حوار مع الدكتور منير الكشو: الدولة الوطنية والمجتمع المدني

الدكتور منير الكشو:

دكتوراة في الفلسفة-جامعة تونس، أستاذ الفلسفة الأخلاقية والسياسية بجامعة تونس من 2000 إلى 2020، أستاذ في برنامج ماجستير الفلسفة، بكلية العلوم الاجتماعية والإنسانية في معهد الدوحة للدراسات العليا منذ أيلول/ سبتمبر 2020. قبلها كان أستاذًا في قسم الفلسفة بجامعة تونس، من 2000 إلى 2020. تقع اهتماماته البحثية في نطاق فلسفة الأخلاق، نظريات العدالة المعاصرة، فلسفة العلاقات الدولية، نظريات الديمقراطية، نظريات التحول الديمقراطي، قضايا التنمية، حقوق الانسان. أشرف على نشر أعمال ملتقى دولي من تنظيم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات فرع تونس في ديسمبر 2018 حول “الاصلاح الديني والاصلاح السياسي بين الديمقراطية المسيحية والاسلام السياسي: سجالات ومقارنات”. أشرف على تحرير أوراق بحثية حول “النظام السياسي والديمقراطية التمثيلية والانتقال الديمقراطي” في إطار ندوات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة حول الانتقال الديمقراطي. نشر كتابين بالفرنسية حول الفيلسوف الأميركي المعاصر جون رولز Etudes rawlsiennes: contrat et justice (2006) و Le juste et ses normes: John Rawls et le concept du politique (2007) وله عديد من المقالات والفصول المنشورة بالعربية والفرنسية والإنكليزية في دوريات ومؤلفات مشتركة. آخر ما نشر له مقالة في دورية تبين العدد 43 شتاء 2023 تحت عنوان: “الليبرالية وحرية التعبير: قراءة في الخلفيات الفلسفية لجدل قانوني وسياسي”.

السؤال الأول

رواق ميسلون: أشار بعضهم إلى أنَّ طرائق تغيير السلطات الاستبدادية أو الشمولية أربع؛ الأولى، عبر الانقلاب العسكري، والثانية عبر انحياز جزء من السلطة إلى جانب المصلحة العامة وبناء تحالف قوي مع جزء فاعل في المجتمع، والثالثة عبر التدخل الخارجي، والرابعة عبر النضال المدني من خلال تحريض الفاعلية المجتمعية ونقل مزاج الناس إلى تفضيل النموذج الديمقراطي في الحكم عبر النموِّ الأخلاقي والمؤسساتي والثقافي للمجتمع المدني، والذي يمكن أن يسمح للمجتمع باحتلال مساحات متزايدة بصورة تراكمية ومستمرة على حساب الاستبداد الذي سيعجز حينذاك عن إيجاد قاعدة مدنية واجتماعية له، ومن ثم إفلاسه معنويًا وواقعيًا. ما رأيك؟

الدكتور منير: أولًا شكرًا على الاستضافة في مجلتكم المحترمة وعقد هذا الحوار وأتمنى لكم التوفيق في ما تقومون به. أما حول سؤالكم فنعم أوافق هذا الرأي. لكن أعتقد أنه لا بد من إضافة شكل آخر من التغيير لم يرد ذكره في السؤال، وهو ذاك الذي يحدث بالكفاح المسلح من أجل تغيير نظام استبدادي بآخر يكون ديمقراطيًا. وهذا الشكل يهمنا هنا خاصة في ما يتعلق بالحالة السورية، حيث اضطرت القوى المدنية والديمقراطية أن تقبل بواقع تحول ثورة مدنية سلمية ضد نظام استبدادي إلى تمرد مسلح، أو على الأقل أنها أرغمت على التعايش مع هذا الواقع، وكن ذلك نتيجة ارتفاع حدة القمع وبطش النظام، وأيضًا بفعل انشقاق ضباط وجنود من الجيش والقوات الحاملة للسلاح وانضمامهم إلى صف الشعب للتصدي لبطش النظام. ولنا مثال آخر في ما يحدث اليوم في ميانمار حيث شكلت ثلاثة فصائل مسلحة ذات خلفيات إثنية وعرقية مختلفة جبهة موحدة للإطاحة بالحكم العسكري المستبد وإعادة الحكم الديمقراطي بعد أن قام الجيش في ميانمار في 21 شباط/ فبراير 2021 بانقلاب عسكري دموي على الديمقراطية الناشئة هناك، وقام بحل البرلمان المنتخب وإلغاء نتائج الانتخابات التي فازت بها رئيسة الحكومة آنذاك أونغ سان سو كيي Aung San Suu Kyi وحزبها وخلع الحكومة وسجن رئيستها، ولم تنفع الاحتجاجات السلمية والمدنية والاحتجاجات الدولية في ثني الجيش عن قراره وعن مضاعفة القمع وإحكام قبضته على السلطة وملاحقة المعارضين وإعدامهم دون محاكمة في أغلب الأحيان وخارج الأطر القانونية. هناك أمثلة أخرى نجدها في أميركا اللاتينية حيث قبلت قوات كفاح مسلحة في كولومبيا وغواتيمالا وسلفادور والمكسيك، قاومت الأنظمة العسكرية والاستبدادية وخاضت ضدها حروب عصابات، بالتخلي عن السلاح والقبول بالديمقراطية وبالاحتكام إلى صناديق الاقتراع وبالتداول السلمي على السلطة، وذلك لاقتناع الأطراف المتحاربة في هذه البلدان، أي الأنظمة السياسية من جهة وفصائل المعارضة المسلحة من جهة أخرى، بعدم إمكان حسم المعركة عسكريًا وجنوحهما إلى التسوية السلمية. لكن الاختلاف بين مسارات التسوية السلمية في أميركا اللاتينية التي جعلت الديمقراطية صيغة للعيش modus vivendi تقبل بمقتضاها أطراف متعادية التعايش في كنف السلم، وحالتي سوريا وميانمار هو أن الحركات المسلحة في أميركا اللاتينية لم يكن في غرضها في البداية النضال من أجل الديمقراطية أو العدالة الاجتماعية (باسثناء الحركة الزاباتية في المكسيك التي تزعمها القائد مركوس التي كانت تدافع عن حقوق السكان الأصليين في الأراضي التي يقيمون عليها) بل كانت حركات تتبنى الأيديولوجيا الماركسية اللينينية والماوية وتلقى دعمًا من الاتحاد السوفياتي وكوبا. وبانهيار المعسكر الشيوعي وتوقف الدعم العسكري والمالي لها وجدت نفسها في ردب ودون سند مما اضطرها إلى تغيير استراتيجيتها والجنوح للتفاوض لإقامة نظام ديمقراطي يسمح لعناصرها بالمشاركة السياسية وتقاسم السلطة ويضمن شروط ممارسة العمل السياسي السلمي. وقد أدى ذلك إلى نتائج إيجابية كان آخرها وصول أحد قادة هذه الفصائل المسلحة، غوستافو بيترو، إلى كرسي الرئاسة في كولوبيا وكسر احتكار السلطة في المكسيك من قبل الحزب الثوري المؤسسي الذي دام لعقود وفوز حزب حركة التجديد الثورية الذي يتزعمه أبرادور الرئيس اليساري الحالي بالرئاسة وبالأغلبية في البرلمان الفدرالي، وأيضًا فوز زعيم المعارضة في غواتيمالا مثلما أعلنت عن ذلك المفوضية العليا للانتخابات في غواتيمالا، في حين رفضت المحكمة العليا التصديق على النتائج، ولا يزال المشكل قائمًا إلى حد الآن. في المحصلة كانت الديمقراطية الحل الوحيد الممكن للخروج من الردب الذي تردت فيه الأوضاع، واستحالة تحقيق نصر ساحق لأحد الطرفين، أي النظام السياسي من جهة وفصائل المعارضة المسلحة من جهة أخرى، ولم تكن الديمقراطية المطلب الرئيس على أجندة الأطراف المتنازعة. وقد شهد المسار الانتقالي في بلدان أميركا اللاتينية نجاحات متفاوتة، إذ عرف انتكاسة في نيكارغوا وعودة الاستبداد عن طريق رئيس منتخب وهو دانييل أورتيغا، ونجاحات وتداول سلمي على السلطة في بلدان أخرى مثل كولوبيا والمكسيك على سبيل المثال. بالعودة إلى سوريا وميانمار، ما يلاحظ أن فصائل المعارضة المسلحة في ميانمار توفّقت في الوصول إلى وفاق حول أرضية ديمقراطية أول نقاطها هي العودة إلى الشرعية والحكم البرلماني وإطلاق سراح المساجين السياسيين وتسوية الخلافات حول المطالب المتعلقة بالإثنيات والتعددية العرقية والثقافية من خلال الحوار والتفاهم والتوصل إلى تسويات تكون مُرضية لجميع الأطراف. الأمر الذي يَسّرَ تشكيل جبهة مسلحة واسعة والتنسيق الميداني العسكري بين مكوناتها. وقد أدى ذلك إلى تحقيق انتصارات ميدانية مهمة على الحكم العسكري الاستبدادي تمثلت بتحرير العديد من القرى والمدن الكبيرة واستعادة المعارضة السيطرة على حدود مهمة للبلاد بعد أن كانت تستخدم لتهريب البضائع والسلع والمخدرات مع الصين وغيرها من البلدان المجاورة لتمويل النظام العسكري. أما بالنسبة إلى سوريا، فللأسف لا نلاحظ تطورًا من هذا القبيل، حيث لم تفلح بعد المعارضة المسلحة والمدنية في التوافق حول أرضية مشتركة للتغيير الديمقراطي تقبل بها كل القوى المؤمنة بالديمقراطية والسلم الأهلي والوفاق المجتمعي. وهو ما يجعل الكفاح المسلح مسيطرًا عليه من جانب قوى متطرفة دينية وقومية ولا يخدم مطلب التغيير الديمقراطي بل يقوض أسسه.

رواق ميسلون: نعم هذا مهم. لكن ما رأيك في الصيغة الأولى من التغيير الديمقراطي، أي تلك التي تكون عبر انقلاب عسكري يطيح بنظام استبدادي، ويشرف فيه الجيش على مسار انتقالي تجرى فيه انتخابات حرة ونزيهة يسلم الجيش في إثرها السلطة إلى رئيس أو برلمان منتخب؟

