علاقة الدروز بالآخر؛ بين الانغلاق والتعايش والانفتاح والثورة

مقدمة: حوران ما بين التاريخ والجغرافية

لعل العلاقة بين التاريخ والجغرافيا هي علاقة مُعقدة أكثر مما نتصور أول وهلة، فكثيرًا ما نصَّبَ التاريخ نفسه وصيًا على الجغرافيا فمنحها الأسماء، ثم بدَّل وغير في تلك الأسماء وقام بتقسيم الرقعة الجغرافية الواحدة سياسيًا ثم أعاد توزيعها من جديد دون أن يعلم أو يتعلم أن الجغرافيا هي الأم الأطول عُمرًا والأكثر أثرًا وصاحبة الكلمة النهائية، وأنها هي من تُملي منطقها على التاريخ الذي يلتزم قوانينها وشروطها، بحيث لا يُغير التاريخ فيها سوى أثوابها الخارجية، بينما يبقى المكان هو الجسد الأكثر دوامًا وثباتًا.

ما يُعرف اليوم بحوران هو رقعة جغرافية تقع في المنطقة الجنوبية من سوريا، وقد خضعت هذه المنطقة بدورها لمزاجية التاريخ في التقسيم والتسمية، ثم إعادة الوصل والقطع وإلحاقها بهذا القطر أو ذاك أو هذا الإقليم أو غيره وفق مصالح القوى السياسيّة في كل زمان بشريّ، بينما طبعت الجغرافيا علاقات سكان هذه المنطقة ولعبت دورًا رئيسًا في طباعهم وحياتهم وعلاقاتهم الاجتماعية وسبل عيشهم بل وفي ملامحهم وبنيتهم الجسدية. وباختصار: لقد أدّت الجغرافية دورًا مهمًا في تاريخهم وتاريخ المنطقة.

ولأوضح مقصدي، فإنني سأحاول بادئ ذي بدء أن أتناول حوران من زاويتيّ التاريخ والجغرافية، وذلك لمحاولة رصد علاقاتها في ظل الثورات السورية، وآفاق تلك المنطقة ومآلاتها في واقع سياسيّ مضطرب.

ـ حوران جغرافيًا: حتى اسم حوران قد تغير تاريخيًا، فهي تُعرف اليوم بتلك المنطقة السهلية الممتدة بين شرقي وغرب اللجاه وجبل العرب وجنوب دمشق وشمال الأردن. أما سابقًا فكانت تشمل منطقة الجيدور واللجاة والمنطقة الجنوبية من حوران المسماة بثنية، والجولان وجبل العرب وكان خط حدودها يمتد جنوبًا حتى يصل جبل عجلون.

معلمان جغرافيان يميزان تضاريس حوران: السهل والجبل، فهي صفيحة بازلتية ذات منشأ بركانيّ، ما يجعلها منطقة خصبة صالحة لزراعة عدة أنواع من الزراعات الحقليّة والشجريّة وزراعة الخضراوات وبخاصة في سهل حوران.

سأركز في هذا البحث على جبل حوران أو ما يُعرف بجبل العرب أو جبل الدروز في تسمية أُخرى. وبمعنى أخر سيكون الدروز الذين يسكنون مدينة السويداء أو جبل العرب مركزًا ننطلق منه إلى المحيط الاجتماعي بهم، من خلال تناول علاقاتهم تاريخيًا مع جيرانهم من السُّنة والبدو والمسيحيين الموجودين في منطقة حوران.

قبل الانتقال إلى استطلاع تاريخ حوران عمومًا وتاريخ دروز الجبل تحديدًا، فإنني أود أن أستشهد بمقولة للمؤرخ الفرنسيّ فرناند بروديل توضح لنا أثر الجغرافيا في التاريخ أو ما يسميه بأثر المحيط الخارجي بالنسبة إلى سُكان الجبال كما هو حال دروز جبل حوران وعلويي جبال الساحل السوريّ بغض النظر عن انتمائهم الطائفي هنا. يقول بروديل في كتابه البحر المتوسط والعالَم المتوسطيّ في عصر فيليب الثاني: “الجبل، غالبًا ما يكون عالَمًا بعيدًا عن الحضارات التي تكوّن المُدن والبلاد الواطئة. تاريخه هو ألا يكون له تاريخ، ويحرص أن يظل على هامش التيارات الحضارية الكُبرى على الرغم من أنها تمر دونه ببطء كافٍ وبشكلٍ شبه منتظم. في حين تستطيع هذه التيارات الحضارية الكُبرى أن تمتد بعيدًا على السطح الأُفقيّ إلا أنها تبدو عاجزة بالاتجاه الشاقوليّ في وجه عقبة لا يزيد ارتفاعها عن بضعة مئات من الأمتار”[1]. يردُ رأي بروديل العميق والمتفحّص تحت عنوانٍ فرعيّ يحمل اسم “الجبال والحضارات والديانات”، والذي يؤكد فيه استعصاء الجبال ليس فقط على الحضارات وإنما على الإخضاع والسيطرة التّامة، فهي تريد أن تظل في عزلتها شبه الطبيعيّة. عزلتها هذه ستجعلها خائفة على هويتها وحسّاسة بحيث تعتبر أي شيء يمس بكرامتها التي تتضخم نتيجة العزلة والانغلاق أمرًا لا يمكن احتماله، وهي مستعدة لأن تموت من أجل هذه الذاتيّة لأنا مفرطة الحساسيّة.

ـ حوران تاريخيًا: تُؤكّد بعض الدراسات الايتمولوجية أن اسم حوران قد جاء من تسمية قديمة هي Auranitide الذي صار يُلفظ في اللغة اللاتينية Auranitis ثم اختُصر مع الزمن ليُصبح Auran أو Hawran بالآرامية، وهو يعني حرفيًا بهذه اللغة: المنطقة الكهفية أو المنطقة كثيرة الكهوف. هكذا ومع التحول اللغوي ستصبح كلمة أوران أو هوران الآرامية “حوران” باللغة العربية.

وفقًا للتاريخ الحديث، فإن التقسيم السياسيّ الإداري المُتّبع اليوم يوزّع منطقة حوران على ثلاث مدن سوريّة رئيسة هي: درعا والسويداء والقنيطرة. هذا بالنسبة إلى تاريخ سوريا الحديث والتقسيم الإداري فيها الذي نشأ بعد الاستقلال عن الاحتلال الفرنسيّ عام 1946، ولكنه لم يكن دائمًا كذلك في ظل الاحتلالين العثماني والفرنسيّ. نحن هنا مرّة أُخرى أمام وصاية التاريخ على الجغرافيا. في ظل الاحتلال العثماني ظلّ يُنظرُ إلى سوريا الطبيعية أو ما يعرف بسوريا الكُبرى أو إقليم بلاد الشام بتسمية أُخرى بوصفها كتلة واحدة جغرافيًا وسياسيًّا، ولكن التقسيم الإداري العُثماني المتبع حينها قد أطلق اسم لواء حوران على المنطقة الجنوبية الغربية لما يُعرف اليوم بالدولة السورية والذي يمتد في الزاوية الشمالية الغربية لما يعرف اليوم بالمملكة الأردنيّة.

 

1 ـ حوران في ظل الاحتلال العثماني

حول التقسيم الإداري والتاريخيّ لمنطقة حوران الذي كان معمولًا به في أواخر مرحلة الاحتلال العثماني أي في مطلع القرن العشرين وقبيل قيام الثورة العربية الكبرى 1918، نقع على مرجعٍ تاريخيّ فريد، فهو من المصادر النادرة التي تنتمي إلى تلك المرحلة. إنها كتابات الصحافي محمد رفعت خليل الحوراني[2]، وهو صحافي من أبناء حوران كان موظفًا لدى الإدارة العثمانية وقد نشر كتاباته التأريخية والوصفية للواء حوران جغرافيًا وسياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وانتماءاتهم وأصولهم وأماكن سكنهم وما يجمعهم وما يميزهم على صفحات جريدة المقتبس التي أسّسها المُفكِّر والمُصلح السوري محمد كرد عليّ. يقترح الحوراني في أحد كتاباته في الصحيفة المذكورة تقسيمًا اجتماعيًا طريفًا، ولكنه لا يخلو من الدلالة، فهو يُصنِّف أهالي حوران في أربعة أقسام، بحسب العادات والأخلاق: “الأول الحوارنة والثاني الدروز والثالـث العربـان الرحالـة والرابـع الجراكسـة والتركمان”[3].

ثم يتحدث خليل رفعت الحوراني عن أصول سكان لواء حوران من مسيحيين ودروز وسُنَّة حضرًا وبدوًا والمناطق التي جاؤوا منها، فيقول: قسمٌ من الحوارنة قد جاء “من الحجاز، وقسم منهم من نجد، وقليل منهم من العـراق، أتوها بعد الهجرة [..]، وقسم منهم من أهله القدماء، وقسم منهم بقوا فيهـا عنـدما حضـر إبراهيم باشا المصري في جنده، فتوطنوها، فيسمونهم المصاروة، وقسـم منهـا أتوا من بلاد عكا ومن البقاع [..]، ومنهم من أتاها من نابلس والقدس فسكنوا فيها فأكثرهم مـن قـرى عجلـون، ومنهم من أتاها من النبك وإقليم طبريا والمرج فسـكنها، فـأكثرهم فـي قـرى القنيطرة، وقسم عظيم منهم كانوا بدوًا فتحضروا. كل أهـالي حـوران أعنـي الحوارنة والدروز وأهل قرى عجلون وأهل قرى القنيطرة من العنصر العربي، لا يعرفون سوى اللسان العربي خلا الجراكسة [الشركس] والتركمان مـن بعـض قـرى القنيطرة” [4].

أما بالنسبة إلى الأقلية المسيحيّة في تلك الحقبة يقول الحوراني : “أما المسيحيون في حوران فهم قليلو العدد جدًا، لا يبلغون ثلاثـة مـن المئة، وعاداتهم وأخلاقهم ولباسهم ومسكنهم وغذاؤهم ولسانهم مثل الحوارنـة، لا فرق بينهم أبدًا في هذه الصفات، ومع قلة عددهم فالحوارنة [يقصد بهم المسلمين السُّنة من أهل حوران] تحترمهم وتحترم حقوقهم وتساويهم بحقوقها، وينظر إليهم بعين الصدق والمحبة وبيـد الرؤسـاء سياسة أهل القرى كيف شاؤوا، ولهم امتياز على أهـل القـرى لتعييـنهم فـي عضوية مجالس الإدارة ولجان المحاكم الأخرى، وانتخاب أعضاء نواب مجلس الأمة كما هو ثابت منذ خمسين سنة بالقيود الرسمية، تنتقـل مـن الآبـاء إلـى الأبناء، وقد نالوا هذا الامتياز من رجال الحكومة السابقة”[5].

على الرغم من كل ما يمكن أن يُثار حول موضوعية هذا الكلام لشخصٍ ينتمي إلى الحوارنة وموظف مُخلِص للحكومة العثمانية[6]، إلا أن ما قاله لا يختلف فعليًا مع التاريخ الرسمي وغير الرسمي المكتوب أو الموروث والذي يؤكّد حالة تعايش سلمي واندماج شبه كامل للأقلية المسيحية في الوسط الاجتماعي والجغرافي في حوران بل وفي سوريا الكبرى سواء في الأخلاق أو الملبس أو المسكن أو الغذاء الخ، بل ولعل المسيحيين قد حازوا شيئًا من التعاطف الخاص لكونهم أقليّة في دولة إسلاميّة.

ثم ترد دلاله مهمة، وإن كانت غير مُباشرة، في مقالات الحوراني عن الدروز تُشير إلى شيء من الانغلاق على الذات والتعامل كما لو كانوا يُمثّلون هوية مُستقلة بذاتها بل وربما غير راغبة بالاندماج مع الآخر، ومتحصنة ومكتفية بنفسها، بما يتفق مع تفسير غوديل عن سكان الجبال الذي أتينا عليه قبل قليل.

يردُ نص الحوراني على النحو الآتي في أثناء حديثه عن سمات الحوارنة فيقول: “يطلق هذا الاسم [الحوارنة] على كـل مـن لـبس العقـال والكوفية، وسكن قرى حوران وعجلون وقرى القنيطرة، إن كان بدويًا تحضـر، أو كان من أي إقليم فاستوطن بها خلا الدروز فإنهم لا يسمون بهذا الاسم، لأنهم لا يسكنون، ولا يقيمون إلا في القرى الدرزية مجتمعين بعضهم إلى بعض”[7].

لعل موقف الحوراني هنا غير شخصي أو فرديّ تمامًا بقدر ما يعكس نظرة الحوارنة السُّنة تجاه الدروز، فهذه النظرة تختلط بالاعتراف بهم وباختلافهم وتشي في الوقت نفسه بحساسية تجاه انغلاقهم حول أنفسهم في دائرة تكاد تكون مُحكمة الأغلاق.

أعتقد هنا أن الفرق بين مسيحيي ودروز حوران كما يُستشف من كلام الحوراني يتمثلُ بأنه، وعلى الرغم من كونهما أقليتين في المحيط الاسلاميّ العثماني آنذاك، إلا أن المسيحيين أقل انغلاقًا من الدروز وتفاعلًا مع غيرهم، فهم قد يوجدون في قُرى السُّنة نفسها وفي قُرى الدروز نفسها من دون أن يسعوا بالضرورة لإقامة مجتمعات خاصة بهم كما كان الدروز يفعلون. تقديري للموضوع هنا هو أن السبب تاريخيّ ودينيّ، فمسيحيو المشرق وجدوا مع الزمن قُدرة للتأقلم مع الإسلام الذي فرض نفسه ووجوده على بقية المعتقدات والأديان في منطقة المشرق العربي واستطاعوا (بعضهم اعتنق الدين الجديد طوعًا أو إكراهًا أو خوفًا أو بمصلحة) التعايش مع هذا الدين الجديد الذي يسمح إلى حدٍ ما بالتسامح مع “أهل الكتاب” فعاش مسيحيو المشرق جنبًا إلى جنب مع مسلميه ولم يكونوا قلقين بشأن القضاء على ديانتهم، فهم معترف بهم منذ زمن الرسول، كما أن دينهم مُنتشر في كل بقاع الأرض ولا يتهدده خطر الأقليات الإسلامية كما هو حال الدروز التي يُنظر إليها من جانب الإسلام السُّني المهيمن على أنها انحرافات عن الإسلام الصحيح. متفرقة في دوائر مغلقة على نفسها كثيرًا أو قليلًا (لعل دائرة الدروز الأكثر انغلاقًا) تخاف تلك الأقليات المتفرعة تاريخيًا عن الإسلام أو الدخيلة عليه من امّحاء هوياتها في هذا الكُل الإسلامي السُّني فتزداد تصلبًا على نواتها، وتصبح حساسة تجاه الآخر السُّني وقلقة منه[8]. هكذا كونت هذا الأقليات المذهبية تجمُعات خاصة بها (غالبًا في الجبال)، وحددت هويتها كمذاهب إسلاميّة مُختلفة ومتميزة عن الإسلام السُّني. لا شك أن الرغبة في التمايز والحفاظ على شيء من التراث المنقول الذي جاء به الدروز معهم إلى جبل العرب يظهر أيضًا في الزي الشعبيّ والعادات الاجتماعية وفي الأحوال المدنية كشؤون الزواج والطلاق والإرث الخ.

في مجلة ـ المقتبس ـ العدد 517/4 ذي القعدة 1328 هـ/6 ت2 1910 يذكر خليل رفعت الحوراني أن “قرى جبل حوران 108 قرية كل سكانها دروز، إلا بعض القرى ففيهـا قليل من المسيحيين والمسلمين وحدود هذا الجبل شرقًا الباديـة، وغربًا قـرى الحوارنة […] وكلهـم مسلمون، شمالًا الصفاه واللجاه وجنوبًا البادية. يقوم دروز قرى حـوران علـى الزراعة، وقليل منهم في هذه السنين من يتعاطى التجارة لأهل السـويداء.[…]، ومـن عـادتهم عـدم تعـدد الزوجات لباسهم [ يقصد الرجال] مثل لباس الحوارنة فقط، وعامتهم يلبسون السـراويل، أمـا الـذين يلبسون منهم العقال على رؤوسهم فهم جهال، فمن شهد بصـحة دينـه يلـبس العمامة على رأسه ولباس حريمهم مثـل لبـاس الحوارنـة، ولكـنهن يلـبسن السراويل، ويدعن أعناقهن وبين نهودهن مكشوفة، ويـرمين علـى رؤوسـهن شاشية بيضاء ويكحلن عيونهن الواسعة، فيرين بذلك حسنهن الطبيعي […] معيشتهم أرقى من معيشة الحوارنة في المأكل ونساؤهم نظيفات أحسن من نساء الحوارنة ولا يورثون الحرمة [المرأة] من الـدور والأرض ما دامت لها قرابة عصبية، وقلَّ أن يسكن أخوان في دار واحدة”[9].

ربما لا يقتصر هذا الانغلاق على الطائفة أو المذهب على الدروز في حوران، وإنما على التركمان والشركس، وهما أقليتان إثنيتان في ذلك المحيط العربيّ. فعلى الرغم من أن الحكم العثماني لبلدان المشرق “العربي” كان قائمًا على أساس دينيّ إسلامي، وهو لم يكن صاحب مشروع قوميّ يقوم على فكرة العروبة كما سيحصل لاحقًا مع الثورة العربية الكُبرى، إلا أن التمركُز على الهوية الإثنيّة كان موجودًا وحاضرًا بشكلٍ ما في لواء حوران. يصف الحوراني الشركس بهذا الانغلاق بقوله: “الجراكسة (في القنيطرة) يفقهون أمور ديـنهم، ولكـنهم متعصـبون لقـوميتهم، فهـم لا يتزوجون من الأهالي ولا يزوجونهم ولا يزوجون إلا الموظفين”[10].

إضافة إلى التقسيم الطائفيّ والديني والإثني والثقافي والاقتصادي الذي نقرأه في مؤلفات الحوراني لسُكان حوران في نهاية مرحلة الاحتلال العثماني، فإنه يُجري تصنيفًا آخر سنتوقف عنده لما له أهمية في بحثنا هذا، وما أقصده هنا هو ذلك الفرز الحضريّ كالذي اعتمده ابن خلدون والقائم على التمييز بين سُكان القرى والأرياف وبين البدو الرُّحَّل. في إشارة إلى هذا التمييز المدنيّ يقول الحوراني أن البدو الرحل عربان بيوت الشَعِر في درعا وبصر الحرير وأقضية جبل حوران يتوزعون في قسمين رئيسين وفقًا للتقسيم الإداري العُثماني المُتّبع آنذاك: 1ـ عرب البادية، 2ـ رُعاة أبقار وماعز الحوارنة والدروز[11].

في معرض حديث الحوراني عن رعاة البدو لأبقار وماعز الدروز نقرأ بين سطوره نمط تلك العلاقة التي ربما تأخذ طابعًا شبه ثابت حتى الماضي القريب والتي تُراوح بين التعايش والتوتر، التواطؤ ضد المستعمر الخارجيّ في زمن الحرب واحتكاكات قليلة تقع أحيانًا في ما بينهم في زمن السلم، وبخاصة على قضايا الأرض والنفوذ والأرزاق. في هذه الكلمات التي تعكس ولاءه وتمثيله للسُلطة العثمانية التي يعمل فيها ويُمثِّلُها ويتبنى سُلطتها، يصف الحوراني عرب الصفا الذين ينتمون إلى عشيرتين رئيستين، وهما عرب الغياث والعمور، بقوله: “هؤلاء ليس لهم قوة ولا حياة إلا بأشقياء الدروز فـإذا تراجع الدروز عن بغيهم يخضعون من تلقاء أنفسهم للقانون”[12].

يُعلِّق الدكتور فندي أبو فخر على وصف الحوراني للدروز بالأشقياء بقوله: “تستخدم السلطات الحاكمة [السُّلطات العثمانية هنا] ومفكروها ومؤرخوها تعابير أشقياء، عصاة، الصعاليك، الزعر في وصف من يتحداها أو يثور على تلك السلطات أو من لا يخضع لهيمنتها ولعل الحوراني هنا لا يخرج عن هذا السياق الفكري إلا قليلًا فيكرر مثل هذه التعبير”[13]. لا شك أن الدروز قد يجدون في عقيدتهم[14] ما يساعدهم على تجنب الاصطدام المباشر مع السُّلطات السياسيّة الحاكمة أو الدينيّة المُهيمنة، ما يضمن لهم وبوعي براغماتي عدم تعريض هويتهم كأقلية صغيرة لخطر التفكك أو الاندثار، لكن هذا المبدأ “السلميّ” أو الحياديّ السلبيّ في مواجهة القوّة السياسيّة الحاكمة قد تم اختراقه دائمًا من الدروز أنفسهم رفضًا للضيم وللمس بكرامتهم المُستنفرة والتي يكفيها عود ثقاب لتشعل الحرائق. أما كيف يمكن للعقيدة السلبية المُثبّطة للهمم باسم العقل والتعقل أن تكون على هذه الدرجة من الثورية؟ فهذا ما يحصل غالبًا من خارج إطار الهيئة الدينيّة بل ورغمًا عنها في أغلب الأحيان، كما حصل في الثورة ضد الاحتلال العُثماني ثم ضد الاحتلال الفرنسيّ أو التمرُّد ضد دكتاتورية أديب الشيشكليّ الذي انتهك حرُمات سكان الجبل.

سأحاول في هذه العُجالة استعراض أهم الحوادث والوقائع الاحتكاكات والمناوشات والاعتداءات أو حالات الدفاع عن النفس التي وقعت في تاريخ دروز حوران حتى نهاية المرحلة العثمانيّة، معتمدًا على مرجع تاريخي مهم كُتب عام 1925، وهو كتيّب صغير بعنوان ثورة الدروز وحوادث سوريا الذي نقرأ فيه تاريخ صراع الدروز حديثيّ العهد مع بدو المنطقة وتأسيس زعامة الدروز في قصر يقوم في قرية نجران كان معروفًا باسم “مقري الوحش” على يد الأمير اللبناني الدرزيّ علم الدين والذي لما “عرف به العربان [البدو] تجمعوا عليه وهاجموه في قصره ولكن هذا الأمير كان مستعدًا لكل طارئ يحدث له فتمكن من التخلص من شرهم. وتغلب عليهم ومن ذاك ابتدأت قوة الدروز شيئًا فشيئًا وصاروا يزحفون على العربان ويستردون أراضيهم الخصبة منهم”[15].

بعد فترة قصيرة من حادثة هجوم البدو يولّي الأمير علم الدين وكيله الحمدان على تلك البقعة الصغيرة من الأرض التي كانت مؤلفة من خمس قرى فقط قبل أن يقفل راجعًا إلى لُبنان. في عهد الحمدان ستتجلى الإقطاعية والظلم الاجتماعي بأبشع صوره وسيعمد الحمدان إلى ثلاثة أمور لتوطيد حكمه وإقامة قبيلة درزية في حوران. “الأمر الأول ـ إباحة أموال الجوار وأرزاقهم للدروز سواء كانوا من العربان أم من سكان حوران. الأمر الثاني ـ تأمين معيشتهم وإعطاؤهم أراضٍ واسعة للزراعة مع تقديم بيوت سكان تلك البلاد لهم . الأمر الثالث – إيجاد زعامة روحية لها أكبر تأثيرٍ في نفوس الدروز واحترامها”[16].

ثم يستعرض لنا الكُتيّب أهم “حروب الدروز ووقائعهم في فترة زعامة آل حمدان للجبل على النحو التالي:

“في سنة 1808 ميلاديّة اشتبكوا في حرب مع الوهابيين فكانت حربًا هائلة انتهت بانتصار الدروز، وفي سنة 1829 دخل إبراهيم باشا المصري ظافرًا إلى سوريا ـ وفي سنة 1835 اشتبكوا في حرب مع جيش إبراهيم باشا ـ وفي سنة 1840 اشتبكوا في حرب أيضًا مع عشيرة ابن سمير ـ وفي سنة 1851 اشتبكوا في حرب مع الجيش العثماني في إزرع وتسمى موقعة (ساري عسكر). سنة 1857 اشتبكوا في حرب مع الحوارنة، وفي سنة 1860 ميلاديّة اشتبك بعض سكان الجبل في حوادث متفرقة في جبل لبنان ـ وفي سنة 1861 قامت حوران على الجبل والجبل على حوران. وكانت جبهة الحرب- بصري الحريري وسبب هذه الحرب عرس فنيدي المشهور[17]. وهذه آخر حروب جرت في عهد بني الحمدان”[18].

استطاع آل الأطرش ما بين 1853 و1857 انتزاع زعامة دروز الجبل من يد آل حمدان الذين اشتهروا بظلمهم للفلاحين، ولكن آل الأطرش لم يكونوا بأفضل من آل حمدان في تعاملهم وطمعهم وتسخيرهم للعامة وسلب مقدراتهم، ما أدى إلى تململ فلاحيّ الجبل من الدروز وتوحيد صفوفهم والتمرُّد على آل الأطرش فيما سيُعرف بانتفاضة العاميّة على الطرشان. لعل هذا الحدث الذي لا يتم التطرق إليه كثيرًا ولا يكاد يُذكّر به (كما لو كان هناك إرادة في نسيانه)[19] هو، وبكل معنى الكلمة، ثورة من ثورات المُستضعَفين المُهمّشين ضد سُلطة السيّد المُستغِل والإقطاعيّ الظالم. في ثورة العامية ضد إقطاعيي آل الأطرش يتواجه الدروز في ما بينهم، ثم يشتبكون في معارك حامية مع العثمانيين الذين لم يتحملوا قيام ثورة شعبية يمكن لها أن تمتد إلى بقية المناطق، فقادوا حملة لإخضاع الجبل وإعادة سيطرة ممثليهم من آل الأطرش ولكنهم اضطروا نتيجة صمود الفلاحين إلى التفاوض معهم، وقد قبل مشايخ آل الأطرش تقديم تنازلات مهمة حققتها الانتفاضة الشعبيّة الفلاحية. سيتم التصالح الدرزي الدرزي بعد انخراط شبلي الأطرش في صفوف الناس البسطاء وانحيازه إليهم، والذي سيقوم كذلك بإصلاح ذات البين بين الدروز والحوارنة بعد حرب الحراك. ولكن السُّلطات العثمانية ستقوم بنفي زعماء الجبل ومن بينهم شبلي الأطرش، وليشتبكوا بعدها مع الدروز في ستة مواقع مهمة بين عامي 1894 و1895 ثم لينتصر الدروز عام 1896 على الدولة العثمانية في معركة عرمان. لتستقر بعدها الأمور نسبيًا حتى عام 1890 حيث ستنشب ثورة جديدة ضد السُلطات العثمانية بحيث ستضطر هذه الأخيرة إلى الاستجابة لمطالب ثوار الجبل في إعادة زعمائه المنفيين. في عام 1904 يتوفى شبلي الأطرش ويتولى الزعامة بدلًا منه شقيقه يحيى الأطرش، حيث تقع في عهده موقعة بين الدروز وعرب الضمير في عام 1906 ثم محاصرة قلعة بصرى “اسكي شام” عام 1909، والتي يقوم في إثرها سامي باشا الفاروقي بالقبض على معظم زعماء الجبل ويحكم على كثيرين منهم بالإعدام، وكان من بين المعدومين ذوقان الأطرش والد سلطان قائد الثورة السورية ضد الاستعمار الفرنسيّ.

ستقع الحرب العالمية الأولى بعد ذلك عام 1914، وسيُطالعنا الكتاب بشاهدٍ يؤكد أنه، على الرغم من انعزالهم وانغلاقهم على هويتهم الطائفيّة، فإن دروز حوران بالعموم يعتبرون أنفسهم جزءًا من فسيفساء بلاد الشام، ويتحدون مع غيرهم من الطوائف في مواجهة الاستعمارات الخارجية كما حصل إبان الاحتلالين العثمانيّ والفرنسيّ. نقرأ في كتيب ثورة الدروز وحوادث سوريا ما يلي: “ولما اشتدت أزمة الحرب العالمية الكبرى [الأولى] وأرهق أبناء سوريا ولبنان وفلسطين عسفًا وخسفًا وجورًا وبلغت المجاعة أقصاها من كثيرين ـ فتحت حوران عامة ـ وجبل الدروز خاصة أبواب منازلها للاجئين من الطوائف كافة فمرّت سنوات الحرب والجبل قائم بالوجب الإنساني ولم يكتفوا بهذا العمل الإنسانيّ العظيم بل أقفلوا أبواب أهراء الحفظة في وجه جمال باشا والدولة العثمانية ورصدوا كل ما تضمّه من الحبوب وهو الكثير للاجئين وطلاب ابتياعه من أبناء سوريا. ولولا وجود المخزون منه في أهرائهم [مخازنهم] لفعلت المجاعة سنة 1916 في دمشق فعلها في البلاد الأُخرى. والجبل في أثناء الحرب العامة انقسم إلى قسمين، قسم بجانب الدولة العلية بزعامة الأمير سليم الأطرش، وقسم بجانب الحلفاء بزعامة سلطان باشا الاطرش. والقسم الأخير هو من رفع علم الثورة في بادية الشام ودخل دمشق فاتحًا عام 1918”[20].

حوران في ظل الاحتلال العثماني

2- دروز حوران تحت الانتداب الفرنسي وثورة الجبل

لقد وقفتُ مطوّلًا عند أوضاع دروز حوران في ظل الاحتلال العثماني، لأنهم تأسَّسوا فيه وكونوا وجودهم وحدودهم، وتحددت فيه بشكلٍ شبه ثابت علاقاتهم مع الجوار، وظهرت فيه وطنيتهم واستبسالهم ضد المستعمر، ولكن أيضًا انغلاقهم على هويتهم وكرامتهم السريعة الاستثارة. لعل هذه السمّات سوف تستمر على ما هي عليه إلى حدٍّ ما بعد ذلك، وستحدد طبيعة ردّات فعلهم وعلاقاتهم في السِّلم والحرب، مع الأخذ في الحسبان التغيرات التي تحصل مع الزمن في بنيتهم الديموغرافية ومحاولة تأقلمهم مع ظروف الحياة الجديدة. لن يتغير الوضع كثيرًا عند الدروز بعد الاستقلال القصير ثم خضوع سوريا الكبرى للتقسيم على أثر اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 ما أدى إلى تجزئة حوران ما بين فرنسا التي احتلت منطقة سهل حوران وجبله، بينما وضعت بريطانيا يدها على امتداد حوران في ما يعرف اليوم بمملكة الأردن الهاشميّة. ونحن هنا أمام حلقة جديدة من مسلسل صراع التاريخ مع الجغرافيا.

نقرأ في كتيب ثورة الدروز وحوادث سوريا أن “جبل الدروز عبارة عن قطعة جرداء تحيط بها سهول خصبة واسعة ذات أشجار وجداول وأنهار- ويطلق عليه جبل حوران. […] يبلغ عدد جميع قرى الدويلة (128 قرية) عاصمتها السويداء […] ومجموع عدد سكان الدويلة 52064، منهم (44344 من الدروز) و(4654 من المسيحيين) و(725 من المسلمين)”[21]. في حين يذكر مرجع آخر كُتب في الفترة نفسها، وهو كتاب حوران الداميّة الصادر عام 1926 للرّحالة حنّا أبي راشد الذي قام بما يُشبه بمهمة “عالِم الأنثروبولوجيا”[22]، وذلك بكتابته عن مجتمع الدروز الذين عاش بينهم واختلط معهم أن عدد سكان حوران في تلك الفترة هو بشكل تقريبي (وذلك لغياب الإحصائيات والبيانات الدقيقة): “لا يضُم أكثر من نحو 34 ألف نسمة. منهم نحو 29000 مسلمون. ونحو 5000 مسيحيون. ويبلغ عدد الغرباء ـ قبل الثورة ـ نحو 3000، وهذا التعداد مأخوذ من مشايخ ومخاتير حوران…”[23].

الاستعمار هو الاستعمار لكن سياساته قد تختلف بحسب مصالح البلد المُستعمِر واستراتيجيته في السيطرة. احتل العثمانيون مناطق المشرق العربي بحجة أنهم ليسوا استعمارًا وإنما هم يقيمون الأمة الإسلامية، فاكتفوا بالتقسيم الإداري للمناطق، وراعوا مسألة وجود الأقليات الإثنية والمذهبية إلى حدِّ ما، بينما سيجد الاستعمار الفرنسي ـ الذي لم يدخل كالاستعمار العثماني باسم الدين المُشترك وإنما بحجة تمدين العالم المُتخلف ـ أن مصلحته في السيطرة تقوم على التفرقة والتجزئة وتشجيع وتغذية النزعات الكامنة عند الأقليات في التمرُّد والانفصال عن الكُل الذي كان مُسيطرًا ومهيمنًا لفترة طويلة. ولكي ينجح مخطط التقسيم في سوريا كان يكفي الفرنسيين إذًا فصل الانتماءات الصغيرة الضيقة المتمركزة في مناطق مُحددة بوصفها دويلات أي كيانات سياسيّة مُستقلة متمايزة عن هذا الكل، فصارت ما يُعرف بسوريا اليوم أربع دويلات تقوم أصلًا على أساس طائفيّ دينيّ وهي دمشق وحلب واللاذقية وجبل العرب.

هكذا إذًا صار لواء حوران الذي كان تابعًا لولاية دمشق في عهد الأتراك مُقسّمًا من جديد بعد أن انتُزع منه ما كان يُعرف بقضاء جبل الدروز في ظل الاستعمار العثماني، فتحول إلى دويلة جبل العرب في ظل الانتداب الفرنسيّ.

ستبدأ الثورة السوريّة الكُبرى ضد الاحتلال الفرنسيّ عندما تقوم السُّلطات الفرنسيّة باعتقال أدهم باشا خنجر أحد أهم مقاومي الاحتلال الفرنسي في لبنان بعد أن لجأ هذا الأخير إلى بيت سلطان الأطرش مستجيرًا من انتقام السلطات الفرنسية في عقب محاولته اغتيال الجنرال غورو. لم يكن سلطان الأطرش حينها في داره وإنما في رحلة صيد حين ستعتقل السلطات الفرنسيّة خنجر من بيت الأطرش في 7 تموز/ يوليو 1922. سيعود الأطرش إلى بيته، وسيكتشف أن الفرنسيين اقتحموا داره وأخذوا ضيفه وفي هذا كل المذلّة للكرامة عند الدروز. ويبدو أن أدهم خنجر قد عرف عند من يستجير من الجبل، فسلطان هو من الأشخاص الثوريين الذين اشتركوا في الثورة العربية ضد العثمانيين، وكان من طلائع من حرروا دمشق كما أنه ابن ذوقان الأطرش الذي أعدمه الاحتلال العثماني. ما كان لُسلطان أن يسكتَ عن الأمر، ولكنه كان يعرف تمامًا أنه في مواجهة ترسانة عسكرية لا حول له ولا قوّة عليها، فبدأ بالسياسة أولًا، إذ كتب إلى الفرنسيين مطالبًا إياهم بإعادة خنجر سالمًا، وبأنه لن يسمح بأن تُهان كرامته وإلا فإن موته وإهانة ضيفه يستويان عنده. ولكن الفرنسيين أعدموا خنجر، وهنا كان حطب كرامة الدروز قد اشتعل. يحرق الأطرش بيته الذي اعُتقل فيه خنجر، ثم ينادي الدروز إلى قتال الفرنسيين، وهكذا ستقوم الثورة السورية الكبرى من السويداء على الرغم من اعتراض المعترضين من الدروز، بل ووقوف بعض رموز رجال الدين الدرزي حينها إلى جانب الاحتلال الفرنسيّ ضد الثوار الدروز، أبنائهم وأبناء طائفتهم.

لن نتوقف كثيرًا عند تفاصيل الحرب التي أبرز فيها الدروز شجاعة مُذهلة وحققوا انتصارات متتالية، على الرغم من قلة عددهم وتواضع تسلُّحهم قياسًا بترسانة الحرب الفرنسية المنظّمة، فكل هذا خارج موضوعنا، ولكن المهم فيها أن الفصيل الثائر من الدروز بقيادة سلطان الأطرش قد استطاع أن يفرض نفسه ويثبت وطنيته ويحدث اختراقًا في الانغلاق الدرزي على الهوية الطائفية، فهو سيؤكد إمكانية انفتاح الدروز على الآخر والعيش معه تحت سقف وطني جامع يقوم على المساواة. في الثورة السورية الكبرى ضد الانتداب الفرنسي تتوحد فصائل النزاع في مواجهة العدو، وقد تعاون دروز الجبل مع البدو وأهل حوران ضد المُستعمر، إذ تذكر لنا مراجع التاريخ حينذاك أنه، وفي “يومي 27 و28 آب/ أغسطس 1925، حصل هجوم قام به الدروز والبدو معًا على ضواحي دمشق، فأرسلت السلطات الفرنساوية طيارات عديدة لتمطر المهاجمين بصورة مريعة”[24].

في عام 1921 سيرفض سُلطان الأطرش – الذي منحه فيصل الأول لقب باشا لشجاعته عام 1918 – اقتراح الفرنسيين بتعيينه حاكمًا على جبل العرب، وذلك بفصله كدويلة مُستقلة، معارضًا بذلك الفرنسيين وبعض الدروز الذين كانت لديهم رغبة في الانفصال. دشّن سلطان الأطرش حقبة جديدة في انفتاح الدروز على غيرهم، فهو من جعل شعار الثورة السورية ضد المستعمر الفرنسيّ “الدين لله والوطن للجميع”، أي أن كل طائفة بل وكل شخص حرٌ في دينه بينما الوطن هو مسؤولية جميع أبنائه، مستعيدًا بذلك الشعار الذي رفعه الزعيم المصري سعد زغلول إبان ثورة 1919 ليوحد المصريين جميعًا، ويرأب الصدع بين الأقباط والمسلمين السُّنة. لم يكتف سلطان برفض المنصب ورفض استقلال الجبل في دولة درزية بل اقترح تسليم قيادة الثورة السورية لشخص سُني من الأكثرية لتمثيل السوريين.

في كتابه أضواء على الثورة السورية الكبرى، يذكُر عطا الله الزاقوت هذه الحادثة كما يلي: “لم يفاجأ سلطان بقرار المجاهدين بانتخابه قائدًا للثورة لكنه طلب إلى السياسيين القادمين من دمشق أن يولوا أحدهم لهذه المهمة لاعتبارات كثيرة أهمها أن تعيين قائد مسلم سني ومن عاصمة البلاد سيكون أكثر تأثيرًا في نفوس الجماهير، وأفضى بذلك إلى سياسيي دمشق الحاضرين معه في المؤتمر الحاشد في قرية ريمة اللحف في جبل العرب”. ثُم يذكر لنا المؤلف الموقف اللاطائفي أيضًا للدكتور عبد الرحمن الشهبندر الذي وقف “ليقول تعليقًا على ملاحظة سلطان باشا إن قيادة الثورة تحتاج إلى قلعة تحميها ومن أجدر من بني معروف ليكون قلعة الثورة؟ ومن أجدر من سلطان لأن يقود الثورة؟ وتقدم من سلطان يصافحه ويعلن بأعلى صوته أن سوريا العربية بأسرها تبايعك قائدًا لجيوشها”[25].

في 23 آب/ أغسطس 1925 سيصدر سلطان الأطرش بيانه الشهير “إلى السِّلاح” داعيًا فيه إلى توحيد سوريا وتحريرها من الانتداب الفرنسي وإقامة الدولة العربيّة. لم تكن الوطنية حصرًا على سُلطان الأطرش، فهناك كثير من الشخصيات الوطنية السوريّة، على اختلاف انتماءاتها، رفضت تقسيم سوريا وأصرت على وحدتها الوطنيّة منتصرة بذلك للجغرافيا في معركتها مع التاريخ. كان هذا هو حال صالح العليّ في جبال العلويين أيضًا وإبراهيم هنانو ويوسف العظمة… إلخ.

كانت الثورة السوريّة حدثًّا نقل الدروز من حيز الطائفة الجبلية المُنعزلة إلى واجهة المسرح الوطنيّ السوريّ، وكسر بشكلٍ ما، وإلى حدِّ كبير، نزوع الدروز نحو السلبيّة والانغلاق، وما كان ذلك ليحدث لو لم يكن جيل سلطان الأطرش جيلًا متمرِّدًا ومُجدّدًا.

قبل أن أخرُج من هذا الموضوع عليّ أن أُشير إلى نقطة أُخرى ميّزت سُلطان الأطرش وانفتاحه على الآخر وتمرده حتى على أكثر القوانين الاجتماعيّة والدينيّة صرامة عند الدروز. فمن المعروف أن الدروز قد أغلقوا في زمنٍ ما باب الدعوة واكتفوا بمن آمن بها فلا يمكن بعدها لأي شخص أن يدخل في “الدين” الدرزيّ بأي حال من الأحوال ما لم يكن درزيّ الوالدين. قلة أفراد الجماعة آنذاك والخوف من ذوبانها في الأكثرية المهيمنة عدديًا وسلطويًا وكشف أسرارها المعادية افترضت اجتهادًا دينيًّا يتعلق بشؤون الزواج، إذ يُحرّم على الدرزيّ أو الدرزيّة الزواج من خارج الطائفة. والحق يُقال يمكن اعتبار الطائفة الدرزية من أكثر الطوائف الدينيّة انغلاقًا في هذا المجال، والضريبة التي يدفعها أبناؤها ممن يتزوجون من خارج الطائفة تكون باهظة جدًّا، وبخاصة لمن ولدت “درزية”، إذ يمكن لأهلها قتلها للتخلص من عارها، وما زال هذا الأمر يحصل للأسف حتى يومنا هذا على الرغم من نشوء أجيال متعلمة ومستنيرة ومنفتحة على الآخر، وقد تكون ضريبة الذكر من الدروز أسهل من ضريبة الأُنثى، فهو لا يُقتل غالبًا، ولكنه قد يُقاطع اجتماعيًا، وسيورث عاقبة ما فعل لأبنائه، إذ سيصعب عليهم إيجاد زوج أو زوجة من طائفة الدروز في ما بعد. هذا الخط الأحمر استطاع شخص كسلطان الأطرش اختراقه مرتين على الأقل، وكان على الدروز أن يقتدوا به في هذا المجال بدل أن يتعصبوا في هذا الموضوع. لا شك أن الزواج المختلط يصطدم بجدران الطائفيّة الموجودة عند الجميع في سوريا من سُنّة وشيعة وعلويين وإسماعيليين ومسيحيين ودروز، وسيواجه سلطان الأطرش قرار ابنه منصور الزواج من فتاة مسيحية من آل الشويري. يذكر منصور الابن في مذكراته اعتراض أبيه على هذا الزواج، وكذلك اعتراض والد هند شويري التي ستصبح زوجته، لكن سُلطان سيقبل بعد ذلك بهذا الزواج المُحرّم غالبًا عند الدروز فما بالنا بابن رمزهم سُلطان الأطرش. الحادثة الثانية التي يكسر بها سُلطان الأطرش هذا القالب المُغلق عند الدروز يتمثّل بما أعلنته الكاتبة والأديبة الفلسطينية الأميركية التي رحلت مؤخرًا عن عالمنا، سلمى الخضراء الجيوسي من حادثة زواج أبوها الفلسطينيّ السُّني من أمها الدرزية اللبنانيّة. تروي الجيوسي في مقابلتها مع قناة الجزيرة في برنامج “رائدات” أنه لولا توسط سلطان باشا الأطرش عند أخ الفتاة الدرزي لتقبل بالزواج من ذلك الضابط السُني لما كان الزواج قد تم.

3- حوران في ظل الاحتلال العثماني

2- دروز حوران تحت الانتداب الفرنسي وثورة الجبل

الجبل بعد الاستقلال: الدروز ونظام الأسد البعثيّ

بعد استقلال سوريا عن الاحتلال الفرنسيّ سيعود سلطان الأطرش ومن معه من منفاهم في الأردن إلى سوريا حيث سيتوقف زمن الثورات الدرزية طويلًا بعدها، فالمبتغى قد تحقق آنذاك وهو توحيد وتحرير سوريا. بعد رجوعه سيعتزل سلطان الأطرش السياسة بشكلٍ ما، وسيرفض كل المناصب السياسيّة التي عُرضت عليه، وسيبقى رمزًا وطنيًا للثورة حتى وفاته عام 1982. ولكن قبل وفاة سلطان الأطرش كان لتاريخ الجبل تفاصيل ذات دلالة مع حكم حافظ الأسد. لكن قبل ذلك، وفي نهاية الأربعينيات، وخلال الخمسينيات من القرن العشرين، شهدت سوريا جملة انقلابات عسكريّة، وتعرضت السويداء بشكل خاص إلى تنكيل واضطهاد في فترة حكم أديب الشيشكلي[26] الذي استخدم الطائرات الحربيّة لقصف مدينة السويداء، وأرسل الجيش للتنكيل بأهلها، ما أدى إلى حالة نزوح جماعية للنساء والأطفال، بينما قاوم رجال السويداء وحاصروا الجيش وأسروا جنوده ثم أطلقوا سراحهم. لم يكن تنكيل الشيشكلي بأهل السويداء يقوم على أساس طائفيّ وإنما كان جزءًا من حربه على أعدائه الذين وصفهم بعبارته الشهيرة: “أعدائي كالأفعى رأسها في الجبل [أي السويداء] وبطنها في حمص وتمتد إلى حلب”.

بعد تلك المرحلة سيقوم مجوعة من الضباط البعثيين في الثامن من آذار/ مارس من عام 1963 بانقلاب جديد تشهده سوريا المضطربة آنذاك. كان من بينه أولئك الضباط صلاح جديد وحافظ الأسد، ولكن كان من بينهم أيضًا ضابط برتبة رائد من السويداء اسمه سليم حاطوم. كانت التشكيلة تتكون من ضباط ينحدر جميعهم تقريبًا من الأقليّات الطائفية، إذ كان معظمهم من العلويين، لكن كان معهم أيضًا عبد الكريم الجنديّ الاسماعيليّ، بينما كان حاطوم ممثلًا عن الدروز. بعد الانقلاب سيشعر حاطوم بالتهميش، وبخاصة من جانب صلاح جديد وحافظ الأسد، وبأنه لم يحصل على المكانة التي يستحقها، فقام بالاتفاق مع ضابط درزي آخر من السويداء هو اللواء فهد الشاعر على الانقلاب على زملائه الضباط. بعد عدّة ترتيبات متعثّرة تُكشف تحركاتهما، فيعمل جديد والأسد على “تطهير” الجيش من الضباط الدروز ما سيثير نقمة وغضب حاضنتهم في السويداء. ولتهدئة الأمور، يتوجه صلاح جديد ورئيس الدولة حينها الأتاسي إلى السويداء، وبينما هم مجتمعون في فرع الحزب في السويداء يدخل عليهم سليم حاطوم برشاشه مُهدّدًا بقتلهم ومعلنًا انقلابه عليهم. الذي حسم الموقف حينها كان حافظ الأسد، وزير الدفاع حينها، والذي أرسل طائرات حربيّة للتدخل، وكان يُمكن لها أن تقصف السويداء، ما اضطُر حاطوم إلى الهرب إلى الأردن. وللإيقاع به يُصدر أصدقاؤه القدامى من انقلابيّ البعث خبرًا بالعفو عنه بحجة حاجتهم إليه للقتال في حرب 1967، وما أن يجتاز الحدود الأردنية عائدًا إلى سوريا حتى يُلقى القبض عليه ويُقتاد إلى المحكمة العسكرية – التي سيصلها شبه ميت نتيجة التعذيب – حيث يصدر فيه حكم بالإعدام.

بعد التخلُّص من حاطوم، سيتخلّص حافظ الأسد من زملائه واحدًا واحدًا تقريبًا، وحين ينجح بالانقلاب على صلاح جديد في ما سيسميه بالحركة التصحيحية، سيحاول تهدئة خواطر الدروز الذين أعدم ممثلهم البعثيّ باستقبال أرملة حاطوم ومنحها معاشًا شهريًا.

إذا كان هناك عنوان رئيس لفترة حكم حافظ الأسد بعلاقته مع الدروز فسيكون: التهميش. كان وجود سلطان الأطرش في السويداء شبحًا يؤرق حافظ الأسد، وكانت استخباراته تؤكد له أن زعيم الدروز لا يكن له التقدير والإعجاب، ولهذا لم يقم الأسد الأب بزيارة السويداء كرئيس إلا مرتين: كانت الأولى في أول فترة لاستلامه الحكم حيث سيطوف سوريا منتصرًا، والثانيّة عندما تأكد أن سلطان الأطرش قد مات فجاء ثانية لا ليعزيّ بقائد الثورة السورية الكبرى بقدر ما جاء ليُعبر عن فرحه برحيل رمزٍ سوريّ مثّل له كابوسًا، فالأسد لا يريد لسوريا رمزًا سواه، فهو: الأب القائد، الخالد، الذي لا شريك له. حتى بعد موته قاوم حافظ الأسد محاولات دروز السويداء والسوريين من خلفهم إحياء ذكرى وفاة قائد الثورة السورية ضد الانتداب الفرنسيّ، فضيّق دائمًا على احتفالات إحياء ذكراه، وزرع هذه الاحتفالات بقوى الأمن والمخابرات، وعرقل القرار الذي أصدره بنفسه في محاولة لمغازلة أهل الجبل بتشييد نصب لسلطان الأطرش، والذي لم يكن أكثر من إبرة مُخدِّر لأهالي السويداء، فهذا النصب لم يرَ النور طوال حُكم حافظ الأسد. في عام 1986 ستتحول ذكرى وفاة سلطان الأطرش إلى تظاهرة طلابية احتجاجية لن تلبث أن تنتشر في معظم أرجاء السويداء للمطالبة بتحسين شروط الحياة والأوضاع الاقتصادية لأبناء المحافظة، ولكن الأسد الأب سيواجهها أمنيًا بهدوء وصبر عبر الاستدعاءات الأمنية الفردية والمتقطعة بما يرافق ذلك من جلسات تحقيق راعبة.

لم تشهد السويداء في عهد حافظ الأسد أي تنميّة تُذكر، فعاشت محافظة معزولة وفقيرة وازدادت الهجرة بين أبنائها، بينما سيطرت عليها القبضة الأمنية مثلها مثل باقي المحافظات، فتمت عسكرتها عبر المدارس والطلائع والشبيبة والفرق الحزبية البعثية والأمن، وقد تطوع عديد من أبناء السويداء الفقراء في الفروع الأمنية والشّرطة لإيجاد وظائف تقيهم شر العوز وتهديد سنوات المحل. وقد خصَّص الأسد الأب للسويداء بشكل شبه ثابت مقعدين وزاريين بلا حقيبة. كان خبث حافظ الأسد كافيًا لضبط السويداء، وكان يعرف جيّدًا طبيعتهم الانعزالية وسرعة ثورتهم، وكأن لسان حاله يقول لهم: تريدون العزلة حسنًا هي لكم. وقد نجح في التحكم فيهم أيضًا من الخارج عبر الزعماء السياسيين الدروز في لبنان، فهو بعد أن تخلّص من كمال جنبلاط الرافض لسياسات الأسد قرّب في البداية ابنه وليد جنبلاط ليس من أجل التحكم في دروز سوريا وحسب، وإنما من أجل مصالحه ولعبه على التوازنات الطائفية في لبنان أيضًا. من ضمن ما اعتمده الأسد الأب في سياسته مع الدروز هو تأكيد دعايته لهم بأنه حامي الأقليات، وبأنه إذا رحل سينتقم السُّنة منهم. وقد وظّف حوادث الإخوان المسلمين لتأكيد هذه الدعاية لتصبح كما لو أنها حقيقة من حقائق الطبيعة الثابتة.

 

4- حوران في ظل الاحتلال العثماني

2- دروز حوران تحت الانتداب الفرنسي وثورة الجبل

الجبل بعد الاستقلال: الدروز ونظام الأسد البعثيّ

الدروز في الثورة بين الانخراط فيها والانعزال السلبيّ

سينتهي حكم الأسد الأب بموته عام 2000، وسيرث الدولة ابنه بشار في مسرحية هزلية بقدر ما هي تراجيدية ومأساة، ستدفع سوريا لاحقًا ثمنها دمًا وعذابات جهنمية. بعد أقل من أربعة أشهر على استلام بشار الحكم خلفًا لأبيه ستنشب صدامات دامية بين بدو السويداء ودروزها. لم تكن هذه الحادثة الأولى بين هذين المكونين الاجتماعيين، فتاريخ النزاعات بين البدو ودروز حوران قديم جدًا، ويعود إلى بدايات وصول الدروز إلى الجبل. ولكن في هذه المرّة ستتكرر اعتداءات البدو على أراضي الدروز وكرومهم. تبدأ الأحداث عندما يقوم البدو بوضع حمارٍ نافق في مقبرة درزية تعود لقرية الرحى وبعدها سيُطلق أبناء سعود السعيد (وهو شيخ عشائر البدو في السويداء) النار على شاب من تلك القرية نفسها، ما سيؤجج نار الحميّة عند الدروز، وسيواجهون البدو الذين يسكنون أطراف القرية في اشتباكات مُسلّحة. احتشد الأهالي وتوعدوا وهدّدوا ثم اشتبكوا من جديد مع البدو. اللافت في الموضوع هو غياب رجال الأمن وتأخرهم الكبير في التدخل ما أدى إلى تفاقم الأمور. أثار تأخر السلطات الأمنية في التدخل وتقاعس المسؤولين، ألسنة دروز السويداء فراحوا يفضحون عمليات فساد وتواطؤ كبيرة لمسؤولي المحافظة مع البدو الذين يقدمون رشاوى المال واللحم والسمنة لقائد شرطة المحافظة والمحافظ وضباط الأمن والمخابرات مقابل دعم هؤلاء للبدو وغض النظر عن انتهاكاتهم لأراضي وبساتين الدروز بل ولمدهم بالسلاح. كان تأخر الأجهزة الأمنية وعدم إدراكها لحجم التوتر قد راكم مشاعر الغضب والحقد واستطاع أهالي القرى المجاورة اختراق الحواجز الأمنيّة التي كانت تفصل الرحى عن جيرانها. كان مشهد تأبين الشاب الأعوج مشهدًا لا يُنسى، فقد امتلأ موقف الرحى وغص ثم فاض بالحاضرين وتحول المأتم إلى عرس وأغانٍ حماسية ووطنيّة من تراث صراع الدروز مع الفرنسيين، وصعد بعض شيوخ الدين على الأكتاف، ونزعوا عمائمهم وصاروا يغنون أغاني الحروب، ويتهددون من يدوس على كرامتهم، فكان المشهد قادمًا من عصرٍ مُختلف. كان الموضوع يكبر، إذ قام طلاب المدارس بالتظاهر من أجل زميلهم المقتول بنيران البدو، ثم تكررت عمليات القتل، فوجد أكثر من شخص درزي مقتول في بستانه أو أرضه البعيدة قليلًا عن القرى أو في ظهر الجبل، ما جعل الأمور تتصاعد بينما ظل التدخل الأمني متأخرًا خطوات عن تسارع الأحداث. كان قد فات أوان هذا الكلام، فقام الدروز بإحراق بيوت البدو في مختلف مناطق المحافظة وملاحقتهم إلى الكروم والبساتين حتى أن بعض الشبان المتحمسين المتهورين حاولوا إضرام النار في أحد الجوامع[27] إلا أن الآخرين منعوهم من فعل ذلك ووقفوا حائلًا بينهم وبين الجامع، بينما تمترس كثيرون من البدو في الجوامع القليلة الموجودة على أطراف المحافظة، وراحوا يطلقون النار منها. وهنا لم يتردد الجيش ـ الذي تدخل إلى جانب قوى حفظ النظام التي لم تعد كافية وحدها على ضبط الأحداث ـ في قصف البدو بالأسلحة الخفيفة من على مآذن الجوامع. ورافق ذلك عمليات إطلاق نار واشتباكات، وكانت الأوامر على ما يبدو قد أُعطيت من الأسد نفسه بإطلاق الذخيرة الحيّة على الناس، وقد وقع كثير من القتلى بإصابات مباشرة في الرأس والصدر، رأيتُ بعضهم بما لا يترك مجالًا للشك في أن الأوامر لم تكن للتخويف وتفريق المتظاهرين بل لقتل بعضهم عبرةً للآخرين. لقد تصرف النظام في تلك الأحداث بما يجيده فقط وهو القتل لكل من يُخل بالأمن، فقد اعتبر الأمر عصيانًا مدنيًا. صدرت أوامر مُشدّدة بدفن كُل من قُتل من أبناء الدروز بهدوء ومن دون ضجة ومراسيم ونعوات، فتم تسليم الجُثث بإشراف أمني صارم، وبإشراف السلاح المُشهر على رؤوس عائلات الضحايا التي طُلب منها دفن أبنائهم القتلى في الصباح الباكر كي لا يتحول التشييع إلى تظاهرات جديدة كما سيحدث بعد ذلك بسنوات خلال الثورة السورية ضد حكم الأسد الابن. لقد تم دفن القتلى بصمت كما لو كانوا إرهابيين بأوامر من النظام الذي لم يعتبرهم شهداء وإنما قدّم تعويضًا مضحكًا لذويهم لتهدئتهم وطي هذه الصفحة إلى الأبد. لم تصدر أي إحصائية رسمية عن عدد القتلى من الطرفين[28] وكان هناك تعتيم إعلامي سوريّ اكتفى بالإشارة إلى أن ما حصل كان مجرد حادثة صغيرة مُنعزلة ومؤامرة إسرائيلية بأيدي بعض المتآمرين ضد الرئيس الشاب. بعد الحادثة بشهور قليلة، حيث هدأ التوتر، شهد جبل الدروز، سلسلة اعتقالات لمن شارك في “الأحداث” بتهم عدة منها العصيان المدنيّ وزعزعة استقرار الدولة. في تلك المرحلة تكثّف الوجود الأمنيّ في السويداء، وراحت طائرات الهيلوكوبتر تحلق في سماء المحافظة للبحث عن فلول البدو الفارين كما تقول الإشاعة الرسميّة، ولكن، لتخويف الناس وتهديدهم وإشهار سيف السُّلطة في وجوههم، كما كان الأهالي يقولون سرًا. لم تُلقِ السُّلطات الأمنية القبض على سعود السعيد والبدو الآخرين، وسرت شائعات أن الجهات الأمنية والمخابراتية سهلت خروجهم وهروبهم، ولا يزال مصير سعود السعيد غامضًا حتى اليوم. ولكي يتم تبرير قتل أبناء الجبل على يد القوات النظامية كانت الحجة موجودة: أخطاء من قبل من أعطى الأوامر، وقد توعد الرئيس الشاب بمحاسبة كل من أخطأ، وهذا ما لم يحصل أبدًا، كما لم تتم محاسبة ابن عمته شاليش على ما فعل في درعا في 2011. كانت “الأخطاء الفرديّة” هي الدعاية الرسمية للنظام، ولكن مخابراته كانت تدُس السُم في الدسم، فقد مرّرت إشاعة مفادها إن الضابط الذي أطلق النار هو حمويّ، وهنا تذكير بشبح الإخوان المسلمين، وتذكير بشبح أديب الشيشكلي وبالثأر والثأر المُتبادل. في خضم كل ذلك شعرت الأقليات المسيحيّة والسُّنية من غير البدو الموجودة في السويداء[29] بالقلق، بخاصة أن الهويّة الدرزيّة قد تصلّبت حينها وصار كل ما هو مشكوك في أمره عرضة للخطر على يد بعض المتطرفين، وقد حصلت حوادث مضحكة مبكية لأشخاص دروز لهم ملامح صحراوية تُشبه البدو تعرضوا لضرب ومضايقات كما حصلت بعض الحوادث الجانبية، ولكن غير الخطرة مع أبناء محافظة درعا على الطرق التي تصل بين المحافظتين.

لم تتم مُحاسبة المحافظ وقائد الشُّرطة، ولم يستطع الدروز مقابلة الأسد شخصيًا بل عبر بعض المسؤولين، وكانت “أهمها” زيارة وزير الداخلية إلى السويداء الذي عاد إلى المحافظة بأوامر صارمة بطي هذه الصفحة نهائيًا. كما صدرت أوامر مُرِّرت عبر القيادة الحزبية لحزب البعث في المحافظة بضرورة إعادة البدو إلى بيوتهم وإصلاحها بعد أن حرقها أهل الجبل الغاضبين.

لم يتغير شيء تقريبًا في تعامل السُّلطة مع الدروز في عهد بشار عمّا كانت عليه في عهد أبيه. فقد تعامل مع أحداث البدو بعقلية أبيه البوليسية الأمنيّة وشوهها إعلاميًا قبل دفنها كأنها لم تكن، في حين كانت يمكن أن تكون شرارة تُشعل نار الثورة لو توفرت لها الإمكانيات الإعلاميّة، ولم تُقدّم بوصفها صراعًا طائفيًا وأن الدروز يقتلون البدو لأنهُم سُنّة. هنا لعبٌ خفيٌ على المكونات الطائفية فعلى الجميع أن يخاف الجميع والضامن الوحيد لعدم انفجار الأوضاع هو بقاء النظام وتماسكه. هكذا عمل النظام على لعبة المكونات الطائفية المختلفة. لا شك أنه لم يكن يريد إثارة أي مُشكلة طائفية، بل كل همه الاستقرار القائم على القمع والخوف والصمت وترك الدولة والسلطة والثروة في سوريا له ولبعض المقربين منه.

لكن، وعلى خلاف الأسد الأب، سيزور الأسد الابن السويداء مرات كثيرة، فقد شعر الأسد الابن، بعد تلك الأحداث واستعداد الدروز للثورة عليه، بحاجة إلى توثيق العُرى مع دروز السويداء المُهملين منذ بداية حُكم ابيه. هكذا تواترت زيارات بشار الأسد إلى السويداء منذ عام 2005، أي بعد مقتل رفيق الحريريّ في بيروت. لماذا هذا “الاهتمام” المفاجئ، وما علاقة مقتل رفيق الحريريّ بذلك؟ لأن الأسد ببساطة لم يعد قادرًا على التحكم في دروز لبنان كما في السابق، فالجناح الأساسيّ لدروز لبنان ممثلًا بوليد جنبلاط كان قد بدأ يتمرُّد على حكم بشار الأسد الذي كان مسؤولًا عن الملف اللبناني قبل أن يتولى الرئاسة في سوريا. باغتيال الحريري سيجد وليد جنبلاط الفرصة سانحة للانتقام من نظام الأسد المُتهم بقتل والده والتخلص من الوصاية السورية الأمنية والعسكرية المفروضة على لبنان. كان الأسد حينها يريد أن يُضعف موقف جنبلاط عبر تقوية الفصيل الدرزيّ اللبناني الآخر مُمثّلًا بوئام وهاب الموالي للنظام السوريّ، وربط دروز سوريا بوهاب على حساب جنبلاط الذي لقي الإدانة من شيوخ المذهب الدرزيّ في السويداء المُمالئين للسُلطة آنذاك. قام الأسد الابن إذًا بعدة زيارات صغيرة وسريعة إلى السويداء محاولًا تقديم نفسه بالرئيس المتواضع والمنفتح، بخاصة أن الأسد الأب لم يزر السويداء رئيسًا إلا ليحتفل برحيل سُلطان الأطرش، وقد تفاءل أهالي السويداء عمومًا، كما تفاءل معظم السوريين، بالرئيس الشاب وبرغبته في تغيير سوريا من مملكة الصمت إلى بلد أقل سجونًا وأقل فقرًا وفسادًا. كان أهالي السويداء في حاجة إلى أمل بتحسين ظروف حياتهم التي أنهكتها سنوات المحل وعقود التهميش وقلة موارد المحافظة التي دفعت معظم شبابها إلى الهجرة والاغتراب. لكن الأمل سيكون مجرد أَضغاث أحلام، بل وسينقلب إلى أسوأ كابوس ستعيشه سوريا منذ قرون.

مع انطلاق الربيع العربي في تونس وامتداده إلى مصر كان الأسد الابن مع حرس أبيه القديم ـ الذي ارتكب مجازر حماة والذي استدعاه تأهبًا لقمع الثورة السورية ـ وكذلك مع حرسه الجديد (أبناء الحرس القديم)، يعدُّون العُدة لمواجهة تسونامي الثورات العربيّة، إذ كانوا يعرفون جيدًا أنه سيضرب سوريا لا محالة على الرغم من تصريحات الأسد الإعلاميّة بأن البلد بخير وهي بعيدة عن الاضطرابات. في 14 آذار/ مارس 2011 أي قبل يوم واحد فقط من بدء الاحتجاجات في الشارع السوريّ معلنةً بدء الثورة السوريّة، يقوم بشار الأسد مع زوجته بزيارة مُفاجئة إلى السويداء، ويلتقي مجموعة من الفلاحين ويتعامل ببساطة شديدة مع الناس، وقد وصف إعلام النظام تلك الزيارة بالعفويّة والتي لاقت صدىً شعبيًا مُرحبًا به في السويداء عمومًا. ما كان مجهولًا لأهل السويداء يومها أن أطفال درعا، جارة السويداء، كانوا مسجونين ويعذبون في أقبية مخابرات الأسد، وأن المناوشات والاستعداد للمواجهة بين الأهالي في درعا مع النظام باتت نذرها قريبةً جدًا، وكان لا بُد من كسب أهل السويداء إلى جانب النظام لسببين على الأقل: الأول هو التخوف من ثورة السويداء. فهذا المجتمع القبلي صاحب تاريخ في التمرُّد على السُّلطات، وكان آخرها عام 2000 عندما اصطدموا مع البدو، الذي تحول إلى مجزرة قامت بها قوات الأمن والناس لم تجف دموعها بعد على ضحاياها، وتحسُّبًا لأي رغبة في الانتقام قد تكون موجودة ومحتملة، بخاصة أن طالبين جامعيين من السويداء كانا قد اعُتقلا في دمشق مع انطلاق الربيع العربي لكتابتهما شعارات تحضُ على الثورة. والسبب الثاني الذي كان يريده الأسد – وإن كان مجرّد خطوة احترازية لم يحن أوانها آنذاك –هو تأكيده أنه حامي الأقليات ضد من سيتهمهم لاحقًا بالإرهابيين والمتطرفين السُّنة الذين يريدون القضاء على الأقليات وفرض الدين الإسلاميّ السّني على الجميع كما سيُردّد أعلامه من دون كلل مع استعار نيران الثورة. كان الأسد في حاجة إلى أن يضمن ولاء أو صمت جميع الأقليات على الأقل، بخاصة في السويداء جارة درعا التي بدأت تتحرك.

مع انطلاق الثورة وحصار درعا، سيتوزع موقف دروز السويداء على ثلاث فئات: فئة المتحمسيّن للثورة، ومعظمهم من المثقفين وقسم كبير من الجيل الناشئ من طلبة المدارس الذين يُمثلون كغيرهم جيلًا جديدًا تفتح وعيه على ثورة الاتصالات، فكان أقل أيديولوجية وأصعب أدلجة من الأجيال السابقة، وهو يبحث عن أُفق جديد يخرجه من قوالب الماضي الذي تجمّد. فئة المؤيدين الموالين للنظام بمن فيهم شبيحة السويداء، وهم أولئك المتعصبون لطائفيتهم غالبًا حتى وإن كان بعضهم من حملة الشهادات العُليا والذين يسهل إقناعهم، بل وفي حاجة إلى، أن يصدقوا أن الموضوع مؤامرة ضد المقاومة وأنه ممول من الوهابيين ومن سعد الحريري، وأن من يخرج في الثورة هو خائن أو مُغرّرٌ به في أحسن الأحوال. وهي فئة السلبيين الصامتين الذين أرادوا البقاء بعيدًا عن واجهة العُنف والاقتتال لحماية المحافظة وأبنائها الدروز مما يحصل من تدمير لبقية المدن السورية الثائرة. ينتمي رجال الدين الدرزي عمومًا إلى هذه الفئة التي تفضل النأي بالنفس السلبي والبقاء بعيدًا عن معركة بدت لهم خاسرة وطويلة ولا ناقة لهم فيها ولا جمل. هذا التيار الثالث هو الذي سترجح كفته بقوة منذ البداية وسيطغى لونه على موقف الدروز من الأحداث بسوريا حينذاك.

استطاع النظام إذًا تحييد جبل الدروز عمليًا ،واستطاع الجبل تفادي حرب النظام المفتوحة على الشعب السوري. لكن لعبة التجاوزات تلك، ظلت تتقلقل وتتوتر بين فترة وأخرى، وكان كل طرف يقدم بعض التنازلات المرغم عليها، وكانت المواقع والمواقف تتغير باستمرار. فقد اضطر النظام، ليبقي السويداء بعيدًا عن الانخراط في مواكب النقمة ضد الحُكم في سوريا، إلى وضع بعض ضباطها في مراكز قيادية في مواجهة الشعب الذي وصفته ماكينة النظام الإعلامية المسنودة إيرانيًا بالإرهابي. بتعيينه مثلًا شخصًا مثل عصام زهر الدين، ابن السويداء وحفيد عبد الكريم زهر الدين، وزير الدفاع السابق في قيادة العمليات العسكرية ضد المعارضة المُسلحة، ضرب النظام عدة عصافير بطلقة واحدة. فهو من جهة أولى يرغم أبناء السويداء في أعلى مستوياتهم العسكرية على الانخراط بالدم السوري وبجرائم الحرب التي يديرها الأسدان الأخوان، وهو، من جهة ثانية، يقول لأهالي السويداء: أنتم مقربون من السلطة ونحن وأنتم أبناء عمومة وعدونا واحد، ومن ناحية ثالثة، يجعل الدروز أصحاب ثأر مع المعارضة التي قتلت عصام زهر الدين، كما قتلت كثيرين غيره من أبناء الدروز الذين استطاع النظام اقتيادهم إجبارًا إلى جبهات القتل والاقتتال. في المقابل، وفي خطوة معاكسة، استطاعت مقاومة أهل الجبل، إجبار النظام مُكرهًا على قبول خدمة المطلوبين للجيش من أبناء السويداء في محافظتهم نفسها.

في المقابل، حين ظهرت حركة رجال الكرامة بقيادة الشيخ وحيد البلعوس محققةً شعبية كبيرة في محافظة السويداء بمواجهتها لكل خطط النظام الأمنية وتشكيل نواة شعبية مقاومة لسلطته، قرر الأسد ترتيب عملية اغتيال منظمة وجماعية للبلعوس ورجاله ونجح في ذلك في 4 أيلول/ سبتمبر/2015. في تلك الفترة ظلت مشيخة العقل الدرزية في السويداء أقرب إلى سردية النظام عما يقع من مؤامرة كونية ضد سوريا، أو كانت أقرب إلى الاكتفاء بموقف حيادي. وقد مارست المشيخة هناك الحِرم الديني بحق الشيخ البلعوس بإبعاده دينيًا عام 2015 وهو أكبر حرم ديني عند الدروز وعقوبة اجتماعية هي الأكبر. ومع ذلك، فقد وجدت ظاهرة البلعوس بعدًا اجتماعيًا تجاوز الموقف المساير للسلطة الذي عُرفت به مشيخة العقل الدرزية عبر التاريخ، فكما لم يؤثر قرار “المحكمة المذهبية” الذي وقع عليه شيوخ العقل عام 1922 مدينين موقف سلطان الأطرش من التمرد على الحامية الفرنسية بقيادة “غورو صديق الجبل ومحب الدروز المخلص” بحسب البيان، هكذا كان موقف مشيخة العقل تاريخيًا على العموم ولم يتغير الحال إلا مؤخرًا في التظاهرات السلمية التي تشهدها السويداء منذ 17 آب/ أغسطس والتي وقف فيها الشيخ الهجري علنًا وبوضوح مع مطالب الثائرين، وتبعه على نحو أقل حماسًا ووضوحًا الشيخ الحناوي، في حين لا يزال الشيخ جربوع وفيًا لموقف مشيخة العقل التاريخي الجبان والموالي للسلطة الحاكمة.

في ردّة فعل انتقامية على مطالب أهالي السويداء التي اضطر الأسد إلى القبول بها على مضض، بعد أن وجد أن الاكتفاء باستخدام القوة سيخرج المحافظة من يده، قام الأسد بمجموعة من التدابير الأمنية لمعاقبة المحافظة وضمان عدم توحدها ضده. فقد خلق مجموعة من الميليشيات العسكرية فموّلها وسلّحها وجعلها يده الضاربة في المحافظة ومصدر تكسبه من سكان المحافظة عبر عمليات الخطف وطلب الفدية، و”الخوّة” التي يفرضها على التجار وأتاوات ورشاوي الحواجز الأمنية… إلخ. كما أغرق الأسد السويداء بالمخدرات الرخيصة فتفشت الجريمة وتراجع الأمن وانتشر السلاح وصارت محافظة السويداء في السنوات الخمس الأخيرة على الأقل من أقل المناطق السورية أمنًا، ومن بين الأكثر فقرًا. وكان الأسد يستحضر شبح داعش، ويؤمن وصولها إلى حدود السويداء وقراها الحدودية كلما شعر بتهديد شعبي ضده، وقد هاجمت داعش فعلًا بعض قرى الشمال الشرقي من السويداء في 25 حزيران/ يونيو 2018. وجعل النظام ومعاونوه الأمنيون من داعش فزاعة يرفعونها في وجه دروز السويداء كلما شمّوا رائحة تمرد شعبية في المحافظة، وهذا ما فعلته قناة الميادين مؤخرًا جدًا ببث فيديوهات حصرية عن ذلك الهجوم الإرهابي حين أفلست كل وسائل الأسد في إطفاء جذوة الاحتجاجات في السويداء.

مع استمرار الحصار الاقتصادي المفروض على سوريا، وعدم استجابة الأسد للمطالب العربية حتى تتم مساعدته اقتصاديًا، ومع عدم قدرة حليفه الروسي عن نشله اقتصاديًا بعد دخول قيصر روسيا في حرب مفتوحة ومنهكة اقتصاديًا وعسكريًا في أوكرانيا، ومع تضخم ديون الأسد تجاه إيران التي لم تعد قادرة بسبب الحصار الاقتصادي المفروض عليها كذلك من مساعدته أكثر، وبعد أن رهن الأسد وباع الموانئ والمطار والاستثمار بالنفط والفوسفات وشركات الخليوي… إلخ، راحت سوريا تعيش موتًا اقتصاديًا بطيئًا من دون ارتسام أي حل في الأفق. دفعت الأوضاع الاقتصادية السيئة وغياب الحلول الناسَ التي جاعت في السويداء إلى الخروج إلى الشارع بعد أن طفح بها الكيل. لقد أدركت مع الزمن من هو عدوها الحقيقي، وأدركت أن لا خلاص لسوريا ببقاء الأسد ونظامه، ولهذا تجاوزت مطالب الشعب المطالب المعيشية البسيطة بتأمين الأكل والشرب، وصارت تطالب برحيل الأسد والانتهاء من حكم حزب البعث، وإنهاء الوجود الإيراني الروسي الذي اعتبروه احتلالًا موصوفًا. أثبتت تظاهرات السويداء المستمرة تغيرًا في المواقع والمواقف من جديد، واختلطت الفئات الثلاث التي انقسم إليها أبناء السويداء في بداية 2011 مع بداية الثورة في السورية، فخُلطت أوراقها وأعيد تشكيلها، حيث يمكن لنا اليوم الحديث عن فئتين فقط: الثائرون على نظام الأسد، والموالاة. لم يعد هناك بين بين أو مواقف رمادية، حيادية. لكن موالي الأسد يبدون اليوم قلة، خائفين من الأكثرية الثائرة الرافضة لهم ولنظامهم. صار الموالي يُتهم اليوم من جانب الشارع في السويداء بأنه خائن أو بلا كرامة، ويُقال بضرورة محاسبته على ما ارتكب ضد أبناء مدينته من ترهيب أمني وتشبيح مخابراتي في السابق. هكذا انقلبت الموازين، بقوة لتصبح السويداء الثائرة شبه موحدة في القرار والموقف. بل حتى المواقف الانعزالية السابقة والمنغلقة على الهوية الدرزية الخالصة لا تجد صدى يذكر في الشارع والساحات الثائرة. فمشاريع الانفصال في دويلة درزية موجودة، وتُدار أحيانًا من الخارج، لكن لا صدى حقيقي لها على الأرض. وبالتالي لا خوف من نزوع انفصالي في دويلة درزية، والحديث عن مثل هكذا أسطورة هو بروباغندا تركّز عليها قنوات النظام وفروعه وأزلامه الذين لم يعد لهم وقع أو دور أو تأثير مثل وئام وهاب أو حتى بعض أزلام النظام داخل السويداء مثل حسن الأطرش، الذين لا يجدون أي استجابة اللهم إلا التشهير والتشكيك في وطنيتهم.

كنتُ أتمنى شخصيًا ألا تحضر راية الدروز في التظاهرات، فهي تأكيد على انتماء طائفي لا يعكس حقيقة الحشود المتظاهرة بسلمية وبحضارة في ساحة الكرامة في السويداء، وفي غيرها من المدن، لكنه علمٌ ملوّن يفترض أن تتعارض تعدديته اللونية مع تلك الهوية الدرزية المغلقة بلون واحد التي أرجو أن يثور عليها المتظاهرون هناك في الوقت نفسه الذي يثورون فيه على نظامٍ قمعي طائفي لا يعترف إلا بلون واحد، وحزب واحد، وقائد واحد أحد لا شريك له.

المراجع

خليل رفعت الحوراني، تاريخ حوران ودعوته النهضوية في أرياف بلاد الشام، جمع وتحقيق فندي أبو فخر، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2005.

ثورة الدروز وحوادث سوريا، اسم المؤلف غير معروف، مطبعة التقدم، مصر، القاهرة، 1925.

حنّا أبي راشد، حوران الداميّة، الطبعة الأولى 1926، القاهرة، مكتبة زيدان العمومية.

عطا الله الزاقوت، أضواء على الثورة السورية الكبرى، منشورات دار علاء الدين، ط2، 2008.

Fernand Braudel, La Méditerranée et le monde méditerranéen à l’époque de Philippe II, t. 1, la part du milieu, 2e éd. A. Colin, Paris, 1966.



1-
Fernand Braudel, La Méditerranée et le monde méditerranéen à l’époque de Philippe II, t. 1, la part du milieu, 2e éd. A. Colin, Paris, 1966, p. 30.

2- قام الدكتور فندي أبو فخر بجمع وتحقيق وإعداد مقالات الحوراني المنشورة في مجلة “المُقتبس” في كتاب سمَّاه خليل رفعت الحوراني، تاريخ حوران ودعوته النهضوية في أرياف بلاد الشام، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2005.

3- المرجع نفسه، ص 64.

4- المرجع نفسه.

5- المرجع نفسه، ص 91 ـ 92.

6- كان الحوراني مُتعاطفًا مع توجه الاتحاديين الإصلاحي على الرغم من أنهم قد انقلبوا عليه وسجنوه ونقلوه إلى تركيّا.

7- “خليل رفعت الحوراني، تاريخ حوران ودعوته النهضوية في أرياف بلاد الشام”، المعطيات نفسها، ص 64.

8- قد لا ينطبق هذا الكلام على مسيحييّ لبنان بعد الاستقلال عن العثمانيين ووقوع سوريا ولبنان تحت نير الاستعمار الفرنسي الذي حرص على التجزئة الطائفية والعرقية، مُعليًا من شأن المسيحيين، وجاعلًا من الطائفية مجموعة من الهويات القاتلة والمتحاصصة سياسيًا بشكل يكبِّل أي إمكانية لتكوين ديمقراطية مدنية في ذلك البلد المُقطَّع أوصالًا، والمُهدد على نحوٍ مزمن بحرب طائفية يمكن أن تشتعل من جديد في أي وقت.

9- تاريخ حوران ودعوته النهضوية في أرياف بلاد الشام، المعطيات نفسها، ص 89.

10- “المرجع نفسه، ص. 91.

11- المرجع نفسه، ص 70.

12- المرجع نفسه، ص. 72.

13- المرجع نفسه، ص 72.

14- من الصحيح أن معتقدات الدروز الدينية تقوم على أساسٍ أنطولوجيّ أساسه الثبات والوحدة في ثبات عدد سكان العالم مثلًا، فوفق معتقداتهم هذا العدد ثابت منذ تكونت البشرية، وهو لا يزيد ولا ينقص، وأن عدد من يموت يساوي عدد من يولد، فالأرواح ثابتة لا تنقص ولا تزيد، بل تفنى الأجساد وتنتقل الأرواح. كما وتنص المعتقدات الدرزية على أن أتباع المذهب الدرزي هم الأكثر عددًا عبر الأرض، ولكنهم متخفّون لا يُظهرون انتماءهم المُباشر إلى حين اللحظة الموعودة. كل هذا وارد في كتاباتهم، ولكنه لا ينفي قراءة أعمق تقوم على تفكيك مقولة مراعاة السُّلطة القائمة ومسايرتها الواردة في كُتبهم أيضًا، ما يعكس وعيًّا سياسيًّا براغماتيًّا بحقيقة كونهم أقليّة تتجنب الدخول في حرب مع السُّلطة الحاكمة الأقوى والأكثرية المهيمنة، ما قد يهدد مصير هذه الطائفة الصغيرة وجدوديًّا. لا شك أن هذه العقيدة المُسايرة والمُساندة للسُلطة الحاكمة في العلن والرافضة لها غالبًا في السّر قد تتحولّ إلى نوعٍ من التبرير الشرعي لمساندة من يُحكم وعدم الثورة عليه، بل ولإدانة مثل هكذا محاولات، لكن هذا ينطبق حصرًا على شيوخ الدين المحافظين غالبًا في حين أن معظم ثوار الدروز على السلطات الحاكمة هم شيوخ دين وإن لم يكونوا بالضرورة من شيوخ العقل الذين يرتبطون غالبًا بالسلطة الحاكمة. كان سلطان الأطرش رجل دين والبلعوس الذي اغتالته مخابرات الأسد هو أيضًا رجل دين. في حين يبدو موقف شيخ العقل حكمت الهجري الأخير في دعمه للثورة في السويداء (ما دفع شيخ عقل آخر هو حمود الحناوي إلى اتخاذ موقف ثوري وإن كان أكثر وضوحًا من موقف الهجري) سابقة في موقف شيوخ العقل من السلطات الحاكمة، في حين يظل موقف الشيخ يوسف جربوع الموالي للسلطة حتى ولو كانت طاغية وسائدة ضمن إطار الموقف الكلاسيكي التقويّ للهيئة الروحية الدرزية.

15- ثورة الدروز وحوادث سوريا، اسم المؤلف غير معروف مع الإشارة إلى أن الكُتيِّب طبع على نفقة الكاتب محمود كامل فريد، مطبعة التقدم، مصر، القاهرة، 1925، ص 16.

16- المرجع نفسه.

17- ورد الاسم خطأً في الكُتيب (كما ورد اسم بصرى الحرير خطأً، لكننا تركناه كما هو في الكتاب) فالحدث معروف باسم “عرس فهيدة” وليس فنيدي كما ورد. ربما تختزل هذه الحادثة الكثير من فكرة الكرامة والعرض والفخر والنسب التي قلنا عنها أنها متضخمة وشديدة الحساسية عند سكان الجبال نتيجة انغلاقهم، يُضاف إلى ذلك فكرة الحفاظ على العقيدة التي لا يُسمح بمن ولد فيها أن يتزوج من غيرها، ولا يُسمح لمن خارجها أن يتزوج بمن ولد، وبخاصة من ولدت درزية. يعكس “عرس فهيدة” أيضًا تمرد سكان الجبل على سُلطة الحكم العثماني والصعوبة الكبرى التي وجدها في إخضاعهم والمقاومة المستميتة لأبنائها، كما يعكس نمط الحساسية مع الجيران “الحوارنة”.

18- ثورة الدروز وحوادث سوريا، المعطيات نفسها، ص 17.

19- أعتقد أن السبب في ذلك يكمن في محاولة آل الأطرش محو هذا الحدث من الذاكرة الشعبية والتركيز على أمجادهم العائلية في الثورة السورية الكبرى. بعد هزيمتهم أمام الفلاحين يستعيد آل الأطرش رمزيًّا زعامتهم أولًا بالاستعانة بالحكومة العثمانية للانتقام من الفلاحين الذين خسروا المعركة ضدهم، وثانيًا بفضل السمعة التي جلبها لهم سلطان الأطرش الذي قاد الثورة السورية ضد الاستعمار الفرنسي، وثالثًا استفادة بعض المتسلقين من آل الأطرش لاسم سُلطان وشغل مناصب ووجاهات واستخدامهم من قبل نظام الأسد كواجهة سياسيّة شكلية للسويداء من دون أن يمتلكوا أخلاق سُلطان وشجاعته ووطنيته. لا يزال معظم آل الأطرش في السويداء إلى اليوم يتوهمون زعامتهم وتفوقهم على الآخرين من الدروز الذين يعاملونهم كفلاحين قدامى في إقطاعياتهم.

20- ثورة الدروز وحوادث سوريا، المعطيات نفسها، ص 21.

21- المرجع نفسه/ ص 3ـ 4ـ 5، يشير الكُتيِّب إلى أن “هذا التعداد مأخوذ من السجلات الرسمية المؤرخة في 1925 قبل الثورة”. انظر الهامش، ص 5.

22- نضع هنا صفة “عالم الأنثروبولوجيا” هنا بين ضفرين لأنها لا تنطبق تمامًا على حنّا أبي راشد وبخاصة في كتابيه حوران الدامية وجبل الدروز ـ سلطان باشا الأطرش. إن أبي راشد الذي قام بما يقوم به غالبًا علماء الأنثروبولوجيا في التعرف إلى الشعوب عبر العيش بين أهلها ومحاولة كشف أسرارها ومعتقداتها وطقوسها إلا أن كتاباته غير علميّة، وتكاد تخلو من الموضوعية، إذ يغلب عليها التضخيم والتفخيم والبلاغة اللفظية، ما يتطلب من القارئ أن يعيد التدقيق فيها وتنخيل كل ما هو ذاتيّ وبلاغيّ ليكتشف شيئًا من الكتابة التاريخية في هذين المرجعين الذين يظلان مهمين على الرغم من أسلوبهما غير العلمي، فهما كُتبا في قلب الأحداث الأكثر أهمية في جبل العرب قُبيل الثورة على المُستعمر الفرنسي وخلالها.

23- حنّا أبي راشد، حوران الداميّة، الطبعة الأولى 1926، القاهرة، مكتية مكتبة زيدان العمومية، ص 37.

24- المرجع السابق.

25- عطا الله الزاقوت، أضواء على الثورة السورية الكبرى، منشورات دار علاء الدين، ط2، 2008، ص 14 و15.

26- سينتقم منه أحد شباب الدروز بعد عقد من الزمان في عام 1964 في البرازيل، ولعل هذا الاغتيال يُعبّر عن مدى حساسية مفهوم الكرامة وقداسته لدى الدروز.

27- تقول الإشاعة الُمضادة إن البدو هم من كان سيُشعل الجامع لتوريط الدروز.

28- وفق الإحصائيات غير الرسميّة، ولكن التي قام بها سكان المحافظة، فقد بلغ عدد قتلى الدروز في أحداث البدو نحو 43 شخصًا بينما كانت أعداد الجرحى والمُصابين بالمئات، معظمهم قضوا وأصيبوا على يد قوات النظام.

29- إن الدروز الذين يُشكّلون أقليّة صغيرة بالنسبة إلى المجموع العام للدولة السوريّة بحيث يتموضعون على هامشها كأي أقلية طائفية، يُمثِّلون في السويداء أكثرية عدديّة، في حين يُمثِّل فيها “الآخر”: السُّني والمسيحي والبدويّ هوامش لهذا المركز الصغير الذي ليس إلا هامشًا في مركزِ أكبر كما لو كان دائرة صغيرة مُتمركزة على ذاتها، ولكنها محتواة في إطار دائرة أكبر.

مشاركة: