أكاديمية التغيير؛ أحمد عادل عبد الحكيم، هشام مرسي، وائل عادل
مقدمة
حين تؤمن قوى التغيير في المجتمع بحتمية التغيير، وتتوفر لديها الإرادة والرغبة الحقيقية في إحداث التحولات؛ لا تصمد أمامها أي عراقيل يصنعها معاندوها، حيث يتأهب العقل لإزاحة تلك التحديات عبر عبقرية البحث في الخيارات المختلفة، وإيجاد البدائل المناسبة التي يمكن أن يلجأ إليها المجتمع للوصول إلى غايته العظمى، وهدفه الأسمى. تلك الخيارات التي أبدعتها البشرية – ولا تزال – عبر حقب التاريخ المتتالية – والتي حظي الكثير منها بالتحليل والتنقيح الأكاديمي والاستراتيجي – حتى أضحت الخيارات العلمية والعملية متوفرة لمن يطلبها، وما على المجتمعات سوى البحث والتنقيب عنها، ثم هضمها وتفهمها جيدًا، واختيار ما يناسبها، وإعادة تشكيلها من خلال التجربة والممارسة، لتضيف إلى موسوعة الخيارات نتاج تجربتها، وتثري عالم التغيير بما أبدعته من حلول ووسائل ذهبية[1].
المسارات الاستراتيجية للتصدي للظلم
تتعدد الاختيارات أمام المجتمع للتفاعل مع الأوضاع التي يفرضها عليه النظام السياسي الديكتاتوري، فبعد أن تتم دراسة الواقع يقرر المجتمع إما أن يقاوم لتحقيق أهدافه وأحلامه، أو ييأس ويستسلم لمشاريع النظام.
مسار اليأس
أ) أما الاستسلام فينبع من حالة اليأس التي قد تفرضها قسوة الممارسات القمعية. فتتخبط قوى المجتمع المقاومة في حالة من الفراغ يفرضها النظام الذي يسن القوانين المنظمة لعملية الصراع السياسي، والتي تعمل دائمًا في صالحه، فيُحَرم على المقاومة الممارسات غير المقيدة بهذه القوانين، ويعاقبها بقسوة إذا كسرت هذه القوانين. فتستسلم المقاومة بشكل مباشر مذعنة إلى النظام وخادمة له. وقد تستسلم بشكل غير مباشر عبر ممارسة المعارضة المقننة ضمن الهامش المسموح به، وهو استسلام مقنع يوهم الأتباع بالحركة والبذل، لكنها حركة في المكان، تعكس حالة من دوران المقاومة في حلقة مفرغة نتيجة جهلها بقواعد الصراع السياسي، وقوانين التغيير داخل المجتمعات.
ب) أما وجه العملة الآخر لخيار الاستسلام فهو اللجوء إلى العنف غير المدروس كالتخريب، وإحراق المنشآت، وإشاعة الفوضى، بدون دراسة لتبعات هذا العمل أو الخطوة التالية له، وهو عنف يعكس اليأس، حيث لا يرى المجتمع أمامه بديلًا آخر – أو هكذا يظن. وتتوقف قدرة العقل على التفكير في فلسفات واستراتيجيات وتكتيكات بديلة، فيتحقق للنظام الديكتاتوري مخططه المرسوم، حيث تصبح الفرصة سانحة لاستخدام القمع المقنن ضد المقاومة العنيفة لتصفيتها، وإرهاب المجتمع كي لا يفكر في تكرار محاولات التغيير[2].
مسار الخلاص الفردي
وهو مسار لا ينوي السائر فيه عادة ممارسة الفعل السياسي، هو يبحث فقط عن النجاة قدر الإمكان من تعسف النظام، ويتمثل هذا المسار في التحايل اليومي على الظلم، من خلال التصرف الفردي والمؤسسي غير المعلن للعامة، وهو ما يطلق عليه في اللغة الإنجليزية (Low Profile action)[3]، والبحث عن أساليب تقلل من خسائره في ظل المعاناة، وعلى أمل الحصول على قدر من الخلاص الفردي. مثل الامتناع عن دفع الضرائب، والتهرب من الخدمة العسكرية، وترويج الإشاعات، وتأسيس مؤسسات بدون تراخيص رسمية، وارتكاب مخالفات ثم التظاهر بالجهل بقوانين وسياسات الحكومة. وعادة ما تكون تلك الأنشطة فردية ومحلية ولا تنبع من دوافع سياسية، ولا تأتي في سياق عمل تغييري منظم ومقصود. فهي لا تزيد عن كونها محاولات فردية للتحايل على النظام وليس مقاومته أو شن الحرب عليه[4]، والبحث عن أي فرصة للهروب من قبضته لا تسديد ضربات له، وهي وإن كانت تحدث بشكل طبيعي إلا أنه يمكن استثمارها من قبل المقاومة في عمل احتجاجي أو مقاوم.
أما إذا قرر المجتمع المقاومة من أجل إحداث التغيير فيلجأ إلى النضال السياسي الدستوري أو فوق الدستوري.
مسار النضال السياسي
وله أيضًا مستويات متعددة:
أ) الكمون: وفي هذا المسار يتم الكمون في المؤسسات ومراكز القوى التي يُتوقع أن تخرج منها قيادات المستقبل، وقد يكون هذا الكمون:
اقتصاديًا: كإنشاء إمبراطوريات اقتصادية تخفي أهدافها السياسية حتى تتمكن من السيطرة على مفاصل الاقتصاد.
سياسيًا: عبر التسلل إلى الحزب الحاكم أو المؤسسة العسكرية أو الأمنية… الخ. وفي هذا المسار يتم اختراق المؤسسات والكمون فيها حتى تحين الفرصة لعمل تغيير، إما بتولي القيادة بشكل طبيعي من خلال التصعيد، أو في لحظة مناسبة لإجراء انقلاب.
ب) النضال الدستوري أو السلمي عبر القنوات الرسمية باستخدام الطرق المقننة مثل التصويت، والاستفتاءات، والانتخابات، ورفع الدعاوى القضائية، والتي يُطلق عليها الوسائل السلمية الباردة.
وهذه الوسائل تتوفر وتعمل بفاعلية في الدول ذات أنظمة الحكم التعددية أو الديمقراطية والتي تشهد بالفعل بناءً مجتمعيًا قويًا وفاعلًا.
ج) النضال فوق الدستوري، ويشمل كلًا من العنف المدروس[5] وحرب اللاعنف.
العنف المدروس: كالانقلابات العسكرية وحرب العصابات[6].
حرب اللاعنف: عبر استخدام أساليب الفعل غير المباشر كالتظاهرات، وأساليب اللاتعاون كالإضرابات وأساليب التدخل المباشر كإرهاق الإدارات الحكومية بالطلبات.
الخيارات المختلفة للممارسات السياسية داخل المجتمع حيث تمثل حرب اللاعنف خيارًا ينقذ المجتمع من ويلات العنف، ولا يحبسه في ظلمات اليأس التي تفرضها وطأة الواقع الاستبدادي[7]
ويحكم اختيار المسار عدة عوامل:
فلسفة التغيير: وتشمل مجموعة المبادئ والأفكار التي ينطلق منها المشروع التغييري. إن كانت الأفكار المبدئية لمشروع التغيير تحرم استخدام العنف مثلما كان الحال عند غاندي، فإنه سيضطر إلى التفكير في أساليب ووسائل تنطلق من هذه المبادئ. وعلى العكس نجد هتلر انطلق من أفكار تأسيسية تؤمن بقانون القوة والبقاء للأصلح، وأحقية الجنس الآري بالتمدد واحتلال مساحات جديدة من الأراضي نظرًا إلى حاجته إلى موارد جديد.
طبيعة صانع القرار: فصانع القرار شخص تؤثر فيه طباعه وتكوينه النفسي عند اختيار الوسيلة، فغاندي على سبيل المثال سنجده شخصًا مسالمًا، ضعيف البنية، كان في طفولته يخشى الظلام والأشباح ولا ينام في غرفة مظلمة[8]، خجولًا يهرب من المجتمع ويهرول إلى البيت بعد المدرسة حتى لا يراه أحد[9]، يقول صراحة: “كل خير صادفني في حياتي كان مرده نزعتي إلى عدم المقاومة”[10]، وهو يعني هنا عدم اللجوء إلى المواقف الحادة حين نبذه قسم من طائفته عندما قرر السفر للدراسة في إنجلترا. لا شك أن طبيعة مثل هذه الشخصية أثرت كثيرًا في الوسيلة التي اتبعها. والتي لم يكن ليتبع غيرها[11].
فاعلية المسار: فحتى لو كانت القيادة لا تتناسب ملامح طباعها الشخصية مع المسار، فإنها قد تسلكه إن كان مجربًا وأدى إلى نتائج إيجابية من قبل، لكنها قد لا تُقْدم على تبنيه إن كان مسارًا سيجرب لأول مرة. مثل لجوء بعض متبني فكر العنف إلى مسار التغيير اللاعنيف، ليس إيمانًا منهم بأن العنف خطأ، ولكن لأن المسار اللاعنيف قادر على أن يؤتي ثماره.
المنتج النهائي: ونعني به شكل التغيير النهائي والثمرة المرجوة منه. فإن كانت الوجهة النهائية للتغيير هي استبدال سلطة بأخرى، وتغيير رأس الحكم، تصبح الانقلابات العسكرية على سبيل المثال وسيلة محتملة لتحقيق هذا الهدف. وإن كان الهدف بناء مجتمعات قوية قادرة على ممارسة التغيير السياسي، يصبح اللاعنف وسيلة محتملة لتحقيق ذلك لا الانقلابات العسكرية.
إن مسار التغيير يؤثر بشكل كبير في تشكيل بنية المجتمع طيلة مدة الصراع، فقد يقوي الروابط البينية بين المجتمع، ويبني قدراته على الفعل، ويحرر العقول، ويمدها بالتصورات الأفضل عن إدارة الحياة، أو يشعل الثارات والخصومات ويفكك المجتمع.
وقد سئل غاندي، لماذا لا نحصل على أهدافنا الصالحة بأي وسيلة كانت؟ أليس من واجبك إن اقتحم اللص بيتك إخراجه بأي وسيلة كانت؟ فلن يلومك أحد إن استخدمت العنف ضده أو هشمت رأسه بأي شيء تجده في طريقك.
فكانت إجابته: “استفسارك يبدو منطقيًا، وقد كنت ألجأ إلى هذه الحجة من قبل، لكن الأمر تغير الآن.. إنَّ تخيُّل أنه لا رابط بين الهدف والوسيلة لخطأ كبير، كأنك تقول إن بإمكانك أن تحصد وردة إذا زرعت أعشابًا ضارة. إذا أردت عبور محيط فلا يمكن ذلك إلا باستخدام سفينة. وإذا حاولت استخدام عربة لهذا الغرض، فسرعان ما سأجدني والعربة في قاع المحيط. فالوسائل هي البذور والنهايات هي الشجرة. لا يمكن عبادة الله بوسائل الشيطان، عندها يمكن لأي فرد أن يقول أنا أعبد الله. ولا يهم إن كنت أسجد للشيطان. إذا كنت أود حرمانك من ساعتك سأقاتل من أجل ذلك، وإن كنت أريد شراءها سيكون عليَّ أن أدفع ثمنها، فالساعة يمكن أن تُسرق أو تُشترى أو يُحصل عليها كهدية.
الآن سآخذ المثال الذي ذكرته عن اللص الذي تريد طرده، لا أتفق معك أن اللص يجب إخراجه بأي وسيلة، سيتوقف الأمر على من هو اللص؟ هل هو والدك؟ أو أحد معارفك؟ هل ستختلف وسائل تعاملك مع لص أبيض عن تعاملك مع لص هندي؟ سيختلف الأمر إن كان هزيل البنية أو مفتول العضلات، ماذا لو كان مدججًا بالسلاح حتى أخمص قدميه؟! ربما ينبغي أن تتعامل مع الأمر بهدوء، سيكون لدينا وسائل متعددة بداية من لو كان اللص أباك أو رجلًا قوي البنية مسلحًا. قوة والدي اللص ربما ستجعلني أبكي في شفقة، بينما قوة الرجل المسلح قد تدفعني للغضب وتجعلني عدوًا له… وقد يكون للص رفقاء يأتون ينتقمون ويهاجمون سائر البيوت… من هذه الأمثلة نجد أن الوسائل لن تستخدم ذاتها مع جميع الحالات. والدواء قد يكون مرًّا لا تستسيغه[12].