الدكتور منير: أعتقد أن هذه الصيغة مثالية، وهي قد تكون الأفضل ولا سيما في البلدان التي يعمّر فيها الاستبداد طويلًا ويدمّر طاقات الشعب وينهك قواه الحية ويخبو فيها مطلب التغيير السياسي. وهي تجنّب البلاد مآسي العنف والصدام وزهق الأرواح. لكنها مثالية بمعنى أنها تقتضي قادة جيش مثاليين يحظون باحترام وتقدير وثقة، ولا سيما من زملائهم ومعاونيهم من الضباط والجنود، يريدون الخير لبلدهم ومخلصين لوطنهم ومحبين لشعبهم، وكذلك مقتنعين بأنه جدير بالديمقراطية وبالحرية وبحياة مدنية وسياسية كريمة ولائقة، ومؤمنين كذلك بأن دور الجيش ليس ممارسة السلطة والحكم وتولي مهمات تنفيذية في الدولة وإنما حماية حدود البلاد وأمنها وضمان احترام دستور البلاد وعمل المؤسسات الدستورية، ومستعدين للانصياع إلى أوامر وقرارات سلطة مدنية منتخبة من الشعب. وأن تكون هذه الصيغة مثالية لا يعني تعذر حصولها. إذ حدث ذلك في البرتغال سنة 1974 في ما عرف بثورة القرنفل، حيث قاد ضباط شبان عملية خلع الدكتاتور مارشيلو كاتينو، ونزلت الجماهير إلى الشوارع لتحية الجنود والترحيب بهم وأطلقوا بداية، ما سماه صمويل هينتجتون الموجة الثالثة للديمقراطية، التي عمت بعد ذلك أرجاء عديدة من العالم. لكن ذلك مثلما يلاحظ هينتجتون كان أمرًا مفاجئًا وضد السير المعتاد للأمور، لأن الانقلابات تأتي عادة وكما ألفنا لخلع نظم ديمقراطية وليس لإطلاق مسار تحول نحو الديمقراطية. والأمر الجّيد بالنسبة إلى البرتغال أن القوى الديمقراطية في الجيش ساندت المسار الديمقراطي، وصمدت أمام الانقلابات المضادة وسلمت السلطة لقوى مدنية بعد انتخابات حظيت نتائجها بثقة الجميع في البلاد وفي العالم. ولنا أيضًا في بلد عربي وهو السودان مثال آخر لانقلاب فتح الطريق نحو مسار ديمقراطي، حيث قام المشير عبد الرحمن سوار الذهب وزير الدفاع السوداني في نيسان/ أبريل 1985 بخلع الرئيس السوداني آنذاك جعفر النميري من الحكم، وأطاح بنوابه ومعاونيه، وأعلن انحياز المؤسسة العسكرية لمطالب الشعب ونيته في نقل السلطة إليه عبر انتخابات حرة ونزيهة. وهو ما قام به فعلًا بعد فترة انتقالية دامت سنة أجريت فيها الانتخابات، وأمكن تشكيل حكومة يرأسها الصادق المهدي، وانسحب سوار الذهب من الحياة السياسية. وفي تونس حصل أمر شبيه بذلك. فمنذ انطلاق الانتفاضة في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010 حتى مغادرة الرئيس بن علي البلاد كثفت قوات الشرطة والأمن القمع والعنف ضد المتظاهرين، وقتلت عددًا مهمًا منهم، لكن الجيش لم يساهم بدور كبير في ذلك، وعندما فشلت المؤسسة الأمنية في السيطرة على الأوضاع واتخذ رئيس الجمهورية قراره بمغادرة البلاد تحمل الجيش دوره في تأمين السير العادي لمؤسسات البلاد وحمى العملية الديمقراطية التي انطلقت منذ سقوط النظام ورفضت قيادته تسلم مقاليد السلطة على الرغم من إلحاح عديد الأطراف عليها ومن الصعوبات التي واجهتها العملية الديمقراطية.

لكن يبدو لنا أن ذلك يظل من باب الاستثناء لا القاعدة، إذ هو رهين وجود قادة جيش استثنائيين تجود بهم العناية الربانية على شعب ما مثل المشير سوار الذهب ومعاونيه في السودان، الجنرال عمار ومعاونيه في الجيش في تونس، وضباط شبان مؤمنين بالديمقراطية في البرتغال. فهؤلاء كلهم كانوا مثلما لاحظ هينتجتون متحررين من العقيدة الرسمية للجيش في الأنظمة الاستبدادية العسكرية أو شبه العسكرية. هذه العقيدة الرسمية ليست بالعقيدة الجمهورية التي تؤمن بأن الجيش هو في خدمة الدولة والشعب وليس من يمسك بالسلطة وأن دوره حماية البلاد ضد كل عدوان خارجي وضمان استمرار النظام الجمهوري وفق الشروط التي ضبطها دستور البلاد وتأمين الانتقال السلمي للسلطة لمن اختاره الشعب للحكم. ولئن أمكن للتجربة الديمقراطية في البرتغال أن تنجح لتضافر عديد العوامل منها انطلاق مسار تحول ديمقراطي مهم في بلد كبير ومجاور للبرتغال وهو إسبانيا سنة 1975 بعد وفاة الجنرال فرنكو، وكذلك غير بعيد عن البرتغال اليونان أيضًا التي عرفت هي الأخرى نهاية الحكم العسكري وانطلاق تجربة ديمقراطية وحكم مدني هناك وكذلك تقدم مسار البناء الأوروبي والدعم الذي لقيته هذه البلدان من أوروبا، وكذلك مناخ دولي مناسب للديمقراطية، لكن هذه الظروف المناسبة لم تتوافر للأسف لا في السودان سنة 1989 حين تحالفت الجبهة الاسلامية القومية بقيادة حسن الترابي مع قوات الجيش وأطاحت بحكومة الصادق المهدي المنتخبة وبمجلس رئاسة الدولة الذي كان يرأسه أحمد المرغني ونصبت الفريق عمر البشير رئيسًا للبلاد، ولا في تونس في تموز/ يوليو 2021 حين أعلن رئيس البلاد المنتخب الإجراءات الاستثنائية وجمد البرلمان ثم قام بحله وأنهى مهمات الحكومة مدعومًا في ذلك بقوات الجيش والأمن. فالدول المحيطة بالسودان، ولا سيما مصر في أثناء حكم مبارك، لم تكن تنظر بعين الرضا للتجربة الديمقراطية هناك، والشيء نفسه أيضًا بالنسبة إلى بلدان الجوار الأفريقي للسودان التي كانت كلها تحت استبداد أنظمة عسكرية تامة أو عسكرية بغطاء مدني. والشيء نفسه أيضًا بالنسبة إلى تونس، فعشر سنوات من الانتقال الديمقراطي لم تفلح في تغيير عقيدة الجيش إلى عقيدة جمهورية، ورأينا كيف دعم الانقلاب في 21 تموز/ يوليو 2021 على الديمقراطية، وأرسل دبابات لغلق مقر البرلمان ومنع النواب من دخوله، ورأينا أيضًا كيف أثّر فشل الحراك في الجزائر في إحداث التغيير الديمقراطي المنشود ونجاح الجيش في توجيه آليات انتقال السلطة من الرئيس السابق بوتفليقة نحو وجهة تضمن له إعادة السيطرة على الأوضاع، ورأينا كيف أن قيادة البلاد هناك سارعت بدعم الإجراءات الاستثنائية في تونس التي أوقفت المسار الديمقراطي ووأدت التجربة الديمقراطية. ولكن لم يكن ذلك بسبب الظروف الخارجية والإقليمية فحسب بل أيضًا بسبب فشل داخلي في إنجاز الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والقانونية والمؤسساتية المطلوبة لترسيخ الديمقراطية. خلاصة القول هو أن الجيش يمكن في أحيان نادرة أن يدعم أو يطلق مسارًا من الانتقال الديمقراطي ضد عقيدته المحافظة التي تخشى التغيير وتخاف من اللايقين والمفاجئ الذي يمكن أن تحمله كل انتخابات، لكن ذلك يتوقف، في رأينا، على مدى توفر ظرف إقليمي مرحب بالديمقراطية وليس متوجسًا منها، وعلى مدى نجاح العملية الديمقراطية في إحداث تحول في عقيدة الجيش تجعله أقل محافظة وأكثر اعتناقًا للعقيدة الجمهورية للجيوش الحديثة في الديمقراطيات.

رواق ميسلون: وماذا عن الطريقة الثانية التي تكون عبر انحياز جزء من السلطة إلى جانب المصلحة العامة وبناء تحالف قوي مع جزء فاعل في المجتمع؟

الدكتور منير: هذه أيضًا صيغة مثالية أخرى من الانتقال السلس من الاستبداد نحو الديمقراطية يجنب البلاد مآسي العنف والقمع ومخاطر الفوضى التي قد تنجم عن انهيار السلطة السياسية وتفكك أجهزتها الأمنية. حدث ما يشبه هذه الصيغة في اليونان سنة 1974 وفي إسبانيا إثر وفاة الجنرال فرنكو وقرار الملك خوان كارلوس بدعم مسار إعادة إحلال الديمقراطية. وإثر مسار من التفاوض استقر الرأي في إسبانيا على إجراء انتخابات حرة والإبقاء على النظام الملكي مع تحصين موقع الملك، من دون إسناد مهمات تنفيذية أو حُكمية له، وحمايته من المساءلة ومن الثلب أو التعرض لشخصه ونُظمت انتخابات حرة بمشاركة الجميع بمن فيهم أنصار ومسؤولي النظام القديم والقوى المحافظة التي دعمت في السابق حُكم الدكتاتور الجنرال فرنكو وهي اليوم عنصر فاعل في العملية السياسية وممثلة أساسا في الحزب الشعبي الذي هو امتداد للتحالف الشعبي الذي أسسه مانويل فراغا في 1977 وضم أطرافا ليبرالية وبعض الديمقراطيين المسيحيين من النظام القديم والداعمين للديمقراطية وانضمت إليه أيضًا أطرافا كانت من ضمن الكتائب المسلحة للجنرال فرنكو في الحرب الأهلية بينه وبين الجمهوريين (1936-1939). في اليونان حصل مسار شبيه لكن التوافق أو التسوية التي حصلت لم تشمل فقط النواحي الإجرائية التي يقتضيها إرساء نظام ديمقراطي من قوانين لتنظيم الانتخابات وتنظيم السلطات في الفترة الانتقالية بل شملت أيضًا ضمانات لأطراف اجتماعية فاعلة مستفيدة من النظام القديم مثل الكنيسة الأرثوذكسية التي حصنت موقعها في النظام الديمقراطي وحصلت على إعفاءات ضريبية مهمة فيما تنتجه من مواد فلاحية وعلى ممتلكاتها وأراضيها وصانعو السفن اللذين حصلوا بدورهم على إعفاء من دفع الضرائب. وقد كان كل ذلك على حساب العدالة الاجتماعية والمساواة بين كل المواطنين في الحقوق والواجبات وقد خلف ذلك ضعفا في تفعيل القوانين وتطبيقها على الجميع على حد السواء وسبب شعورا بالإحباط لدى الناس لا تزال آثاره إلى اليوم بادية على العملية السياسية في في اليونان. كل هذا مهم أن نأخذه في الاعتبار حينما نتحدث على هذا الضرب الثاني من الانتقال الديمقراطي وأن نطرح السؤال حول التنازلات التي تكون القوى الديمقراطية مستعدة لتقديمها لأنصار النظام القديم لقاء قبولهم بالديمقراطية وعدم الوقوف ضد مسار التغيير السياسي.

رواق ميسلون: وما رأيك في الصيغة الرابعة التي يكون فيها التغيير الديمقراطي عبر النضال المدني من خلال تحريض الفاعلية المجتمعية ونقل مزاج الناس إلى تفضيل النموذج الديمقراطي في الحكم عبر النموِّ الأخلاقي والمؤسساتي والثقافي للمجتمع المدني، والذي يمكن أن يسمح للمجتمع باحتلال مساحات متزايدة بصورة تراكمية ومستمرة على حساب الاستبداد الذي سيعجز حينذاك عن إيجاد قاعدة مدنية واجتماعية له، ومن ثم إفلاسه معنويًا وواقعيًا؟

الدكتور منير: تبدو لي هذه الطريقة هي الأنسب لنا ولمجتمعاتنا، لكنها تتطلب طول نفس وصبر من القوى الديمقراطية لأن من أصعب الأشياء تغيير مزاج الناس في ظل استبداد طال أمده ومنع أفكار الديمقراطية والحرية والمساواة والمشاركة السياسية من أن تتغلغل في الثقافة العامة للمجتمع لتصبح جزءًا من الحس المشترك والعقل العام. لكن هذه الطريقة تكون ممكنة في ظل استبداد سياسي يمكن أن نسميه “رخوًا” وليس استبدادًا “صلبًا” يحكم قبضته على جميع مناحي الحياة، ويشل حركة المجتمع المدني ويمنع تشكل فضاءات خارجة عن رقابته وسيطرته. ونحن حقيقة نجد أنفسنا حيال وضع صعب ومعقد في أنظمة استبدادية مثل تلك التي تصنف ضمن أنظمة الاستبداد الغاشم والصلب التي لا يستقر لها حال إلا بإشاعة مشاعر الخوف والرهبة لدى الناس. هذا الضرب من الانظمة يسميه الباحثان سرغي غورييف ودنييل تريسمن في كتابهما المشترك الدكتاتوريون المناورون Spin Dictators، بدكتاتورية الخوف مثلما هو الحال بالنسبة إلى نظام معمر القذافي في ليبيا أو صدام حسين في العراق ونظام الرعب الذي أقامه مثلما أفاض كنعان مكية في تصويره في كتابه جمهورية الخوف. فعلى خلاف الدكتاتورية المناورة التي تكون حريصة على استمالة الرأي العام إلى جانبها وكسب ودّ الجماهير العريضة من الشعب وتلميع صورتها في الداخل والخارج ما يجعلها تعتمد أساليب الخداع والمناورة لتخفي حقيقتها الديكتاتورية والاستبدادية وتُضطر إلى السماح بهامش من الحرية للمعارضين وللمجتمع المدني تحاول دائمًا مراقبته وتدجينه، تستخدم ديكتاتورية الخوف أساليب فظة وهمجية في التنكيل بالمعارضين ولا تأبه باحتجاجات الرأي العام الدولي ولا تحفل باستنكار المنظمات العالمية المدافعة عن حقوق الإنسان لأعمالها القمعية.

وإذا استثنينا ليبيا التي عرفت ديكتاتورية متصلبة وعنيفة كل البلدان العربية التي حدثت فيها احتجاجات ما عرف بالربيع نهاية 2010 مطلع 2011، بما فيها سوريا في رأيي على الرغم من حدة القمع هناك، كانت تحكمها ديكتاتوريات غير متصلبة وأخذ فيها المجتمع المدني ينهض تدريجيًا وتوفر فيها هامشًا من الحرية وبدأت فيها طاقات المجتمع تتحرر. ولا يعني ذلك أنه حصل اختلال في التوازن بين السلطة والمجتمع وإنما أن الأوضاع تطورت إلى حد جعل السلطة السياسية في تونس ومصر مثلًا تعير اهتمامًا للكلفة السياسية للإمعان في القمع وتعطي اعتبارًا لارتفاع عدد الضحايا. فنحن نعرف أن تونس في عهد بن علي مقيدة بما تفرضه عليها اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي في بندها الثاني من احترام حقوق الإنسان وشروط دولة القانون ولا تستطيع أن تتحمل أثمان المقاطعة الاقتصادية من الاتحاد الأوروبي أو أميركا والشيء نفسه أيضًا بالنسبة إلى مصر في عهد مبارك فهي لا تستطيع أن تستغني عن الموارد المتأتية من الرسوم على مرور البواخر من قناة السويس والمساعدات التي تدفعها أميركا لها كل سنة والتي تقدر بمليار وثلاث مئة مليون دولار. وهذا ما جعل هذين النظامين السياسيين الاستبداديين ذوي خاصرة رخوة وعطوبين Vulnerable وهو ما يفسر عدم قدرتهما على الاستخدام المكثف للقمع ضد المتظاهرين والمحتجين والأمر يختلف بالنسبة إلى النظام السوري الذي عندما ضمن الدعم اللامشروط لروسيا وإيراني كثف من القمع ولم يعد يهتم بأثر ذلك في استمراريته في المستقبل.

رواق ميسلون: لكن هل أحسنت المعارضة استخدام هذه الهوامش من الحرية “المراقبة” في ظل أنظمة استبدادية رخوة لإحداث نقلة في مزاج الناس عبر النموِّ الأخلاقي والمؤسساتي والثقافي للمجتمع المدني تجعلهم يفضلون النموذج الديمقراطي في الحكم، والذي يمكن أن يسمح للمجتمع باحتلال مساحات متزايدة بصورة تراكمية ومستمرة على حساب الاستبداد الذي سيعجز حينذاك عن إيجاد قاعدة مدنية واجتماعية له، ومن ثم إفلاسه معنويًا وواقعيًا؟

الدكتور منير: أعتقد أن ذلك كان بدرجة محدودة فقط. للأسف الشديد لم يحدث تغير جوهري في الثقافة السياسية للنخب الفكرية والثقافية والأكاديمية في بلداننا تنقلها من ثقافة الاستبداد والخنوع والمغالاة والتطرف والراديكالية في مظاهرها المختلفة من دينية وماركسية وقومية وبعثية واشتراكية وطائفية إلى ثقافة سياسية ديمقراطية ومدنية تقبل الاختلاف وتبحث على تعزيز المشتركات وحل الخلافات والنزاعات من خلال التفاوض والحصول على التسويات المعقولة. الأمر الذي انعكس سلبًا على الثقافة العامة للمجتمع وعلى موقف الانسان العادي من الديمقراطية بوصفها نموذج حكم. فما حصل في مصر سواء قبل أو بعد انقلاب السيسي، وما حصل في تونس طوال عشرية الديمقراطية يؤكد أن النخب السياسية لم تنظر للديمقراطية على أنها نظام حكم يستمر عبر الأجيال ويقوم على المشاركة السياسية والتداول السلمي على السلطة، وعلى سموّ القانون وفصل السلطات واحترام حقوق الإنسان، وأنه يتطور ويتحسن على مر الزمن مع تطور العملية السياسية والديمقراطية، وإنما وسيلة لاقتناص الحكم بأقل التكاليف الممكنة ولو كان بأساليب وأدوات تضر بالديمقراطية ذاتها. من ذلك مثلًا تسريب معطيات حول أبحاث قضائية لم يبت القضاء فيها بعد على أنها إدانة لتشويه سمعة مرشح في الانتخابات أو تحويل المنافس أو المتباري في الانتخابات إلى خصم وعدو وتصويره على أنه خطر على الأمة أو على الدين وشيطنته أو تكفيره او تخوينه أو اعتماد لغة ومفردات عسكرية وحربية في الحملات الانتخابية أو في إدارة الاختلافات السياسية أو عدم تقبل نتائج صناديق الاقتراع برحابة صدر وتقديم انتصار المنافس في الانتخابات على أنه انتكاسة للبلاد ونهاية الديمقراطية وبداية عصر نظام تيوقراطي إسلاموي أو سعي الطرف الفائز في الانتخابات إلى سد المنافذ أمام فوز منافسيه في الانتخابات الموالية مثلما فعل المرحوم الرئيس مرسي حين أصدر مرسوما يحصن فيه قراراته ضد الطعن القضائي. والأمثلة التي تدل على أن النخب لم تكن تنظر بإمعان في نمط اشتغال المؤسسات الديمقراطية في الديمقراطيات الراسخة وتحاول فهمها وتكييفها على واقعها كثيرة وعديدة جدًا. لكن لا يمكن التقليل من أهمية التطورات التي حصلت والتي يمكن أن تحصل في وعي النخب وثقافتها بفعل إكراهات الواقع. فلكي تتطور ثقافة مدنية وسياسية ديمقراطية ينبغي على النخب الثقافية والفكرية المناضلة ضد الاستبداد والمقتنعة بأن مجتمعاتها وشعوبها جديرة بالديمقراطية والكرامة والعيش الرغيد أن تمد الجسور بعضها مع بعض وتتعالى على الانقسامات الأيديولوجية والطائفية والفئوية وتجعل مقتضيات المواطنة بما تعنيه من حرية ومساواة وحقوق وواجبات ومسؤولية وولاء للوطن ككيان جامع أيضًا فوق اعتبارات الانتماء الديني والعرقي والطائفي والفئوي والايديولوجي وأن تغلب أيضًا الحكمة والواقعية والبراغماتية. فشعوبنا قدمت تضحيات جسام ولا يمكن تستمر جروحها في النزيف.

السؤال الثاني

رواق ميسلون: يعتقد كثيرون أن أنظمتهم السياسية لن تستجيب لمطالبهم قط، ويرون بالتالي أن استخدام العنف لتحصيل الأهداف السياسية وإحداث تغيير سياسي ليس مبررًا فحسب بل ضروري أيضًا. هل يمكن مثلًا تغيير أنظمة مثل نظام صدام حسين أو نظام الأسد من دون استخدام العنف أو اللجوء إلى الاستعانة بالتدخل الخارجي؟

الدكتور منير: على الرغم من أن نظام الأسد في سوريا ونظام صدام حسين في العراق يشتركان في صفة القمع الوحشي إلا أنهما في رأيي يختلفان من حيث عناصر القوة. فنظام صدام حسين وضع يده على ثروة نفطية هائلة يتوفر عليها العراق مما يجعله في غنى عن العالم في حين أن العالم في حاجة إليه ولم تنفع لا حرب دامية طويلة مع جارته إيران وحرب التحالف الدولي لإخراجه من الكويت بعد أن احتلها ولا المقاطعة والحصار الاقتصادي التي تلت ذلك في إضعافه وثنيه عن سياساته القمعية في الداخل والعدوانية تجاه الخارج. وعلى الرغم من وجود حركات معارضة مسلحة له في إقليم كردستان وعلى حدوده مع إيران حيث كانت تنشط فصائل إسلامية مدعومة من إيران إلا أن هذه الحركات لم تكن قادرة على إسقاطه ولم تكن تحمل أيضًا مشروعًا وطنيًا يمكن أن يلقى قبولًا من كامل فئات الشعب ولم تكن الديمقراطية في أعلى سلم أولويات هذه الحركات. وسقط هذا النظام فعلًا بسبب تدخل عسكري أميركي بالأساس. لكن كان هذا استثناء أو صدفة تاريخية ليس هناك أمل في تكراره مستقبلًا. على الرغم من أن قوات الناتو تدخلت في ليبيا في 2011 بضوء أخضر من مجلس الأمن للأمم المتحدة بحجة حماية المدنيين من كتائب القذافي التي كانت تزحف نحو مدينة بن غازي المتمردة على النظام في طرابلس وساهمت في إسقاط نظام القذافي أعتقد أنه لا يمكن التعويل كثيرًا على التدخل الخارجي العسكري من الديمقراطيات لتغيير نظام حكم استبدادي. والسبب هو الكلفة المالية العالية للتدخل العسكري والخسائر البشرية التي يصعب تبرير ضرورتها أمام الرأي العام وكذلك أن نتائج التدخل أبعد من أن تكون مضمونة فالعراق ليس تلك الديمقراطية المستقرة والمزدهرة التي وعدت بها الولايات المتحدة الأميركية في عهد بوش الابن العراقيين والعالم وكذلك الحال في ليبيا التي خرجت من الاستبداد لتقع في حرب أهلية وانقسام سياسي حاد بين حكومتين واحدة في الشرق وواحدة في الغرب.

أما بالنسبة إلى النظام السوري فعلى الرغم من اشتراكه مع نظام صدام حسين في صفة القمع والتوحش إلا أنه لا يمتلك عناصر القوة الاقتصادية التي كان يمتلكها نظام العراق والنظام السوري كان آيل للسقوط سنة 2012 بعد انشقاق رئيس الحكومة آنذاك رياض حجاب والجنرال مناف طلاس لولا التدخل الروسي المباشر، الذي تحول في ما بعد إلى ما يشبه الاحتلال، وتدخل الحرس الثوري الإيراني وميلشيات حزب الله والانقسامات في صفوف المعارضة وبروز الحركات الاسلامية المتطرفة المسلحة مثل داعش وهيئة تحرير الشام وغيرها.

رواق ميسلون: لكن من جهة أخرى، ألن يؤثر خيار التغيير بالعنف أو بالتدخل الخارجي على طبيعة الدولة مستقبلًا ودورها وعلاقتها بالمواطنين؟

الدكتور منير: لدينا ثلاثة أمثلة معروفة من التدخل الخارجي العسكري المباشر والتي ساعدت على إقامة أنظمة ديمقراطية مستقرة وهي ألمانيا الغربية واليابان وكوريا الجنوبية. ألمانيا خسرت الحرب ضد قوات التحالف في الحرب العالمية الثانية ووقعت تحت الاحتلال الأميركي والإنجليزي ثم استرجعت سيادتها على أراضيها، ونجح الأميركان والإنكليز بالتعاون مع النخب السياسية والفكرية الألمانية التي عادت إلى البلاد بعد سقوط النازية في إقامة نظام سياسي ديمقراطي لا يحاكي لا النظام السياسي الأميركي ولا النظام السياسي الإنكليزي. كذلك الوضع بالنسبة إلى اليابان التي لم تعرف النظام الديمقراطي قبل الحرب العالمية الثانية والتي وقعت تحت الاحتلال الأميركي بعد هزيمتها، وقد ساعد الأميركان النخب السياسية اليابانية في بناء نظام سياسي ديمقراطي ينسجم مع خصوصيات المجتمع الياباني واليابان اليوم ديمقراطية برلمانية مستقرة ومزدهرة. المثال الأخير هو لكوريا الجنوبية الذي أقيم في إثر الحرب الكورية التي أدت إلى انفصال شمال كوريا التي تبنت النظام الشيوعية وأصبحت حليفة للاتحاد السوفياتي والصين وكوريا الجنوبية التي اعتمدت نظام اقتصاد السوق الرأسمالي وحظيت بدعم وحماية أميركية وظلت تحت أنظمة استبدادية عسكرية وشبه عسكرية ولم تعرف طريقها نحو الديمقراطية والاستقرار السياسي إلا في عام 1987.

بالنسبة إلى العراق مشروع غزوه وتعويضه بنظام ديمقراطي خططت له إدارة جورج بوش الابن التي سيطر عليها فريق من المفكرين المحافظين الجدد الذي يؤمنون بأنه من الممكن تصدير الديمقراطية وإعادة التجربة الأميركية في ألمانيا واليابان في العراق ودول أخرى. وقد أفضت هذه التجربة كما نعرف إلى تغيير النظام وصياغة دستور جديد برعاية أميركية من قبل النخب السياسية والثقافية العراقية التي تعاونت مع المشروع الأميركي وأفرز ذلك نظاما ديمقراطيا بالشكل الذي هو عليه الآن. والمشكلات التي اعترضت الديمقراطية في العراق تعود المسؤولية في بعضها إلى النخب السياسية العراقية نفسها التي لم تكن دومًا حكيمة وبراغماتية في قرارتها (مثال على ذلك قانون اجتثاث البعث) وبعضها الآخر إلى التدخلات الخارجية والإقليمية وخاصة من إيران التي لم تقبل أن يوجد على حدودها عراق ديمقراطي حليف لأميركا والعالم الغربي.

بالعودة إلى سؤالك أرى أنه طالما أن الشرعية تتأتى في الديمقراطيات عبر صناديق الاقتراع والشعب هو الذي يقرر من يحكمه وفق برنامج ما، لا أعتقد أن التدخل الخارجي يؤثر سلبًا في طبيعة العلاقة بين الدولة ومواطنيها إذا نجح ذلك التدخل في إقامة نظام ديمقراطي قابل للحياة ومؤسسات مستقرة ودائمة. فمزاج الشعب يتغير وتعاقب الأجيال ينسي الناس الماضي ويجعلهم يغلّبون مصالحهم الآنية والمستقبلية والدليل على ذلك ما نلاحظه من أمثلة ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية.

السؤال الثالث

رواق ميسلون: تكاد تكون ثنائية العنف والعنف المضاد ثنائية مميزة للمنطقة العربية، فمن جهة لدينا سلطات استولت على الحكم بالعنف، وما زالت تمارس العنف تجاه مجتمعاتها، ومن جهة ثانية لدينا قوى إسلامية عديدة لم تتردّد في ممارسة العنف المضاد، هل ستبقى المنطقة العربية محكومة بهاتين الجهتين إلى أمدٍ غير معلوم؟

الدكتور منير: في رأيي إن اقتران السياسة بالعنف لدينا هو تواصل وامتداد لفكر حركات التحرر الوطني وثقافتها. ككل حركات التحرر الوطني المناضلة ضد الاستعمار لم تكن الغاية تتمثل وبناء دولة وطنية بعد إخراج الاستعمار تكون حاضنة لجميع مواطنيها مهما كانت اختلافاتهم الدينية والعقائدية والعرقية والأيديولوجية على قاعدة الديمقراطية واحترام الحريات العامة والفردية والحق في المشاركة السياسية وإنما بناء دولة قوية على النموذج البونابرتي اليعقوبي الفرنسي المركزي أو السوفياتي القيصري الروسي. لذلك كان لا بد من الحفاظ على سردية التحرر من الاستعمار بعد جلائه من بلداننا بدعوى أن الاستعمار لا يزال يتربص بنا شرًا ويتحين الفرصة لاحتلالنا من جديد، وأن الحل لا يمكن أن يكون إلا في وحدة الصف الداخلي “الوحدة القومية” ونبذ الفرقة واستبعاد كل المطالب ذات البعد الفردي أو الفئوي أو الجهوي أو الطبقي. وعلى هذا الأساس مُنعت الأحزاب السياسية التي كانت موجودة ومناضلة ضد الاستعمار قبل الاستقلال ومُنعت النقابات والجمعيات المستقلة وقُيّدت حركة المجتمع المدني التي كانت نشيطة فترة الاستعمار أو فرُض عليها الولاء والخضوع للقيادة الجديدة للبلاد. وما زاد في دعم هذه السردية ومنحها وجها من الصوابية هو وجود الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في أرض عربية هي فلسطين المدعوم من القوى الإمبريالية القديمة وتلك الجديدة، مثل الولايات المتحدة، والحروب التي خاضتها الدول العربية منذ العدوان الثلاثي 1956 إلى حرب 1973 ضد إسرائيل وحلفائها والتي لم تكن نتائجها وللأسف لصالح البلدان العربية. كل ذلك خلّف شعورا بالإحباط والمرارة في الشارع العربي وأوجد أرضية ملائمة لانتشار فكرة القائد المنقذ أو الرجل الفذ الذي تمنّ به العناية الربانية كما يقول الفرنسيون l`homme providentielعلى الشعب، وأصبح كل من يمتلك نفوذًا وعناصر قوة داخل أجهزة الدولة يرى في نفسه أهلًا لأن يكون ذاك الرجل المخلّص أو يقدم نفسه كذلك ليستحوذ على السلطة ويشبع نهمه منها ومن هنا تتالي الانقلابات. في سياق مثل هذا وفي ثقافة سياسية تسود فيها فكرة القائد الفذ والهُمام والزعيم المنقذ لم يكن مناسبا تطور أفكار مثل فكرة الدولة باعتبارها كيانا يتعالى على الأشخاص ومصالحهم وأن الولاء يكون لها لا لشخص الحاكم ولا لقبيلة أو لحزب أو لفئة أو لطبقة أو لطائفة وفكرة أنها قبل كل شيء مؤسسات تشتغل وفق منطقها الداخلي وليس وفق ما يريده الأشخاص منها وأن هذه المؤسسات ينبغي أن تُعامل الجميع على قدم المساواة. ولك يكن أيضًا من السانح أن تسود فكرة أن ما ينبغي أن يحكم هذه المؤسسات هو القانون الذي يتوفر على شرطي العدل والعقلانية حتى يكون محلّ رضا وقبول من الذين يسري عليهم. باختصار ظللنا بعيدين جدًا عن تعريف فيبر للدولة الحديثة كما ورد في محاضرته “السياسة بوصفها حرفة” ذلك أنه يعرّف الدولة بـ “أنها الجماعة الانسانية التي تدّعي داخل أرض محدّدة (وبنجاح) حقها في استخدام العنف الطبيعي المشروع” [فيبر، العلم والسياسة بوصفهما حرفة]. ولئن تم لدينا احتكار العنف من طرف دولة الاستقلال، وهو في حد ذاته أمر مهم وضروري لوجود الدولة، لا يمكن أن نقول إن الدولة كانت فعلا الجماعة صاحبة الأرض ذات الحدود وأن العنف الذي كان يسلّط باسمها كان خدمة لها وإنما خدمة لصاحب السلطة وجماعته وحزبه المتماهي مع الدولة والمسيطر على إدارتها والمحتكر للتمثيل السياسي. وينبغي أن ننتبه إلى أنه في التعريف الفيبري هناك أيضًا في المحاضرة نفسها ربطًا لاستخدام العنف بالمشروعية، ذلك أن المشروعية التي تبرر السيطرة وتجعلها مقبولة من الناس وتدفعهم إلى الانصياع إلى أوامر الحاكم وقرارته تخفض من الحاجة إلى اللجوء إلى العنف. فسواء تعلق الأمر بالمشروعية المتأتية من الأعراف الضاربة في القدم التي يتمتع بها البطريك وشيخ القبيلة ورجل الدين والنبيل الإقطاعي أو الشرعية الكاريزمتية المتأتية من الصفات والفضائل الشخصية للقائد التي تجعل الناس يدينون له بالولاء أو تعلق الأمر بالمشروعية القائمة على شرعية القوانين المتأتية عن دستور شرعي صيغ على نحو عقلاني يقبل به الجميع، في كل هذه الحالات لا تلجأ الدولة إلى العنف إلا في حالات نادرة ومعزولة ما دامت تحصل على الانصياع والطاعة من دون مشكلات كبيرة تذكر. لكن الوضع مختلف لدينا فما تُسمى بدولة الاستقلال فقدت بسرعة مشروعيتها فلا التحرر الوطني الذي وعدت به تحقق إذ عجزت عن مناصرة قضايا التحرر الوطني، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، الذي وعدت به واضطرت للانحياز إلى أحد المعسكرين السوفياتي بالنسبة إلى بعضها أو الغربي بالنسبة إلى بعضها الآخر وأن تكيّف أجنداتها السياسية وفق ما يقتضيه أو يطلبه هذا المعسكر أو ذاك منها؛ وعجزت أيضًا عن تحقيق مطالب التنمية وتوفير أسباب الرخاء والتطور الاقتصادي والمادي لشعوبها بل إن الاستبداد وغياب دولة القانون وضعف المؤسسات وانعدام حرية التعبير فتح الباب على مصراعيه أمام انتشار الفساد في إدارة الدولة والمجتمع إلى أن أصبح الداء العضال الذي ينخر الدولة والمجتمع في الوقت نفسه. وهو ما يجعل هذه الدولة في حاجة دائمة للجوء إلى عنف الأجهزة الصلبة لإخضاع مواطنيها حتى يستقر لها الحكم.

بالنسبة إلى الجانب الثاني من سؤالك المتعلق بالعنف المضاد وخاصة ذلك الذي تمارسه قوى إسلامية وحول إن كانت المنطقة العربية ستظل محكومة بهاتين الجهتين إلى أمدٍ غير معلوم، أودّ أن أؤكِّد أولا أن عنف القوى الإسلامية ليس إلا مظهرًا ماديًا لخطاب راديكالي ومتطرف إسلامي. والراديكالية ليست صفة للإسلام السياسي المتطرف فقط وإنما هي سمة غالبة على القوى السياسية المعارضة للأنظمة السياسية في بلداننا سواء كانت علمانية وماركسية بتفرعاتها المتعددة من لينينية وتروتسكية وماوية وغيفارية أو إسلامية سياسية مثل الإخوان المسلمين أو السلفية الجهادية أو الوهابية أو غيرها. وفي رأيي إن المناخ السياسي وطبيعة الأنظمة السياسية، التي فصلنا الحديث في بعض خصائصها منذ قليل، توفر البيئة الحاضنة والجاذبة والمرحّبة بهذا النوع من الخطاب الراديكالي الذي يدعو إلى التغيير الجذري ولا يقبل بالحلول الجزئية من قبيل ديمقراطية وتداول سلمي على السلطة واحترام حقوق الإنسان وفصل السلطات ودولة قانون ويعدُ بمستقبل زاهر على المدى البعيد وغير المرئي. هذا الفكر الراديكالي في صيغته العلمانية الماركسية المعارض للسلطة انتشر في الجامعات لدينا في تونس وفي الدول المجاورة لكنه لم يتحول إلى اتجاه جماهيري وبقي محصورًا في الفئات المثقفة ولم يعتمد العنف ضد السلطة على الرغم من خطابه العنيف حيالها، وكان رد فعل السلطات تجاهه قمعيًا ومفرطًا في القسوة، ولم تبد أي استعداد للانفتاح واعتماد الديمقراطية واحترام حق المشاركة السياسية والتعبير عن الرأي وتوفير شروط المحاكمة العادلة. وعندما نجحت في كسر شوكة التطرف العلماني الماركسي برز فيما بعد التطرف الاسلامي وراج الخطاب الراديكالي الاسلامي مستفيدًا من ظروف إقليمية ودولية مناسبة وانحسار المدّ الشيوعي في العالم. واشترك هذا الخطاب الراديكالي الاسلامي مع الراديكالية الماركسية في رفض الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة في المواطنة وحرية المعتقد والضمير لكنه رفض الماركسية أيضًا على أساس أنها صورة أخرى للحداثة الغربية الملحدة التي تمثل خطرا على العقيدة الإسلامية مثلما رفض الأنظمة القائمة على أساس أنها طاغوتية وفاقدة للشرعية الإسلامية وعميلة للغرب الكافر. لئن اختلفت الراديكالية بين راديكالية عنفية تدعو إلى التغيير السياسي والمجتمعي بالقوة والعنف وأخرى غير عنفية تعتمد التغيير التدريجي عبر الدعوة الدينية وإعادة أسلمة المجتمع، بفعل فقدانه لأصالته الإسلامية تحت تأثير الثقافة وانتشار القيم الحضارية الغربية، وتدعو حتى إلى المشاركة السياسية عبر الانتخابات، ظل مجمعًا في مجمله على ضرورة أن يكون التغيير جذريًا وأن يكون الحكم السياسي إسلاميًا ومستمدًا من الشريعة الإسلامية. اليوم هناك تغير في الخطاب السياسي لأنصار الإسلام السياسي المعتدل وتخل عن الراديكالية وتبنٍ للمطالب في حكم ديمقراطي وفي احترام لحقوق الانسان بمعناها الكوني وفي ترسيخ حكم القانون ودولة الحقوق وفي الاعتراف بالتعددية السياسية والدينية والتداول السلمي على السلطة، وهو تغير لاحظناه لدى حركة النهضة في تونس وبدرجات أقل لدى حركات إسلامية أخرى. والتطور نفسه حصل في جهة اليسار الماركسي الذي تخلى هو أيضًا عن خطابه الراديكالي بعد سقوط الشيوعية بداية التسعينيات وتبنى الديمقراطية وإن أبقى على تحفظه حيال القيم الليبرالية. وهذا الأمر مهم وينبغي استغلاله في عزل الاسلام السياسي العنيف وتأسيس وفاق خلفي تراكبي عريض حول قيم مدنية مشتركة مثل الحرية والمساواة والعدالة، يقبل بها الناس لأسباب مختلفة بينهم، بعضهم يقبلها لأسباب علمانية والآخر لأسباب دينية، وأهداف سياسية جامعة لإقامة دولة تحتضن كل مواطنيها على الرغم من اختلافاتهم الثقافية والدينية والعرقية. وهو ما يمكن من عزل الراديكاليات في صيغها المختلفة التي ترى في السياسة فقط حقل نزاع وصراع سواء أكان طبقيًا أو دينيًا أو طائفيًا أو مناطقيًا أو قوميًا ولا ترى فيه مجالًا للتوافقات وعقد التسويات الرضائية بعيدًا عن منطق الهزيمة والانتصار والغلبة.

السؤال الرابع

رواق ميسلون: خلال ثورات الربيع العربي، ألم تشكِّل “المشروعية الثورية” التي أطلقتها تيارات سياسية أو أهلية معينة وجهًا آخر للسلطة الشمولية؟ وهل يمكن حقًا بناء دولة وطنية أو مجتمع مدني في ظلِّ هذه “المشروعيات الثورية” المتنوعة التي تنسف بالضرورة، مثل السلطة الشمولية، مبدأ المواطنة الذي هو أساس الدولة الحديثة ومرتكزها ومستقرها؟

الدكتور منير: أتفق معك، وأنا مثلك أيضًا ينتابني الشك في صدق النيات الديمقراطية لأنصار المشروعية الثورية. والتجارب تؤكد أن دعاة الشرعية الثورية يصعب أن يقبلوا بوضع السيادة في يد الشعب ليقرر من يحكم ومن يوليه أمر تدبير شؤونه إذ ينزعون إلى تقسيم الشعب نفسه إلى ثوري ورجعي وغالبًا ما يخرجون جزءًا من المواطنين الذي لا يوافقون آراءهم الثورية من الشعب ويصمونه بالرجعية وبمعاداة الثورة والالتفاف عليها. وهو ما سيعيد إنتاج النموذج نفسه الذي عانت منه منطقتنا العربية إذ لا ينبغي أن ننسى أن سوريا والعراق وليبيا حكمتها أنظمة قمعية واستبدادية باسم المشروعية الثورية والوحدة القومية والاشتراكية وليس من المعقول أن نقطع مع هذه الأنظمة في الوقت الذي نحافظ على الفكر الشمولي المناهض للديمقراطية نفسه الذي حكمت به. كما ينبغي أن ننتبه أيضًا إلى أن جانب كبير من المعارضين للأنظمة الاستبدادية الحالية لم يقوموا بالمراجعات الضرورية ليتبنوا حقيقة الديمقراطية ويقطعوا مع الفكر الشمولي لهذه الأنظمة. وقد رأينا في تونس نوابًا صعدوا إلى البرلمان بأدوات الديمقراطية يؤدون زيارات إلى سوريا ويلتقون برئيسها ويساندونه في قمعه لمعارضيه ولشعبه بدعوى أنه يمثل جبهة المقاومة والممناعة ضد الكيان الصهيوني. والواقع يبرز لنا أن دعاة الشرعية الثورية يميلون دومًا إلى الوقوف إلى جانب الأنظمة الاستبدادية والشمولية التي يثقون فيها أكثر من الديمقراطيات لتحقيق ما يرونها أهدافا قومية مثل محاربة الإمبريالية والدفاع عن السيادة الوطنية وتحقيق الوحدة العربية التي تعلو في نظرهم على مهمات الديمقراطية.

ولا أعتقد أنه يمكن، في ظل سيادة خطاب المشروعية الثورية، بناء دولة وطنية تكون ديمقراطية ومجتمع مدني حر وفاعل بل إن ذلك يفتح الباب أمام أشكال من المزايدات في الثورية والتطرف. على كل حال لا خوف من هذا الخطاب في رأيي على الديمقراطية، فيكفي أن نتوصل إلى وضع أركان نظام ديمقراطي تعدّدي وأن نقر مبدأ التداول السلمي على السلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة وشفافة وفق المعايير المتعاهد عليها دوليا وأن يُستفتى الشعب ويختار من يراه أهلا للمسؤولية حتى لا يصوت، في رأيي، لمن يقدم نفسه ممثلًا للشرعية الثورية. فمثلما رأينا في العراق وفي تونس إذا تمتع الناس بالحرية، ولم يُرغموا بقوة السلاح على التصويت لهذا الطرف أو ذاك، مثلما فعلت بعض المليشيات المسلحة في العراق، يعطون أصواتهم لمن يتوسمون فيه القدرة على تجسيد تطلعاتهم التي هي ليست بالضرورة ثورية.

بالنسبة إلى فكرة المواطنة، التي أشرت إليها في سؤالك، أعتقد أنها أساس المجتمع والدولة الديمقراطية. فأن نكون مواطنين هو أولا ألَّا نكون رعايا وإنما أعضاء أحرارًا في مجتمع حر، وهذا يعني أن تكون لنا حقوق أساسية مضمونة في دستور يجعلها في مأمن من تغيّر المزاج العام والأغلبيات السياسية في كل محطة انتخابية وفوق التنافس السياسي بين الأحزاب المتبارية إذ لا يمكن أن يفوز حزب ويقرر حرمان أشخاص او فئات من المجتمع من حقوق ضمنها لهم دستور أو قانون أساسي للبلاد. ونرى أن في البلدان الديمقراطية المستقرة تقتضي حماية هذه الحقوق وجود دولة قانون ما يعني ضمان لاستقلال القضاء والفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية ووجود توازن بينها. لكن ذلك لا يكفي لوحده ولا بد من وجود مجتمع مدني فاعل يساهم في تكوين الرأي العام ويوسع دائرة المشاركة المواطنية في إدارة الشأن العام وفي تطوير وعي وثقافة مدنية وفي تنمية الفضائل المدنية. لكن ينبغي أن ندرك أيضًا أن المواطنة ليست حقوقًا وحسب بل هي أيضًا واجبات وإحساس بالمسؤولية وبأهمية المشترك والخير العام والمصلحة الوطنية الجامعة. لذلك ينبغي أن ننتبه إلى أن حقوقنا بوصفنا مواطنين مرتبطة بانتمائنا إلى جماعة سياسية تربط بين أعضائها أواصر متينة وجملة من المشتركات تجعلهم يتمايزون عن الجماعات السياسية الأخرى. لذلك لا ينبغي أن يغيب عن خَلَدنا أن التضامن أمر أساسي لاستمرار جماعتنا السياسية ولتمتعنا كأفراد بالحرية والمساواة فنحن أحرار وسواسية وأخوة في مجتمع واحد وهو ما كرسه شعار الثورة الفرنسية مثلًا الحرية والمساواة والإخاء. بل إن الفيلسوفة حنة أرندت تعتبر في الفصل التاسع من كتابها دراسات في الإمبريالية أن المواطنة الانتماء إلى جماعة سياسية هو ما يمنح الأفراد الحق في أن يكون لهم حقوق. فهل هناك معني لحقي في الملكية إذا كنت منفردًا ومعزولًا أمام سلطان جائر يمكنه تجريدي منها متى أراد؟ وأي حقوق يمكن أن نمتلكها في ظل حكم استبدادي يمكنه أن يسقط عنا في كل وقت صفة المواطنة ويجردنا من الهوية الوطنية وينفينا من البلاد ويمنع عنا حقوقنا في ظل عدم مبالاة شركائنا في المواطنة واكتراثهم؟ وفكرة المواطنة وفق هذا المعنى الذي لا تختزل في الحقوق فحسب هي الكفيلة بحماية الرابطة الاجتماعية من التفكك بفعل استبداد منطق الحقوق وتغليب المصالح الفردية والأنانية أحيانًا على حساب المصلحة الجامعة واستفحال الفردانية التي نبه دي توكفيل إلى خطورتها في المجتمع الديمقراطي. لكن توكفيل يشيد أيضًا باهتداء الأميركان إلى طريقة قاوموا بها الفردانية وهي بعث المنظمات والمؤسسات المدنية وتفطنهم إلى أنهم قادرون بتوحيد قواهم وطاقاتهم على تحقيق أهداف مشتركة ودعم أواصر الترابط والتعاون والتضامن ونبذ الفردانية والتقوقع في الكوكبة الخاصة.

وفي الأخير أريد أن أشير إلى أن المواطنة تعني أيضًا أنه ينبغي أن ننظر إلى المجتمع مثلما يقول رولز على أنه مشروع تعاوني يهدف إلى الفائدة المتبادلة فيه نزاع في المصالح وتطابق بينها. فلئن كان كل طرف داخل المجتمع التعاوني يريد الحصول على النصيب الأوفر من فوائد التعاون الاجتماعي، وهو ما يفسر وجود النزاع والتضارب في المصالح، لكن كل الأطراف لها مصلحة أيضًا في أن يتواصل هذا المشروع التعاوني وأن يستمر في جلب فوائد لهم. والمواطنة تمنع أن يتغلب النزاع في الحقوق والمصالح على مقتضى استمرار التعاون والتضامن مما يجعل الحلول للنزاع تكمن في الحوار والتفاوض والبحث عن التوافقات والتسويات المُرضية وليس في الصدام والمغالبة وانتصار طرف أو طبقة على طرف آخر.

السؤال الخامس

رواق ميسلون: لا يوجد اليوم ما يمكن تسميته بـ “رأي عام وطني” في أي بلد عربي، وهناك خلاف حول معظم القضايا المطروحة وطنيًا. فعلى الرغم من كون التعدّد أو التنوع ظاهرة إيجابية أو صحية بالمعنى العام والديمقراطي إلَّا أنَّه يأخذ في أحوال بلدان الربيع العربي طابع التشظي والتذرر، حيث تكاد الظواهر المعيقة، مثل التعصب القومي والطائفي وخطاب الكراهية وغيرها، تأكل المشهد برمته. ألا تعتقد أنَّ إحدى مهمات النضال المدني اليوم هي المساهمة في بناء رأي عام وطني؟ أو على أقل تقدير بلورة مبادئ عامة تنتظم الحقل السياسي الوطني، وتطرد خارجها معنويًا كلَّ جهةٍ تغرِّد خارج المبادئ الوطنية الديمقراطية، فهل من سبيل إلى ذلك؟

الدكتور منير: مثلما سبق أن بيّن ألكسيس دي توكفيل في كتابه الديمقراطية في أميركا (1835) ظاهرة الرأي العام هي ظاهرة مميزة للمجتمعات الديمقراطية التي يحددها دي توكفيل بأنها مجتمعات يستبد بها شغف المساواة وتجعل مطلب المساواة في الأحوال فوق مطلب الحرية وقد تكون أحيانا مستعدة للتضحية بالحرية من أجل الحصول على مزيد من المساواة المادية. وفي هذا تختلف عن المجتمعات الارستقراطية التي هي مجتمعات تراتبية هرمية hierarchicalولا وجود فيها للمساواة ولا تقترن فيها الحرية بمعنى المساواة وتكون الحرية امتيازا للطبقة الأرستقراطية دون غيرها ولا وجود لمعنى رأي عام لأن العوام لا دخل لهم في الشأن العام إن وجد. المشكل في بلداننا هو تعايش مظاهر لمجتمع يشابه ذاك الذي وصفه دي توكفيل بأنه ديمقراطي وحديث ومظاهر لمجتمع وصّفه بأنه أرستقراطي وينتمي إلى النظام القديم وما يعقب ذلك هو التضارب بين قيم حداثية وديمقراطية من حرية ومساواة واستقلالية فردية عقلانية وقيم تقليدية تحث على احترام النظام التراتبي للمجتمع وإجلال السلط الروحية والمعنوية وطاعة أولي الأمر والأعراف السائدة والولاء لجماعة الانتماء على حساب الجماعة القومية وغيرها. والمشكل الثاني هو أن دوام الاستبداد في بلداننا لعقود منع الجدل والتفاعل والمواجهة بين القيم الديمقراطية والحداثية وقيم النظام القديم عبر الصحف ووسائل الإعلام والمنتديات الفكرية وفي الجامعات والمنشورات والدراسات والكتب حتى يتكون رأي عام رشيد وعليم ومستنير ويتشكل عقل عام عبر فضاء عام حر يكون مجالًا لتداول الأفكار دون خوف من أي سلطة كانت دينية أو فكرية أو سياسية.

وحتى يتشكل رأي عام ديمقراطي في بلداننا، لأنه ينبغي أن ننتبه إلى أن الرأي العام يمكن ألَّا يكون ديمقراطيًا وهو ما نراه اليوم مع انتشار الخطاب الشعبوي في الديمقراطيات العريقة في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، ينبغي أن يوجد حدّ أدنى من الضمان لحرية الرأي والتعبير والحماية القانونية للإعلاميين والكُتاب والمفكرين والأكاديميين والمدوُنين عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وهذا للأسف غير متوفر اليوم في وضع الانتكاسة الديمقراطية التي تعرفها بلدان مثل تونس ومصر وسوريا واليمن والجزائر والمغرب والأردن ولا بد من العمل على وجود هذه المساحة من الحرية التي تسمح بتداول الأفكار والآراء دون تضييق أو مساءلة.

وأعتقد أنه لا بد أن نعترف أن النخب ذات الإيمان الراسخ بالديمقراطية والفهم الجيد لمضامينها وآليات عملها قليلة العدد في بلداننا وواقع الحصار المضروب عليها في الداخل والتشتت الذي هي عليه في الخارج يمنع تداول الأفكار والآراء بينها وبالتالي التعلّم الجماعي من بعضها البعض للديمقراطية ولسبل تكييفها على واقع مجتمعاتنا. لكن هذه التحديات عاشت في السابق ما يماثلها نخب فكرية وسياسية في بلدان عديدة قبل الانتقال إلى الديمقراطية أقربها إلى ذاكرتنا هو ما عاشته النخب في بلدان أوروبا الشرقية تحت الأنظمة الشمولية الشيوعية ومع ذلك استطاعت أن تتغلب على هذه الصعوبات وأن تجد أرضية توافق حول مبادئ عامة لتنظيم الحقل السياسي في بلدانها. وأعتقد أن المهمة العاجلة الآن هي الحوار بين جميع القوى الرافضة للاستبداد والمتطلعة للحرية والديمقراطية حول أرضية توافق لمنع الانهيار وإيقاف التدحرج وذلك أولًا بنبذ التعصب وخطاب الكراهية والتخوين والتكفير لأعضاء المجتمع وثانيًا التأكيد على أن الولاء للوطن واستقلاله ينبغي أن يوضع فوق المصالح الحزبية والعشائرية والمناطقية والشخصية، وثالثًا الاعتراف بواقع التعددية الدينية والعرقية والثقافية والقومية واحترام حقوق الأقليات حيثما وجدت في المجتمع، ورابعًا، التوافق حول الديمقراطية نظامًا للحكم وحول نظام سياسي لا مركزي يمنع التفرد بالحكم والسلطة، خامسًا، احترام نتائج الانتخابات والتعهد بعدم عرقلة تدبير الحكم من الطرف أو الأطراف الفائزة بها.

السؤال السادس

رواق ميسلون: هل يمكن استنفاد مفهوم المجتمع المدني بمنظمات المجتمع المدني، أي هل تعتقد أنَّ هذا المفهوم يمكن أن يُختزل بوجود عددٍ من المنظمات أم أنَّ الأمر أعقد من ذلك، خصوصًا من حيث علاقته بمفهوم الدولة الحديثة. بتعبير آخر: إنَّ الدولة الحديثة-المجتمع المدني وحدة جدلية تشبه جدل القانون والحرية، على اعتبار أنَّ الدولة ساحة القانون، والمجتمع المدني ساحة الحرية، ومن ثمَّ هل يمكن فعلًا بناء مجتمع مدني في غياب دولة القانون؟

الدكتور منير: إن أهم ما يميز الدولة الحديثة عن الدولة القديمة هو أنها دولة مجتمع مدني وليست دولة المدينة ولا دولة الجماعة الموحدة دينيا وعرقيا ولا دولة الامبراطورية التي تضم شعوبًا وأعراقًا وأديانًا وجماعات مختلفة. فالدولة الحديثة هي دولة قطرية وقومية أي بمعنى أنها ذات مجال جغرافي موحد ومتصل له حدود مرسومة ومعترف بها دوليا تبسط عليه نفوذها وسيادتها وهي الحدود التي تفصل بين داخلها ومن ينتمي إليها وخارجها ومن لا ينتمي إليها. ووفق شتراير (الأصول الوسيطة للدولة الحديثة) تتميز الدولة الحديثة بأربع سمات هي أولًا الاستمرارية في الزمان والمكان لجماعة بشرية ما وثانيًا وجود مؤسسات سياسية غير شخصية ودائمة ومستقرة نسبيًا على الرغم من تغير الحكام وثالثًا السيادة بمعنى وجود سلطة عليا قادرة اتخاذ القرار النهائي ورابعًا الولاء بمعنى أن مشاعر الولاء في الدولة الحديثة تكون لها وتعلو عن تلك التي تكون حيال العائلة أو الجماعة المحلية أو المؤسسة الدينية. وقد تبلورت صورة المجتمع المدني الحديث بعد ظهور الدولة الحديثة، أي وفق مؤرخ الأفكار والفلسفة السياسية كوينتن سكينر (أسس الفكر السياسي الحديث- الخاتمة) في بدايات القرن السابع عشر، من حيث أولًا، أنه قادر على تنظيم نفسه بنفسه وليس في حاجة إلى تدخل قوة خارجة عنه كأن تكون سلطة سياسية أو دينية أو غيرها وثانيًا أنه مجتمع الأفراد وليس الجماعات الوشائجية أو الدينية وثالثًا، أن ما يحفز هؤلاء الأفراد ويدفعهم إلى التعاون بين بعضهم البعض هي مصالحهم الخاصة وحساب ما يجنونه من فوائد من ذلك التعاون وما يحقق تصوراتهم لما يرونه خيرًا ورابعًا، أن انضمام الأفراد إلى المجتمع المدني ومنظماته وجمعياته ومغادرتهم لها يكون طوعيًا وهو ما يميزه عن ما نسميه بالمجتمع الأهلي المتكون من عشائر وطوائف وجماعات وشائجية تربط بين أعضائها أواصر عاطفية وروحية تجعل مغادرتهم لها أمرًا عسيرًا ومستهجنًا.

حول سؤالك إن كان المجتمع المدني يمكن أن يوجد دون دولة قانون أعتقد أن هيغل قد سبق أن أجاب عن هذا السؤال (أصول فلسفة الحق) في القرن التاسع عشر عندما ميز أولًا بين الدولة والمجتمع المدني على خلاف فلاسفة العقد الاجتماعي السابقين له أمثال هوبز ولوك وروسو وكانط الذين ماثلوا المجتمع المدني بالدولة المدنية مقابل حالة الطبيعة، وثانيًا حين اعتبر على خلاف آدم سميث أن السوق الحرة في حاجة إلى ما يسميه بالدولة الخارجية أي دولة الضبط والأمن (البوليس) التي تحمي حقوق الملكية وتضمن إنفاذ الصفقات المبرمة بين الفاعلين الاقتصاديين وتحمي المستهلكين من الغش وتوفر العدالة القضائية. ولئن وفّر اقتصاد السوق للأفراد إمكانيات كبيرة للاستقلال بأنفسهم عن الأسرة، التي تظل قائمة على الرابطة البيولوجية والعاطفية، والدخول في أحلاف وروابط وجمعيات ونقابات مهنية تدافع عن مصالح أصحاب المهن وأوجد ضربًا من الانسجام والتوازن بين تلك المصالح المتعارضة (مثال مصالح النجارين من جهة وتجار الخشب من جهة أخرى وبائعي الأثاث والمفروشات من جهة ثالثة) ما يدفع النقابات والمنظمات التي تمثل كل طرف منهم إلى التفاوض والمساومة والحصول على تسويات تحفظ مصالح كل طرف، يظل مع ذلك المجتمع المدني المنتظم حول السوق الحرة غير قادر على توفير أسباب الرفاه لكامل أفراد المجتمع وهو ما يبرز من خلال انتشار الفقر والمنافسة الشرسة التي تؤدي إلى إفلاس الكثير من أصحاب الحرف والأعمال الصغار وهو ما يقتضي تدخل الدولة.

وإذا عدنا إلى واقع المجتمع المدني في بلداننا نلاحظ أن ما أعاق تطوره فعلًا، كما تفضلتم، هو غياب دولة القانون. ما نعني بدولة القانون هو أولًا استقلال القضاء والذي لا يّختزل فقط في الاستقلالية الفكرية للقضاة الذي يحكمون بضمير ويطبقون القانون على الجميع بحيادية فهذا يتعلق بخصال القضاة وفضائلهم وهو أمر مهم لكنه غير كاف إذ ينبغي ان تتوفر قبل كل شيء شروط الاستقلال الوظيفي والمؤسساتي للقضاة وفق المعايير المتعاهد عليها دوليًا. فأن يكون القاضي مستقلًا وظيفيًا عن السلطتين التنفيذية والتشريعية هو ألَّا يكون خاضعًا في مساره المهني من انتداب وارتقاء في السلم الوظيفي والدرجة ونقل وتأديب ومساءلة ورقابة إلى هاتين السلطتين بل إلى مجلس للقضاء منتخب من القضاة أنفسهم لا يشرف عليه لا رئيس الجمهورية ولا وزير العدال ولا رئيس الحكومة وإنما من يختاره القضاة أنفسهم. وأن تكون هناك دولة قانون هو أن تكون هناك ضمانات للمحاكمة العادلة ولشروط التقاضي على درجتين على الأقل وتطبق إدارة الدولة القانون على الجميع على قدم المساواة وبكل حيادية وأن تخضع قراراتها هي ذاتها إلى الطعن أمام المحاكم المختصة (القضاء الإداري مثلًا) وأن تُضمن حقوق الدفاع وحرية المحامين في أداء أدوارهم ومهماتهم.

في تونس بعد الثورة حصلت تطورات مهمة بعد إقرار دستور 2014 وانتخاب المجلس الأعلى للقضاء وبدأ القضاء يصلح نفسه بنفسه تدريجيًا وبصورة رآها البعض بطيئة والبعض الآخر معقولة اعتبارًا للأمد الطويل الذي دام فيه الاستبداد في (31 سنة تحت الاستبداد الرئيس بورقيبة و 23 سنة تحت استبداد الرئيس بن علي) والذي منع استقلال القضاء وأخضعه للسلطة التنفيذية وأوجد داخله قضاة موالين لها وانتدب العديد من القضاة على أساس الولاء السياسي وليس الكفاءة والالتزام بقيم العدل وروح القانون وكذلك أيضًا ضعف الإمكانيات البشرية والكفاءة والحرفية لدى عدد كبير من القضاة وضعف الموارد المادية الموضوعة على ذمتهم لإنجاز عملهم.

وقد ظل القضاء بطيئًا في إصدار الاحكام في القضايا التي رفعتها منظمات من المجتمع المدني تنشط في مجال محاربة الفساد ضد مسؤولين في الدولة أو ضد شركات ومؤسسات اقتصادية لشبهة خرق قوانين الصفقات العامة أو منع النفاذ إلى المعلومة أو الإضرار بالبيئة أو كذلك لرفض السلطة التنفيذية تطبيق الأوامر الترتيبية التي أصدرتها هيئات عليا مستقلة دستورية مثل الهيئة العليا للإعلام السمعي البصري التي طلبت من الحكومة سنة 2018 غلق إحدى المحطات التلفزية التي كانت تبث دون الحصول على رخصة من الهيئة.

ونجد أحيانًا أن القضاء في تونس لم يكن في هذه الفترة في منأى تمامًا عن تدخلات السلطة التنفيذية أو ضغط منظمات قوية داخل المجتمع المدني مثل ما هو الحال بالنسبة إلى الاتحاد العام التونسي للشغل أو اتحاد الصناعة والتجارة الذي يمثل الأعراف وأصحاب الشركات في تونس. فالاتحاد العام التونسي للشغل حصل في كل المناسبات التي رُفعت ضده قضايا على أحكام من القضاء لصالح قيادته ضد جمعيات أو ومناضلين في صفوف المنظمة ذاتها. ففي 2019 اشتكى مناضلون منخرطون في الاتحاد القيادة الحالية إلى القضاء بسبب خرقها لبند من القانون الداخلي للمنظمة يمنع أعضاء المكتب التنفيذي من الترشح لعضوية المكتب أكثر من عهدتين وتنظيمها لمؤتمر استثنائي ألغت فيه هذا البند مما مكن أعضائها من الترشح لعهدة ثالثة. جماع القول إن الحالة الصحية للمجتمع المدني مرتبطة بالحالة التي تكون عليها مؤسسات الدولة وعلى نحو خاص هنا مدى توفر دولة القانون.

السؤال السابع

رواق ميسلون: المجتمع المدني حقل متمايز، لكنَّه مرتبط جدليًا بالدولة والسوق، ومن هنا تجري تسميته بالقطاع الثالث في المجتمع، وهو يعمل على إلزام كلٍّ من الدولة والسوق بممارسات ترتكز على احترام قواعد دولة الحق والقانون، وإيجاد الحلول للتشوهات والانتهاكات الناجمة عن المنطق التعسفي في بعض الأحيان لكلٍّ من السلطة ورأس المال. هل يمكن أن يكون للمجتمع المدني في بلدان الربيع العربي دورٌ فاعلٌ في ظلِّ هيمنة الدولة، أو بالأحرى السلطة الاستبدادية، على الاقتصاد؟ بمعنى آخر، ما المتاح للمجتمع المدني ليقوم به في ظلِّ وجود سلطات تهيمن بصورة تكاد تكون مطلقة على الدولة والسوق في آنٍ معًا؟

الدكتور منير: وما تفيدنا به قراءة العشر سنوات من التجربة الديمقراطية التونسية هو أن الفهم الذي ساد للمواطنة وللمجتمع المدني كان فهما خاطئًا ومنحرفًا ومدمرًا للمُشترك بفعل الانحراف الذي عرفه العمل النقابي ممثلًا في الاتحاد العام التونسي للشغل تحديدًا، والذي يحتكر عمليا التمثيل النقابي للعمال والموظفين، وانتشار الكوربرتزم corporatism، ونعني بذلك التضامن بين الشغالين في قطاعات مهنية من أجل الحصول على حقوق وامتيازات تكون في غلب الأحيان على حساب العدالة والمساواة في الحقوق بين المواطنين وعلى حساب جودة اشتغال المرافق العامة للدولة وهو ما انعكس سلبًا على أجهزة الدولة وأثر سلبًا في عمل الشركات والمؤسسات الاقتصادية الخاصة. واستفحال هذه الظاهرة المقيتة في ديمقراطية ناشئة عطّل الاصلاحات الضرورية لهياكل الدولة، التي بُنيت منذ استقلال البلاد عن فرنسا على النمط الشمولي، ومنع الإصلاح الضروري لنموذج التنمية القديم القائم على الاقتصاد الريعي والزبائنية والولاءات السياسية والجهوية والمناطقية. فإصلاح هياكل الدولة كان أمرًا ضروريًا بفعل تضخم جهازها البيروقراطي وسيطرته على الاقتصاد وعلى المجتمع من خلال إخضاع كل نشاط اقتصادي إلى شرط الحصول على ترخيص مسبق من الدولة وتحكّمٍه في القطاعات الحسّاسة للاقتصاد والمجتمع مثل القطاع البنكي والنقل والمواصلات والتوريد والتصدير وغيرها. وقد نجم عن منع هذه الإصلاحات وتعطيلها من خلال الإضرابات المتتالية والمفتعلة والصدّ عن العمل وتعطيل المرافق العامة لأسباب غير مبررة ومفتعلة أثر سلبي على النمو الاقتصادي وأظهر الحكومات المنتخبة منذ 2011 بصورة العاجزة على تنفيذ خططها وتحقيق وعودها في التنمية وهو ما ولّد إحباطًا وشعورًا بالخيبة لدى الناس وتحول في مزاج الشارع ضد الديمقراطية.

وإذا كنا نريد ديمقراطية ومجتمعًا مدنيًا فاعلًا لا يمكن أن نواصل على نموذج الاقتصاد الموجه من الدولة نفسه وعلينا أن نتوجه إلى اقتصاد تنافسي حر في ظل دولة قانون، وفق المعايير الدولية التي أسلفنا تقديمها، تجعل القانون ساريًا على الجميع على قاعدة المساواة في الحقوق. فدور الدولة، في رأيي، ليس امتلاك شركات عامة والإشراف على تسييرها وإدارتها وأن تقرر من خلال موظفيها من يحق له ممارسة هذا النشاط الاقتصادي أو ذاك أو أن تحتكر لنفسها قطاعات ما وتمنع المستثمرين الخواص من دخولها والاستثمار فيها أو أن تضبط أسعار المواد الأساسية وأن تقوم بدعم أسعارها من أموال دافع الضرائب أو أن تحمي المنتوج الوطني من المنافسة الخارجية. كل هذه السياسات التي اعتمدتها دولة الاستقلال وقامت على التحكم في الاقتصاد وتوجيهه من قبل بيروقراطية الدولة وفق نموذج البلدان الاشتراكية والسوفياتية باءت بالفشل وأدت إلى ركود اقتصادي وهدر إمكانيات الدولة والموارد الذاتية التي كانت متوفرة لديها واستشراء الفساد والتبذير واللامبالاة تجاه المصلحة العامة وتدهور المرافق العمومية من صحة وتعليم ونقل وغيرها وارتفاع في الدين العام الداخلي والخارجي وعجز عديد الدول غير النفطية في المنطقة العربية على سداد ديونها وفقدانها لسيادتها الاقتصادية ودخولها تحت سيطرة صندوق النقد الدولي وتوجيهاته وهو ما حدث بالنسبة إلى تونس سنة 1986 بعد أن شارفت على الإفلاس فالتزمت بتنفيذ خطة الإصلاح الهيكلي التي وضعها لها صندوق النقد الدولي. ما يمكن أن ننتبه إليه هو أن الاقتصاد التنافسي يفرض على الفاعلين والمتدخلين حسن الأداء والعمل على كسب ثقة حرفائفهم وعملائهم وتوفير البضائع الجيدة لهم وعدم نجاحهم في الحصول على حصة كافية من السوق يؤدي إلى فشلهم وحتى إفلاسهم مما يجعل منظومة السوق هي التي تعاقبهم لكن بالنسبة إلى موظفي الدولة من الذي يعاقبهم في حال كان أداؤهم لعملهم سيئًا وأظهروا نقصًا في الكفاءة والخبرة؟ بصراحة لا أحد. أسمع من بعض الاصدقاء اليساريين أنه لا بُد من تفعيل الرقابة على الموظفين وهيئات الدولة ودوائرها ودعم هيئات الرقابة الإدارية وهيئات الزجر المالي كما يوجد لدينا في تونس ومعاقبة المقصّرين في أداء مهماتهم داخل هياكل الدولة بدل خصخصة الشركات العمومية أو اعتماد نظام المناولة أي تكليف شركات خاصة بالقيام بمهمات تتولاها تقليديًا الإدارة. طيب لكن المشكل هنا هو من يراقب هؤلاء المراقبين العموميين ويضمن حسن أدائهم لمهماتهم؟ ألن نقع هنا في حلقة مفرغة لا نخرج منها؟ ثم كم هي تكلفة الأجهزة الرقابية على الدولة وعلى المجموعة القومية ودافع الضرائب؟

أعتقد أن دور الدولة في المجتمعات النامية مهم وأساسي لكن هذا الدور لا يكمن في تحولها إلى فاعل اقتصادي ينافس الفواعل الخاصة ويمتلك شركات وأعمال منافسة لهم ثم يستخلص منهم الضرائب ليُموّل بها شركاته ذات الأداء والمردود الاقتصادي الضعيف وإنما مثلما أشرتم في توفير شروط دولة القانون وحماية حقوق الملكية المادية والفكرية وضمان المحاكمة العادلة وسريان القانون على الجميع على قدم المساواة ومقاومة الغش والتحيل وحماية التنافسية ومقاومة الاحتكار ومنع المتدخلين في السوق من التفاهم بينهم لضبط أسعار البضائع على نحو مسبق والسيطرة على السوق. كما أن دور الدولة هو أيضًا في التصدي لتشكل مكامن ريعية في الاقتصاد تكون مغلقة أمام المنافسة وحكرًا على البعض ورعاية مصالح المستهلكين لأنهم محرك للاقتصاد ولآلة الإنتاج والحرص على أن تكون المنظومة الاقتصادية الوطنية إدماجية وشمولية Inclusiveوليست استخراجية extractiveقائمة على استخراج الريع بأشكاله المختلفة. كما ينبغي على الدولة أن تعمل أيضًا على تيسير حصول المستثمرين الصغار أصحاب المنشآت الاقتصادية الصغيرة Start-ups والمتوسطة على التمويل البنكي وغيره وعلى الحصول على حصة في الصفقات العمومية حتى تقدر على البقاء ومنافسة الشركات الكبرى وأن توفر أيضًا الاستثمارات الضرورية في البنية الأساسية وفي المرافق الصحية العمومية والتعليم وأن يكون أداؤها وتسييرها خاضعًا لمعايير القطاع العام نفسها، وأن يخضع الموظفون والأعوان فيها إلى عملية تقييم للأداء يكون منصفًا وشفافًا، وأن يخضعوا للمساءلة.

وأنا شخصيًا لا أوافق رأي العديد من أصدقائي اليساريين الذين يعتقدون أن المجتمع المدني يستطيع أن ينهض ويكون فاعلًا في ظلِّ هيمنة سلطات بصورة تكاد تكون مطلقة على الدولة والسوق في آنٍ معًا. فسيطرة الدولة على السوق يجعلها عمليًا مسيطرة على كل جوانب ومناشط المجتمع وذات جهاز بيروقراطي متضخم يمكنها من ممارسة هذه السيطرة والرقابة على حركة المجتمع المدني. فضلًا عن هذا في ظل هذا الوضع تصبح مصائر الأفراد سواء أكانوا موظفين وأعوان في الدولة أو أصحاب مهن حرة أطباء ومهندسين ومحامين وغيرهم أو رجال ونساء أعمال خاضعين إلى الدولة وجهازها البيروقراطي ولا يتمتعون بالحرية الكاملة. وعندما يكون نظام الحكم استبداديًا، مثلما عهدناه بلداننا، يكون بعث منظمات المجتمع المدني خاضعا إلى تأشيرة من الدولة ويتم استغلال هذا الوضع لتشجيع الموالين للسلطة والحزب الحاكم لبعث الجمعيات المؤيدة للحكم ورفض مطالب الترخيص لجمعيات مشكوك في ولاء من تقدموا بها. ويتم أيضًا تشديد الخناق على الجمعيات المستقلة التي بعثت في فترة سبقت ترسيخ الحكم الاستبدادي مثلما هو الأمر في تونس بالنسبة إلى رابطة الدفاع عن حقوق الإنسان أو جمعية القضاة أو الصحافيين وافتعال الأزمات والمشكلات داخلها وتحريض بعض أفرادها حتى ينقلبوا على قياداتها ويستولوا عليها مثلما حصل لنقابة الصحافيين سنة 2007.

والمشكل الكبير الذي يعترض جمعيات المجتمع المدني في ظل سيطرة الدولة على كل مقدرات البلاد وعلى الاقتصاد هو التمويل فالفاعلين الخواص ضعيفين ولا يخاطرون بإغضاب السلطة بتمويل عمل جمعية مستقلة عنها حتى لو كان نشاطها ينحصر في العمل الخيري وبعيد على السياسة لأن السلطة لا تسمح بأي نشاط مدني يكون خارج نفوذها ورقابتها. أما المنظمات المهنية فهي مضطرة لتقديم الولاء للسلطة لأن تمويلها يأتي في جانب كبير منه من الدولة (في تونس الدولة تخصم معلوم الاشتراك في النقابات من الموظفين والأعوان والشركات التابعين لها وتحوله إلى الاتحاد العام التونسي للشغل). وهو ما يدفع منظمات المجتمع المدني المستقلة والناقدة لسلوك السلطة إلى البحث على التمويل الخارجي وهو ما تبادر السلطات بمنعه من خلال قوانين تجرم ذلك مثلما رأينا في مصر وروسيا وتركيا ويمكن أن يحدث قريبا في تونس.

أما عندما يوجد فاعلون اقتصاديون مستقلون عن الدولة ولا يكون مصيرهم وأعمالهم رهين قراراتها مثلما نلاحظ ذلك في الدول الديمقراطية المزدهرة يكون استقلال المجتمع المدني أمرًا واقعًا لأنه تتوفر لديها موارد للتمويل الخاص وبالتالي استقلال على مستوى التمويل. فمثلًا في ألمانيا قوة وقفيات مثل وقفية شركة بوش وشركة فولسفاغن وهانز سيدل وهنريش بويل وروزا لوكسنبورغ وفريدريش أبرت وأدنهاور وغيرها سند كبير لمنظمات المجتمع المدني وجمعياته في المانيا وخارجها. في تونس وللأسف قام النظام البورقيبي بمحاكاة النظام اليعقوبي الفرنسي وألغى الأجسام الوسطى والجمعيات وأمم الوقفيات التي كانت تمتلكها وقضى على مصادر تمويلها وهو ما مكنه من إخضاع المجتمع كليا للدولة ولم تبرز نزعات الاستقلال النسبي للمجتمع المدني إلا مع بدايات الثمانينات ولم يصلب عودها للأسباب التي أتينا على ذكرها.

السؤال الثامن

رواق ميسلون: في معظم بلدان الربيع العربي، هناك قوى ومنظمات وتيارات تتقاطع وتتشابك مع التراكيب الطائفية والقومية، وتُطلق على نفسها أحزابًا سياسية أو منظمات مجتمع مدني. بمعنى آخر، إنَّ معظم الأحزاب السياسية السائدة في المنطقة العربية تفتقد فعلًا إلى الصفة السياسية المدنية، وتكاد أن تكون صفتها الأيديولوجية هي المهيمنة؛ لدينا في سورية مثلًا أحزاب قومية، عربية وكردية، ولدينا أحزاب دينية مثل “جماعة الإخوان المسلمين” وغيرها، ولدينا أحزاب “يسارية” لا تجد مكانًا لها إلَّا بين “الأقليات الدينية”، ما يعني الافتقاد إلى وجود منظمات أو تنظيمات وطنية سورية حقيقية. فهل يُعتدُّ بهذه التنظيمات والقوى السياسية لتكون أدوات للنضال المدني، ومن ثمَّ روافع للنهوض والتغيير الديمقراطي وبناء الدولة الوطنية الحديثة؟

الدكتور منير: أعتقد أن التركيب المتنوع والتعددي على الصعيد القومي والطائفي والديني لبعض المجتمعات العربية ومنها المجتمع السوري هو واقع لا يمكن مواصلة نكرانه أو تجاهله أو الاصرار على أنها ظاهرة ما قبل حداثية كان ينبغي أن تزول لو أن مسار التحديث لم يعرف تعطيلًا ولم يلق صدًّا من القوى المحافظة والرجعية. وقد أدّت هذه المقاربة في الواقع إلى العنف وإلى محاولة فسخ هويات الجماعات الأقلية وإدماجها بالقوة في الجماعة القومية الغالبة وأدى إلى تعزيز المنحى الاستبدادي للدولة. أعتقد أن الجميع اليوم اقتنع بأنه لا يمكن مواصلة السير في الطريق نفسه لأنه يؤدي إلى ردب أي طريق مسدود ولا بد من اعتماد الديمقراطية وأن الدولة الوطنية ينبغي أن تكون حاضنة للجميع وديمقراطية. أعتقد كذلك بصفتي متابعا متعاطفا مع ما يحدث في الساحات السياسية العربية أن الدولة الوطنية اليوم التي يتعين بناؤها أو إعادة بنائها ينبغي أن تبنى على الديمقراطية وعلى إدماج الجميع ولا يمكن أن يكون ذلك في رأيي إلا بتبديد مخاوف الأقليات الطائفية والدينية والقومية من خطر العودة إلى استبداد القومي العربي ومحاولة فرض الوحدة القومية بأساليب قسرية. لذلك ينبغي أن يكون الانتماء السوري هو الغالب على بقية الانتماءات الخصوصية الأخرى العربي والكردي العلوي والسني والشيعي والمسلم والمسيحي. وبتغليب الانتماء القطري على الانتماء العربي دون التنكر له بطبيعة الحال والاعتراف بالهويات الخصوصية والحقوق الثقافية لها وبمبدأ الاشتراك في وطن واحد يكون فيه الجميع سواء في الحقوق والواجبات والحرية وصون حق الأقليات في حماية هوياتها الخصوصية أعتقد أنه يمكن تذليل جانب كبير من الصعوبات التي تعوق بناء تحالف ديمقراطي واسع.

بطبيعة الحال لا يمكن أن تبرز ثقافة سياسية مدنية تكون مرجعا لجميع المواطنين بطريقة سريعة وإنما يقتضي ذلك مسارًا قد يقتضي سنوات مع تطور الحراك المجتمعي والجدل السياسي وتطور العملية السياسية مع عودة النشاط الاقتصادي والنمو وتحسن الوضع المعيشي للناس عندما تتحقق الإصلاحات الاقتصادية المنشودة لهياكل الدولة والاقتصاد. أذكّر فقط أن من بَنى الديمقراطية في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية على وجه الخصوص هي الأحزاب المسيحية الديمقراطية في المانيا وإيطاليا والنمسا وهولندا وبلجيكا مثلًا. وعندما نعود إلى تاريخ هذه الأحزاب في الخمسينيات والستينيات نكتشف أنها لم تكن مدنية على النحو الذي هي عليه اليوم بل كانت دينية وحتى طائفية. فحزب الديمقراطية المسيحية الألمانية لم يسقط من قانونه الداخلي شرط الانتماء إلى الكنسية الكاثولوكية للانخراط في الحزب إلا في منتصف الستينيات من القرن الماضي وهو ما يؤكد أنه ظل طوال القترة التي سبقت ذلك حزبًا سياسيًا ودينيًا كما أن هذا الحزب كان رافضا حتى بداية الستينيات انخراط المسيحيين البروتستانت في صفوفه ويعتبر نفسه حزبًا ممثلًا لطائفة المسيحيين الكاثوليك فحسب ولم يقبل بانضمام المسحيين البروتستانت إليه إلا في بداية الستينيات. فضلًا عن هذا نجد في كتاب غبرييل ألموند وسيدني فربا: الثقافة المدنية، الصادر سنة 1963، أن في ألمانيا في مطلع الستينيات، حين أجريت الدراسة واستطلاعات الرأي لهذا الكتاب، لا يزال المواطن الألماني الكاثوليكي يرفض إعطاء صوته إلى المرشح البروتستانتي لأنه يعتبره مارقًا عن الدين المسيحي ويرفض التصويت لمصلحة الاشتراكيين الديمقراطيين لأنه يراهم ملاحدة ويشك في ولائهم للموطن على الرغم من وجود بند في القانون الأساسي الألماني يفصل بين الدولة الدين. يعني ذلك أن الثقافة المدنية نتاج للمسار الديمقراطي ولتطور العلمية السياسية ولتطور المجتمع ورقيّه الثقافي والأخلاقي وليس نقطة البداية للعملية الديمقراطية.

نقطة أريد أنهي بها وهي أن نمط الديمقراطية الذي أراه مناسبا للتعددية الثقافية والعرقية والقومية هو ذلك الذي وسمه أرنت ليبهارت بالديمقراطية التوافقية consensual democracyالقائم على الاقتراع على القائمات على قاعدة النسبية مقابل ديمقراطية الأغلبية حيث يكون الاقتراع على الأفراد على قاعدة الأغلبية مثلما هو الحال في نظام وينسمنستر وفي أميركا وفي فرنسا. فاعتماد هذا النظام من الاقتراع هو الذي مكن مثلما يقول ليبهارت من إنهاء النزاع في إيرلندا حين تمكن الكاثوليك، من حيث هم أقلية عددية، قياسًا للأغلبية من البروتستانت من الحصول على مقاعد في المجلس التشريعي ومن الدفاع على حقوقهم في نصيب عادل من التمويل العام للمرافق والخدمات والتعليم والصحة في المناطق التي يسكنونها ومكن من رفع الحيف عنهم وإزالة شعور الضيم الذي لازمهم لمدة طويلة ومكن من اندماجهم على نحو أفضل داخل الحياة السياسية لبلدهم إيرلندا. وأعتقد أن هذا مثال لنمط من الديمقراطية يمكن أن يعيد الثقة للناس إمكانية حل مشكلاتهم من خلال العملية السياسية والحصول على التوافقات والذهاب إلى صناديق الاقتراع دون ركون إلى العنف أو المغالبة أو التبجح بتمثيل الجماعة الغالبة من سكان البلاد. وأمر كهذا ليس من شيم الديمقراطية ولا من أخلاقها.

 

الدكتور منير الكشو

الدكتور منير الكشو

دكتوراة في الفلسفة-جامعة تونس، أستاذ الفلسفة الأخلاقية والسياسية بجامعة تونس من 2000 إلى 2020، أستاذ في برنامج ماجستير الفلسفة، بكلية العلوم الاجتماعية والإنسانية في معهد الدوحة للدراسات العليا منذ أيلول/ سبتمبر 2020. قبلها كان أستاذًا في قسم الفلسفة بجامعة تونس، من 2000 إلى 2020. تقع اهتماماته البحثية في نطاق فلسفة الأخلاق، نظريات العدالة المعاصرة، فلسفة العلاقات الدولية، نظريات الديمقراطية، نظريات التحول الديمقراطي، قضايا التنمية، حقوق الانسان. أشرف على نشر أعمال ملتقى دولي من تنظيم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات فرع تونس في ديسمبر 2018 حول "الاصلاح الديني والاصلاح السياسي بين الديمقراطية المسيحية والاسلام السياسي: سجالات ومقارنات". أشرف على تحرير أوراق بحثية حول "النظام السياسي والديمقراطية التمثيلية والانتقال الديمقراطي" في إطار ندوات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة حول الانتقال الديمقراطي. نشر كتابين بالفرنسية حول الفيلسوف الأميركي المعاصر جون رولز Etudes rawlsiennes: contrat et justice (2006) و Le juste et ses normes: John Rawls et le concept du politique (2007) وله عديد من المقالات والفصول المنشورة بالعربية والفرنسية والإنكليزية في دوريات ومؤلفات مشتركة. آخر ما نشر له مقالة في دورية تبين العدد 43 شتاء 2023 تحت عنوان: "الليبرالية وحرية التعبير: قراءة في الخلفيات الفلسفية لجدل قانوني وسياسي".

عرض مقالات الكاتب

مشاركة: