مقدمة
حفرت الأيديولوجيتان القومية العربية والإسلامية[1] عميقًا في الوعيين السياسي والمجتمعي في سورية، وأثّرتا في مسار البلاد السياسي على امتداد تاريخها المعاصر، من خلال حضورهما الحاسم في معظم الدساتير المتعاقبة، ما انعكس في بنية الدولة وسياساتها العامة، وتاليًا حياة السوريات والسوريين فيها.
يفترض البحث أنّ هاتين الأيديولوجيتين أعاقتا نشوء دولة وطنية ديمقراطية، وكان لهما دور في تكريس الاستبداد في سورية، حيث إنّ تبنّي جماعات سياسية مختلفة لإحداهما أو لكليهما معًا، بغية شرعنة موقعها في السلطة، أو تأكيد أحقيتها بها إن كانت معارضة، أضعَفَ إمكانية تأسيس نظام ديمقراطي، وأعاق تشكّل هويّة وطنية سورية مشتركة. ففي مقابل السمة المدنية لأصول الفكر القومي في أوروبا عمومًا، وليبراليته ولادينيّته الصريحة، لم تبتعد أيديولوجيا القومية العربية عن الدين، فاحتفت بالإسلام وعدّته أحد عناصرها الرئيسة. ونجم عن هذا الالتزام الأيديولوجي نتائج حقوقية وسياسية خطرة، لأنّ الدساتير والقوانين المستندة إلى أيديولوجيات قومية أو دينية، تنطوي على تمييز صريح بين المواطنين/ات على أساس قومي أو ديني، بما يتناقض ومبدأ المواطنة المتساوية، أحد الشروط اللازمة لتأسيس نظام ديمقراطي وتشكّل هوية وطنية جامعة.
يناقش البحث فرضيته معتمدًا المنهجين التاريخي والوصفي التحليلي، فيشرح مصطلحاته، ثم يعاين تأثير الأيديولوجيتين العروبية والإسلامية في الواقع السياسي والحقوقي السوري، مستندًا إلى أدبيات وأحداث ذات صلة، موثقة من مصادر نظرية وتاريخية، لينتهي إلى خاتمة تكثّف نتائج المناقشة.
أولاً: في معنى الأيديولوجيا وتأثيرها
يعود مصطلح (أيديولوجيا) إلى أنطوان ديستو دو تراسي (1784-1836)، الذي “صكّ كلمة أيديولوجيا أثناء الثورة الفرنسية، واستُخدِم لأول مرة علانية في عام 1796. وتشير الأيديولوجيا عنده إلى (علم الأفكار) الجديد، أي علم – الفكرة (idea-ology) بصورة حرفية”، وقد اعتقد أن “من الممكن موضوعيًا الكشف عن أصول الأفكار، وأعلن أن هذا العلم سوف يتمتع بنفس المكانة الخاصة بالعلوم الراسخة كعلم الأحياء”، وأنّ “الأيديولوجيا ستتوّج في النهاية ملكة للعلوم، بما أنّ جميع أشكال البحث تتأسس على الأفكار”. ولم يكن لذلك المعنى الأصلي للمصطلح سوى أثر محدود على استخدامه اللاحق. وبدأ استخدام الأيديولوجيا كمصطلح سياسي في كتابات كارل ماركس، فقد استخدمه في عنوان عمله المبكر (الأيديولوجيا الألمانية)، ونسب إليه مفهومًا مختلفًا[2].
ارتبط مفهوم الأيديولوجيا عند ماركس بالوهم والغموض، “فهي مسؤولة عن رؤية زائفة أو خاطئة للعالم، وهو ما أشار له إنجلز لاحقًا بمصطلح ((الوعي الزائف))، “ويُقصد به “الوهم والغموض الذين يعيقان الطبقات الخاضعة من التعرّف على حقيقة أنها تتعرّض للاستغلال”[3]. واتخذ المفهوم عند لينين ومعظم الماركسيين اللاحقين معنى آخر، إذ باتت الأيديولوجيا تشير إلى “الأفكار المميزة لطبقة اجتماعية معينة، تلك الأفكار التي تقدم مصالحها بغض النظر عن موقعها الطبقي”، وزالت الدلالات السلبية أو الانتقاصية عن المصطلح لأن كل الطبقات تمتلك أيديولوجيا ما، “ولم تعد الأيديولوجيا توحي بالضرورة بالزيف والغموض”[4]. وطوّر أنطونيو غرامشي نظرية الماركسية عن الأيديولوجيا، مركّزًا على ما أسماه “الهيمنة الأيديولوجية”، وتعني “قدرة الأفكار البرجوازية على إزاحة الآراء المنافسة لها وأن تشكّل المعنى العام للعصر. ويلقي غرامشي الضوء على درجة تجذّر الأيديولوجيا في كل مستوى من مستويات المجتمع، في فنونه وآدابه، وفي نظامه التعليمي وإعلامه الجماهيري، وفي لغة الحياة اليومية، والثقافة الشعبية”[5]، مما يدلّ على مدى عمق تأثير العوامل الأيديولوجية في مختلف مناحي حياة الأفراد والمجتمعات.
ازداد تداول المصطلح منذ ستينيات القرن العشرين، رغم تكييفه وفق احتياجات التحليل الاجتماعي والسياسي، “وقد جعل هذا من الأيديولوجيا مفهومًا محايدًا وموضوعيًا… فيعرّف مارتن سيلجر (1976) مثلاً، الأيديولوجيا باعتبارها مجموعة من الأفكار يضع من خلالها الناس، ويفسرون، ويبرّرون غايات ووسائل النشاط الاجتماعي المنظّم، بغض النظر عما إذا كان ذلك النشاط يهدف إلى الحفاظ على نظام اجتماعي بعينه أو تعديله أو اقتلاعه أو إعادة بنائه”[6]. وبما أنّ كلمة سياسة (بوليتيك) /Politics، مشتقّة من الأصل اليوناني بوليتايا: أي الدولة، الدستور، النظام السياسي. وبوليتيكا: وهي جمع بوليتكتوس، أي الأمور السياسية، وكل ما يتعلق بالدولة، وبالنظام السياسي[7]، جاز القول بوثاقة الصلة بين الأيديولوجيا والسياسة، فالأولى تبحث في مبررات الثانية وموجباتها النظريّة، ويكاد وجود إحداهما لا يكتمل بغير الأخرى، فكل ممارسة سياسيّة هي في التحليل الأخير تجسيدٌ لأيديولوجيا ما، بهذه الدرجة أو تلك.
ثانيًا: الأيديولوجيا القومية والأيديولوجيا الدينية
تعدّ الأيديولوجيات القومية والدينية من أبرز الأيديولوجيات السياسية المؤثّرة في التاريخ الحديث، ويمكن ملاحظة انتشار تياراتها وأحزابها في مختلف المجتمعات، على تباين ثقافاتها وتنوّعها. تتأسس الأيديولوجيا القومية على “الاعتقاد أن الأمة هي المبدأ المركزي للتنظيم السياسي، ولذلك تقوم على افتراضين مركزيين. أولهما أن الجنس البشري ينقسم طبيعيًا إلى أمم متمايزة، وثانيهما أن الأمة أكثر وحدة ملائمة، وربما الوحدة الوحيدة الشرعية، للحكم السياسي”[8].
ظهر الفكر القومي في أوروبا بعد عقود من الحروب والصراعات الدينية، وارتبط بحركة عَلْمَنة واسعة هدفت إلى تقويض سلطة الكنيسة، والفصل بين المجالين الديني والسياسي، وهو ما بلغ ذروته مع الثورة الفرنسية (1789) التي أنهت مبدأ التفويض الإلهي لسلطة الملوك وولاء الرعية للملك، وعوضًا عنه أسست الجمهورية على أساس المواطنة، وسيادة الشعب المؤلّف من مواطنين أحرار متساوين، يتمتّعون بحقوق الإنسان والمواطن. والأهمّ أنّ الثوار الفرنسيين لم يتحركوا باسم جماعة عرقية أو دينية، وإنما “قاموا بذلك باسم الشعب، واعتبروا السكان يكوّنون الأمة الفرنسية”[9]، وأصبحت رابطة المواطَنة هي ركيزة العلاقة بين الفرد والدولة. هذه هي “القومية المدنية”، حيث الأمة سياسية، تقوم على المواطنة والولاء المدني، وهي ذات قيم عالمية، فضلاً عن كونها عقلانية واستيعابية تحترم التنوّع الثقافي، والأمم عندها متساوية. في المقابل، ظهر ضربٌ من “القومية الإثنية الثقافية”، وفيها الأمّة ثقافية/ تاريخية، تقوم على الأصل والانتماء الإثني، ذات خصوصية وأبعاد روحانية/ عاطفية، تؤمن بالوحدة الثقافية، وتمايز الأمم بعضها عن بعض[10]. وإذ تجلّت القومية المدنية في الجمهورية الفرنسية العلمانية التي تحتفي بالتنوع الثقافي، فإنّ النازية في ألمانيا (وبدرجة أقل الفاشية في إيطاليا)، أعطت صورة عن النموذج السياسي الرهيب الذي يمكن أن تنتجه أيديولوجيا القومية الإثنية الثقافية.
أمّا الأيديولوجيات الدينية في السياسة، ومن ضمنها الأيديولوجيا الإسلامية، فتنطلق من فكرة العودة إلى النصوص المقدسة للجماعة المعنية، لإحيائها والالتزام بتعاليمها في كافة شؤون الحياة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية وسواها، وترى في هذا الالتزام معيار الشرعية الأساس. وعلى الرغم من اختلاف الأشكال التي اتخذتها حركات “الإحياء الإسلامي” من بلد لآخر، إلا أنّ موضوعاتها الرئيسة متشابهة، يمكن إجمالها بالآتي: الحكم بإخفاق النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة، والتنافر مع الغرب ورفضه، والبحث عن هوية وقدر أكبر من الأصالة، والقناعة بأنّ الإسلام أيديولوجيا تتسم بالاكتفاء الذاتي للدولة والمجتمع، وهو بديل قوي للوطنية والاشتراكية والرأسمالية[11].
بدأت تتولّد قناعة جديدة، منذ القرن التاسع عشر، لدى مصلحين عرب ومسلمين بارزين، بأنّ نهضة مجتمعاتهم تتطلّب تغيير أنماط الحياة والتفكير القديمة لمواكبة العصر، ومجاراة التقدّم الذي كان يغذّ الخطا في الغرب على مختلف الأصعدة. كان منهم حسن العطار (1766- 1835)، شيخ الأزهر الذي اقترب من علماء الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801)، وأبصر امتلاكهم علومًا غريبة عن الواقع العربي، فأدرك أن التصدّي للتحدّي المفروض لا بد له من تغيير عميق وشامل، وعبّر عن ذلك بالقول: “إن بلادنا لا بد أن تتغيّر، وأن يتجدد بها من العلوم والمعارف ما ليس فيها”[12]. وعلى خطا العطار، سار تلميذه رفاعة الطهطاوي (1801-1873)، ورأى أن “الصلات التي عُقدت بين مصر وبين الحضارة الأوروبية، في عهد محمد علي، واحدة من أهم الإنجازات ولو لم يكن لمحمد علي فضل سواها لكفاه بها فخراً لأنها هي التي جدّدت شباب الأمة، وأعانتها على الانتصار على ذلك التحدي المتمثل في فكر العصور المظلمة”[13]. وكذا حال جمال الدين الأفغاني (1838-1897)، ومحمد عبده (1849-1905)، وعبد الرحمن الكواكبي (1854-1902) في مساعيهم التنويرية.
غير أنّ الدعوات الإصلاحية المنفتحة الرامية إلى تجديد الفكر الإسلامي ومواءمته مع الحداثة، أعيد تشكيلها وتكييفها بصورة مختلفة في الربع الثاني من القرن العشرين، لتصبح أساسًا انطلق منه حسن البنّا (1906-1946)، معلنًا أيديولوجيته الإسلامية المكتفية بذاتها، ومبدؤها الرئيس: “الإسلام عقيدة وعبادة, ووطن وجنسية, ودين ودولة, وروحانية وعمل, ومصحف وسيف”، واضعًا بذلك الأسس الأيديولوجية والتنظيمية للحركة التي أسسها باسم (جماعة الإخوان المسلمين) في مصر، وانتشرت فروعها في بلدان أخرى في مقدّمتها سورية، لتصبح العنوان الأبرز لما سيُعرف بـ”الإسلام السياسي”. وبعد حسن البنّا، نظّر سيّد قطب (1906-1966) لنسخة إخوانية أكثر وضوحًا وعنفًا، زادت من تشدّد الأيديولوجيا الإسلامية وجذريتها، حتى إنّه اعتُبر “مهندس الإسلام الراديكالي”[14].
تراوحت أطروحات إخوان سورية وممارساتهم من العمل الدعوي والسياسي في سنوات الاستقلال الأولى، إلى محطات من العنف وحمل السلاح، بعدما تبنّى بعضهم تعاليم سيد قطب الراديكالية، إذ وجدت ترجمتها العملية على يد القيادي الإخواني مروان حديد (1934-1976)، الملقّب بـ”شيخ الجهاد السوري”، حين قاد أولى المواجهات المسلحة بين جماعة الإخوان المسلمين ونظام البعث في الستينيات، وأعاد الكرّة ضدّ نظام الأسد في السبعينيات، حتى اعتقاله ووفاته في سجنه صيف عام 1976، وواصل أتباعه نهجه من بعده لسنوات.
ثالثًا: الدولة الديمقراطية والمواطنة المتساوية
تعدّ العمومية من أهم خصائص الدولة الديمقراطية الحديثة، لتكون لعموم مواطناتها ومواطنيها من دون استثناء، لا دولة فئة أو فئات بعينها منهم. هذا يقتضي المساواة في تعاملها معهم ومعهنّ، بصرف النظر عن المعتقدات أو الأصول والانتماءات الخاصة بالأفراد أو الجماعات، فهي دولة الجميع، تدير صراعاتهم، وتحلّ تناقضاتهم من دون أن تكون طرفاً فيها، أو تنحاز إلى هذا الفريق أو ذاك. ليس من العمومية سنّ قوانين الدولة (وهي مجال عام) استنادًا إلى أسس خاصّة، كالدين أو المذهب أو القومية أو حتى الأيديولوجيا السياسية، لأنّ تلك الأسس في الأصل ذاتية تخصّ كل فرد، أو فئوية تقتصر على جماعة محدودة، وتعدّ جزءًا من العناصر المكوّنة للهوية. أمّا عمومية الدولة وحداثتها، وتاليًا حداثة علاقات المواطَنة فيها، فتتأسّس على حيادها تجاه التعيّنات الذاتية لسائر مواطناتها ومواطنيها، من أديان ومذاهب وأصول وعقائد وغيرها. ولمّا كان الدستور هو الأساس الذي تبنى عليه التشريعات والقوانين، ويضع أسس النظام السياسي والحقوقي في الدولة، فإنّ احترامَ مبدأ المواطَنة المتساوية أو انتقاصه يبدأ من هنا: إمّا أن تؤسّس القواعد الدستورية لقيام دولة مواطَنة متساوية لا تمييز فيها، أو أن تتضمّن ما من شأنه المفاضلة بين المواطنين/ات بوجه عام (أو التمييز في حقوق المواطَنة بين الذكور والإناث)، وبالتالي نقض المواطَنة المتساوية.
رابعًا: أيديولوجيا عروبية وإسلامية
تعلَّم المثقفون العرب “القومية” من اطِّلاعهم على الفكر الغربي؛ “فقد كانت الفكرة القومية بارزة عند مفكري عصر التنوير في القرن الثامن عشر، وكانت ثمارها واضحة للعيان في القرن التاسع عشر الذي شهد بروز ألمانيا وإيطاليا كدولتين قوميتين. وخلبت الفكرة القومية لُبَّ من اختلفوا إلى أوروبا من أبناء الشرق، وخاصة من جاؤوا من الدولة العثمانية، أتراكًا كانوا أم عربًا”[15]. ومن ثم، “لم يظهر الشعور القومي عند العرب إلا في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، ولعل تطبيق نظام التجنيد في الولايات العربية في ظل حركة الإصلاح في الدولة العثمانية، وما عاناه العرب من التمييز من جانب ضباطهم الأتراك، وكذلك إحساس طلاب المدارس العثمانية من العرب (خاصة المدارس العسكرية) بهذا التمييز في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، كان وراء شعورهم باختلافهم عن الأتراك “[16]. إلا أنّ منظّري القومية العربية الأوائل مثل قسطنطين زريق، وعلى الرغم من الإقرار بأن “القومية بمعناها الصحيح إنما هي وليدة العصر الحديث وما تمخض عنه من قوى سياسية واقتصادية واجتماعية”، يجدون “شعورًا عربيًا قويًا حتى في العهد الأول حين كانت العاطفة الدينية الإسلامية لا تزال في أشد غليانها”[17].
يعدّ حزب البعث العربي الاشتراكي أبرز ممثلي التيار القومي العربي، وثمة من يعتقد أنّ “أهمّ ظاهرة حزبية ظهرت في سورية في القرن العشرين كانت ولادة حزب البعث”[18]، وتمثّل أدبياته بشكل كبير أيديولوجيا القومية العربية، كما عبّر عنها ميشيل عفلق، أحد مؤسسي الحزب، مستلهمًا النموذج الألماني للقومية الإثنية الثقافية، ومنظّرًا لنسختها العربية. وقد توقّف الكاتب القومي اليساري ياسين الحافظ عند تأثر أيديولوجيا البعث بالقومية الألمانية، في معرض نقده لما سمّاه “البرجوازية الصغيرة القومية العربية”، وكيف أنّها “أخذت تستعمل لغة ألمانية، وانتقلت المصطلحات الألمانية والإيطالية إلى القاموس السياسي للبرجوازية الصغيرة العربية. لقد تحدث القوميون الألمان عن ((شعب الشعوب))… وميزوا بين ((الشعوب العفوية والشعوب القائدة))، وصاغوا النظريات حول ((الخصائص الأصيلة الفردية المميزة للأمة الألمانية)). وكرر التيار البرجوازي الصغير القومي الأفكار نفسها والصيغ نفسها، بل الألفاظ نفسها في بعض الأحيان”[19]. وتزخر مؤلفات ميشيل عفلق بشواهد لا تحصى، عن “روح الأمة” و”أصالتها” و”عبقريتها” و”عظمة قدرها”، فضلاً عن “الرسالة الخالدة” المثبّتة في شعار الحزب.
وفي العلاقة مع الدين، كانت القومية السياسية في الغرب “جزءًا من حركة علمنة الحضارة المسيحية، وأسفرت المعركة بين القومية والمسيحية عن انتصار القومية”، لكنّ الأمر سار على نحو مختلف في الشرق العربي عند وصول الأفكار القومية إليه أواخر القرن التاسع عشر، “فقد كان الإسلام ولايزال عميق الجذور، فلم تستطع الأفكار القومية الجديدة من الغرب أن تحدث ثغرة في الإسلام، بل استطاع الإسلام أن يقف في وجه كل محاولة للعلمنة.. فهكذا لا يمكن الفصل التام بين الإسلام والقومية العربية”[20]. وبحسب قسطنطين زريق “القومية الحقيقية لا يمكنها بحال من الأحوال أن تناقض الدين الصحيح، إذ ليست، في جوهرها، سوى حركة روحية ترمي إلى بعث قوى الأمة الداخلية”[21].
لم يخرج موقف حزب البعث عن هذا التوجّه. ففي محاضرة ألقاها على مدرّج الجامعة السورية، في نيسان/ أبريل 1943، أكّد ميشيل عفلق أنّ “الإسلام كان حركة عربية، وكان معناه: تجدد العروبة وتكاملها”، ورأى أن العرب ينفردون دون سائر الأمم بأن “يقظتهم القومية اقترنت برسالة دينية، أو بالأحرى كانت هذه الرسالة مفصحة عن تلك اليقظة القومية”[22]. وشرح ارتباط القومية العربية والإسلام، بالقول: “قوميتنا كائن حي متشابك الأعضاء، وكل تشريح لجسمها وفصل بين أعضائها يهددها بالقتل، فعلاقة الإسلام بالعروبة ليست إذًا كعلاقة أي دين بأية قومية. وسوف يعرف المسيحيون العرب، عندما تستيقظ فيهم قوميتهم يقظتها التامة ويسترجعون طبعهم الأصيل، أن الإسلام هو لهم ثقافة قومية يجب أن يتشبعوا بها حتى يفهموها، ويحبوها، فيحرصوا على الإسلام حرصهم على أثمن شيء في عروبتهم”[23]. عاد عفلق بعد أكثر من ثلاثين عامًا وأكّد علاقة العروبة والإسلام، في محاضرة ألقاها بمدرسة الإعداد الحزبي في بغداد عام 1976، قال فيها: إنّ حركة البعث “أعطت الإسلام، الدين العربي، الدين الإنساني، أعطته المكانة الأساسية في تكوين قوميتنا، ليس فقط بالنسبة إلى الماضي وإنما بالنسبة إلى كل وقت، فما دامت الأمة العربية على هذه البسيطة فالإسلام هو التراث الروحي وهو المحرك لها، هو ملهمها، هو مرجعها الروحي، وهو الحركة الثورية المثلى في نظر البعث… تصورنا أيها الرفاق كلي للحياة القومية، الحياة القومية في نظرنا تشمل كل شيء والعقيدة الدينية داخلة في تكوينها دخولاً عضويًا”[24]. و”البعث وضع الأمور في نصابها عندما وضع الإسلام كثورة أخلاقية وفكرية واجتماعية حاسمة في تاريخ البشر، وضعها في صلب القومية العربية. بهذا المعنى لا يوجد عربي غير مسلم، هذا إذا كان العربي صادق العروبة وإذا كان متجردا من الأهواء ومتجردا من المصالح الذاتية. العروبة تعني الإسلام بهذا المعنى الرفيع الذي لا تعصب فيه ولا تمييز ولا أي شيء سلبي”[25].
تجدر الإشارة إلى أنّه برغم التحوّلات والانشقاقات التي طالت حزب البعث، وتسرّب أفكار متأثرة بالماركسية إلى أدبياته لبعض الوقت، وتحديدًا في ستينيات القرن العشرين، إلا أنّ الصلة الوثيقة بين العروبة والإسلام بقيت سمةً ثابتة في الأيديولوجيا البعثية، وتكرّست عمليًا من خلال سياسات نظام البعث، واستمرّت في عهد حافظ الأسد بعد انفراده بالسلطة، وسعيه إلى استمالة الأكثرية السنية، في سنوات حكمه الأولى خصوصًا، وهو ما فعله وريثه بشار من بعده، بما يخدم توطيد حكمه، وكانت القوانين والإجراءات التمييزية ضد غير العرب وغير المسلمين من ثوابت “دولة البعث” في أطوارها المختلفة، وفق ما تضمّنته الدساتير المتعاقبة، كما سيأتي بيانه.
خامسًا: الأيديولوجيتان القومية العربية والإسلامية وتطور سورية السياسي[26]
كانت “الأيديولوجية المهيمنة” في حياة البلاد السياسية مزيجًا من الأيديولوجيا القومية العربية والأيديولوجيا الإسلامية، منذ استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، وإن بتفاوت نسبي بين مرحلة وأخرى، وفق ما تبيّن أحداث التاريخ السياسي السوري المعاصر، ومضامين معظم الدساتير السورية المتعاقبة. فالدستور هو الوثيقةَ الأهمّ في حياة الدول والشعوب، كونه يرسم القواعد التي تحدّد شكل نظام الحكم، والمبادئ العامة الموجّهة لسياسات الدولة. ولا يغيّر في الأمر إن كانت دوافع العمل بدلالة أيديولوجيا ما هي القناعة الصادقة بها، أم لجعلها واجهة تستر أهدافًا سلطوية وفئوية، مادامت مؤثرة فعلاً في الواقع العملي.
1- من الاستقلال حتى نظام البعث
تأسست أول جمهورية سوريّة تحت الانتداب الفرنسي، بعد انتخاب جمعية تأسيسية وضعت دستورًا للبلاد وأقرّته سنة 1928، في أعقاب الثورة السورية الكبرى (1925 – 1927)، وجرى العمل به بشكل متقطّع من عام 1930 حتى 1949. جاء في مادته الثالثة: “سورية جمهورية نيابية دين رئيسها الإسلام وعاصمتها دمشق”، وفي المادة السادسة “السوريون لدى القانون سواء. وهم متساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية وما عليها من الواجبات والتكاليف. ولا تمييز بينهم بسبب الدين أو المذهب أو الأصل أو اللغة”، وجاء في مادته العشرين أن غاية التعليم “ترقية المستوى في الأخلاق والعلوم بين الأهالي وتثقيفهم على مبادئ الوطنية”[27]. لم يتضمّن هذا الدستور أي إشارة تفضيلية لدين أو قومية، باستثناء النص على الإسلام دينًا لرئيس الدولة، وجعل المبادئ الوطنية، لا القومية أو الدينية، غاية التعليم. استمر هذا الدستور ساريًا بعد الاستقلال، وانتهى العمل به بانقلاب حسني الزعيم في 30 آذار/ مارس 1949.
شهدت مرحلة الاستقلال حضورًا متزايدًا للأيديولوجيا القومية العربية في الساحة السياسية السورية، لا سيما بعد تأسيس حزب البعث على أيدي ميشيل عفلق وصلاح البيطار، والحزب العربي الاشتراكي بزعامة أكرم الحوراني، ثم اندماجهما في (حزب البعث العربي الاشتراكي)، فضلاً عن الأيديولوجيا الإسلامية، مع تصاعد نشاط التيار الإسلامي، وعلى رأسه (جماعة الإخوان المسلمين)، وقد ظهرت آثار ذلك الحضور في دستور عام 1950. “ففي حين صيغ دستور 1928، مثل دستور 1920، من وجهة نظر وطنية لعموم سورية، فإنّ دستور عام 1950 كان لديه تصوّر جديد تمامًا لسورية بوصفها جزءًا من مشروع قومي عربي. لذلك نصّت المادة 1 على أنّ سورية جمهورية عربية ديمقراطية نيابية ذات سيادة تامة… والشعب السوري جزء من الأمة العربية”[28].
إلى جانب النزعة العروبية المستجدّة، أفرد دستور 1950 مكانة تفضيلية للإسلام، فجاء في مقدمته: “ولما كانت غالبية الشعب تدين بالإسلام فإن الدولة تعلن استمساكها بالإسلام ومُثُله العليا. وإننا نعلن أيضًا أن شعبنا عازم على توطيد أواصر التعاون بينه وبين شعوب العالم العربي والإسلامي، وعلى بناء دولته الحديثة على أسس من الأخلاق القويمة التي جاء بها الإسلام والأديان السماوية الأخرى، وعلى مكافحة الإلحاد وانحلال الأخلاق”، وجاء في المادة 3: “دين رئيس الجمهورية الإسلام. الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع”[29]. وظهر تأثير الأيديولوجيا الدينية أيضًا في بعض فقرات المادة 28 عن التعليم، حيث جعلت “تعليم الدين إلزاميًا لكل ديانة وفق عقائدها”، و يجب أن يهدف التعليم إلى إنشاء جيل قوي بجسمه وتفكيره، مؤمن بالله”[30]. وإذ اكتفى دستور 1950 بأنّ الشعب السوري “جزء من الأمة العربية”، فإن دستور 1953 الصادر في ظل ديكتاتورية الشيشكلي العسكرية، أضاف: “على الدولة أن تسعى، في ظل السيادة والنظام الجمهوري، لتحقيق وحدة هذه الأمة”[31]، وحافظ على المواد المتأثرة بالأيديولوجيا الدينية، باستثناء إلزامية التعليم الديني، قبل العودة إلى الدستور السابق بعد سقوط نظام الشيشكلي في العام التالي.
ومن أهمّ التأثيرات السلبية لأيديولوجيا القومية العربية في تطوّر سورية السياسي، كان التفريط باستقلال البلاد وإنهاء تجربتها الديمقراطية الناشئة لتحقيق الوحدة مع مصر وإعلان (الجمهورية العربية المتحدة)، في شباط/ فبراير 1958، وهو ما حصل بجهود ممثلي التيار القومي العربي، من سياسيين وعسكريين. وأصبحت الجمهورية السورية مجرّد “إقليم” في دولة الوحدة، التي “استحالت سريعًا هيمنة مصرية على سيادة سورية وثرواتها وأسواقها، بشكل لم يختلف عما فعلته فرنسا زمن الانتداب”[32]. وكانت الديمقراطية السورية أولى ضحايا الوحدة، لأن نظام مصر كان استبداديًا، و”أصبحت سورية، في ظل الجمهورية العربية المتحدة، محكومة ليس بأقل من أربعة أجهزة أمنية واستخباراتية… فتعرّض الآلاف للاعتقال ولفترات سجن طويلة. وعمد النظام إلى التصفية الجسدية بدون محاكمة لمعتقلين سياسيين بعد جلسات تعذيب حتى الموت”[33].
انتهت تجربة الوحدة بانقلاب عسكري نفّذه ضباط سوريون، بقيادة عبد الكريم النحلاوي في أيلول/ سبتمبر 1961. لكنّ الأيديولوجيا العروبية ظلّت حاضرة، إذ وضع الانقلابيون دستورًا مؤقتًا من ثماني مواد، “نوّهت المادة 1 بتراث الجمهورية العربية المتحدة، وغيّرت اسم البلد من الجمهورية السورية إلى الجمهورية العربية السورية. ولم يغيّر أي نظام حكم أو دستور لاحقُا هذا الاسم”[34]. هذا الإجراء لا يتناسب وحقيقة التنوّع القومي في سورية، حيث يشكّل الأكراد قومية ثانية فيها من حيث العدد، فضلاً عن غيرهم من الجماعات القومية. على أنّ تغيير اسم البلاد بإضافة “العربية” لم يكن من باب إثبات “حكومة الانفصال ” ولاءها للعروبة ردًا على الاتهامات الناصرية فحسب، بل أتى نتيجة عمق تأثير المد الأيديولوجي العروبي على النخب الحاكمة، ففي العهد نفسه، جرى تعداد سكاني في محافظة الجزيرة، في آب/ أغسطس 1962، وبموجبه “جُرّد ما يقدّر بنحو 120 ألف كردي من الجنسية وصُنّفوا كـ”أجانب”، وبعد أكثر من أربعة عقود، قُدّر أن أكثر من 300 ألف من الأكراد السوريين ما زالوا يعانون آثار هذا التعداد التمييزي”[35].
بدأت مرحلة جديدة من تاريخ سورية صبيحة 8 آذار/ مارس 1963، بانقلاب حمل حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة. وشعار “كل السلطة للبعث” الذي تبنّاه قادة سوريا الجدد لم يقصدوا به التطبيق الكامل لسياسية البعث فحسب بل، وقبل أي شيء، أن تكون السلطة بيد البعثيين وحدهم[36]. لقد طوى وصول البعث إلى السلطة صفحة في تاريخ سورية الليبرالية والتعددية والبرلمانية، واستهلّ حقبة من أنظمة الحكم السلطوية والرئاسية والفردية[37].
في العام التالي أصدر “المجلس الوطني لقيادة الثورة” دستورًا مؤقّتًا، ظهرت فيه أيديولوجيا البعث بوضوح، وتعزّزت الصبغة العروبية للدولة. جاء في المادّة الأولى “1- القطر العربي السوري جمهورية ديمقراطية شعبية اشتراكية ذات سيادة وهو جزء من الوطن العربي 2- الشعب العربي في سورية جزء من الأمة العربية يؤمن بالوحدة ويناضل في سبيل تحقيقها”. وحافظت المادة 3 على شرط الإسلام ديناً للرئيس، والفقه الإسلامي مصدراً رئيسياً للتشريع (وليس المصدر الرئيسي كما في دستور1950)، ونصّت المادة 7 على المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، لكن المادة 22 اشترطت لممارسة حقوقهم والتمتع بحرياتهم “عدم المسّ بسلامة الوطن والوحدة القومية ومؤسسات الجمهورية وأهداف الثورة الشعبية الاشتراكية[38].
عارضت فئات شعبية وتيارات سياسية مختلفة حكم البعث منذ عامه الأول، وكان الإسلاميون، وخصوصًا جماعة الإخوان المسلمين من أشدّ معارضيه جذرية. لكنّ الذي ميز المعارضة الإسلامية عن غيرها أنّ موقفها من النظام اتّخذ بعدًا دينيًا/ طائفيًا، نظرًا إلى كون عدد من رموز السلطة الجديدة ينحدرون من أقليات مذهبية (علويون، دروز، اسماعيليون)، وهو ما يمكن عدّه بداية تطييف الصراع السياسي/ الاجتماعي في سورية. وقد شهدت مدينة حماه في ربيع عام 1964 مواجهات مسلحة بين إسلاميين يقودهم الشيخ مروان حديد، وقوات الأمن والجيش التي يقودها ضباط بعثيون، عُرفت بـ”أحداث جامع السلطان”.
تكرّست الأيديولوجيا العروبية التمييزية بصورة أعمق وأكثر شمولاً خلال الحقبة البعثية، فقد حُشِيت الدساتير بأدبيات حزب البعث وأيديولوجيته القومية العربية، حتى إنّ الجنسية السورية باتت تُسمّى “الجنسية العربية السورية”، وفق المادة 21 من “الدستور المؤقت” الذي أصدرته القيادة القطرية لحزب البعث في 1 أيار/ مايو 1969، وهذا دمج قسري بين الجنسية، بوصفها أحد عناصر المواطَنة، بما هي رابطة حقوقية وسياسية تربط الفرد والدولة، وبين “العروبة” كانتماء إثني يخص العرب فقط. فعلاقة المواطَنة الحديثة التي ترتب الحقوق والواجبات لمن يحمل صفة المواطن/ـة، لا شأن لها بالانتماءات الإثنية والثقافية التي تربط الأفراد بمستويات الانتماء ما قبل الوطنية/ المواطَنية، ومن ثمّ ينبغي ألا تقترن بالجنسية والمواطنة. لكنّ نظام البعث، استنادًا لأيديولوجيته القومية العربية، جعل من كلّ سوري عربيًا رغمًا عنه (وبالتأنيث أيضًا)، من دون اعتبار للانتماء القومي الفعلي، كأن يكون الفرد كرديًا، أرمنيًا، تركمانياً، سريانياً، شركسياً، أو غير ذلك من القوميات والإثنيات الموجودة في سورية.
فوق هذا، لم تعد سورية للسوريات والسوريين جميعًا، وإنما أصبحت “دولة البعث”، فالمادة 7 من الدستور المؤقت أضفت الطابع الرسمي على حكم البعث لأول مرة، حيث نصَّت على أن “الحزب القائد في الدولة والمجتمع هو حزب البعث العربي الاشتراكي”[39]. وبحسب المادة 17، يهدف نظام التعليم والثقافة “إلى إنشاء جيل عربي قومي اشتراكي علمي التفكير مرتبط بتاريخه معتز بتراثه مشبع بروح النضال من أجل تحقيق أهداف أمته في الوحدة والحرية والاشتراكية”[40].
2- مرحلة حكم الأسد
شهد النصف الثاني من الستينيات سلسلة انشقاقات وتصفيات وصراعات على السلطة ضمن نظام البعث نفسه، حسمها حافظ الأسد في النهاية لصالحه، وانفرد بالحكم منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 1970 حتى وفاته في حزيران/ يونيو 2000، ليرث ابنه بشار السلطة. وعلى نحو ما يفعل أي مستبد، توسّل حافظ الأسد كلّ ما من شأنه توطيد أركان نظامه وتأبيد سلطته، ولم تكن العوامل الأيديولوجية خارج حساباته، سواء في التعامل مع التحديات الداخلية أو في الملفات الإقليمية، لذا بقي محافظًا في كلماته وخطبه على الرطانة البعثية، وشعارات العروبة والأمة العربية. في الوقت نفسه، أكّد تمسّكه بالإسلام، وواظب على الصلاة في المساجد أمام الكاميرات، في المناسبات الدينية، إلى جانب سيطرته على المؤسسة الدينية واستمالة بعض كبار رجال الدين، لاستخدامهم بما يدعم نظامه.
كان أوّل تحدٍّ جدّي يواجه حكم الأسد هو “أحداث الدستور” سنة 1973، حين طُرح مشروع الدستور الدائم على الاستفتاء الشعبي، وقد خلا من الإشارة إلى “دين رئيس الجمهورية”، وهي لم تكن مشكلة الدستور الوحيدة، وإنما السلطات المطلقة التي يمنحها للرئيس، مما سيؤلّب فئات المعارضة المختلفة. حينها لعب الإخوان المسلمون دورًا بارزًا في ذلك الحدث السياسيّ، لكن على أرضية دينية. روى المنظّر والقيادي الإخواني المعروف سعيد حوى تفاصيل الأحداث في مذكراته، وكيف حاول هو وجماعته استغلال التحرّك الشعبي وتجييره لصالح التيار الإسلامي، حيث إنه “باتّخاذ موقف باسم العلماء فستظهر الحركة كلها بالمظهر الإسلامي وهذا سيجبر حافظ أسد على تنازلات أو يعطيه درسًا للمستقبل في وجوب مراعاة الإسلام، ورأيت أن علينا نحن الإخوان المسلمين أن نوصل الناس من وراء ستار إلى وضع يندفعون فيه دون أن يكون هناك أي ممسك علينا”[41].
“كان هدف حوى هو استثمار غضب رجال الدين في سعيه لتحقيق هدف سياسي بارز وزعزعة استقرار النظام”[42]. لكن الأسد تمكّن من احتواء الموقف بإضافة فقرة “دين رئيس الجمهورية الإسلام”، فأرضى رجال الدين بهذا، وأحبط التحرّك الإخواني. ذلك أن اهتمام العلماء اقتصر على المطالب الدينية؛ ونجم عن ذلك اكتفاؤهم بربح أكثر المعارك أهمية بالنسبة إليهم: المادة التي تشترط أن يكون الرئيس مسلمًا[43]، فمشكلتهم لم تكن في أن الدستور جعله حاكمًا مطلقًا، وإنما في بند “دين الرئيس”، وهي النقطة ذاتها التي أراد الإخوان عبرها تحريك الشارع باستثارة العواطف الدينية لتحقيق مكسب سياسي، فكان من السهل على الأسد الخروج من المأزق بتلبية هذا المطلب الديني، وتمرير دستوره الديكتاتوري المشبع بأيديولوجيا العروبة، والمكانة التفضيلية للإسلام.
بعد سنوات واجه الأسد تهديدًا وجوديًا، تمثّل في الصراع المسلح مع تنظيم الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين، وتنظيم الإخوان نفسه، بدءًا من أواخر السبعينات وحتى مجزرة حماة في شباط/ فبراير 1982. وعلى الرغم من جسامة التهديد الذي خلخل أركان النظام، إلا أنّه وجدها فرصة لسحق أشكال المعارضة كلِّها، يمينًا ويسارًا، والهيمنة حتى على النقابات. كما أنّ الإسلاميين بتطييفهم الصراع وإعلان أجندتهم الدينية/ الطائفية[44]، قدّموا فرصة لآلة النظام الدعائية، من أجل الترويج له كنظام “وطني علماني”، يحمي البلاد من خطر التطرّف، وهو ما وجد صداه لدى بعض الأقليات الدينية والمذهبية، وزاد في قربها من النظام، فكانت أيديولوجيا القومية العربية غطاءً سميكًا يخفي سياسات النظام الفعلية القائمة على تفتيت المجتمع، من خلال التلاعب بالتنوع الديني والطائفي.
وباسم أيديولوجيا القومية العربية، سعى الأسد للسيطرة على القرار الفلسطيني واحتكار التحدّث باسم القضية الفلسطينية، إضافة إلى تدخّله في الحرب الأهلية في لبنان، ثم إحكام السيطرة عليه، وفق تفاهمات مع أطراف إقليمية ودولية. وبعد أن ورث بشار الأسد منصب رئاسة الجمهورية وقيادة حزب البعث عن أبيه، لم يختلف حضور الأيديولوجيتين القومية العربية والإسلامية وتأثيرهما في الحياة السياسية السورية تحت حكمه، إلا من حيث درجة حضور هذه أو تلك، وفق ما تقتضيه مصلحة النظام.
وبعد اندلاع الثورة السورية، تفجّرت كافّة التناقضات القومية والطائفية التي سبّبتها عقود من القمع والتمييز والتكاذب الأيديولوجي. وبمثل ما تلاعب نظام الأسد بالاجتماع السوري، وحكم سورية بالحديد والنار متسترًا بالأيديولوجيا، كذلك فعل في سعيه لقمع الثورة واستعادة سلطته المتداعية، مع تنويعات أيديولوجية متبدّلة، وفق ما يناسب متغيّرات المرحلة وطبيعة حلفائه وداعميه. بدورهم، وجد دعاة الأيديولوجيا الإسلامية، من الإخوان وغيرهم، أن الفرصة سانحة لتحقيق طموحاتهم السلطوية المغلّفة بالشعارت الدينية.
خاتمة
كانت الأيديولوجيتان القومية العربية والإسلامية الأكثر حضورًا وتأثيرًا في تاريخ سورية السياسي، وانبنت القاعدة الأيديولوجية الرئيسة لدولة البعث ونظام الأسد على مزيج منهما. والعلمانية التي ادّعاها نظام الأسد ليست أكثر من أداة دعائية، تتقدّم وتتراجع حسب الطلب، فدستوره بمنحه مكانة تفضيلية لفقه ديني معيّن مصدرًا رئيسًا للتشريع، وجعله الانتماء إلى دين محدّد شرطًا لشغل أهمّ منصب في نظام رئاسي يتناقض مع العلمانية، لأنها تعني في أبسط صورها الفصل بين الدين والدولة. فالتشريع في النظام العلماني لا يمكن أن يستند إلى الدين، ولا يجيز اشتراط الانتماء لدينٍ بعينه لشغل منصب عام.
والدولة الوطنية الديمقراطية تقوم على ركائز عدّة، على رأسها المواطَنة المتساوية، وهذه لن تتحقّق عندما يكون للأيديولوجيات القومية والدينية تأثير ملموس في الدساتير والقوانين، بصورة تؤدّي إلى التمييز بين الأفراد، وتُفاضل ما بين الجماعات أيضًا، في مجتمع متعدد الأديان والقوميات. واستنادًا إلى المعطيات السياسية والتاريخية، فإن سورية منذ استقلالها، وبعد تعاقب العديد من الدساتير والأنظمة السياسية عليها، مازالت تفتقر إلى المواطَنة المتساوية، رغم ضرورتها في مجتمع متنوّع القوميات والأديان والمذاهب، كالمجتمع السوري.
إنّ تضمين الدساتير السورية قواعدَ أملتها اعتباراتٌ إيديولوجية تمييزية، تمنح الأفضلية لفئة من الشعب على غيرها، ومن ثمّ تقونن التمييز على أساس الدين أو القومية وسواها، رتّب نتائج قانونية وحقوقية وسياسية تتناقض مع المواطَنة المتساوية بمفهومها الحديث. فالأصل في إقرار الحقوق والواجبات الدستورية هو تساوي المواطنين والمواطنات، مهما تكن النسب المئوية لتوزّعهم على الديانات أو القوميات، والإخلال بهذا المبدأ سيؤدّي حتمًا إلى تكريس انتماءات هوياتية مختلفة ومتحاجزة، على حساب الهوية الوطنية الجامعة. ومن ثمّ، لن تقوم في سورية دولة ديمقراطية ما لم يكن الوضع السياسي والقانوني للأفراد مستقلاً تمامًا عن تبعيتهم الدينية أو انتماءاتهم القومية والثقافية، والتي يمكن لمن يشاء منهم إغناؤها والاغتناء بها في فضاءات المجتمع المدني.