الثقافة السياسية في سورية بوصفها إشكالية وعي تعوِّق بناء الدولة الديمقراطية

 

تمهيد

تُشير الثقافة السياسية إلى مجموعة القيم والمعتقدات والممارسات التي ترتبط بالنظام والمشهد السياسي في بلدٍ ما من البلدان، ويمكن تحديدها عن طريق دراسة كيفية تكوين السياسة والحكم، وكيفية تفاعل المواطنين مع هذه العمليات، ولذلك تتأثر الثقافة السياسية بعوامل عدة، بما في ذلك التاريخ السياسي للبلاد، والدين، والتشدُّد السياسي أو التحفظ، والتوجهات الاقتصادية، والتحولات الاجتماعية. وقد لجأ النظام الحاكم في سورية منذ استيلائه على السلطة عام 1970م إلى نشر ثقافة سياسية مشوهة وزائفة؛ بغية التحكم في الوعي السياسي، ما جعل الفكر السياسي فكرًا أيديولوجيًا ناتجًا عن سلطة لا يرفضها ولا يثور ضدها، فباتت السياسة تُمارَس بشكل أحادي الجانب، ومن جهة واحدة، وفكر واحد يرفض ويحارب أيَّ شيء يخالف منظومته الفكرية التي تمَّ رسمها مسبقًا.

وقد اتبعت سلطة النظام في سورية منهج التنميط على الأفراد بغية إيجاد جيل جديد متناسب مع ثقافة السلطة، وهذا الأسلوب كفيل بتعزيز قوته، وتعميق جذوره في الحكم، بحيث حوَّل أيديولوجيا السلطة إلى نمط ثقافي سائد، إضافة إلى نشر ثقافة الخوف من الآخر، حيث تقوم هذه الثقافة على مبدأ التعامل مع كلِّ منطقة جغرافية، وكلِّ طائفة، أو هوية جزئية في سورية بشكل خاص، وهذا ما يجعل من الآخر المختلف عدوًا متربصًا بها، ما تسبب بغياب الدولة بمعناها الحديث، وتعطيل مؤسساتها التي باتت تعمل وفق رؤية شخصية تحكمها مصالح فئة من المنتفعين، فكانت الثورة السورية التي تزامنت مع الربيع العربي والتي عدَّها الشعب السوري فرصة تاريخية جادت بها حركة التاريخ وسيرورته، ولا بدَّ من استغلالها في إعادة بناء الدولة الوطنية التي تقوم على أساس الحرية والمواطنة، فطرحت المشروعات حول هوية شاملة، تقوم على احترام التباين بين الهويات الفرعية، واحترام خصوصيتها، بشكل يجعل الوطن مفهومًا ساميًا وأولوية وجودية.

أولًا: تعدُّد الهويات وتحويلها إلى أداة سياسية

أفرزت سنوات النضال ضدَّ الانتداب الفرنسي هوية سورية جامعة، كانت بمنزلة مظلَّة للهويات المختلفة والتي ساهمت جميعها في نيل سورية لاستقلالها عام 1946م، إلا أنَّ الأحداث التي مرت بها البلاد حالت دون اكتمال هذا المسار، ودون تحقيق عملية البناء الفعلي، فقد كانت أولها صدمة الهزيمة التي طالت العرب في حرب فلسطين عام 1948م، ثمَّ دخول المؤسسة العسكرية على خط الحكم، عبر سلسلة من الانقلابات التي أدخلت البلاد في نفقٍ من التناقضات الهوياتية، وذلك من خلال موجة الانقلابات التي مارست حيال الانتماءات لعبة التجاذبات (تقريب – تبعيد).

ثمَّ جاء عهد الجمهورية العربية المتحدة، والذي جمَّد الصحافة والإعلام، وأوقف العمل السياسي للأحزاب والحركات المختلفة داخل سورية، حيث كان ذلك شرطًا أساسيًا وضعه جمال عبد الناصر لقيام الوحدة المصرية مع سورية عام 1958م، وهنا “تحوَّلت هوية العروبة إلى واقع عملي، بعد أن كانت شعارًا ونظرية. وبعد إعلان حلِّ الوحدة، لم تتخلَّ حكومة فترتي الانفصال عن (الهوية العربية)، وحوُّل اسم الجمهورية السورية إلى الجمهورية العربية السورية، في محاولة لنفي تهمة الانفصالية عنها، وإثبات التمسك بالهوية القومية العربية”[1]، وبذلك شهدت هذه المرحلة إقصاء كاملًا لبقية الهويات المكوِّنة للدولة، مقابل حضور شامل للهوية القومية، وما إن حدث الانفصال وعادت الهويات للترتيب ذاته، وهيَّـأت نفسها للحضور مجددًا على الساحة السياسية حتى اصطدمت محاولاتها بانقلاب حزب البعث عام 1963م الذي غيَّر وجه سورية عبر سلطة استبدادية شمولية حتى قيام الثورة السورية عام 2011م والتي تزامنت مع ثورات الربيع العربي.

لقد هيمن البعث على الدولة بمؤسساتها كاملة، وامتدَّ ليهمين على المجتمع، واحتكر النشاط السياسي في البلاد، إذ نصَّت المادة الثامنة من الدستور الصادر عام 1973م، على أنَّ “حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة، ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية”[2]، وغيرها من المواد التي تؤكِّد الهوية القومية للدولة، وأنَّ حزب البعث ذا التوجه القومي هو المنظِّم للحياة السياسية، وبهذا الشكل تمَّ مجَّددًا إقصاء الهويات الأخرى المكوِّنة للدولة من المشاركة الفعلية في الدولة، بل ومُنعت حتى من التعبير عن خصوصيتها، وتمت ملاحقة بعضها، وقد استخدم البعث ما سمِّي بالجبهة الوطنية التقدمية كوسيلة لتبرير هيمنته على بقية المكونات الهوياتية، ومصادرة عملها السياسي، ويقوم عمل هذه الجبهة على مبدأ ائتلاف مكوَّن من مجموعة من الأحزاب في سورية، بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي، والذي يرأس الجبهة القيادية المركزية، وينص ميثاق الجبهة فيها على أن تتكوَّن من الأمناء العامين للأحزاب والمنظمات المنضوية تحت الجبهة وأعضاء من حزب البعث العربي الاشتراكي، على أن يشكِّل الأعضاء البعثيون النصف زائد واحد من مقاعد القيادة[3]، أي يبقى أيُّ نشاط هوياتي، أو أيُّ نشاط سياسي، أو توجه مغاير لتوجه السلطة ضمن بوتقة البعث، أو جبهته الوطنية التي أوجدها؛ لحصر العمل السياسي من خلالها، وبالتالي تظهر السلطة بمظهر الديمقراطي القابل للتشاركية السياسية، لكن حقيقة الأمر كانت بأنَّها وضعت هذه المكونات تحت وصاية الحزب الذي وظَّفها في تمرير مشروعه الأيديولوجي.

ولم يكتف النظام الحاكم بهذه الهيمنة، فقد أدَّى اندلاع الثورة السورية إلى عودته للاستنجاد بالهويات الداخلية، فضلًا عن الاستعانة بالخارج، حيث عمل على تحويل الثورة الشعبية إلى محاصصات مناطقية وهوياتية، ثم إلى حرب أهلية بين أطياف استطاع استجرارها إلى هذه المصيدة، ليقدِّم للرأي الدولي صورة مشوهة عن ثورة الشعب، وليظهر بمظهر المدافع عن المكونات الجزئية في سورية، فقد شجع على استقطاب عدد من المنتفعين من جميع الهويات؛ ليكونوا ممثلين لمجموعاتهم العرقية أو الدينية أو غيرها من بقية الانتماءات الهوياتية، كما استخدم النظام الحاكم آلته الإعلامية في تقديم نفسه بمظهر الحامي للهويات مقابل الآخر (الثوار)، وبالتالي حققت السلطة الاستبدادية اختراقًا نسبيًا داخل الهويات، بعد استمالتها إلى صفها، ولا سيما بعد سنوات من الصراع والمعاناة، بعضها كان نتيجة سياسة الإقصاء التي مارستها بعض التنظيمات العسكرية المحسوبة على الثورة، كما هو الحال مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الإرهابي وتنظيم القاعدة وغيرهما، ما جعل النظام يُظهر أمام الرأي العام أنَّ وجود هذه الهويات السورية وتنوعها يرتبطان بوجود هذا النظام، وحقيقة الأمر مغايرة تمامًا فهذه الهويات هي أشد مَن عانى من ديكتاتورية هذا النظام وما زالت تعاني.

يمكننا القول إنَّ عهد البعث شهد غيابًا أو تغييبًا للهوية الوطنية في سورية، ما تسبب في غيابها في الوعي الجمعي السوري، ولعل السبب يعود إلى أن هذه الهويات لم تشعر بوجود مشروع وطني قوي يحقق حضورها الفاعل ويصون لها خصوصيتها ضمن بوتقة المشروع الشامل للدولة.

ثانيًا: الثقافة السياسية نتاج إيديولوجي

كانت الثقافة السياسية جزءًا أصيلًا من الثقافة العامة للمجتمع، تؤثر فيه وتتأثر به، وقد أدرك النظام الاستبدادي الحاكم هذه الحقيقة، ما جعله يلجأ إلى الهيمنة على أيِّ نشاط سياسي، يحتكر ممارسة السياسة ضمن أطر ضيقة جدًا، فيكون هو المحرك والفاعل الحقيقي في أيِّ نشاط سياسي؛ لأنَّ الثقافة السياسية تعبِّر عن منظومة القيم والاتجاهات والمشاعر المتعلقة بأفراد المجتمع وعلاقتهم بالسلطة، وترسم شكل السلطة وتحولاتها، أي إنَّ هناك ترابطًا حقيقيًا بين شكل الحكم السائد والثقافة السياسية التي تُمثِّل القاعدة لأفراد الشعب التي ينطلقون منها في تشكيل تصورات السلطة وشكلها.

وقد أوضح صمويل هنتنغتون أنَّ التحول الديمقراطي “عملية معقدة تُشارك فيها مجموعات سياسية متباينة وتتصارع فيما بينها للوصول إلى السلطة”[4]، وهنا تأتي مهمة النظام الاستبدادي في تشويه الثقافة السياسية عبر إحكام سيطرته الكاملة على جميع ميادين الحياة في المجتمع، وإنتاج ثقافة خاصة به تؤمن استمراريته في السلطة، وتضمن توجيه الأفراد لوجهةٍ محددةٍ تخدم السلطة، وهذا ما فعله النظام الأسدي في سورية بعد أن سيطر على الحكم في إثر انقلاب ما سمي بالحركة التصحيحية عام 1970م، فقد أوقف عجلة الحياة السياسية، ونشر نمطًا من الوعي الزائف الذي يقوم على أساس العقل الأمني لا المدني، والنهج المتحكِّم في السلطة والرافض لتداولها، لذا فهو يرفض أيَّ شكل من أشكال المعارضة، ويعمل على الحيلولة دون أيِّ انتشار لثقافة الحريات، كما يسعى لنشر ثقافة الخوف والإذعان للسلطة، ما يكفل استمرار تكميم الأفواه عبر قانون الطوارئ، بحجة مقاومة الكيان الصهيوني، وهذا ما يجعل مفهوم المواطنة مفهومًا أجوف فارغًا من كلِّ محتوى فاعل؛ لأنَّه يقوم على أساس فكر شمولي سلطوي يستهدف تطبيق البرنامج الأيديولوجي الخاص بالنظام السياسي الحاكم، المستند بالأساس إلى نزعة غائية يحكمها منطق المصالح والتي تعزز بقاءه في الحكم عبر مجموعة من القيم والمبادئ التي ينشرها من خلال خطاباته وبرامجه السياسية.

لجأ النظام الاستبدادي لتعزيز ثقافته السياسية إلى سلسلة من الإجراءات التي طالت المجتمع والدولة ومؤسساتها، فكان لا بدَّ من أن يبدأ من الهيمنة الأمنية؛ لأنَّ أداة السيطرة على مؤسسات الدولة هي إحكام القبضة على المؤسسات الأمنية، حيث حوَّل الجيش وبقية المؤسسات إلى مؤسسات مؤدلجة عبر وضعها بالكامل تحت نفوذ الطغمة الحاكمة، ومع مرور الزمن قام بالإسهام في إحياء المنافسات والنزاعات ما قبل الوطنية، وإذكاء روح التنافس والتناحر بين مختلف مكونات المجتمع السوري، لضمان ولائها للسلطة المؤدلجة ولثقافتها الموجهة، و”علـى الرغـم مـن أنَّ الصـراع علـى السـلطة داخـل حـزب البعـث أفضـى إلـى انقلابين عسـكريين عامـي 1966 و1970 لـم يتغيـر الطابـع الحصـري للثقافـة القوميـة، ولـم تتغيـر الأسس المعرفيـة والفكريـة التـي قامـت عليهـا العقيـدة القوميـة التـي اعترضـت سـيرورة التطـور الثقافـي فـي سـورية وعطلتها، ونـرى أنَّ عـدم تشـكُّل ثقافـة وطنيـة سـورية كان ومـا يـزال عقبـة فـي طريـق الاندماج الاجتماعي والتنميـة الإنسانية الشــاملة والعادلــة، وقطــع الطريــق عــن أيِّ إمــكان لتحــول ديمقراطــي”[5]، إذ إنَّ الامتداد الزمني الطويل للحكم الاستبدادي خلَّف نمطًا من التفكير عبَّر من خلاله عن طبيعة العلاقة التي يبنيها النظام الشمولي بينه وبين شعبه والتي تقوم في أساسها على تحقيق غاياته الأيديولوجية، ومع طول هذه الفترة التي عاشها الشعب السوري “ترسَّخ ذلك النمط، وتحوَّل من مفردات متفرقة إلى لغة تخاطب وأسلوب تفكير، ثم إلى ثقافة سياسية أساسها الخوف والتملق، لتتطور بعد ذلك، إلى فولكلور سياسي، قد تعتقد الأجيال الجديدة أنَّه جزء من تراثها السياسي”[6]، فسورية تمتلك تراثًا ثقافيًا وحضاريًا عريقًا، وقد كان من الجائز تحويل هذا التراث وتوظيفه في صياغة ثقافة سياسية تجعل من الدولة السورية من خيرة الدول في العالم، لولا وقوعها في فخ الاستبداد الذي أسر الدولة، وعرقل نموها التاريخي.

إنَّ الخضوع الطويل للنظام الشمولي قاد إلى إعادة تشكيل في الذهنية السياسية لمواطنيه، بشكل بات المخالفون لهذه الذهنية المؤدلجة يصورون على أنَّهم مواطنون غير أسوياء أو غير وطنيين، وربما خونة، إذ كان الأمر متعلقًا بمعارضة النظام الحاكم، وهذا الأمر ترافق مع تأييد نسبة ليست قليلة من الشعب الخاضع لوعي السلطة الزائف الذي تربَّى عليه ومارسه على أساس أنَّه نمط تفكير ذهني واقعي، الأمر الذي قاد إلى حالة من الفصل بين العقل الناقد والعقل الخاضع لثقافة سياسية مؤدلجة، ما أوجد هوة كبيرة قادت إلى حالة من الصراع غير البنَّاء، والذي تسبب بانهيار الدولة، وهدر طاقاتها، من خلال الصراعات العبثية التي ليس لها غاية إلا الإطالة من عمر السلطة الشمولية، وإفراغ الدولة من مضمونها الحقيقي.

ثالثًا: استشراف ملامح هوية دولة وطنية وبناء ثقافة سياسية

لم يهنأ الشعب السوري منذ تكوُّن الدولة السورية الحديثة في القرن الماضي بالعيش في ظلِّ دولة وطنية تصون له حقوقه سوى سنوات قليلة ومحدودة، في حين ظلَّ طوال بقية العقود يبحث عن هوية جامعة يعتز بالانتماء إليها ويدافع عنها، إلا أنَّ الانتداب والانقلاب والاستبداد قد حالت جميعها دون تحقيق حقه الطبيعي في بناء دولة ديمقراطية تضمن له حريته، لذا فقد اعتقد الشعب بأنَّ قيام ثورات الربيع العربي فرصة مناسبة لتحقيق ما فقده.

لقد آمن الشعب السوري بأنَّ الربيع في بلاده قد ظهر بعد عقود طويلة من القحط السياسي والإقصاء الثقافي الذي مورس عليه، وبأنَّ الربيع قادر على تحقيق الوعي الذاتي للفرد الذي ينبغي أن يبني عليه الوعي الجماعي، هذا الوعي الذي يُبنى على أساس مفهوم المواطنة والذي يتجسد عبر تحقيق الوطنية والقدرة على جعل الأفراد يشعرون بالانتماء إلى الوطن بشكل أكبر من أيِّ انتماء جزئي آخر، ولا سيما الانتماءات ما قبل الوطنية كالعشائرية والأثنية والمذهبية وغيرها، حيث يتمُّ ذلك دون أيِّ نفي أو رفض لهذه الانتماءات الفرعية؛ إنَّما بصبغها بطابع هوية الدولة الجامعة، وبإعطائها خصائص تسمح لها بالاندماج في الفضاء العام السياسي دون أن يلغيها أو يحاربها أو يفرض عليها قسرًا هوية كلية شمولية، وهذا ما تحاول خلقه بعض منصات الثورة السورية بهدف تجاوز حالة غياب الثقافة السياسية الفاعلة التي من شأنها تسهيل هذه المهمة الوطنية، هذا الغياب الذي كان ركنًا أساسيًا من أركان الدكتاتورية البعثية، إذ إنَّ خلق ثقافة سياسية وطنية اليوم ضرورة؛ لأنَّها “نظام علاقات متكامـل مـن العـادات والتقاليـد والممارسـات والمهـارات والمعـارف والقواعـد والمعاييــر والمحرمــات والاستراتيجيات والمعتقــدات والأفكار والقيــم والأساطير، التــي تســتمر مــن جيـل إلـى جيـل ويسـتعيدها كلُّ فـرد وتولّـد (التعقيـد) الاجتماعي وتجـدده، وتجمـع فـي داخلهـا مـا هـو محفــوظ ومنقــول ومكتــوب، وتتضمــن مبــادئ الاكتساب ومناهــج الفعــل، فالثقافة أول رأس مال إنساني وبدونها يصبح الكائن البشري من اللبائن الدنيا في آخر السلم”[7]، وبناء على هذه الثقافة لا يتأتَّى قيام الدولة إلا من الرغبة في التعايش الاجتماعي وقبول التنوع والاختلاف، ممَّا يضفي على هذا المجتمع سمة الإنسانية، وتكون الثقافة محركًا حضاريًا وأخلاقيًا يوجه السلوك نحو البناء والتقدم لمجاراة حركة التاريخ البشري.

وممَّا لاشك فيه أنَّ بناء الدولة الجديدة لا بدَّ أن يقام على أساس الحرية والديمقراطية، واحترام التنوع الهوياتي المكوِّن لسورية بوصفها دولة مستقلة، ولا بدَّ أن يسود الاحترام المتبادل للثقافة والتباين الثقافي بين الجميع، أي أن تقام العلاقة على مبدأ (رأس المال الثقافي)أ أأاااااىىأ

بحسب تعبير بييــر بورديــو- وقد استخدم هذا التعبير آخرون أمثال إليزابيث سيلڤا، وسوزان دوميس- وهذا المبدأ يؤسس للمساواة والحرية وينشر العدالة بين الجميع بشكل يجعل ما يسود بين الأفراد ليس المساواة بمعنى المحاصصة أو التقاسم، إنما تكون العلاقة بمرتبة الصداقة التي تجمع الأفراد في حالة من العناية والاهتمام في ما بينهم، علاقة يسودها حب المشاركة في السراء والضراء، فهي مورد يمنح الفرد قوة اجتماعية في فضاء الدولة، ويتجسد بشكل غير مادي، حيث التعامل محكوم بعلاقة محبة بين الناس ترتبط بمبدأ الواجب الأخلاقي الذي يتحدث عن كانط.

وقد أوضح بورديو أنَّ لرأس المال الثقافي تجليات في الدولة الحديثة، وذلك من خلال أعماله عن فرنسا المعاصرة، وخلص إلى أنَّ رأس المال الثقافي يتمثَّل بثلاثة أشكال، أولها الحالة المجسّمة؛ أي تلك المتعلقة بمسألة تنظيم العقل والجسد بهدف تكوين رأس المال الثقافي، ويبذل الفرد الوقت والجهد، بغية الارتقاء الذهني والاستيعاب من أجل تحقيق تنمية ذاتية وتطوير لشخصيته، وهي بمنزلة ثروة خارجية يكتسبها الفرد بجهده لتكوين هويته، في حين أنَّ ثاني هذه الأشكال هي الحالة الموضوعية والتي قد تشمل (الصور، والقواميس) أي إنَّ رأس المال الثقافي له تصور مادي أو أصل مادي، ويمكن نقله وتغييره، أي إنَّها تتطلب رأس المال الاقتصادي، أمَّا الشكل الثالث فهو الحالة التنظيمية أو حالة التكوين العضوي والتي تُقدم سمات رأس المال الثقافي وخصائصه، كما في المؤهلات العلمية، وهذه الأخيرة هي إحدى الطرق لإثبات حقيقة امتلاك الفرد لرأس المال الثقافي، وهذه الحالة هي التــي تفرِّق بين رأس المال الخــاص بالتعليم الذاتي، ورأس المال الثقافي الخاص بالجماعة الحاكمة[8]، أي الشكل الذي يسمح للهويات الجزئية أو الفرعية بالعمل ضمن منظومة رأس المال الثقافي في الدولة، وبالتالي يأخذ مبدأ رأس المال الثقافي في الدولة الجديدة مكانة رفيعة مع منحها طابع القدسية؛ لأنَّها تعبير عن حياة واقعية تعيشها الدولة بمكوناتها الثقافية والاجتماعية.

لا شكَّ أنَّ الهوية السورية الجامعة لدولة المستقبل ستركِّز بالضرورة على إعلاء شأن الوطنية عن طريق الديمقراطية وحقوق الإنسان؛ لأنَّها المحرك والحلقة المفقودة طوال العقود الماضية، ومن خلالها سيتأصل انتماء الفرد لوطنه، وبها يتأصل انتماء المجتمع إلى دولته؛ لأنَّ المعيار الحقيقي للوطنية هو بناء الدولة الوطنية التي تقوم على الديمقراطية وصون الحريات والحقوق عبر مبدأ رأس المال الثقافي.

خاتمة

لقد اجتمعت عدة عوامل للحيلولة دون حضور دولة وطنية في سورية تقوم على أساس الديمقراطية والحرية، ولعل أبرزها إشكالية الثقافة السياسية في سورية، ومحاولات السلطة المستمرة لجعله وعيًا يخدم وجودها ويعززه، ولذا فقد لجأت إلى سلسلة من الممارسات، نذكر أبرزها، وهي:

– لم تسمح سلطة العسكر بالحضور الهوياتي والتنوع الثقافي الذي يمتاز به الشعب السوري، بل احتكرت النشاط السياسي لمصلحة سلطة شمولية استبدادية، فلم يكن من أولويات الاستبداد صناعة دولة ذات هيئة ومؤسسات فعلية؛ إنَّما ركَّز الحكم الشمولي العسكري على التمسُّك بالسلطة والحفاظ على وجوده فيها دون أيِّ اكتراث للشعب وحرياته وحقوقه، وبالتالي لم تشهد سورية قيام الدولة الوطنية الديمقراطية على الرغم من إعلانها الطويل له والذي يعود إلى نهاية الحرب العالمية الأولى وتجربة قيام حكومة عربية في دمشق في ظل نظام ملكي.

– إنَّ هيمنة النظام الاستبدادي على السلطة دفعت لإحكام قبضته على أيِّ نشاط سياسي، فاحتكر ممارسة الفعل السياسي بإضفاء طابعه الأيديولوجي عليه؛ لأنه يُدرك بأنَّ الثقافة السياسية هي المحرك والمؤثر في أيِّ تحوُّل سياسي؛ ذلك أنها تشمل على منظومة من العادات والتقاليد والقيم القادرة على رسم التحولات في المجتمع وبالتالي تحدِّد شكل الحكم في الدولة.

– لم يشفع التنوع الهوياتي للشعب السوري بأن يكوِّن دولة تتَّسع لجميع أبنائه، فقد لجأت السلطات المتتالية إلى تعمُّد إقصاء هذا التنوع الثقافي وتشويهه، وفرض ثقافة مشوهة لا همَّ لها سوى الدفاع عن السلطة، حيث مارس الاستبداد البعثي سياسة تزييف الوعي الجمعي، وخلق شكلًا من التنميط الذي يسمح له بالتعامل مع أفراد خاضعين بشكل كامل لأيديولوجيته الشمولية الإقصائية، ما أوجد حالة من الوهن الفكري الذي جعل المجتمع يعيش مرحلة من الجمود، وهي حالة استاتيكية تروق كثيرًا للسلطة الدكتاتورية التي يمثِّل التغيير العدو الأول لها ولوجودها.

– إنَّ سياسة الاستلاب الفكري التي تتبعها السلطة الشمولية حيال الشعب في سورية تركت أثرًا كبيرًا في البنية الذهنية، فأثرت على النتاج الثقافي والسياسي الطامح لخلق دولة ديمقراطية، وتسبَّبت بإرباك العمل الثوري وتقدمه ضمن مسار طبيعي، فتعثر عدة مرات في تقديم رؤية شاملة جامعة لدولة سورية حديثة، ممَّا جعل العمل السياسي لدى عدد كبير من السياسيين الثوريين يتَّسم بغياب الثقة والقدرة على التغيير.

– لا شك أنَّ الحاجة في سورية إلى دولة وطنية حديثة تستلزم أن تقوم على أساس الديمقراطية وإطلاق الحريات التي يجب أن تقام على صيغة عقد اجتماعي سياسي جديد يبني ثقافة سياسية حقيقية، ويراعي من خلالها حالة التعددية والاختلاف الهوياتي في سورية وفقًا لمبدأ “رأس المال الثقافي”.

المصادر والمراجع المستخدمة

أولًا: المصادر والمراجع باللغة العربية

1- أدغار موران، النهج – إنسانية البشرية الهوية البشرية، ترجمة، هناء صبحي، منشورات هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، أبو ظبي، ط1، 2009م.

2- جاد الكريم الجباعي، المسألة الوطنية في سورية- مقاربة ثقافية، مجلة رواق ميسلون، العدد الأول، كانون الثاني/ يناير، 2021م.

3- خلود الزغير، سورية الدولة والهوية- قراءة حول مفاهيم الأمة والقومية والدولة الوطنية في الوعي السياسي السوري (1946-1963م)، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، والدوحة، ط1، 2020م.

4- دستور الجمهورية العربية السورية، عام 1973م، الباب الأول، المبادئ الأساسية، المادة الثامنة.

5- لبيب قمحاوي، حجارة على بيت من زجاج- مقالات سياسية، منشورات دار البيروني للنشر والتوزيع، عَمان، ط1، 2016م.

ثانيًا: المصادر والمراجع باللغات الاجنبية

1- Samuel Phillips Huntington, Troisième vague: les démocratisations de la fin du xx siècle.( F. Burgess, Trad ) paris: editions, nouveau horizon, 1996.

2- Pierre Bourdieu, The Forms of Capital, In J.G. Richardson (ed), Handbook of Theory and Research for The Sociology of Education, Greenwood press, New York, 1980.

ثالثًا: المواقع الإلكترونية

الموسوعة العربية، الجبهة الوطنية التقدمية.

https://arab-ency.com.sy/ency/details/2480/7

1- خلود الزغير، سورية الدولة والهوية- قراءة حول مفاهيم الأمة والقومية والدولة الوطنية في الوعي السياسي السوري (1946-1963م)، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، والدوحة، ط1، 2020م، ص3.

2- دستور الجمهورية العربية السورية، عام 1973م، الباب الأول، المبادئ الأساسية، المادة الثامنة.

3- للتوسع: يُنظر، الموسوعة العربية، الجبهة الوطنية التقدمية.https://arab-ency.com.sy/ency/details/2480/7

4- Samuel Phillips Huntington, Troisième vague: les démocratisations de la fin du xx siècle.( F. Burgess, Trad ) paris: editions, nouveau horizon, 1996, p121.

5- جاد الكريم الجباعي، المسألة الوطنية في سورية- مقاربة ثقافية، مجلة رواق ميسلون، العدد الأول، كانون الثاني/ يناير، 2021م، ص43.

6- لبيب قمحاوي، حجارة على بيت من زجاج- مقالات سياسية، منشورات دار البيروني للنشر والتوزيع، عَمان، ط1، 2016م، ص380.

7- أدغار موران، النهج – إنسانية البشرية الهوية البشرية، ترجمة، هناء صبحي، منشورات هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، أبوظبي، ط1، 2009م، ص45-46.

8- Check: Pierre Bourdieu, The Forms of Capital, In J.G. Richardson (ed), Handbook of Theory and Research for The Sociology of Education, Greenwood press, New York, 1980, p. 244-248.

مشاركة: