إشكالية الوعي الهوياتيِّ في بناء الدَّولة الوطنيَّة في سورية

إشكالية البحث

تمثَّلت ردَّة فعل أفراد الدولة السورية بعد تكوُّنها بمفهومها الجيوسياسي الحديث برفض مشروع المحاصصة الذي تمخَّض عن سياسة تبادل مصالح الدول الكبرى التي كانت المنطقة تحت وصايتها، فقد تمَّ رسم حدودٍ وهميةٍ لا صلة لها بواقع المنطقة وتقسيماتها الهوياتية، وتكوُّنها التاريخي والحضاري، الأمر الذي أوجد نوعًا من الاغتراب داخل أسوار هذه الحدود الجديدة، ممَّا جعل هذه الهويات غير فاعلةٍ، ولا تحقِّق غايتها ضمن نسيج الدولة، في حين بقي الحنين يحكم سلوك الهويات، ويوجِّهها إلى مرحلة ما قبل الدولة، وزاد الأمر صعوبةً وانفصالًا عن الواقع انقلاب حزب البعث، وإحكام سيطرته على الدولة، ورفضه أيّ انتماءٍ جزئيٍّ سوى الانتماء للدولة الحزبية التي كانت السلطة فيها -بعد وصول النظام الأسدي- استبدادية لا تراعي التنوُّع الهوياتي واختلافه في البلاد – على الرغم من زعمها ذلك – فقد مارست سياسةً طائفيةً، أوكلت مهام الدولة وجيشها وأمنها إلى فئةٍ محددةٍ، حتى غاب مفهوم الوطنية لدى الأغلبية العامة من الأفراد.

إنَّ الانفصال بين الشعارات والنظريات من جهة، وبين الواقع والتطبيق من جهة أخرى، أوجد مشكلة وعي هوياتي لدى الأفراد، وقد ظهرت على شكل حنينٍ نوستاليجي للماضي، وشعورٍ بالدونية في بلدٍ من المفترض أن يأخذ فيه الفرد حقوقه كاملةً غير منقوصة، وأن يشعر بحقيقة كونه مواطنًا في دولة يُفترض أن تولي مؤسساتها وقوانينها اهتمامًا بالقيم العامة؛ كالحرية والديمقراطية وغيرها ممَّا يحقِّق معنى المواطنة، ولكنَّ المفارقة تجسَّدت في أنَّ الفرد عاش بعيدًا عن كلِّ معاني الدولة، ضمن إطارٍ ضيقٍ فُرض عليه، جعله يعيش حالةً من الكبت الذاتي، الأمر الذي هيَّأ لعودة الهويات هذه بمجرِّد بدء الثورة السورية، وقد ظهر استغلال النظام الحاكم من جديد لهذه النزعة الهوياتية بتقديم نفسه على أنَّه الحامي لوحدة الأرض والدولة التي كان وجودها إشكاليًا في الأصل.

لذلك فقد كان البحث محاولة للإجابة عن تساؤل إشكالي فحواه:

كيف يمكن تحليل إشكالية الوعي الهوياتي في سورية بوصفها عاملًا مؤثرًا في عملية بناء الدولة الوطنية، وما هي التحديات التي تواجه تشكيل هوية وطنية موحَّدة في سياق الأوضاع الراهنة؟

منهجية البحث

يقوم البحث على اعتماد المنهج التحليلي التاريخي، والذي سنقوم من خلاله بتحليل الأحداث التاريخية التي أثَّرت على نشوء الوعي الهوياتي وتطوره.

أولًا: تكوُّن الدولة السورية والاضطراب الهوياتي

بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وتقاسم دول الحلفاء المنتصرة تركة الدولة العثمانية، تحت مسمَّى الانتداب، قُسِّمت البلاد العربية إلى دولٍ وطنيةٍ (قطرية)، ونشأ ما يسمَّى الدولة السورية الحديثة التي كانت نتيجةً لتبادل المصالح، ومناطق النفوذ في المنطقة العربية، بين فرنسا وبريطانيا، وذلك بعد مجموعةٍ من الاتفاقيات والتفاهمات فيما بينها، ولعلَّ أبرزها اتفاقية سايكس- بيكو التي رسمت الحدود الحالية لكلِّ دول المنطقة العربية التي كانت تحت الانتدابين الفرنسي والبريطاني، حيث كانت سورية تحت الوصاية الفرنسية التي مارست سياسةً تهدف إلى عزلها عن محيطها العربي، وإعطائها طابعًا وطنيًا يتماشى مع شكلها الجديد الذي يضمن استمرار سلطة الوصاية عليها، بحجة أنَّها غير قادرةٍ على إدارة شؤونها.

وقد تمَّ تشكيل الدولة السورية بحدودها الحالية تشكيلًا جغرافيًا بكلِّ معنى الكلمة، من دون مراعاة للبعد الاجتماعي والهوياتي للمجتمعات التي قسِّمت إلى دول، وأقيمت بينها الحدود، ولجأت فرنسا إلى إنشاء الحاميات والثكنات العسكرية، فكانت بمثابة نقاطٍ حدوديةٍ، تهدف إلى ترسيخ التقسيم، والاعتراف به، والاعتياد على التعامل على أساس الحدود الجديدة، ممَّا أوجد مشكلةً اجتماعيةً، نتيجةً لعدم مراعاة التقسيمات الجديدة للحالة الاجتماعية والتماثل الثقافي بين المجتمعات المقُسَّمة، و”إذا عدنا تاريخيًا إلى فترة الحكومة العربية (1918-1920)، ثمَّ إلى المراحل التي تبعتها حتى جلاء القوات الفرنسية التام في عام 1946، نجد أنَّ هذا الكيان الجديد كان إشكاليًا ومرفوضًا من الأغلبية؛ إذ كان العهد الفيصلي عهدًا قوميًا عربيًا، يعمل لتمهيد الطريق إلى الوحدة الكبرى”[1]، وبذلك تجاهلت الدولة الناشئة كلَّ الأطياف الاجتماعية، والتركيبات البنيوية للمجتمعات، فشكَّلت حالةً من العبث بهذه البنية المجتمعية، وبقواعدها التاريخية، وبقيمها العريقة والمتجذرة، ذلك أنَّ الجغرافية الجديدة بهذا المفهوم أصبحت أسبق وجوديًا على وجود الشعب السوري.

كما ترافق الاضطراب الجغرافي مع اضطراب هوياتي لدى الشعب السوري، حصل نتيجة سياسة السلطات الانتدابية التي لا ترغب بصناعة هويةٍ وطنيةٍ، بل تحاول إلغاء كلِّ الاتجاهات، وخلق حالةٍ من التبعية لها، فالانتداب “لا يصنع هويةً وطنيةً، بل يضع الفواصل والحواجز بين جميع مستلزمات صناعة الهوية الوطنية (المناهج المدرسية، الخدمات الاجتماعية، معادلة الحقوق والواجبات، والقانون)، فتمَّ تشويه الجميع، وكل شيء جملةً وتفصيلًا … فلا هوية، ولا انتماء”[2]، فالهوية في بعدها الفلسفي، ومدلولها اللغوي، تعبِّر عن خصوصية الذات والوعي بها، وما تملكه من صفاتٍ خاصةٍ بمجموعةٍ بشريةٍ لتجعلها مختلفةً عن غيرها، في حين أنَّ الوطن بمفهومه الحقيقي يعني الترابط التاريخي والجغرافي لمجموعة من البشر، وهنا يظهر التناقض في تكوُّن الدولة السورية، فالحدود قيَّدت تواصل الأفراد، وفصلت المجتمع ذاته عن بعضه، وأوجدت تناقضًا بين مفهوم الهوية ومعنى الوطن، فبات الوطن الجديد قيدًا على هوية أفراده.

ولا تتشابه نشأة الدولة السورية والدولة العربية الحديثة مع نشأة الدولة الأوربية التي سبقتها بالتكوُّن؛ لأنَّ الدولة الأوربية الجديدة قامت على أساسٍ قوميٍّ أو عرقيٍّ، وإن لم يحدث ذلك فإنَّها قامت على أساس الحياة الديمقراطية والحرية السياسية التي ترافقت مع قيامها (دولة مواطنة)؛ في حين أنَّ الدولة السورية لم تعرف الديمقراطية، إلا في فتراتٍ قصيرةٍ منذ تكوِّنها، فقد شُكِّلت بإرادة الانتداب الفرنسي الذي قسَّم الجماعات العرقية والإثنية والقومية وحتى القبائل والعائلات إلى قسمين أو أكثر، من أجل رسم حدودٍ جغرافيةٍ لهذه الدولة، وبعد خروجه منها مرَّت سورية بفترةٍ سادت فيها الفوضى وعدم الاستقرار – في معظم الأحيان- إلى أن وصل حزب البعث إلى السلطة، محاولًا إخضاع المجتمع والدولة لسلطته، فووظَّفها في سبيل استمراره فيها، فمارس سياسيةً استبداديةً، تحت مزاعم القومية العربية، ورفض أيَّ هويةٍ جزئيةٍ أو أيَّ اختلاف عن النهج القومي الذي زعم اتِّباعه، ممَّا أوجد مشكلةً بين الهويات الجزئية من إثنية وعرقية ودينية مختلفة، وبين الهوية القومية التي باتت هوية السلطة المفروضة، والتي لم تسهم في التأسيس لدولة المواطنة الحديثة التي تتجاوز كلَّ الانتماءات بعد أن تستوعبها وتقبل بوجودها في دولة المواطنة، هذه الدولة التي تحقِّق للفرد فاعليته، وتعطيه معنى لوجوده الحاضر، كما نراها تترسَّخ في العالم المتقدِّم، مستندة إلى قوانين وأنظمةٍ ولوائح حقوق الإنسان، فذلك ما يحقِّق جنسية الفرد وانتماءه الهوياتي.

لقد ساعدت الدولة الاستبدادية في سورية على تشكيل عائق أساسي، يمنع من الوصول إلى دولة المواطنة، التي تسمح للهويات الجزئية بالحضور، والحفاظ على وجودها ضمن بوتقة الدولة، وعبر مشاركتها في الحفاظ على الدولة، والمساهمة بتطورها؛ ذلك أنَّ الدولة الاســتبدادية لا تتيــح الفرصــة الكاملــة لنمــو المواطنــة؛ لأنَّها تحرم قطاعًا كاملًا من البشر من حقِّهم في المشاركة، كما أنَّ الدولة ذاتها سقطت فريسة حُكم الأقليَّة التي سيطرت على الموارد الرئيسة للمجتمع، ومن ثمَّ حرمت بقية الأفراد من حقوقهم في المشاركة، أو الحصول على نصيبهم من الموارد، الأمر هذا دفعهم -بشكل بدهي- إلى التخلِّي عن القيام بواجباتهم، والتزاماتهم الأساسية، وهو ما يعني تقلُّص مواطنتهم؛ بسبب عدم حصول المواطن على جملة الحقوق والالتزامات الأساسية التي ينبغي أن تتوفَّر له، وهذا يوضِّح أنَّ ثمة رابطة عضوية بين اكتمال نمو الدولة، واقترابها من النموذج المثالي للدولة الحديثة، والمجتمع القوي المتماسك، وبين اكتمال المواطنة في مستوياتها غير الناقصة[3]، ممَّا أوجد مشكلة الهوية بين مكونات المجتمع السوري، ومع انطلاق الثورة السورية رفع الكثير من الأفراد المنتمين إلى المكونات الهوياتية المكبوتة في سورية شعاراتٍ تجعل الهوية الجزئية ومصلحتها قبل الدولة السورية، ولعلَّ لذلك تفسيرات كثيرة منها؛ عدم نجاح المعارضة السورية في الوقوف على أرضية واحدة، واستمرار التدخُّل الخارجي بقرارتها، وعدم الاتفاق بين أفرادها على رؤية واحدة، إضافة إلى رغبة عدد كبير من المعارضين باحتكار النشاط السياسي، وعدم إدخال الهويات التي كانت تعيش حالة كبت في ظلِّ مرحلة الاستبداد ضمن نشاطاتهم؛ الأمر الذي دفع هذه الهويات إلى البحث عن بوابة نجاة، بالاعتماد على ذاتها، وعلى الفئة الشعبية الممثِّلة لها.

ثانيًا: السلطة الاستبدادية وممارساتها الأحادية

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ونموِّ حركة التحرُّر الوطني، أنهت فرنسا انتدابها على سورية في السابع عشر من نيسان من عام 1946م، بعد أن حافظت على الحدود التي رسمتها مع بريطانيا، وبدأت مرحلة الاستقلال والتي شهدت محاولاتٍ قصيرةً لبناء حياةٍ ديمقراطيةٍ، وإطلاقًا للحرية السياسية، وعلى الرغم من كلِّ الظروف، التي لم تكن مثاليةً تمامًا، إلا أنَّ الشعب السوري، وبتنوِّع أطيافه واختلافها، كان ينال حقوقه السياسية في التمثيل البرلماني، وفي شغل مناصب سياديةٍ في الدولة، وقد نشطت الحياة الحزبية، متمثِّلةً بظهور الحزب الوطني، وحزب الشعب، والحزب القومي السوري، والحزب الشيوعي، والحزب العربي الاشتراكي، والإخوان المسلمين، وعددٍ كبيرٍ من المستقلِّين الذين تنافسوا في عددٍ من الانتخابات النيابية والرئاسية، حيث “سمحت أجواء الحريات السياسية والفكرية وطبيعة النظام شبه الديمقراطي القائم منذ بداية الأربعينيات وحتى أواخر الخمسينيات بأن يبلور كلُّ تيارٍ سياسيٍّ نظريته حول هوية الأمة، ومكوِّناتها الأساسية، وبأن تدخل هذه التيارات في سجالٍ سياسي وعقائدي في ما بينها حول المفاهيم المتعلقة بالهوية. لكن، على الرغم من تنوُّع هذه الطروحات والمنظورات الفكرية، التزمت معظم التيارات بتعريف الدولة بالجمهورية السورية، ونذكر بأنَّ المرحلة التي امتدت بين عامي 1946م؛ أي مرحلة الاستقلال، حتى عام 1958م والتي شهدت قيام الوحدة مع مصر، تعدُّ من أهم المراحل الوطنية التي شهدتها سورية، من حيث الحرية الحزبية، والتعدُّد الهوياتي الذي ترافق مع حرية في الإعلام والصحافة، وعلى الرغم من سلسلة الانقلابات العسكرية التي حدثت خلالها، إلا أنَّها كانت غنية بالأحداث والنشاطات السياسية؛ لأنَّ الصحافة والإعلام تحوَّلا ليكونا شكلًا من أشكال العمل الحزبي نتيجة لما تمتَّعت به سورية بعد الانتداب من أجواء الحرية وسيادة الديمقراطية، وقد ارتبطت الصحف بأحزابها.

وفي وقت لاحق، وخلال فترة الوحدة مع مصر (22شباط/ فبراير1958- 28أيلول/ سبتمبر 1961)، أصبحت الجمهورية السورية جزءًا من الجمهورية العربية المتحدة، “حيث تحوَّلت هوية العروبة إلى واقعٍ عمليٍّ، بعد أن كانت شعارًا ونظرية. وبعد إعلان حلِّ الوحدة، لم تتخلَّ حكومة فترتي الانفصال عن (الهوية العربية)، وحوِّل اسم الجمهورية السورية إلى الجمهورية العربية السورية”[4]، إلى أنْ حدث انقلاب حزب البعث عام 1963م، ودخلت نتيجة ذلك الهويات في صراع حقيقي؛ لتثبت وجودها في ظلِّ الأوضاع السياسية الجديدة.

لم تكن مهمة حزب البعث قمع الحريات، وسلب الإرادة، والتحكُّم بمصائر الشعب، وتسخير مقدراته، فحسب، بل تجاوز ذلك إلى تعطيل الحياة السياسية، وفرض هويةٍ استبداديةٍ على سورية وشعبها، محاولًا ترسيخ ذلك عبر المناهج التعليمية التي لجأ إلى تغييرها بعد الوصول إلى السلطة، ثمَّ عبر الدستور، ومع وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970م تمَّ إلغاء المواد التي تسمح بإنشاء الأحزاب السياسية، وإضافة المادة الثامنة التي سمحت لحزب البعث العربي الاشتراكي باحتكار العمل السياسي، وبهذا نمَّط نظام البعث الهوية السورية، وربطها عضويًا به، وأصبح اسم الدولة الشائع “سورية الأسد”.

لقد استخدم دستور سورية صفة العروبة للدولة، بل وقدَّمها على اسم الدولة، كما هو الحال في دستور عام 1973م، كما استخدم مصطلح الوطن “للدلالة على الكيان السياسي (الدولة) الذي يعيش فيه المواطن العربي السوري، كما استخدم، أحيانًا، كلمة القومي بمعنى الوطني السوري. في هذه المرحلة لم تسمح بنية النظام الدكتاتوري والأمني بأيِّ سجالٍ سياسي أو فكري حول هوية سورية، بل على العكس، كان على جميع الهويات الأخرى، سياسية كانت أم ثقافية أم دينية، أن تنطوي داخل الهوية المُعتمدة من أيديولوجية السلطة”[5]، وانتهت هذه الهوية بحالة التماهي بين الحاكم المستبد والدولة بمؤسساتها، فتحوَّلت سورية -كما ذكرنا سابقًا- إلى سورية الأسد، فقد دأبت “السلطة السورية على استدعاء الشعراء وأساتذة الجامعات والفنانين وكتَّاب المسرح على نحو دوري للمساعدة في إنتاج الرأي العام، وتغذية عبادة الفرد الحاكم، فعلى سبيل المثال، كان على اتَّحاد الفلاحين والعمَّال ونقابات الصحافيين والمحاميين والمعلمين والأطباء… وغيرهم، بين الفينة والأخرى، أن يرفعوا الشعارات والصور التي تمثِّل ارتباطهم (الوثيق) بالحزب والسلطة”[6]، فالاستبداد في سورية تجاوز التصرُّف في كلِّ الحقوق، بما فيها حق الحياة، فقد خلق هويةً استبداديةً كانت الدولة فيها صورةً عن الحاكم المستبد، مع المحو الكامل لأيِّ اختلاف، وبالتالي تمَّ اتباع سياسةٍ تنميطيةٍ كاملةٍ حيال الأفراد، بحيث جعلهم ينتمون إلى هوية واحدة، لا تعترف بأيِّ اختلاف طبيعي ممكن.

لقد استطاعت السلطة الديكتاتورية إعادة ترتيب سورية وهيكلتها بشكلٍ يسمح للأجهزة الأمنية أن تكون هي المركَّب الرئيس في العلاقة بين الدولة والمجتمع، ممَّا حوَّل سورية إلى دولةٍ بوليسيةٍ، بعد أن أصبحت الأجهزة الأمنية عماد النظام، وتمتَّعت بصلاحياتٍ واسعةٍ تسمح لها بالتدخُّل في تفصيلات الحياة اليومية للمواطن الذي بات يشعر بحالةٍ من الاغتراب الوجودي ضمن أسوار الدولة الجديدة التي تأسر ذاته، عبر فرض ما تريده، من دون العودة إليه، والمبرِّر لسلوك السلطة هو القومية العربية، والسعي للوحدة، إضافةً إلى محاربة الكيان الصهيوني الذي بات شمَّاعةً تعلِّق عليها كلَّ ممارساتها الداخلية الاستبدادية. وبعد قمع النظام الحاكم حركة الإخوان المسلمين في بداية الثمانينيات من القرن الماضي جمَّد الحياة السياسية والثقافية، وازدادت هيمنته على ميادين الحياة، فمنع أيَّ نشاطٍ سياسيٍّ، ولم يترك أيَّ هامشٍ للحرية السياسية، وتدخَّل في الحياة الاجتماعية وتنظيمها، عبر خلق شخصياتٍ مواليةٍ له داخل مكوِّنات المجتمع السوري المختلفة.

ولم يتغيَّر الحال بعد توريث الحكم، واستمرت السياسة الديكتاتورية ذاتها، فزاد التضييق على الشعب بمكوناته كافة، وبدأت تنفجر الأوضاع على شكل ردَّة فعلٍ ظهرت في قيام انتفاضةٍ كرديةٍ في القامشلي عام 2004م، “فقد صُنِّفت تلك الانتفاضة في خانة النضال الديمقراطي من أجل حقوقٍ ثقافيةٍ وسياسيةٍ للسوريين الأكراد، خصوصًا أنَّ شعورًا حقيقيًا بالمظلومية لدى الأكراد يكمن في خلفية هذه الانتفاضة”[7]، وثمَّ عبر إعلان دمشق عام 2005م عن تطلُّعات الشعب للديمقراطية والحريات العامة التي تمَّ التضييق عليها، ولعله السبب الأهم في تفجُّر الثورة السورية عام 2011م، ضدَّ السياسة الاستبدادية الأحادية التي أسرت الدولة بمؤسساتها، وفرضت لونًا واحدًا على المجتمع السوري، على الرغم من تنوُّع أطيافه الهوياتية.

ثالثًا: نوستاليجيا الهويات في ظلِّ الاستبداد

إنَّ ممارسات السلطة الاستبدادية جعلت الهويات الجزئية في سورية شيئًا من الماضي، وذلك بعد أن ضيَّقت عليها، ونزعت عنها كلَّ خصوصيةٍ تعبِّر عنها، بزعم أنَّها تعيق المشروع القومي، ومن شأنها أن تضعف الدولة، وقد تقسِّمها إلى دويلاتٍ هوياتيةٍ، إذ قامت بإغلاق الأندية والجمعيات الثقافية للسريان والآشوريين، وكذلك المدارس السريانية، حيث توجد مع كلِّ كنيسةٍ مدرسةٌ خاصةٌ بهم، وأصبح عددٌ كبيرٌ منها تابعًا لوزارة التربية، وأخضعت المتبقِّي منها إلى رقابةٍ شديدةٍ، وتدخَّلت في مناهجها الدراسية، وعيَّنت مديريات التربية مبعوثًا حزبيًا (من حزب البعث) على كلِّ مدرسةٍ متبقِّيةٍ، كما لاحق نظام البعث أعضاء المنظمة الآثورية (الآشورية السريانية) التي تأسَّست قبل وصوله للسلطة (1957م)، والتي عارضت انقلاب البعث، وإنهائه للحياة السياسية في سورية، وتضييقه على الهويات الرافضة لهوية البعث. أمَّا بالنسبة للأكراد والإيزيديين فقد منعتهم من التحدُّث باللغة الكردية خارج منازلهم، ثمَّ لجأت السلطة إلى تغييرٍ ديمغرافيٍّ، عبر نقل مجموعاتٍ سكانيةٍ إلى مناطق ذات كثافةٍ سكانيةٍ كرديةٍ، كما هو الحال عندما نقلت مَنْ غَمَرَ سدُّ الفرات أراضيهم إلى الجزيرة السورية، وعملت على تحويل الأراضي الزراعية التي يملكونها إلى أملاكٍ للدولة بحججٍ مختلفةٍ؛ منها تطبيق قانون الإصلاح الزراعي، هذه الممارسات وغيرها حوَّلت كلَّ الهويات الجزئية إلى سردياتٍ ذاتيةٍ، وجعلتها جزءًا من ذاكرةٍ جمعيةٍ لمجموعةٍ بشريةٍ.

لقد “جرفت الدولة هوية الأفراد وفكرهم وضميرهم، بمقدار ما استعبدت أجسادهم وطوَّعتها في أقبية استخباراتها، وسكاكين جلاديها، وأدوات تعذيبهم، وصارت تمثِّل للفرد الآتي من تيه السلطة المتهاوية ونهاية التاريخ، من دون تراث ولا ثقافة ولا هوية ولا تقاليد، مصدر الحياة والموت، الثراء والفقر، العطاء والقبض، الذل والكرامة. وصار المجتمع أمامها، بجميع أفراده وجماعاته، لا شيء، بل مجرِّد مادةٍ خام تشكِّلها أجهزة الدولة بحسب مشيئة أعوانها، لا يُنتظر منه ردَّة فعلٍ، ولا يحسب لردَّاته -إذا حصلت- أيُّ حساب، هذا هو السياق الذي ولدت فيه العبودية الجديدة.. وصار فيه قتل الأفراد بالمئات والآلاف بمنزلة الأضاحي وأكباش الفداء المطلوبة لحفظ هيبة الدولة وبقائها”[8]، فالسلطة الاستبدادية استمرَّت في محو الهويات ومحاربتها، وتحويلها إلى أثر من آثار الذاكرة الجمعية؛ لأنَّ التنوع الهوياتي يشكِّل مصدر قلقٍ للهوية الوطنية التي قدَّمها نظام البعث، ونشرها بوصفها هوية للدولة السورية، ولم تكن هذه الهوية سوى هويةٍ طائفيةٍ، لبست لبوس أيديولوجيا البعث، بعد أن تمَّ إفراغها من مضامينها القومية والثورية التي كان ينادي بها، ليكون أداةً لسيطرةٍ طائفيةٍ، تسهِّل على الحاكم بقاءه في السلطة.

إنَّ سياسة التهميش للهويات والأقليات – وإن زعم النظام حمايتها – تحوِّلها إلى هوياتٍ مكبوتةٍ، تعاني من حضورها في الواقع الاجتماعي، ممَّا جعلها تلجأ إلى سرد مرحلة ما قبل الاستبداد، عبر المجتمعات الضيِّقة، وربَّما الضيقة جدًا، لتكون السردية وسيلةً تستحضر من خلالها خصوصيتها المميِّزة لها، ولتنقلها عبر هذه العملية إلى الجيل الجديد الذي بدوره يحفظ المنظومة الثقافية والممارسات السلوكية لهذه الهوية، عبر حالة الاسترجاع النوستاليجي التي تمَّت ممارستها؛ لخلق حالة من الحضور، أو حالةٍ من الوعي القديم، فهي غارقةٌ في حالةٍ نوستاليجيةٍ؛ لأنَّها وسيلتها الوحيدة التي يمكن أن تستخدمها في عهد الكبت السلطوي.

فعملية الاسترجاع الهوياتي التي تمارسها الهويات الجزئية المكبوتة، هي عمليةٌ سيكولوجيةٌ، يتمُّ فيها الفصل عن الوعي الجديد المفروض عليها، إذ يمكِّنه من العودة إلى أطلال أزيلت أنقاضها وارتفعت مكانها بنيةٌ ذهنيةٌ أخرى، ممَّا يشكِّل فضاء في ذاكرة الإنسان، متكوِّنًا فوق جمرات مطمورة تحت رماد النفوس، لها تاريخ أعمق من الحاضر الذي تعيشه[9]، فعلى الرغم من الألم الذي تسبِّبه عملية استحضار الذكريات الهوياتية هذه، إلا أنَّها تكاد تكون الوسيلة الرئيسة في الحفاظ على الهوية المكبوتة، والتي يزداد التمسُّك بها كلما ازدادت شمولية الهوية المفروضة، إضافة إلى عدم خلق جو ثقافي اجتماعي ونفسي، لتكون الهوية الشمولية مقبولة، أو لتكون بديلًا للهوية الأصلية، فهذه الهوية لن تلبث أن تظهر على حقيقة أنَّها ليست سوى أيديولوجيةٍ سلطويةٍ، لا تؤسِّس ولا تقام على مبدأ المواطنة وصون الحريات؛ لأنَّ الديمقراطية تمثِّل الضامن الأساسي لخلق هويةٍ وطنيةٍ جامعة، تحقق العدالة والمساواة، وتكافؤ الفرص، وسيادة القانون، ونشاط المجتمع المدني، إلا أنَّ تجربة الهوية الوطنية في سورية تفتقد لكلِّ مقومات انتشارها، وتبنِّي المجتمع لها، حيث القمع والطغيان السياسي، واستشراء الفساد والمحسوبيات، وذلك كلُّه أدَّى إلى تراجع الوعي بالهوية الوطنية مقابل استحضارٍ للهويات الجزئية التي احتلَّت الوعي، ولو عبر عمليةٍ نوستاليجيةٍ.

إذًا فحفاظ الهويات الجزئية أو هويات ما قبل الدولة على ذاتها دفعها للحضور عند أقرب فرصةٍ سانحةٍ لها، ولا نعني بأنَّ الهوية مفهومٌ ثابتٌ غير متغيرٍ تحتفظ به بعض الجماعات السورية المكبوتة سلطويًا من الحضور والفاعلية في الدولة بوصفها هوية لها خصوصيتها، فهذا ما سنتحدَّث عنه فيما يلي وهو حالة ظهور الهويات السورية التي سبقت في وجودها عهد الديكتاتورية وقد كانت الثورة السورية فرصةً لحضورها ليس نوستالوجيًا فحسب، بل على أرض الواقع وعبر ممارستها السلوكية.

رابعًا: الثورة السورية وعودة الهويَّات

اتَّبع النظام الحاكم في سورية منذ وصوله إلى السلطة سياسة تشتيت الولاء، وعدم السماح بحضور شخصياتٍ وطنية مؤثِّرة، ويظهر ذلك في تعامله – على سبيل المثال- مع سلطان باشا الأطرش، قائد الثورة السورية الكبرى، إذ لم يسمح له النظام بأن يلعب أيَّ دورٍ في سورية، ليس على صعيد السياسي فحسب، بل حتى على الصعيد الاجتماعي، حيث رفض إقامة تمثالٍ له في بلدته (القريا)، وكذا الحال تعامل مع رائد الفضاء محمد الفارس، ومع عددٍ كبيرٍ من العلماء والشخصيات الوطنية، وحتى الرياضية، التي يمكن أن يكون تأثيرها قويًا في المجتمع السوري، فهو لم يسمح بحدوث أيِّ ظاهرةٍ تؤدي إلى تعزيز ظهور الشخصية الوطنية السورية التي تدور خارج فلكه، ولم يسمح بظهور أيِّ شخصيةٍ سوريةٍ يمكن أن تكون محلَّ إجماع السوريين، وحَصَرَ ممارسة العمل السياسي في إطار حزب البعث، ممَّا حوَّل الأحزاب الأخرى؛ كالإخوان المسلمين والحزب الشيوعي إلى أهدافٍ مشروعةٍ لقمعها والتنكيل بها، فالهوية السورية بالنسبة للسلطة ليست سوى هوية البعث التي يفرضها، وتحقِّق غاياته الأيديولوجية.

ومع بدء الثورة السورية وخروج عددٍ كبيرٍ من المناطق عن سيطرة النظام، وبالتالي الخروج عن الهوية الأيديولوجية التي قيَّدت الهويات المختلفة داخل سورية، وتسبَّبت بعدم الاستقرار السياسي والنفسي عند الأفراد، بدأت هذه الهويات التي همَّشها النظام السوريِّ بالظهور، ولكن قد يتساءل البعض لماذا لم تختفِ هذه الهويات طوال سنوات الاستبداد الممتدة، حيث عمل النظام على محوها ومنع حضورها كهوية سورية؟

يمكننا أن نبرِّر هذ الحضور بسببين رئيسين؛ السبب الأول، هو أنَّ الهويات الجزئية بشكلٍ عامٍ نوعان، النوع الأول، الهويات الثابتة، “وهي تُخْلَق بالولادة، ينسب إليها أفرادها عنوةً، مضطرين لا مختارين، كالهوية الجنسية أو الدينية أو القومية أو المذهبية، حتى لو عمد الإنسان إلى (تغييرها) سيبقى هناك ماضٍ يُحبس فيه، في كلمة “الأصل” على أقل تقدير، كالإنسان الذي يُجري عملية تحول جنسي، يبقى أبدًا (المرأة التي كانت في الأصل رجلًا) أو العكس، أو المسيحي/ة عند تغيير دينه/ا يصبح (المسلم/ة من أصل مسيحي)”[10]، والهويات في سورية هي من هذا النوع الثابت، هي هويات تمتدُّ طويلًا عبر سيرورة التاريخ، ولها رموزها التاريخية، وإرثها الثقافي والفكري.

في حين كان النوع الثاني من الهويات على شكل هوياتٍ متغيرة، وهو السبب الثاني من أسباب عودة الهويات الجزئية، ذلك أنَّ الهويات المتغيرة “يصنعها الفرد بإرادته الحرة، من خلال تجاربه، فتأتي معبِّرةً عن فرديته واستقلاله، هوية اختيارية، واعية، منفتحة على الآخر، مستزيدة من غناه، ومتسعة لأفقٍ رحبٍ يتَّسع للمختلف، لأنَّه يعتبر وجوده إثراء له لا تهديدًا يخشاه، هذه الهوية تتطور، تتخذ أشكالًا أكثر غنى، تنظر إلى المستقبل، وتشدُّ أفرادها إليه، فالمحدِّد الأساسي فيها هو الإنسان المستقلُّ المسؤول عن اختياراته، بغضِّ النظر عن انتماءاته الأولى”[11]، هذه الهوية تُمثِّل الهوية الوطنية التي من المفترض أن تكون هويةً لسورية، ولكنَّ السلطة الاستبدادية حالت دون صناعة هذه الهوية التي يمكنها أن تتقبَّل وجود هوياتٍ ثابتةٍ، وفرضت هويةً أيديولوجيةً تحت ستار حزب البعث، ولكنَّها في الحقيقة ليست سوى وسيلةٍ وأداةٍ لاستمرار السلطة الديكتاتورية، وفقًا لأيديولوجيةٍ طائفيةٍ، لا تعترف بأيِّ هويةٍ مختلفةٍ عنها، بل حاربتها تحت تهمة الخيانة للوطن، فأدَّى استمرار تهميش هذه الانتماءات إلى جعلها هوياتٍ مكبوتةً، من دون أن تموت أو تتلاشى، فقد بقيت تنتظر فرصةً للظهور، وجاءت هذه الفرصة حين تراجعت أيديولوجيا السلطة، وضعفت بفعل الثورة وتقدُّمها.

لقد شكَّلت عودة الهويات إشكاليةً وطنيةً جديدة في الدولة السورية، فكان لعودتها جانبان أساسيان، الجانب الأول، هو الجانب السلبي، وتمثَّل بعودة الهويات المتجاوزة لأيِّ مفهوم للدولة، ونحن هنا لا نقصد الدولة السورية التي لم تتكوَّن بمفهومها الحقيقي، بل كانت عودتها مثل قنبلة موقوتة أرادت تفجير كلِّ شيءٍ في سبيل حضورها بشكل متطرِّف، من دون مراعاةٍ لغيرها في الوجود، فتحوَّلت إلى هوياتٍ قاتلةٍ – حسب تعبير أمين معلوف- الذي ذكر في كتابه( الهويات القاتلة) بأنَّه لا يمكن تجاوز خطر الهوية إلا عن طريق خلق تبادلٍ عادلٍ بين الشعوب، واحترام لغاتها وعاداتها وثقافاتها، بحيث لا يشعر أحدٌ أنَّه مهدَّدٌ أو محتقَرٌ، إلى درجة أن يكون مضطرًا ليواري بخجل ديانته أو لونه أو لغته. وبذلك تضبط العولمة الحالية في اتجاهٍ واحدٍ؛ لأنَّ العالم للجميع وليس لعرقٍ بعينه أو قوميةٍ محدَّدة، بحيث لا يشعر أيُّ إنسان بنفسه مستبعدًا عن الحضارة المشتركة التي تبصر النور، فيعمل بقوة على فضح عيوب العالم وتعدياته ومظالمه وانحرافاته القاتلة، ويتمكَّن من آليات المواجهة من أجل البقاء على قيد الحياة[12]، وهذا ما حدث مع عددٍ من الهويات التي حاولت التعويض عن غيابها الطويل عن مشهد الدولة، وعدم فاعليتها في الواقع، فكان طريق التعويض هذا مبالغًا فيه، ولا سيما تلك الممارسات التي دفعت بعضها لإثبات ذاتها عبر استخدام السلاح، فوقعت الأحداث الدامية التي كانت لا تتنبَّأ بإمكانية صياغة عقدٍ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ بين هذه الهويات، وقد تمكَّن النظام الحاكم من الوصول إليها، وقام بتحريك عددٍ كبيرٍ منها عبر أجندته، فكان حضورها سلبيًا على الساحة السورية، سواء على مستوى الانتماء الاثني (العرب والأكراد)، أو على صعيد الانتماء الديني (مسلم ومسيحي)، أو الانتماء الطائفي (سنة وشيعة وعلوية)، وغيرها من الهويات التي غذَّت صراعها القوى العربية والإقليمية.

أما الجانب الثاني، فهو الجانب الإيجابي، والذي تمثَّل بالبحث الجدِّي عن هويةٍ توافقيةٍ سورية، تعبِّر عن هوياتها المتنوعة، وهو ما سيكون محور حديثنا القادم، إذ سنتحدَّث عن هذه التصورات التي تستطيع أن تنقل الدولة وهوياتها من حالة الغياب والصدام إلى حالة التعايش وبناء دولة المواطنة.

خامسًا: تصوُّرات هويةٍ وطنيةٍ جامعةٍ

لعلَّ أهم أسباب الثورة السورية هي استعادة الدولة المغيبة تحت عباءة الاستبداد، فكان لا بدَّ من التغيير لبناء دولة الحرية، وصون مستقبل الأجيال القادمة، ولا شكَّ بأنَّ الهويات الجزئية الموجودة تعرَّضت لمحاولات محوٍ وطمسٍ كاملٍ لكينونتها ووجودها، وقد أدركت هذه الهويات أنَّ استمرار هذه السياسة الإقصائية سيمنعها من لعب دورٍ فعليٍّ في الدولة ومستقبلها، فكان لا بدَّ من البحث عن حلولٍ حقيقيةٍ، وبعد سنواتٍ من الثورة ضدَّ الديكتاتورية، ومحاولات بعض الجهات الداخلية والإقليمية استغلال فورة الهويات المكبوتة، بهدف توجيهها برؤيةٍ تخدم هذه الأجندة، بعيدًا عن المسار الوطني، أدركت هذه الانتماءات أنَّه لا غنى عن تحقيق هدفها الأساسي بالحرية والديمقراطية، وبناء دولة المواطنة التي تضمن لهم حقوقهم، الدولة التي تلتزم بالقوانين العادلة، والتي تحقِّق المواطنة كاملةً من دون أيِّ تمييز.

ويتطلَّب لتقديم تصوراتٍ حول هويةٍ مستقبليةٍ للدولة عملًا فكريًا وتربويًا وميدانيًا، بغية الحفاظ عليها، وعدم تحويلها إلى كياناتٍ متنافسة، بل ومتصارعة فيما بينها، ولا يكون ذلك في صياغة مفهوم الهوية الوطنية للدولة السورية في المستقبل فحسب، بل من أجل تحرير هذا المفهوم من كلِّ ما يحول بينه وبين التجذُّر في ضمير السوريين، أي كل ما يمكن أن يهدِّد بعض مكوناتهم، أو إقصاء بعضها الآخر، ولا يمكن أن يكون هذا العمل ناجعًا، إلا إذا اعتمد على السير في آنٍ واحدٍ في اتجاهاتٍ أربعة: أولاها، الاتجاه الفكري، بغية وضع المفهوم ومقوماته في صيغة تتوافق عليها مكوِّنات الشعب السوري كافة، من خلال ممثِّليها المنتخبين أصولًا، وثانيها، الاتجاه الدستوري، من حيث تأطير مفهوم الهوية الوطنية السورية، وتعزيز أسسه بنصوصٍ دستوريةٍ مرجعيةٍ لكلِّ سلطةٍ تتوالى على حكم سورية، وتكون مهمتها الأساسية أن تقوم بترسيخه في المجتمع السوري، والاتجاه الثالث، هو التربوي، من أجل تعميق الوعي (وولا سيما لدى الأجيال القادمة) بالهوية الوطنية التي ينتمون إليها، والتخلُّص في الوقت نفسه من كلِّ ضروب سوء الفهم أو التفاهم حول معاني الهوية الوطنية الجامعة ومقتضياتها في الحقوق وفي الواجبات، وأخيرًا، الاتجاه الميداني، بهدف الوصول إلى مختلف شرائح الشعب السوري بمكوناته كلِّها؛ لأنَّها هي من سيقرِّر يومًا ما مصير هذه الهوية[13].

ولا بدَّ من أن يكون تشكيل الهوية وبناؤها من الناحية السياسية بعيدًا عن المؤثِّرات التي قد تُفرض من وجود قوَّةٍ أجنبيةٍ أو قوَّة وصايةٍ تتدخَّل بشؤون الدولة، وذلك لتكوين الهوية الوطنية للدولة السورية التي تستطيع أن تمثِّل جميع الهويات الموجودة، وهذا ما حصل فعلًا عبر التاريخ في مرحلة تكوين هويات الدول، إذ لم تستقر هوية الدولة في أمريكا إلا بعد أن نالت استقلالها التام عن بريطانيا، وكذا الحال في فرنسا وفي تركيا أيضًا، وهذا ما يتوجَّب أن يكون في سورية، إذ إنَّها اليوم تعاني من تدخُّلاتٍ في سيادتها، تدخُّلاتٍ تستغلُّ تعطُّش الهويات للحضور بعد الثورة، وخير مثال على ذلك هو لبنان، فعلى الرغم من خروجه من الحرب الأهلية، إلا أنَّ الهويات عاشت بعد ذلك حالةً من التبعية والتدخُّل الخارجي في إدارتها وتحريكها، ممَّا جعلها تخفق في صياغة هويةٍ وطنيةٍ للدولة، فبقيت المحاصصة الهوياتية تتحكَّم بالمشهد السياسي والاجتماعي في الدولة، وكذا الحال في العراق، لذا يجب العمل على إخراج كلِّ التنظيمات والقوى والأفراد التي دخلت سورية في السنوات الماضية، وانضمت للحرب بدوافع هوياتيةٍ ضيقةٍ، ومارست دورًا هدَّامًا في الساحة السورية، وفي هوية الدولة المستقبلية.

كما لا بدَّ من التأكيد على “ضرورة إنتاج خطابٍ وطنيٍّ جامعٍ مجدٍ، يقطع الطريق على كلِّ مَنْ حاول خطف منجزات الشعب السوري وتضحياته، ووجود فكر واعٍ حضاري مدني حاملٍ لمشروعٍ ديمقراطيٍّ، متجاوزًا الانتماءات الفرعية، ممَّا يساهم في دعم الانتماء الوطني، وإعطاء دورٍ كبيرٍ لمؤسسات المجتمع المدني… والعمل مع كلِّ القوى الداخلية والدولية، لوضع حدٍّ للحرب الدائرة، وكفِّ يد النظام الأمني والتنظيمات المتطرفة والانفصالية وغيرها من القوى ذات المشاريع الخاصة والإقليمية، لخلق حالةٍ من الهدوء النسبي تسمح بتفاعلاتٍ مجتمعيةٍ وسياسيةٍ، تؤدي بنهاية المطاف لزيادة وعي المجتمع ككل، كخطوة تمهيدية لبناء نموذجٍ ديمقراطي تعددي يليق بتاريخ الشعب السوري وتضحياته”[14]، ويبقى المحرِّك الأساسي لهذه العملية الإرادة الكامنة داخل الهويات وكافة الانتماءات داخل الدولة السورية؛ لتقديم عقدٍ سياسيٍّ يكفل مستقبل الجميع في دولةٍ ديمقراطيةٍ، ويسبق هذا العقد بعهدٍ اجتماعيٍّ يشكِّل بنيةً تحتيةً أساسيةً لبناء العقد عليها، يقرُّ فيها الجميع ضرورة العيش المشترك بين مختلف الأفراد والمجموعات الاجتماعية، باختلاف انتماءاتها، ولا سيما وأنَّ الهويات في سورية يمكن تقسيمها إلى قسمين أساسيين، الأول، هويات ما دون الوطنية؛ كالمناطقية والعشائرية والطائفية والعرقية، والقسم الثاني، هويات فوق الوطنية؛ كالهوية الإسلامية أو العروبية أو الأممية مثلًا، إضافةً إلى ظهور حالة الثنائيات بين الشعب السوري (السني- العلوي)، (العربي- الكردي)، (المسلم – المسيحي)، (المحافظ- العلماني) وغيرها مَّما يجعل العهد الاجتماعي أساسيًا في هذه المرحلة.

إنَّ تصوُّر هويةٍ سوريةٍ جامعةٍ لا بدَّ وأن يُسبق بحواراتٍ وطنيةٍ تعزِّز الثقة وتزيل أيَّ خلافاتٍ بين أفرادها، وبالتالي تقرِّب وجهات النظر بينهم، إذ يتمُّ فيها الاعتراف بالهويات الأكبر، مع الاعتراف بكامل الحقوق للمجموعات القومية واللغوية والدينية والمذهبية، وكافة الجماعات الموجودة في نسيج الدولة السورية، من دون أيِّ إغفال للثنائيات داخل سورية، أو حتى خارجها، مع التأكيد على أنَّ نقطة البداية يجب أن تبدأ بلمِّ شمل المعارضة السورية، وتحقيق التوافق بين الهويات السورية، والابتعاد عن أيِّ محاولة إقصاء لأيٍ منها، واحترام الخصوصية التي تميِّز هذه الهويات، وتعترف بحقوقها السياسية والثقافية، في إطار دولة ديمقراطية مدنية تتَّسع لجميع أبنائها.

الخاتمة والنتائج

لقد خلص البحث إلى مجموعةٍ كبيرةٍ من النتائج، التي يمكن إجمالها بما يلي:

1- إنَّ تشكُّل الدولة السورية بمفهومها الجغرافي والسياسي الحديث لم يراعِ البعد الهوياتي للأفراد والجماعات الداخلة في هذا التكوين الجديد والطارئ، ممَّا خلق إشكالية انتماءٍ بين مكوِّنات الدولة الجديدة، حيث لا يزال الانتماء للهويات القديمة قويًا، في ظلِّ عدم تعزيز ارتباطها بالدولة، ولا سيما وأنَّ هذه الدولة نشأت تحت وصاية أجنبية (الانتداب الفرنسي) وكان ظهورها نتيجة تقاسم مناطق نفوذٍ للدول المنتصرة بعد الحرب العالمية الأولى.

2- لقد كان وقوع سورية تحت الاستبداد عاملًا أساسيًا في تأخُّر قيام الدولة السورية بمفهومها الحقيقي والعصري، حيث عطَّل الاستبداد الحياة السياسية، وفرض هويةً أيديولوجيةً خاصةً به، فكانت هويته تعزِّز استمرار الحاكم، وترسِّخ ذلك عبر المناهج التعليمية وعبر تغيير الدستور الذي أضيفت له المادة الثامنة والتي تنص على أنَّ حزب البعث هو الحاكم للدولة والمجتمع والمحتكِر الوحيد للسياسة، وبهذا نمَّط الاستبداد الهوية السورية، مع رفضٍ كاملٍ لأيِّ اختلافٍ ولأيِّ انتماءٍ أو رأي.

3- لقد حوَّل مشروع الدولة السورية الهويات إلى حالة من السرديات الذاتية المعبِّرة عن ذاكرةٍ جمعيةٍ لجماعاتٍ محظورةٍ من الفاعلية في مجتمعها، لذا فإنَّها تلجأ إلى حالة الاسترجاع النوستاليجي، وهي عمليةٌ يتمُّ من خلالها فصل الوعي المفروض على الهويات عن الوعي التاريخي لها والذي يشكِّل فضاءً في الذاكرة الجمعية للأفراد.

4- مثَّلت الثورة السورية حالةً من العودة للهويات بعد الخروج عن سلطة الهوية الأيديولوجية الاستبدادية، هذه الهويات امتازت – في الغالب – بأنَّها من الهويات الثابتة أي تلك التي تمتلك إرثًا حضاريًا وتاريخيًا، ولها رموزها الخاصة بها، ممَّا يجعل مسألة التعامل معها في إطار وطني مهمة مرحبًا بها، لكنَّ هذه العودة المفاجئة جعلت بعض الهويات تحاول تعويض غيابها عبر مظلومية عدَّتها وسيلةً لتبرير أيِّ ممارسةٍ سلبيةٍ أو بعيدةٍ عن الإطار الوطني السوري، وهو أمرٌ من شأنه خلق مزيدٍ من التشرذم الهوياتي ذي الأثر النفسي العميق في شخصية الفرد، كما أنَّ عدم وحدة رؤية المعارضة السورية سبَّب فجوة تنسيقية وتنظيمية مع كافة الهويات الجزئية السورية.

5- لا بدَّ من تصوُّرٍ لمفهوم الهوية المستقبلية لسورية وشكلها، وهذا ما يتطلَّب عملًا فكريًا وتربويًا وميدانيًا، وذلك من خلال ترسيخها في ضمير السوريين، وتعميق الوعي بها، وتأطيرها بنصوص رسمية، وكل ذلك يجب أن يكون بعيدًا عن المناكفات السياسية، والتدخلات الخارجية، وغيرها من الممارسات، ممَّا يخلق عهدًا اجتماعيًا يكون بمثابة بنية تحتية للعيش المشترك، ولصياغة عقدٍ اجتماعيٍّ سوريٍّ جديدٍ يضع المواطنة والعدالة الاجتماعية كأساسٍ لا بديل عنه، وبالتالي يُلغي التنافس بين الهويات الأولية العصبية، وتتاح الفرصة لتطوير الهويات المتغيرة الديناميكية، من خلال تشكيل مجتمع مدني يعمل على تأصيل ثقافة الديمقراطية والمواطنة وتجذيرها، لتحلَّ محل المجتمع التقليدي البطركي بهوياته الثابتة الموروثة وسلطاته المستبدة.

6- لقد بات الإنسان في الدولة الحديثة اليوم يمارس حضوره بوصفه مواطنًا في هذه الدولة، فتكون علاقته مباشرة بها، من دون أن تتطلَّب أيَّ وسيط، والانتماء إليها غير مرهون بأي انتماء آخر، أي إنَّ الفرد لا يتبادل مع الدولة الالتزام عن طريق هويته الخاصة به، فالدولة بنية ومؤسسات، وعلاقتها مع البنى الاجتماعية والهوياتية الموجودة في داخلها علاقة احتواء.

المصادر والمراجع المستخدمة في البحث

1- أمين سعيد، الثورة العربية الكبرى- تاريخ مفصل جامع للقضية العربية في ربع قرن، المجلد الثاني، منشورات مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة، ط1، 1934م.

2- أمين معلوف، الهويات القاتلة: قراءة في الانتماء والعولمة، ترجمة، نبيل محسن، دار ورد للطباعة والنشر، دمشق، ط1، 1999م.

3- بدر الدين عرودكي، الهوية الوطنية السورية بين الإشكالية والالتباس: التاريخ والواقع والمستقبل، منشورات مركز حرمون للدراسات المعاصرة، إسطنبول، والدوحة، نوفمبر/ تشرين الثاني، 2020م.

4- برهان غليون، وآخرون، المحنة العربية، الدولة ضد الأمة، منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، وبيروت، ط4، 2015م.

5- خلود الزغير، سورية الدولة والهوية- قراءة حول مفاهيم الأمة والقومية، منشورات المركز العربي للأبحاث و ودراسة السياسات، الدوحة، وبيروت، ط1، 2020م.

6- زياد علاونة، المواطنة، منشورات وزارة الشؤون السياسية والبرلمانية الأردنية، عمان، 2014م.

7- سوسن جميل حسن، مدن” إعمار الإعمار” والرواية، منشورات مجلة الفيصل، العددان 517-518، الرياض، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، ديسمبر/ كانون الأول، 2019م.

8- مجموعة من الباحثين، مسألة أكراد سورية: الواقع- التاريخ- الأسطورة، منشورات المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات، الدوحة، وبيروت، ط1، 2013م.

9- ميريام كوك، سورية الأُخرى- صناعة الفن المعارض، ترجمة، حازم النهار، منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، وبيروت، ط1، 2018م.



المواقع الإلكترونية

1- أحمد وليد، إشكالية الانتماء وسبل بناء الهوية السورية المستقبلية، موقع نون بوست، 18 أيار/ مايو 2017. https://2u.pw/chdZPA

2- علياء أحمد، الهوية السورية المقتولة، موقع صالون سوريا، 29 آذار/ مارس 2018. https://2u.pw/olVftS

3- محمد وجيه جمعة، حول الهوية السورية، موقع ترك برس، 25 أيار/ مايو 2022، https://2u.pw/iE75oO


 

1- أمين سعيد، الثورة العربية الكبرى- تاريخ مفصل جامع للقضية العربية في ربع قرن، المجلد الثاني، منشورات مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة، ط1، 1934م، ص66.

2- محمد وجيه جمعة، حول الهوية السورية، موقع ترك برس، 25 أيار/ مايو 2022، https://2u.pw/iE75oO

3- انظر: زياد علاونة، المواطنة، منشورات وزارة الشؤون السياسية والبرلمانية الأردنية، عمان، 2014م، ص19، بتصرف.

4- خلود الزغير، سورية الدولة والهوية- قراءة حول مفاهيم الأمة والقومية، منشورات المركز العربي للأبحاث و ودراسة السياسات، الدوحة، وبيروت، ط1، 2020م، ص3.

5- خلود الزغير، سورية الدولة والهوية- قراءة حول مفاهيم الأمة والقومية، منشورات المركز العربي للأبحاث و ودراسة السياسات، الدوحة، وبيروت، ط1، 2020م، ص3.

6- ميريام كوك، سورية الأُخرى- صناعة الفن المعارض، ترجمة، حازم نهار، منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، وبيروت، ط1، 2018م، ص20-21.

7- مجموعة من الباحثين، مسألة أكراد سورية: الواقع-التاريخ-الأسطورة، منشورات المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات، الدوحة، وبيروت، ط1، 2013م، ص95.

8- برهان غليون، وآخرون، المحنة العربية، الدولة ضد الأمة، منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، وبيروت، ط4، 2015م، ص37.

9- انظر: سوسن جميل حسن، مدن” إعمار الإعمار” والرواية، منشورات مجلة الفيصل، العددان 517-518، الرياض، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، كانون الأول/ ديسمبر، 2019م، ص55، بتصرف.

10- علياء أحمد، الهوية السورية المقتولة، موقع صالون سوريا، 29 مارس/ آذار، 2018م. https://2u.pw/olVftS

11- المرجع السابق نفسه.

12- انظر: أمين معلوف، الهويات القاتلة: قراءة في الانتماء والعولمة، ترجمة، نبيل محسن، دار ورد للطباعة والنشر، دمشق، ط1، 1999م.

13- انظر: بدر الدين عرودكي، الهوية الوطنية السورية بين الإشكالية والالتباس: التاريخ والواقع والمستقبل، منشورات مركز حرمون للدراسات المعاصرة، إسطنبول، والدوحة، تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، ص48، بتصرف.

14- أحمد وليد، إشكالية الانتماء وسبل بناء الهوية السورية المستقبلية، موقع نون بوست، 18 أيار/ مايو 2017. https://2u.pw/chdZPA

  • ناقدةٌ سوريةٌ، حاصلة على الدكتوراه في اللُّغة العربيَّة وآدابها، اختصاص نقد حديث، خريجة جامعة حلب، تقيم وتعمل في تركيا، تعمل لدى منظَّمة كارا للأكاديميين السُّوريين، مهتمَّة بالدِّراسات النسويَّة‏، عضوة في الجمعيَّة السُّورية للعلوم الاجتماعيَّة.

مشاركة: