّةُ اختلاف. هذا الخطاب السياسي-التاريخي يمتح من “معرفة” دينية و”فكر ديني”، يحكم بما هو ديني وما هو إثني على ما هو اجتماعي وسياسي وثقافي وأخلاقي. “الذات، التي تتحدث في الخطاب السياسي التاريخي، لا تستطيع أن تحتل مكانة الحقوقي أو المشرِّع أو المفكِّر الحر، أو الفيلسوف؛ ففي وضعية الصراع العام، الذي تتحدث منه، بل في خندقها ومن وراء متراسها لا يمكن لها إلا أن تكون في هذا الجانب أو ذاك، إنها في المعركة، ولها خصومها وأعداؤها، وتصارع من أجل النصر. إنها تبحث بلا شك عن أن يكون لها حق، ولكن الأمر يتعلق بحق خاص، أو فردي، هي التي تقرره، بصفته نتيجة غزو وهيمنة وأقدمية؛ وبصفته حق العرق وحق الدين، حق الغزاة المنتصرين. وإذا ما تحدثت عن الحقيقة فإنها تتحدث عن حقيقة هي أفق وإستراتيجية تسمح لها بالانتصار والاستمرار. إذن لدينا خطاب سياسي وتاريخي يتصل بالحقيقة والقانون، ولكنه يبعد نفسه صراحة عن الكونية التشريعية أو القانونية والفلسفية[4]. الخطاب السياسي التاريخي هو الذي يُظهر استمرار الحرب في المجتمع، واستمرار الحرب على المجتمع، تحت رايات العرق والدين والتاريخ المجيد. يفكر المرء في مفارقة “الفتوحات العربية” وهي نفسها “الفتوحات الإسلامية”، وفي الانضواء في الإمبراطورية العثمانية، التي وسمت الإسلام بميسمها، وأخرجت العرب من تاريخه ومن التاريخ، واعتبار الحرب (الغَلَبَة والمغلوبية) مبدأً وحيدًا للمعرفة والسياسة والأخلاق، يقسم العالم عالمين متنافيين تنافيًا مطلقًا، ويقسم المجتمع مجتمعين متنافيين تنافيًا مطلقًا، أو مجتمعات متنافية تنافيًا مطلقًا، ويشطر الإنسان شطرين، ذكورة وأنوثة، متنافيين تنافيًا مطلقًا.

أخيرًا، لا بد من الإشارة إلى أن إمكان تشكل مجتمع مدني حديث ودولة وطنية حديثة في سوريا أو غيرها، لا يتأتى من أي نموذج نظري، أو رؤية فكرية، ولا يتأتى من خطة مسبقة أو تصميم قبْلي، أو إرادة خاصة أو عامة مفترضة، بل يتأتى من ممكنات المجتمع السوري نفسه، المجتمع القائم هنا – الآن، من الممكنات المعرفية والأخلاقية والإنتاجية للأفراد والأسر والعائلات والجماعات الإثنية والدينية… إلخ، من إمكانات التحسن الذاتي وتحسين العالم، وسعي الأفراد والجماعات إلى تلبية حاجاتهم وتحقيق غاياتهم، من الاضطراب الاجتماعي–الاقتصادي والسياسي والثقافي والأخلاقي القائم، من (الكاوس) وما ينطوي عليه من انتظامات وتنظيمات ممكنة، تتجه حركتها، في وقت ما، نحو عقد اجتماعي جديد. وليست نماذج المجتمعات المدنية المعطاة لنا، هنا وهناك، إلا نماذج إرشادية، تساعد في استشفاف الممكنات المشار إليها، فما تحقق هنا، في الغرب، يمكن أن يتحقق هناك في بلادنا وغيرها، حين تتوافر شروط الإمكان.

 

الروابط

1 – نالت المرأة، في سوريا، حق الاقتراع عام 1949.

2 – نتحدث عن جنين الإنسان الخالق، إنسان الثورات الثلاث الكبرى، الثورة العلمية – التكنولوجية، والثورة الصناعية، والثورة الديمقراطية، لنؤكد أن البشرية لا تزال في مطالع الأزمنة الحديثة، ولا تزال معظم الشعوب على تخوم الحداثة الكونية، لا في داخلها ولا في خارجها، ولنؤكد، من ثم، أن أي نقد للحداثة لا ينطلق من كونية هذه الثورات الثلاث الكبرى وممكناتها، هو بالأحرى ضرب من عدمية وعماء معرفي وأخلاقي.

3 – عزمي بشارة، المجتمع المدني دراسة نظرية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2012، ص 22.

4 – ميشيل فوكو، يجب الدفاع عن المجتمع، ترجمة الزواوي بغورة، دار الطليعة، بيروت، بلا تاريخ نشر، ص 14.

مشاركة: