أجرت رواق ميسلون حوارًا مع الدكتور ريمون المعلولي، وهو عضو هيئة تحريرها، وتناول الحوار مفهوم النضال المدني والموضوعات المتعلقة به، وتجسيداته في سورية والمنطقة العربية.
السؤال الأول: اكتسب مفهوم العمل المدني زخمًا عالميًا في العقود القليلة الماضية وخصوصًا بعد انهيار المنظومة الاشتراكية التي اتسمت بسيادة نظم شمولية فيها، واليوم تُثار أسئلة كثيرة حول مفهوم العمل المدني وأشكاله وإمكانياته… هل لك أن تطلعنا على دلالات هذا المفهوم، وأشكاله، ومجالات عمله؟
مفهوم النضال المدني: النضال المدني (Civil Struggle) هو نوع من النشاط أو العمل الاجتماعي تمارسه الشعوب أو فئات منها (سياسية أو مهنية أو ثقافية وحقوقية أو بيئية…) بقصد إحداث تأثير في السلطة أو في مسؤولي القطاعات النافذة في القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، تمارسه عبر وسائل سلمية ومدنية لتحقيق أهداف اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية.
يشمل النضال المدني عادة الاحتجاجات السلمية، والمظاهرات، والحملات الاجتماعية، والتحالفات، والتضامن الاجتماعي، والتعبئة الشعبية، وغيرها من الأنشطة التي تهدف إلى تغيير القوانين أو السياسات أو الظروف الاجتماعية بطرق غير عنفية.
يتطلب النضال المدني عادة مناهج منظمة واستراتيجيات تحريرية لتحقيق التغيير. يمكن أن يشمل ذلك التوعية والتعليم، والضغط السياسي، والتحالفات مع المنظمات غير الحكومية والجمعيات الخيرية، واستخدام وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وتنظيم الحملات العامة، والاعتصامات، والتصويت في الانتخابات، والعمل التطوعي، وغير ذلك الكثير.
الأمثلة على النضال المدني تشمل حركات حقوق الإنسان، والحركات النسائية، والحركات البيئية، والحركات الاجتماعية للعدالة الاجتماعية، والحركات السياسية التي تسعى لتحقيق التغيير في الأنظمة السياسية بطرق سلمية.
على العموم، يهدف النضال المدني إلى تحقيق التغيير الإيجابي في المجتمع بشكل ديمقراطي وسلمي دون اللجوء إلى العنف أو الاستخدام غير المشروع للقوة.
وهناك العديد من أشكال النضال المدني نذكر منها:
1- الاحتجاجات والمظاهرات: تعد الاحتجاجات والمظاهرات وسيلة شائعة للتعبير عن الرفض أو الدعوة إلى التغيير. يجتمع الأشخاص في مكان عام ويحملون لافتات ويتلون هتافات لجذب الانتباه إلى قضيتهم.
2- الحملات الاجتماعية: تستند إلى استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام للتوعية بقضايا معينة وجذب الدعم والانضمام إلى الحملة.
3- العصيان المدني: يتضمن هذا الشكل من النضال عدم الامتثال للقوانين أو السياسات التي يعتبرها المشاركون غير عادلة أو غير مقبولة. يمكن أن يتضمن ذلك إضرابًا عامًا أو عدم الدفع للضرائب.
4- التعبئة الشعبية: تتمثل بتنظيم مسيرات أو وقفات احتجاجية واسعة النطاق تشمل عددًا كبيرًا من الأشخاص.
5- الاعتصامات: يقوم المشاركون بالمكوث /جلوسًا أو وقوفًا أمام مبنى حكومي أو منشأة معينة تتبع لهيئة وطنية أو أممية للتعبير عن احتجاجهم بشكل سلمي.
6- التصويت والمشاركة السياسية: يمكن أن يتوجه الناخبون والناخبات إلى صناديق الاقتراع لاختيار ممثليهم أو التصويت على الدستور أو أي قوانين مطروحة للتصويت على مستوى الرأي العام أو على مستوى مجموعات سكانية: مهنية-مناطقية… إلخ.
7- الانخراط في منظمات غير حكومية: تسمح هذه المنظمات بتنظيم الجهود والعمل المجتمعي لتحقيق التغيير في مجالات معينة مثل حقوق الإنسان، والبيئة، والتعليم.
8- الضغط الدولي: يتضمن ذلك استخدام العلاقات الدولية للضغط على الحكومات أو المؤسسات لتحقيق تغييرات في السياسات أو في السلوك.
السؤال الثاني: في سورية، نعلم أن النظام السوري منع طوال نصف قرن أي شكل مستقل من العمل السياسي أو المدني، بحكم شموليته وارتكازه على أيديولوجيا قمعية، فهل مارس السوريون النضال المدني قبل الثورة السورية في آذار/ مارس 2011؟
تمثل تجربة النضال المدني التي خبرها السوريون قبل ثورة آذار 2011 حالة معيارية، لفهم خبرات شعوب أخرى مرت بذات الظروف لناحية سيطرة النظم ذات الطبيعة الشمولية والاستبدادية، وعليه يمكن عدّ التجربة السورية الممتدة من عام 1958–2011 مقاربة صائبة لفهم أحوال العمل المدني في البلدان التي سادتها تلك النظم من الحكم.
لقد مرت سورية قبل قيام الوحدة مع مصر عام 1958 بعهد انطلق منذ 1945 امتلكت فيه رزمة من القوانين التي أولت اهتمامًا ملحوظًا بالجمعيات الأهلية، كالقانون /49/ الخاص بتنظيم الجمعيات الخيرية والمؤسسات الاجتماعية، والقانون رقم /52/ لسنة 1949 بشأن الأندية، وأكد دستور البلاد لعام 1950 على حق المواطنين بتأليف الجمعيات وحريتها، وتلا ذلك صدور قانوني /66/ و/4/ لعام 1952 المتعلقين بإجراءات إشهار الجمعيات، ومن ثَمَّ المرسوم /199/ 1952 الذي نظم الرياضة والعمل الكشفي، وصولًا لقانون الجمعيات والأحزاب الصادر بالمرسوم رقم /47/ تاريخ 1953.
في عام 1958 حدثت انتكاسة نوعية على صعيد التنظيمات الأهلية بما فيها السياسية بعد صدور القانون رقم /93/ الذي ألغى كل القوانين السابقة، إضافة إلى لائحته التنفيذية الصادرة بالقرار رقم /1330/ تاريخ 1958 والمرسوم التشريعي الصادر بتعديله رقم /224/ تاريخ 1969. مؤسسًا لفهم مختلف لمعنى الجمعيات، ولعلاقتها مع الحكومة، وهو القانون الذي تعاملت بموجبه الحكومات المتعاقبة مع المجتمع.
ففي 8 آذار /مارس1963 تم إعلان حالة الطوارئ مع وصول حزب البعث إلى السلطة، وبموجبه تم منح سلطات واسعة للحاكم العرفي منها: وضع القيود على حرية الأشخاص في الاجتماع والإقامة والتنقل والمرور في أماكن أو أوقات معينة، وتوقيف المشتبه فيهم أو الخطرين على الأمن والنظام العام توقيفًا احتياطيًا والإجازة في تحري الأشخاص والأماكن في أي وقت.
وقد عززت الحكومات المتعاقبة في ظل سلطة البعث من سلطاتها على الجمعيات من خلال تشكيل الاتحادات العامة في أوساط مختلف السكان، مثل الاتحاد العام النسائي، واتحاد الطلبة واتحاد العمال. وقد صدرت بقوانين ومراسيم منحتها حق احتكار مجالات العمل الخاصة بكل منها. وهكذا تعطلت الحياة المدنية بمختلف أشكالها في سورية.
وعلى الرغم من ذلك، فقد شهدت سورية تغيرات اقتصادية- اجتماعية في مطلع العقد الأول من الألفية الراهنة بعد تبني الدولة سياسة اقتصاد السوق الاجتماعي مع بداية الخطة الخمسية العاشرة، وتقلص دور الدولة الاجتماعي، فضلًا عن التطورات العالمية والإقليمية، ما دفع النظام الحاكم إلى تبني إطار أكثر مرونة لحكمـه التسـلطي تجلى جزئيـا فـي السماح بظهور منظمات المجتمـع الأهلي السـوري، بهــدف تعويـض انســحاب الدولـة التدريجـي مـن الضمــان الاجتماعـي، ولكـن مـع إبقـائها تحــت وصايــة الدولـة وإشـرافها. وهكذا نمت عشرات الجمعيات غير الحكومية، وتعددت أغراضها وتوجهت نحو برامج التنمية، وتحولت التنظيمات غير الحكومية لأن تكون إطارًا محركًا للجماهير بهدف إشراكها في العملية التنموية، ولتقديم بعض الخدمات بدلًا من الدولة. وقد أدى هذا التطور إلى تسليط الضوء على هذا القطاع سواء على المستوى الاجتماعي أو السياسي أو الفكري. كما ظهرت في الوقت عينه منظمات دفاعية، تعمل من أجل دعم الحريات وحقوق الإنسان والتحول الديمقراطي عملت في ظروف تقييدية شديدة. فضلًا عن ظهور مجموعة من الجمعيات التي تبنت أهدافًا تربوية وتنموية وصاغت برامجها وأنشطتها مؤكدة على مهماتها في نشر الوعي وتكوين القيم والاتجاهات وتنمية الاهتمامات بالقضايا البيئية والسكانية، والصحية. استمر ذلك حتى مطلع عام 2011.
السؤال الثالث: كيف أثرت الثورة التي اندلعت في آذار 2011 بسورية على النضال المدني، الذي مارسه نشطاء سوريون؟ وما أشكال النضال المدني الذي مارسوه، ومعنى الخبرات التي اكتسبوها؟
من فضائل الثورة على السوريين – ما وفرته لهم من فرص للتعلم على ممارسة العمل المدني بعد طول حرمان امتد على مدى خمسين عامًا ولم يكن تعلمهم سهلًا فقد تعلموا ” من كيسهم” فقد انخرطوا مدفوعين بضغط الحاجة لممارسة شتى صنوف النضال المدني بمستويات متفاوتة من الاتقان والاستثمار.
لقد وجد السوريون أنفسهم فجأة في ظروف جديدة تطلبت منهم الانتقال من حالة العطالة المدنية إلى حالة الفعل/ النضال المدني ولم يحصل ذاك الانتقال بيسر، ولنا أن نتصور أن شعبًا وُلِد غالبية أبنائه في الخمسين سنة الأخيرة، وتفتحت أعينهم على دنيا خالية من الحياة السياسية والحزبية إلا من حزبٍ واحدٍ! شغلت شعاراته فضاء سورية، وجميع الأجيال كانت ملزمة بالمرور في مدارس البعث النظامية وغير النظامية وأقصد: مدارس الطلائع ثم الشبيبة واتحاد الطلاب، التي تَضخ في عقولهم أيديولوجيا الحزب، المُشرَّبة بالمناهج التعليمية وأنشطتها. وفي حياتهم العملية، ولا يجدون سوى “المنظمات الشعبية” و”النقابات المهنية” المصوغة وفق مواصفات السلطة. مجتمع لا تنظيمات مدنية فيه، ولا أحزاب سياسية، لا انتخابات حرة، ولا قدرة على التعبير. لم يعرف السوريون معنى الانتخاب إلا في الكتب المدرسية، ويتم عرضها بصورة مشوهة، لم يتعلموا النقد والتعبير، لم يعيشوا خبرات الحياة المدنية الأولية.
بعد انطلاق الثورة بدأ تعلم السوريين العمل المدني في الميدان مباشرة فأخذوا ينظمون أنفسهم من أجل التظاهر، وتعلموا تشكيل الشبكات الإعلامية وتأسيس الاتحادات والتنسيقيات في مختلف المدن والبلدات والقرى، تعلموا كيف يؤسسون منظماتهم التطوعية وإدارتها، وتمكنوا من إقامة المشافي الميدانية وإدارتها في أصعب الظروف، وشكّلوا فرق الإسعاف والإنقاذ التي تعمل على خطوط القتال وفي مواقع القصف، نظموا حملات جمع التبرعات والمساعدات في داخل سورية وخارجها وتوزيعها على مستحقيها.
أقاموا المدارس في ظروف وأماكن استثنائية جدًا، تمكنوا من ترميم ما استطاعوا من المهدم والمخرب منها درءًا للقصف، وساهموا في الإعمار وإصلاح المنازل والمستشفيات وأنشؤوا مشاريع المياه والصرف الصحي في المناطق المتضررة. فضلًا عن تمكنهم من تأسيس مراكز بحثية ودور نشر وجمعيات مهنية بديلة.
السؤال الرابع: بعد الثورة السورية في آذار/ مارس 2011 ظهرت هيئات ومؤسسات مدنية متنوعة، ما تقويمك للمسار العامُ لها؟ وهل تعتقد أَّنها تؤسس لمجتمع مدني فاعل ومؤثر؟
تمكن السوريون منذ مطلع عام 2011 من ممارسة أشكال متعددة من النضال المدني فرضتها ظروف الحرب وما خلفته من كوارث على السكان. وبرز من بينها العشرات من منظمات المجتمع المدني، وقد تصدت لمجموعة متنوعة من الأنشطة الإغاثية والتنموية، بما في ذلك تقديم المساعدة الإنسانية مثل توزيع الغذاء وتأمين الإسكان والرعاية الصحية للسوريين المحتاجين، ودعم التعليم والمشاريع الاجتماعية والاقتصادية وكذلك دعم النساء وتمكينهن وحماية الأطفال قدر المستطاع وتوثيق الانتهاكات التي مارستها مختلف الأطراف المسيطرة المنخرطة بالعمليات الحربية. ومع ذلك واجه عمل المنظمات المدنية تحديات حقيقية كانت سببًا في ضعف أدائها، وأكثر من ذلك كانت سببًا لانحراف العديد منها عن غاياتها المرجوة. أذكر من تلك العقبات والتحديات:
1- تحديات تتصل بالاستقلالية والتمويل، فغالبية منظمات المجتمع المدني تعتمد بشكل كبير على التمويل الخارجي، وهذا يمكن أن يؤثر على استقلاليتها وقراراتها. وقد تضطر إلى العمل تحت تأثير التمويل الدولي أو السياسات الخارجية للدول المانحة. وكثيرًا ما ترتبط أهداف برامجها بسياسات الجهات المانحة وبرامجها ما يقلل من قيمة ما تقوم به تلك الجمعيات وجدواها.
2- انخفاض عوامل الأمان والاستقرار بسبب النزاع المستمر في سورية ما يعرض الأفراد والمنظمات لخطر فقد الأمان. وبالفعل فقد تعرضت العديد من المنظمات وأعضائها للاعتقال والتهديدات والعنف.
3- صعوبة وصول المنظمات إلى المناطق المتأثرة بالنزاع بحرية ودون عوائق وهي المستحقة للدعم والمساندة وقد تفرض سلطات الأمر الواقع والجماعات المسلحة تحديات كبيرة تمنع تنقلهم وتحركهم.
4- يشكل التعاون والتنسيق بين المنظمات المختلفة وسلطات الأمر الواقع من جهة، والشركاء الدوليين من جهة ثانية تحديًا نظرًا للتشدد الذي تمارسه تلك السلطات من النواحي السياسية والتمويلية والأمنية.
5- صعوبة احتفاظ المنظمات العاملة بالشأن المدني باستدامة الأنشطة وتمويلها على المدى البعيد بسبب عدم اليقين الدائم والتغيرات التي تطرأ على أولويات التمويل.
في مقابل ذلك تمارس بعض منظمات المجتمع المدني في سورية مهماتها بجد لتقديم الدعم والمساعدة للمجتمع المحلي والمتضررين من النزاع.
وعلى الرغم من التشوهات والانحرافات التي تصيب عمل بعضها فتجربة جمعيات المجتمع المدني – وإن كانت لا تجسد كل أشكال العمل المدني – فهي تجربة تساهم في تراكم خبرات هذا النوع من العمل العديد للناشطين المؤمنين بمفهوم العمل الطوعي والمستقل، والتي سوف تكون مفيدة في بناء رأس المال البشري لسورية الحديثة.
السؤال الخامس: ما أبرز التحديات التي يوجهها النضال المدني في ظروف العمل التي تفرضها السلطات ذات الطابع الشمولي؟
يواجه النضال المدني تحديات كبيرة نتيجة للقيود والقمع الذي يمارسه النظام الحاكم وكذلك سلطات الأمر الواقع ومن التحديات نذكر:
1- فرض السلطات المستبدة والشمولية قيودًا صارمة على حرية التجمع والتنظيم، ما يُعقد عمل النشطاء لتنظيم فعاليات ونشاطات ومسيرات، فكثيرًا ما يتم تفريق التجمعات بالقوة واعتقال المشاركين.
2- مراقبة السلطات الشمولية الأنشطة َذات الطابع المدني بما فيها مراقبة عمل المنظمات المدنية بشكل دقيق. وكثيرًا ما تستخدم وسائل التجسس والتحقق السري على النشاطات المدنية ومعرفة من يشارك فيها.
3- فرض تقييدات صارمة على حرية الصحافة والإعلام المستقل. وكثيرًا ما تقوم بمصادرة المطبوعات وحجب المواقع الإلكترونية ومضايقة الصحفيين والنشطاء وقد تقوم باعتقالهم.
4- اللجوء إلى ممارسة الاعتقالات ومضايقة النشطاء وإجراء التحقيقات السرية والتعذيب وقمع الأنشطة المدنية والمنظمين.
5- إصدار قوانين قمعية /تقييدية تهدف إلى ضبط نشاط المنظمات المدنية وتجريم بعض الأنشطة المدنية.
6- تجريم الجمعيات والمنظمات في بعض الحالات، لمنع تأسيسها وتسجيلها أو لتجريم نشاطها.
7- القيام بتدمير ممتلكات المنظمات العاملة بالشأن المدني العام وإغلاق مكاتبها بدعوى انتهاكاتها القانونية.
8- اللجوء لفرض الضغوط المالية على منظمات المجتمع المدني من خلال تجميد حساباتها أو فرض ضرائب مرتفعة عليها ما يعيق استمرارها في أداء عملها.
ومع ذلك، فإن العمل المدني يظل مهمًا في تحقيق التغيير الاجتماعي والسياسي على المدى الطويل، حيث يمكن للمنظمات والنشطاء العمل باستمرار على تعزيز حقوق الإنسان والديمقراطية والعدالة في وجه التحديات.
السؤال السادس: هل يمكن استنفاد مفهوم المجتمع المدني بمنظمات المجتمع المدني، أي هل تعتقد أن هذا المفهوم يمكن أن يُختزل بوجود عدد من المنظمات أم أن الأمر أعقد من ذلك خصوصًا من حيث علاقته بمفهوم الدولة الحديثة؟ بمعنى آخر هل يمكن بناء منظمات مجتمع مدني في ظل دول ينعدم فيها القانون؟
في البلدان التي ينعدم فيها القانون أو يتم فرض تقييدات شديدة فيها على الحريات المدنية والتنظيمات المدنية، فإن العمل المدني يواجه تحديًا كبيرًا. ففي مثل تلك الظروف يصبح من الصعب جدًا إقامة منظمات مجتمعية بشكل قانوني وفعال.
ومع ذلك، يمكن للناشطين المدنيين النظر في عدد من الأمور التي قد تمكنهم من القيام بأعمال مدنية في ظل دول لا تعترف بالدستور والقانون نذكر مثلًا:
1- تعاون الناشطين مع بعض المنظمات الدولية لتأمين الدعم لها أو مع مؤسسات حقوقية أممية تعمل في مجال تعزيز الحريات المدنية في البلدان التي تعاني من قيود قانونية.
2- ممارسة العمل المدني ضمن المساحات الممكنة، من خلال دراسة القوانين المحلية والمعايير والمتطلبات التي تنظم العمل المدني، والبحث من خلالها عن مساحات تمكن الناشطين من العمل المدني قدر المستطاع.
3- اتخاذ تدابير السرية والأمان لحماية الأنشطة وكذلك الأعضاء من الانتهاكات الحكومية المحتملة.
4- إيجاد سبل وقنوات تواصل سرية لتبادل المعلومات وتنظيم الأنشطة.
إن ممارسة المنظمات المجتمعية لأي أنشطة مدنية في ظل الظروف التقييدية الصارمة تتطلب إبداعًا والتزامًا بمبادئ حقوق الإنسان، وقد يكون ذلك تحديًا كبيرًا، ولكنه يمكن أن يكون أيضًا ضروريًا للعمل على تغيير الوضع والمساهمة في تحقيق العدالة والديمقراطية.
السؤال السابع: هل يمكن للعمل المدني أن يساهم في خلق رأي عام لمجتمع مؤلف من مكونات متعددة، “سورية” على سبيل المثال.؟
الرأي العام هو مصطلح يشير إلى جملة الآراء والاتجاهات والمعتقدات التي يتشارك فيها الجمهور بشكل عام فيما يتعلق بقضايا معينة.
يؤدي العمل المدني دورًا بارزًا في تكوين الرأي العام، من خلال القوى المجتمعية الفاعلة بما تضم من منظمات مجتمع مدني، وأحزاب سياسية وروابط ونقابات مهنية وعلمية … الخ.
تتضح أهمية الدور الذي يؤديه النضال المدني بتكوين الرأي العام في المجتمعات التي تضم تنويعات سكانية كما هي حال المجتمع السوري الذي يتسم بتركيب ديمغرافي متعدد الثقافات: ديانات وإثنيات ومذاهب.. والمسألة المطروحة أمام هذا المجتمع تتمثل في أهمية وجود رأي عام يعبر / يجسد آراء السوريين جميعًا ومعتقداتهم ويمكنهم من العيش معًا أو التعايش ف ما بينهم، مع الاحتفاظ بحق ممثلي الثقافات المتنوعة بسماتهم وخصائصهم الثقافية.
يؤدي العمل المدني دوره في خلق الرأي العام وفق المسألة المطروحة أعلاه من خلال تشجيع مختلف الأطراف على الانخراط في حواراتٍ دائمة قادرة على إنتاج تفاهمات على ما يجمعهم من مصالح وأهداف وقيم مشتركة، ويساعدهم على فهم نقاط تباينهم واختلافهم ووعيهم مع إدراك أنها لن تفسد جوهر العلاقة التي تربط بينهم، وسوف تكون المشتركات بمنزلة الوشائج التي تشدهم إلى بعضهم، وتقوي قناعاتهم بحيوية صيغة العيش المشترك، بما تتضمنه من تفاعلات فيها الأخذ والعطاء بين مختلف الأطراف الثقافية، ففي مثل هذه الشروط يولد الرأي العام الموحد لهم.
ومن بين قوى العمل المدني التي تؤدي أدوارًا حاسمة في خلق الرأي العام تبرز النظم التعليمية التي تتسم بالانفتاح، فمن خلالها يمكن خلق فضاء ثقافي مشترك بين المواطنين من خلال ما تنشره عبر مناهجها وأنشطتها التعليمية من قيم المدنية والوطنية الديمقراطية، والتعددية والعدالة الاجتماعية، وحقوق الإنسان…
فضلًا عن دور التربية، تبرز أمام قوى المجتمع الأخرى مجموعة من الآليات والفعاليات التي تساهم في توليد الرأي العام وتأمين استدامته، نذكر منها:
1- تنشيط الفعاليات الهادفة للنهوض بتوعية الجمهور ورفع مستواه الثقافي عبر توجيه الجهود نحو نشر المعلومات وتوعية الناس بالقضايا المهمة وتوجيههم نحو فهم أفضل للقضايا السياسية والاجتماعية.
2- تنشيط الحوار والمناقشة من خلال تنظيم فعاليات ومناقشات عامة تجمع بين مختلف الأصوات والآراء لتبادل الأفكار وبناء التوافق.
3- تشجيع عمليات التواصل بين مختلف فئات المجتمع: لتنشيط التفاعل والحوا ف ما بينها وفهم قضاياهم المشتركة وتقدير احتياجاتهم وتنشيط مشاركتهم في عمليات صنع القرار.
4- استثمار وسائط التواصل والإعلام المستقل في نقل الرسائل والأفكار والأخبار بشكل موضوعي ومتوازن.
5- تنظيم فعاليات ومظاهرات سلمية للتعبير عن الرأي والمطالب وجذب انتباه الجمهور.
السؤال الثامن: في ظل نقص المعرفة والخبرة بالنضال المدني لدى القطاعات الواسعة في المجتمع السوري، بحكم عوامل عديدة، هل يمكن لميدان التربية أن يساهم في ردم هذه الهوة؟ ما معنى التربية على النضال المدني؟ وما أشكال مثل هذه التربية وأهدافها ومضامينها؟ وما دورها في إعداد الأجيال للعمل المدني؟
التربية على العمل المدني هي “جملة العمليات الهادفة إلى تنمية وعي المتعلمين ومعرفتهم بغايات العمل المدني وأهدافه ومضامينه وغرس الاتجاهات والقيم المتصلة بالعيش المشترك والتعاون والشراكة وقبول الرأي المختلف وحقوق الإنسان … وغيرها من المضامين المتصلة بهذا النوع من العمل، فضلًا عن تمكينهم من إتقان المهارات اللازمة لممارسة العمل المدني في مواقف الحياة المختلفة في( المدرسة، الأسرة ، النادي، الحي…الخ)، من خلال تشجيعهم على المشاركة في الأنشطة المجتمعية والسياسية، مثل الانتخابات والاحتجاجات السلمية، وحفظ البيئة وتنوعها، وتعزيز القيم الديمقراطية وحرية التعبير، والعدالة الاجتماعية، والمساواة. وتطوير مهارات التفكير النقدي وحل المشكلات واتخاذ القرارات الصائبة، وتعزيز الاهتمام بالمسائل الاجتماعية الأكثر حساسية في المجتمع مثل التعليم، والصحة، والبيئة. تشجيعهم على ممارسة العمل التطوعي في مختلف المجالات وتعزيز التفاعل الاجتماعي من خلال بناء شبكات اجتماعية قوية تساهم في تعزيز التعاون والتفاهم بين أفراد المجتمع.
يكمن الهدف الرئيس للتربية على العمل المدني في تشجيع الأفراد على تطوير مهارات القيادة والتعاون وحل المشكلات وتبني قيم المسؤولية الاجتماعية. هذه القيم والمهارات تساهم في تعزيز الاستقرار والازدهار في المجتمع وتنمي التفاعل الإيجابي بين الأفراد والمؤسسات لتحقيق التغيير الإيجابي في المجتمع.
تؤدي التربية على العمل المدني دورًا مهمًا في تشكيل مجتمعات مدنية أكثر تقدمًا وتطورًا، حيث يمكن للأفراد المشاركة الفعالة في تحقيق التغيير وتعزيز العدالة والديمقراطية في المجتمع.
تمارس التربية على العمل المدني وظائفها من خلال تفاعل أشكال التربية الثلاثة” النظامية وغير النظامية واللانظامية. وتحقق أهدافها من خلال العديد من الوسائل منها:
* تضمين موضوعات العمل المدني في مناهج تعليمية متنوعة، عبر أساليب متنوعة مثل تشريب/بث تلك الموضوعات في ثنايا عدد من المقررات التعليمية الأكثر قربًا من تلك الموضوعات ” كالتربية المدنية، والاجتماعية والوطنية …أو عبر تخصيص فصل كامل ومستقل لهذا النوع من الموضوعات في كتب مواد أخرى كالتربية الاجتماعية والتربية الصحية.
* تنظيم الفعاليات والأنشطة الاجتماعية المجتمعية مثل حملات التطوع والتبرع بالوقت والموارد للأعمال الخيرية والمشاركة في مشروعات تحسين البيئة والمجتمع.
* تؤدي التربية اللانظامية التي يمارسها الأهل دورًا مهمًا في تعزيز الوعي المدني لدى أطفالهم من خلال المناقشات حول القيم والأخلاق وتشجيعهم على المشاركة في الأنشطة المجتمعية.
* ولوسائل الإعلام دور مهم في نقل القصص والأمثلة الناجحة عن الأفراد والجماعات التي تعمل بجد في المجتمع المدني وتشجيع الآخرين على الانضمام إلى تلك النماذج والأمثل.
* وكذا تؤدي المنظمات غير الحكومية دورها من خلال ما تقدمه من برامج توجيهية وتثقيفية حول أهمية العمل المدني وكيفية المشاركة فيه وبخاصة العمل التطوعي وقيمته.
ولكي تتمكن التربية على العمل المدني من التأثير في المجتمع، وإحداث فروق جوهرية في الناشئة، تحتاج إلى بيئة سياسية واجتماعية-ثقافية ملائمة.