النضال المدني؛ صناعة الفاعليّة المجتمعيّة

يحتلُّ النضال المدني، في السعي لتغيير العلاقة بين السلطة والمجتمع، مكانة بارزة. هذا النضال الذي يستهدف مواجهة سلطة الاستبداد السياسي على مستويات متنوعة غير المستوى السياسي المباشر، من خلال متابعة منظمة ومتخصصة لجميع جوانب البؤس التي يعيشها البشر، والاهتمام بنشر المعلومات المتعلقة بكل جانب وتنظيم أشكال من الاحتجاج لرفع المظالم المحدّدة أو لتحسين الحال في جانب محدّد. يتميز هذا النضال بأن فاعليه ونخبه النشطة مستقلة عن التصنيفات السياسية، ولا تستهدف في نشاطها الوصول إلى السلطة السياسية، ولا ترى أن هذا الوصول شرطٌ لازمٌ لإنجاز تحسين في جوانب حياة البشر.

إذًا، النضال المدني بالتعريف هو مواجهة غير سياسية مع السلطات، مواجهة لا تعترف بالخطوط الحمر للسلطة، ولا تستنكف عن العمل في أي مجال من مجالات معاناة البشر؛ الغلاء، الفساد، الاعتقال التعسفي، التعذيب في المعتقلات … إلخ. هذا النوع من النضال يزيد وعي الناس بأحوالهم، ويشدهم إلى الوقوف عند حقوقهم، ويجعل النضال مفهومًا بالنسبة إليهم، بدلًا من أن يبقى نخبويًا لا يلمسون من ورائه تغييرًا في أحوالهم المتدهورة.

ولأهمية هذا النضال المدني، خصَّصت هيئة تحرير رواق ميسلون هذا العدد لتناوله دراسةً وبحثًا تحت عنوان “النضال المدني؛ صناعة الفاعليّة المجتمعيّة“، بهدف فتح حوار عميق وتفصيلي حوله، وبما يسمح بالوصول إلى آليات ومقترحات قابلة للتطبيق والتعميم. وشارك في هذا العدد ما يزيد على ثلاثين كاتبًا وكاتبة، قدَّم أكثر من نصفهم مساهماتهم حول هذا الموضوع المهم والحيوي.

كتب افتتاحية العدد عضو هيئة التحرير والمحرِّر الثقافي في المجلة، راتب شعبو، وكانت بعنوان “النضال المدني ونزعة التسييس”، تناول فيها مجموعة من الأفكار الرئيسة المتعلقة بالنضال المدني؛إن غياب قوى مدنية تحمي المجال العام، يجعل من هذا الأخير لقمة سائغة لأي سلطة (بديلة)، أيًا يكن اسم (الحزب) الجديد أو لونه أو أيديولوجيته”. “العلة الرئيسة في بلداننا تكمن في التماهي التاريخي بين السلطة (أهل الحكم) والدولة وما ينجم عن ذلك من خصخصة الدولة وجعلها مملوكة لمصلحة السلطة التي تسيطر عليها”. “هناك مساحة واسعة من العمل غير الحزبي، ينبغي إنشاؤها وملؤها”. “النضال المدني هو نشاط في وجه السلطات الحاكمة على طول الخط وليس في أفقه أن يتحول إلى سلطة حاكمة”. “ما يحققه النضال المدني في فترات السكون، هو من العناصر التي تحمي المجتمع من تغول أي سلطة، قديمةً كانت أو جديدة”.

وتضمّن ملف العدد أيضًا ستَّ دراسات محكّمة. كتب الأولى الباحث محمد بوعيطة، من المغرب، وهي بعنوان “الإعلام الرقمي ودوره في التغيير الاجتماعي والسياسي”، رأى فيها أن أهمية شبكات التواصل الاجتماعي “تكمن في تعزيز مشاركة المجتمع المدني في البناء الديمقراطي، لكن بالمقابل هناك العديد من التحديات المطروحة على هذا المستوى بالنسبة إلى الدول النامية خاصة. أهم هذه التحديات ضرورة التغلب على الفجوة الرقمية، وضرورة تأهيل المجتمع المدني في بلدان الجنوب وتعزيز قدرته على الانخراط في الثورة الرقمية”.

وكتب حمدي الشريف، من مصر، دراسة بعنوان “جدلية العلاقة بين النضال المدني والسياسات المقبورة”، وقد لفتت هذه الدراسة النظر إلى أن مصطلح “السياسات المقبورة” يشير إلى سلطة الحياة والموت ممثلة بالسلطة السياسية والاجتماعية، وأي سلطة أخرى يحكم أصحابها -سواء بصورة علانية أو بصورة ضمنية- على بعض الناس بالحياة بعضهم الآخر بالموت. وقفت الدراسة على بعض الإشكاليات التي ترتبط بهذا الموضوع، وذلك في ضوء ثلاثة محاور أساسية: تناول المحور الأول تعريفًا مبسطًا وشاملًا للنضال المدني، وأبرز صوره، وأهم الإشكاليات المرتبطة به، وفي المحور الثاني حلَّلت أبعاد تقنيات المراقبة في عصر التكنولوجيا بين قوة التحرر وأزمة الاغتراب، وفي المحور الثالث تناولت مفهوم سلطة الحياة والموت.

وكتبت نادية بلكريش، من المغرب، دراسة بعنوان “المجتمع المدني ودوره النضالي في ترسيخ الديمقراطية في العالم العربي”، ركزت فيها على العلاقة بين المجتمع المدني والديمقراطية، لأنَّ عملية التحول الديمقراطي تقوم “على إبراز دور المجتمع المدني في صيانة الحريات الأساسية للمجتمع”. فعلى الرغم من أن موضوع المجتمع المدني ما زال يثير العديد من القضايا والتساؤلات على صعيد المجتمع ككل بقواه وتكويناته ومؤسساته وأنماط ثقافته، فإنه يراد منه “أن يقوم بأدوار أساسية ذات مضامين ديمقراطية”.

وكتب الدراسة الرابعة منير الخطيب بعنوان “المجتمع المدني من منظور الانتماء الجذري للجماعة الإنسانية”، أكد فيها وجوب “تنضيد (ثورة المجتمع المدني)، بوصفها مفصلًا حاسمًا بين تاريخ البشرية الهمجي و(الثورة المطلوبة والراهنة) التي ينتظرها النوع الإنساني قاطبة، لتحقيق مستويات أكبر من العدالة والمساواة والحرية، بخاصة بعد فشل (الثورات) التي سُميت اشتراكية في أكثر من بلد في العالم وإفصاحها عن توحش وهمجية ونكوص إلى ما قبل التاريخ المدني للبشر”.

أما الدراسة الخامسة، فكانت بعنوان “الأيديولوجيا الدينية-الطائفية والنضال المدني المجتمعي؛ إضاءة على الحالة السورية”، كتبتها الباحث السوري طارق عزيزة، وتناول فيها مسألة النضال المدني-المجتمعي “انطلاقًا من التمييز ما بين الوعي المواطَني/ المدني والوعي الديني/ الطائفي، وتأثير كلّ منهما في النضال المدني، إيجابًا أو سلبًا. فمن خلال الأوّل (الوعي المواطَني)، يعي الشخص (ذكرًا أو أنثى) ذاته بوصفه مواطنًا ينتمي إلى دولة بعينها، ويتشارك هذا الانتماء مع سائر المواطنات والمواطنين، بصرف النظر عن تحديداتهنّ وتحديداتهم الهوياتية الأخرى، ما قبل المواطَنية، ولا سيما الدينية أو المذهبية، ما يرتّب جملة حقوق وواجبات متساوية، نظريًا على الأقل. أما الثاني (الديني/ الطائفي)، فيُقصَد به الوضعية التي يتخذ فيها الشخص من انتمائه إلى دين أو طائفة ما، محدِّدًا هوياتيًا أساسيًا، فيضبط أولوياته وسلوكه وخياراته، ومن ضمنها الخيارات السياسية، وفقًا لهذا المحدِّد، والذي تتأسّس عليه ضروب من التمييز والتفاوت في الحقوق والواجبات، نظريًا وعمليًا”..

أما الدراسة السادسة، فكانت بعنوان “الحفر في صخرة الشمولية”، فكتبتها عمر كوش، تناول فيها “أبرز المقولات المتعلقة بنظرية الحكم والسلطة، وأبرز تعريفاتها في الفلسفة السياسية، والتقليد السياسي الحديث، والإشكاليات المتعلقة بالعمل المدني، والوسائل التي تتبناها قوى التغيير الاجتماعي، ومنظمات المجتمع المدني في نظم الاستبداد، وطرق العمل المدني وأشكاله لتحرير الفضاء العام، إضافة إلى سبل حماية النسيج الاجتماعي من التفكك والتحلل، ومواجهة الأزمات المتعددة”.

وفي باب مقالات الرأي كتب الباحث الأردني سالم عوض الترابين مقالة بعنوان “النضالُ من الدّاخل: المجتمعُ المدنيّ وإرهاصاتُ الصّمود”، وتقوم هذه المقالة على ثلاثة عناوين: الأول، النضالُ المدنيّ في الوطنِ العربيّ توحّدُ الفكرةِ وغيابُ التنسيق. الثاني، المفكّرُ العربيّ والنضالُ المدنيّ: التنظيرُ والتغييبُ. الثالث، تجربةُ النضالِ المدنيّ العربيّ بينَ الصّمودِ والفشل. وكتبت الباحثة التونسية كوثر الردادي مقالة بعنوان “الحركات الاجتماعية وتشكّل الوعي بالنضال المدني: نماذج تونسية”، رأت فيها أنَّالعمل والنضال المدني يشملان كل القوى المُقاوِمَةِ للظلّم والحيْفِ الاجتماعي والمنادية بالحرية والعدالة، خصوصًا في مناطق (الربيع العربي) وما فرضته مراحل الانتقال الديمقراطي فيها من قضايا اجتماعية واقتصادية بالأساس”. وكتب الباحث السوري ماهر مسعود مقالةً بعنوان “القضية السورية وإشكالية النضال المدني”، أكد فيها أنَّهذا الواقع الذي وصلت إليه القضية السورية هو ما يرفع من أهمية النضال المدني، ويجعله من أهم أنواع النضال الممكنة أمام السوريين في المرحلة الحالية والمستقبلية. فالنضال المدني للأفراد والمجموعات والمنظمات والمؤسسات والحركات على تنوعاتها واختلافاتها، هو ما يجب أن يأخذ مزيدًا من الانتباه والتركيز والاهتمام في المرحلة المقبلة، وهو ما قد يفتح باب السياسة المغلق أمام النخب القديمة وبسببها، وما قد يعبّد طرق الخروج من الجحيم السوري”. وكتبت عبير الكوكي، من تونس، مقالة بعنوان “الميديا الاجتماعيّة شكل من أشكال النضال المدني في تونس” رأت فيها أنَّ الميديا الاجتماعيّة “أفرزت حرّية النفاذ إلى المعلومة كما عزّزت الديمقراطيّة التداوليّة والمشاركة السياسيّة في الشأن المحلّي على الرغم من المراقبة والمنع والتعذيب الذي سُلّط على الناشطين الافتراضيّين”. وحاولت من خلال المقالة أن تجيب عن سؤالين رئيسين؛ كيفية بروز الميديا الاجتماعيّة كشكل من أشكال النضال، ودورها خلال الثورة التونسية وبعدها. أما الكاتب السوري محمد ياسين نعسان، فقد قدَّم مقالة بعنوان “النضال المدني من الجماعة إلى المجتمع”، رأى فيها أنَّ علينا، قبل التفكير في النضال المدني، “أن نعيد تصحيح مفاهيمنا عن معنى المجتمع المدني وكيف ننتقل من مرحلة الجماعة البشرية التي ما زالت عالقة في تلافيف الوعي الجمعي، والانتقال إلى حالة المجتمع والمواطنة وإعادة النظر في مفهوم الانتماء”.

وفي الملف الخاص؛ تجارب نسوية، كتبت سلوى زكزك، من سورية، مقالة بعنوان “متلازمة العمل المدني؛ دعوة للشفاء أم إنكار للواقع”، وكتبت ولاء صالح مقالة بعنوان “عن الكتابة كنضال مدني؛ في ضرورة توسيع أفق النضال المدني”، فيما كتبت إسراء عرفات، من فلسطين، مقالة بعنوان “دور الوعي السياسي في توليد النضال المدني (قراءة في ضوء نظرية الفرصة السياسية)“.

وفي باب الحوارات، أجرت مجلة (رواق ميسلون) حوارًا مع ريمون المعلولي، وهو عضو هيئة تحريرها، والأستاذ الدكتور في أصول التربية. تناول الحوار مفهوم النضال المدني وأشكاله وإمكانياته ومجالات عمله والموضوعات المتعلقة به، وتجسيداته في سورية والمنطقة العربية.

وفي باب مقاربات حول ملف العدد نشرت المجلة أربع مقاربات؛ كتب الأولى محمود الوهب بعنوان “منظمات المجتمع المدني السوري في قلب المخاطر؛ مواجهة زلزال شباط/ فبراير 2023 نموذجًا”، وكتب الثانية فادي ديوب، وهي بعنوان “حكاية 12 عامًا من حياة الفضاء المدني السوري بعد الثورة”، أما الثالثة فكتبها رياض زهر الدين، وهي بعنوان “دور النضال المدني في بناء الخط الثالث في ظل مجتمع منقسم بالحرب؛ دراسة للحالة السورية”، وكتب حسين شاويش الدراسة الرابعة بعنوان “المجتمع المدني الاضطراري؛ محاولة في بارادايم جديد لعلاقة المدني بالسياسي”.

واختارت هيئة التحرير المفكر السوري الراحل صادق جلال العظم ليكون شخصية هذا العدد، وكان قد رحل في 11 كانون الأول/ ديسمبر 2016)، وهو مفكر سوري كان أستاذًا فخريًا بجامعة دمشق في الفلسفة الأوروبية الحديثة، وأستاذًا زائرًا في قسم دراسات الشرق الأدنى بجامعة برنستون. في هذا الباب كتب الباحث السوري حسام الدين درويش دراسة بعنوان صادق جلال العظم: من العلمانية الصلبة إلى العلمانية اللينة“، وكتب الباحث هيثم توفيق العطواني مقالة بعنوان النقد بوصفه منهجًا في فلسفة العظم، فيما ترجمت هويدا الشوفي فصلًا من أحد كتب صادق جلال العظم باللغة الإنكليزية، بعنوان المجتمع المدني والربيع العربي.

وفي باب دراسات سياسية نُشرت في هذا العدد دراستان. كتبت الأولى الباحثة السورية صبا مدور بعنوان “ما مدى نجاح الحكومة التوافقية في تنظيم الصراع الإثني القومي؟”، وكتبت الباحثة المغربية فاطمة لمحرحر الدراسة الثانية بعنوان “السياسة الثقافية في المغرب بين الإنصاف الدستوري وعوائق التنزيل“.

وفي باب إبداعات ونقد أدبي، كتبت الفنانة التشكيلية السورية ريَام الحاج مقالةً بعنوان زخارف الرّيزين الدِّمشقيّ؛ اقتراح (تقنيّ/ فنِّيّ) في فنّ الزّخارف بموادّ بديلة”، وجدير بالذكر أنَّ اللّوحات المُرفَقة بهذا العدد من المجلة تنتمي إلى تجارِب (فنّ زخارف الرّيزين الدِّمشقيّ)، وهي من تصميم ريَام الحاج وتنفيذها. ويتضمَّن هذا الباب أيضًا قصة قصيرة بعنوان “جَدِيْس” كتبتها علا الجبر، وخواطر نثرية بعنوان “طلقات للاستعمال المنزلي” كتبها ماهر راعي، وقصة قصيرة بعنوان “مهمة مستحيلة” كتبها عمار الأمير، وقدَّمت الكاتبة أمل فارس ترجمة لمقالة عن اللغة الإسبانية عنوانها “خوليو كورتاسار يراسل ماريو فارغاس جوسا”، وكتب أيضًا عبد الرزاق دحنون مقالة بعنوان “المستطرف الصغير؛ منتخبات من مَجمع الأمثال”.

وفي باب ترجمات، قدَّم غسَّان مرتضى، وهو عضو هيئة تحرير رواق ميسلون وكاتب وباحث ومترجم سوري ويحمل دكتوراه في الأدب الـمقارن من سانت بيتربورغ/ روسيا، فصلًا ترجمه عن الروسية من كتاب “قضايا الإضحاك والضحك” الذي كتبه ف. يا. بروب في أخريات أيَّام حياته؛ فعلى الرغم من أنَّه بروب خصَّص جلَّ اهتمامه ووقته لدراسات الفولكلور، إلَّا أنَّه اشتغل في أعوام حياته الأخيرة اشتغالًا مركَّزًا على قضايا الفكاهة في الأدب والفنِّ.

وفي باب مراجعات وعروض كتب، نشرت المجلة مقدمة كتاب (المجتمع المدني اليوم) لجاد الكريم الجباعي، وهو مخطوط قيد النشر، ستنشره ميسلون للثقافة والترجمة والنشر قبل نهاية العام الحالي. وأخيرًا في باب وثائق وتقارير، نشرنا موضوعين مهمين من الموضوعات ذات العلاقة بالنضال المدني؛ الأول “أهم أفكار حرب اللاعنف”، والثاني “أسلحة حرب اللاعنف؛ خيارات التصدي للظلم”، وهما من منشورات أكاديمية التغيير المتخصِّصة بقضايا النضال المدني والتغيير واللاعنف.

هيئة التحرير

 

 

مشاركة: