ملخص
ما الذي يميز الهوية الثقافية السورية عن غيرها؟ هل يوجد شعب أم شعوب سورية؟ لماذا أخفق السوريون في بناء دولة حديثة على أساس المُواطنة المتساوية؟ ما مسؤولية العوامل الثقافية والاجتماعية في ذلك؟ تحاول هذه الدراسة الإجابة عن هذه التساؤلات عبر استخدام منهج توصيفي تحليلي، وتزعم وجود معالم مشتركة لثقافة السوريين منها: أ- ثقافة مدينية متعددة البؤر مع حضور ضعيف لتقاليد الدولة المركزية. ب- ثقافة أبوية ذكورية. ت- ثقافة ملل وطوائف مُغلقة على نفسها إلى حدّ كبير.
يمكن الحديث عن شعب سوري واحد بالمعنى الثقافي-الاجتماعي، ولكن بحدود غائمة وتباينات ثقافية فئوية ظاهرة. الشعب السوري يتشكل من شعوب مختلفة لكل منها هوية ثقافية وذاكرة جمعيّة خاصة تقوم على سرديات هي مزيج من ادعاء البطولات والمظلوميات.
ظهرت الهويتان القومية السورية والعربية في أواخر القرن التاسع عشر على أيدي مُثقفين أغلبيتهم من أصول مسيحية لتجاوز الصراعات والانقسامات الطائفية آنذاك، ومن ثمّ تبلورت الوطنية السورية في سياق تراكمي في أثناء فترة الاستعمار الفرنسي وصولًا إلى إعادة توحيد الدويلات السورية والاستقلال، وقد لعبت الجغرافيا السياسية وتقسيمات الحدود في عقب الحرب العالمية الأولى، وكذلك طبيعة النظام السياسي في الحقبة الأسدية دورًا أساسيًا في تشكيل الهوية الثقافية السورية. في ما يخص الثقافة الليبرالية الديمقراطية وعقبات انتشارها في سورية، تميز الدراسة ما بين عقبات سياسية بفعل ممارسات السلطة الحاكمة، وعقبات اجتماعية في ثقافة الشعب /الشعوب السورية نفسها، وتقترح العقبات التالية: أ- انتشار ثقافة الخوف بين السوريين. ب- ضعف اقتران الحرية الاجتماعية بالحرية السياسية. ت- ضعف اقتران العَلمانية بالديمقراطية. ث- قصور الخطاب الديني والثقافة الدينية السائدة.
الكلمات المفتاحية: الشعب السوري – الثقافة – التغيير السياسي.
الإشكالية
ما مُحدّدات الهوية الثقافية السورية؟ وما دورها في التغيير السياسي؟
عناصر مشكلة البحث
أولًا: هل يوجد شعب سوري واحد؟ كيف نميّز الثقافة السورية عن غيرها من الثقافات؟ هل يوجد هوية جوهرانية ثابتة للشعب السوري؟
ثانيًا: ماهي السّمات العامة المُشتركة للهوية/الهويات الثقافية السورية؟
ثالثًا: لماذا فشل السوريون في بناء دولة حديثة على أساس المُواطنة المتساوية؟ ما هو دور ومسؤولية العوامل الثقافية والاجتماعية؟
أولًا: عرض مفاهيمي تاريخي جيوسياسي
1- في تعريف الثقافة
2- في تعريف الشعب
3- شعب سوري أم شعوب سورية؟
4- دور الجغرافيا السياسية في تعين الثقافة السورية
5- دور النظام السياسي الحاكم في تعيين الثقافة السورية
6- في نشوء الهوية الوطنية السورية
ثانيًا: في توصيف ومعالم الثقافة السورية
1- ثقافة مديْنيّة متعددة البؤر، مع ضعف حضور الدولة المركزية
2- ثقافة أبوية ذكورية
3- ثقافة مِلل وطوائف مُغلقة
ثالثًا: معوِّقات انتشار الثقافة الليبرالية الديمقراطية
في مساءلة مفهوم الثقافة المدنية
معوِّقات سياسية ومعوِّقات اجتماعية- ثقافية:
1- انتشار ثقافة الخوف
2- ضعف اقتران الحرية الاجتماعية بالحرية السياسية
3- ضعف اقتران العلمانية بالديمقراطية
4- قصور الخطاب الديني والثقافة الدينية السائدة
رابعًا: في ضرورة الثقافة الليبرالية الديمقراطية
نتائج الدراسة
أولًا: عرض مفاهيمي تاريخي جيوسياسي
1- في تعريف الثقافة
توجد تعريفات كثيرة للثقافة، ولكن المقصود بها في سياق الدراسة هو منظومة القيم والمعتقدات والتقاليد والمعارف الاجتماعية وأنماط السلوك والتفضيلات الجمالية التي تشترك فيها فئوية اجتماعية ما. عندما يتعلق الأمر بتعريف ثقافة شعب أو مجتمع ما، ينبغي التأكيد على البعد التاريخي-الزمني والبعد الديمغرافي- المكاني، بمعنى أن هذه الثقافة تستند إلى إرث تاريخي مُستقر ومُتصل عبر جيل عمري أو أكثر، وأن تحظى كذلك بقبول وتوافق وتأييد اجتماعي وازن. إنّ ثقافة المجتمع تملك جذورًا واستطالات تاريخية راجعة، وهي أيضا تتفاعل وبشكل ديناميكي مع الأبعاد الجغرافية والاقتصادية والسياسية للمجتمع. إنّ أي ثقافة هي صيرورة حركية مُتغيرة ولا يوجد جوهر ثقافي ثابت لأي فئة اجتماعية. قد تأخذ الفئة الاجتماعية السّمة البارزة في توصيفها، مثلًا نقول هذا مجتمع قبَلَي، ولكن ينبغي التأكيد على أن المجتمع القبلي هو مجتمع قبل أن يكون قبليًا، وأن سمة القبلية تختلف أنماطها ودرجة تأثيرها بين فرد وآخر، وما بين مجتمع قبلي ومجتمع قبلي آخر، كما نؤكّد على أن سمة القبليّة قد ظهرت في سياق تاريخي سياسي معين، وهي قابلة للتغيير وفقًا لشروط ظهورها وأسباب استمراريتها، ووفق المنطق نفسه يمكن الحديث عن مجتمع مديني ومجتمع ريفي ومجتمع طائفي ومجتمع عربي ومجتمع كردي…إلخ.
2- في تعريف الشعب
إنّ الشعب بالمعنى السياسي-القانوني هو أحد أركان الدولة الحديثة، إضافة إلى ركن الإقليم وركن السلطة من جهة التنظيم الإداري السياسي. في حال غياب الدولة الديمقراطية الحديثة، أي دولة المواطنة المتساوية، من الصعوبة بمكان الحديث عن شعب بالمعنى السياسي-القانوني، فالأنظمة الاستبدادية على اختلاف درجاتها وتسمياتها تحافظ قسريًا على الوحدة الظاهريّة لسكان الدولة، وتميّز بين الأفراد والفئويات العرقية والدينية والقبلية والمناطقة والطبقية للسكان، بما سوف يؤدي غالبًا إلى تغليب قوى النبذ الاجتماعي على قوى الجذب، وبما سوف يؤدي إلى مزيد من الانقسام الاجتماعي والانغلاق على الهويات الفئوية للسكان. بالمقابل يمكن الحديث عن الشعب بالمعنى الاجتماعي- الثقافي والمقصود به مجتمع أو مجتمعات تشترك من جهة الذاكرة الجمعيّة والتعريف الهويّاتي والشعور بالانتماء إلى ثقافة واحدة وتراحُم مُشترك. إنّ عملية تحويل الشعب بالمعنى الاجتماعي-الثقافي إلى المعنى السياسي-القانوني للشعب ترتبط بدرجة تطوّر النُظم السياسية، وهي عملية قابلة للتعزيز أو النكوص ربطًا بدرجة كفاءة الإدارة السياسية وآليات الضبط الاجتماعي المُشتقة عنها. من المفيد هنا استحضار تجارب معاصرة لتوضيح الفرق بين المفهومين السياسي والاجتماعي للشعب، مثلًا ظهرت دولة يوغسلافيا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وتفككت في عام 2006 في عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، ومع ذلك لا يمكن الحديث عن شعب يوغسلافي بالمعنى السياسي أو حتى بالمعنى الاجتماعي، حيث حافظت الشُّعوب المُختلفة على هوياتها الخاصة، كالشعب الصربي والشعب الكرواتي والشعب المقدوني والشعب السلوفيني وشعب البوسنة والهرسك وشعب كوسوفو، على الرغم من انتماء كل هذه الشعوب للعرق السّلافي تاريخيًا. إنّ حوالى مئة عام من التعايش المُشترك وسياسات حزبية شمولية ومحاولة خلق شعب متجانس رسميًّا وحمل الجنسية اليوغسلافية لم تنجح في تصنيع الشعب اليوغسلافي، وتقع المسؤولية في ذلك على عاتق السلطة الاستبدادية وقصور نظام الضبط الاجتماعي- السياسي. يمكن الاشارة إلى تجارب مماثلة عند الحديث عن الاتحاد السوفياتي السابق وقبلها الإمبراطورية النمساوية المجرية. إن شرط الجنسية وشرط الخضوع لسلطة سياسية واحدة ضمن حدود جغرافية مُعينة يصلح كتعريف شكلاني مُنفعَل للشعب، ولكنّه تعريف يفتقد للمعنى الحيوي الفاعل المُستقر للشعب القادر على تحقيق إرادته الحرة والشعور النفسي بالرضى والانتماء لروح الشعب.
3- شعب سوري أم شعوب سورية؟
نظريًا، يمكن القول إنَّ الشعب مفهوم اجتماعي سياسي مُركّب، يتشكّل من مجموع المواطنين الأحرار الذين قاموا بتحييد انتماءاتهم ما قبل الوطنية في المجال السياسي العام، وهو عنصر أساس في تشكيل الدولة الأمة أو الدولة الوطنية الحديثة. وضمن هذا الاعتبار يصعب الحديث عن شعب سوري، ولا سيّما بالمعنى السياسي-القانوني، وقد قدّمت تجربة الثورة/ الحرب السورية منذ 2011 مُؤشرات إضافية في هذا الاتجاه عبر تحول الصراع السياسي الأفقي بين قوى السلطة وقوى الثورة السورية إلى صراع ذي بعد طائفي وقومي بين المجتمعات السورية الأهلية نفسها. بالمعنى الاجتماعي-الثقافي، يمكن الحديث عن شعب سوري واحد بحدود غائمة وتباينات ثقافية ظاهرة. تبدو الهوية الثقافية السورية المُشتركة أكثر وضوحًا في نظر المُعاين الخارجي، وهي أكثر وضوحًا بالمقارنة ما بين السوريين وجوارهم أو السوريين وغيرهم من شعوب المنطقة. استخدم الجنرال الفرنسي غورو في إنذاره الشهير في تموز/ يوليو 1920 إلى الملك فيصل بن الحسين تعبيرات من قبيل: الشعوب السورية والأمم السورية.. للشعوب السورية مصلحة كبيرة في طلب المشورة والمساعدة من دولة كبيرة… دعا سموّكم الملكي فرنسا للقيام بهذه المهمة باسم الأمم السورية[1]. بالتأكيد لا نستطيع إهمال النظرة الاستشرافية والمصالح الاستعمارية غير البريئة، ولكن هذا لا يكفي لنقض أو تأكيد مقولة الشعب السوري، ومن الملاحظ هنا أن مُستقبِل الإنذار أي الملك فيصل بحدّ ذاته لم يكن سوريًا بل هو سليل الأسرة الهاشمية الحاكمة في الحجاز آنذاك، ولم تكن الوطنية السورية أو القومية السورية في وضع مُتمايز بما يكفي عن القومية العربية والانتماء العربي-الإسلامي بشكل عام.
لاحقًا، وفي أثناء فترة الاحتلال الفرنسي، وخلال فترة المفاوضات المُتعلقة بانضمام دويلة جبل العلويين إلى سورية عام 1936، سوف تظهر تيارات مُختلفة ومُتصارعة ضمن المُجتمعات العلويّة نفسها على مستوى الهوية الثقافية والموقف السياسي. تيارات انفصالية خاطبت رئيس الحكومة الفرنسية آنذاك ليون بلوم LEON Blom وقادة الحزب الاشتراكي الفرنسي في حزيران/ يونيو 1936 بوثيقة استخدمت فيها مصطلحات من قبيل: الشعب العلوي والشعب المسلم السنّي، وقد جاء فيها “إن الشعب العلوي الذي حافظ على استقلاله- شعب يختلف بمعتقداته الدينية وعاداته وتاريخه عن الشعب المُسلم السنّي- إن الشعب العلوي يرفض أن يُلحق بسوريا المُسلمة”[2].
بالمقابل، كانت هناك تيارات وطنية وحدوية تؤمن بالمصير المشترك مع الشعب السوري، وقد خاطبت الحكومة الفرنسية بوثيقة في شهر تموز/ يوليو من العام نفسه جاء فيها “وقد جاء الجميع إلى هنا مُقتنعين في قرارة أنفسهم من عدم جدوى انضمام إقليمنا إلى لبنان، وهو المُرتبط منذ الأزل بسورية ويشكل جزءًا لا يتجزأ منها، ولم ينفصل عنها برغبة سكانه بل بالإرادة السياسية لحكّامه الفرنسيين”[3]. ما سبق هو مثال عن لحظة تاريخية مُؤسِّسة للوطنية السورية تغلّبت فيها قوى الجذب السوري على قوى الاستقلال الفئوي الطائفي، ولكنّ هذا لا يكفي للحديث عن شعب سوري واحد بالمعنى السياسي-القانوني، إذ سرعان ما قد تحدث انتكاسات تعيدنا إلى حدود المُربع الأوّل، وتتحول الشراكة الوطنية إلى مُناسبة للتنافس والهيمنة بالاستفادة من حالة التناحر الفئوي الطائفي على مساحة الدولة السورية. إنّ الشعب هو صيرورة تتكامل عبر النظام الديمقراطي على أساس دولة المؤسسات والمُواطنة بما يعزز الاستقلالية والمساواة بين الأفراد بمعزل عن انتماءاتهم الفئوية الما قبل وطنية.
الشعب السوري بالمعنى الاجتماعي–الثقافي يتشكل من شعوب مُختلفة لكلٍّ منها هوية ثقافية خاصة، ويتجلى ذلك في نظرتها إلى نفسها والآخرين، لكل واحد منها ذاكرة جمعيّة خاصة به وتاريخ شفوي مُتوارث على مدى أجيال وقرون. تقوم الذاكرة الجمّعيّة للشعوب السورية المُختلفة على سرديات هي مزيج من البطولات والمظلوميات، بطولات تعزِّز الشعور بالذات المُتورمة والتفوق على الجوار المُختلف، ومظلوميات تؤجج جذوة التنافس والصراع مع الآخرين، وتُستخدَم من جانب السياسيين لتبرير التجاوزات وارتكاب المجازر عند اللزوم بوصفها ثأرًا لمجازر سابقة ارتكبها السوريون الأعداء في الماضي.
تؤكد السرديات الخاصة ب “الشعوب السورية” المختلفة على مقولة الأصل، الأصل بمعنى الأقدم تاريخيًا في الانتماء للمكان، والأصل بمعنى أنهم ينحدرون من صلب أبطال تاريخيين وسلالات عريقة. يؤكِّد سوريون مسيحيون على كونهم السوريين الأكثر حضارة، وكونهم الأقدم في الانتماء لأرض سورية قبل مجيء العرب المُسلمين إليها في القرن السابع للميلاد، وينظرون إلى أنفسهم على أنهم أصحاب الأرض. بينما يقدّم سوريون عرب سرديّة أخرى تقول بوجود عربي سابق للإسلام في سورية وبلاد الشام. بينما يؤكد سوريون مُسلمون سُنّة على كون سورية وبلاد الشام كانت مَعقلًا لأهل السنة والجماعة منذ زمن معاوية بن أبي سفيان، وأن المُسلمين السنّة هم الأمّة بأل التعريف. بينما يؤكد سوريون علويون على أنَّ العلويين عَلمانيون بالفطرة، وأنّ العلويّة هي الديانة السورية الأكثرُ أصالة لكونها سليلة الديانات السورية القديمة والفلسفة العرفانية السابقة للمسيحية والإسلام. كما يؤكد سوريون من طائفة الموحدين الدروز على كون عقيدة الموحّدين الدروز هي الأكثر عقلانية بين الأديان والمذاهب السورية، وأيضا يؤكدون على الأصل العربي العريق لهم بوصفهم قحطانيين من العرب العاربة هاجروا من اليمن بعد انهيار سد مأرب. بينما يطغى بُعد المظلومية والمبالغة في تكريد التاريخ في مجتمعات كُردية سورية.
يمكن تبيّن الفروق بين الشعوب السورية بناء على اختلاف تقويمها لشخصيات وأحداث تاريخية مِفصليّة مُعيّنة. السياق التالي للعرض هو فقط لإظهار الفروقات بين السرديات الفئويّة المُختلفة وليس من أجل التقويم الموضوعي التاريخي للشخصيات. مثلا: يتم الاحتفاء بصالح العلي في مجتمعات سورية علويّة بوصفه أحد أبطال ورموز الوطنية السورية، ويُجسّد مشاركتهم في النضال الوطني ضد الاستعمار الفرنسي، وقبله ضد الاحتلال العثماني، بينما يُستحضَر صالح العلي في مجتمعات سورية إسماعيلية بوصفه قاطع طريق والمُتسبّب في حصار مصياف وتهجير الإسماعيليين من بلدة القدموس. يصلح الموقف من الوجود العثماني في سورية كحدث مفصلي لمُعاينة الهويات المُختلفة للشعوب السورية، حيث يُستخدم مصطلح الفتح العثماني ودولة الخلافة العثمانية في مجتمعات سورية عربية سنّية بكثرة، بينما تستخدم فئويات علوية ومسيحية ودرزية مصطلح الغزو والاحتلال العثماني، ويؤكد سوريون علويون على سرديّة (مجزرة التلل) التي ربّما ارتكبها السلطان العثماني سليم الأول في حلب بحق علويين قبل حوالى خمسة قرون. لننتقل الآن من التاريخ البعيد إلى التاريخ القريب، حيث يُستحضر حافظ الأسد في أغلب المُجتمعات السوريّة العلوية بوصفه قائدًا تاريخيًّا وبانيًا لسوريا الحديثة، إضافة إلى بعض السمات الدينية التي ما تزال خجولة، بينما نجد نقيض هذه الرؤية في أغلب المُجتمعات العربية السُنيّة، حيث يُستحضرُ حافظ الأسد بوصفه بائعًا للجولان ومجرم حربٍ مسؤولًا عن ارتكاب مجزرة حماة 1982 وغيرها.
في الحديث عن الشعب السوري والهوية الثقافية السورية ينبغي لنا التوقف عند العوامل التي ساهمت في تشكيل الهوية الثقافية السورية، ونخصّ منها الجغرافيا السياسية وطبيعة النظام السياسي الحاكم.
4- دور الجغرافيا السياسية في تعين الثقافة السورية
فيعقب انتهاء الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدولة العثمانية، أعلن الملك فيصل بن الشريف حسين قيام المملكة العربية السورية 1918 والتي شملت كامل مساحة سوريا الطبيعية أو بلاد الشام بما يشمل حاليًا سورية ولبنان وفلسطين والأردن والأقاليم السورية الشمالية في جنوب تركيا، وقد حضر المؤتمر السوري العام 1920 مُمثلون من دمشق وحلب وحمص ودير الزور ونابلس وحماة وبيروت والقدس ويافا وحيفا وطرابلس وأنطاكيا والسلط وجبل لبنان. لاحقًا، في عقب انكشاف معاهدة سايكس بيكو ومن ثم تعديلاتها في مؤتمر سان ريمو1920، تم تقسيم المملكة العربية السورية إلى ثلاث مناطق: سورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، فلسطين وشرق الأردن تحت الانتداب البريطاني مع الالتزام بتنفيذ وعد بلفور، وبذلك تم تقليص مساحة الحدود السياسية السورية بالخاصّة لتبدأ معالم هوية ثقافية-سياسية لبنانية وهوية ثقافية-سياسية فلسطينية وهوية ثقافية-سياسية أردنية في الظهور بعيدًا عن الهوية الثقافية-السياسية السورية. وتقريبًا بالتزامن مع ذلك، بعد توقيع اتفاقية أنقرة 1921، سوف يتم اقتطاع الأقاليم السورية الشمالية، كيليكيا والجزيرة العليا من قبل الانتداب الفرنسي وضمّها إلى تركيا، ثم قامت حكومة الانتداب الفرنسي بتقسيم سورية إلى خمس دول هي: دولة دمشق ودولة حلب ودولة جبل الدروز ودولة جبل العلويين، إضافة الى دولة جبل لبنان الكبير وسنجق اسكندرونة، ولم يأت التقسيم الفرنسي عن عبث، بل استند إلى حضور ديموغرافي لهويات دينية فئوية في حالة دويلة جبل الدروز ودويلة جبل العلويين ودولة لبنان الكبير، واستند إلى حضور هوية مناطقية ذات خصوصية في حالة دويلة حلب، حيث كانت ولاية مُستقلة عن ولاية سورية وفقًا للتقسيمات الإدارية العثمانية. وفي 1925 تم ضم دويلة حلب لسورية بينما استمرت دويلة جبل العلويين ودويلة جبل الدروز حتى عام 1936. قامت الثورة السورية الكبرى 1925 ضد حكومة الانتداب الفرنسي، وقد أخفقت الثورة عسكريًا، ولكن النضال السياسي للكتلة الوطنية وآخرين استطاع لاحقًا توحيد الدويلات السورية وصولًا إلى تحقيق الاستقلال في نيسان/ أبريل 1946 بالاستفادة من تغير موازين القوى الدولية، واعتراف الأمم المتحدة بسورية دولة مستقلة ذات سيادة. ينبغي الاشارة هنا إلى أن ضم لواء اسكندرونة لتركيا 1939 جاء بناء على صفقة فرنسية تركية بما سوف يقلّص مساحة حدود الاقليم والشعب السوري. لاحقًا، ومع هزيمة 1967 واحتلال الجولان من قبل إسرائيل، سوف يحدث تقلص آخر في مساحة حدود الإقليم والشعب السوري.
تعقيبًا على السرد التاريخي السابق نشير إلى النقاط التالية:
أ- إنّ الشعب السوري بالخاصة (مواطنو الجمهورية العربية السورية) لا يتطابق مع الشعب القاطن لسورية الطبيعية.
ب- خلال مدة لا تتجاوز النصف قرن سوف نشهد تغيرًا كبيرًا في حدود وحجم وجغرافيا الشعب السوري بشكل سريع ومُتبدِّل.
ج- ظهرت وتبلورت الوطنية السورية في سياق الصراع الخارجي مع الاستعمار الفرنسي بدءًا من معركة ميسلون، مرورًا بالثورة السورية الكبرى، وصولًا إلى النضال السياسي وتحقيق الاستقلال، وكذلك تبلورت في سياق الصراع الداخلي مع النزعات الانفصالية وصولًا إلى إعادة توحيد الدويلات السورية التي أنشأها الانتداب الفرنسي باستثناء دولة جبل لبنان الكبير.
د- جاءت سياقات تشكّل الوطنية السورية والشعب السوري احتمالية نسبية مُتغيرة وفقًا لمسار تاريخي معين وتأثُرًا بمتغيرات ومُعطيات سياسية مختلفة. لا يوجد جوهر قَبْلي ثابت ملازم للهوية السورية والشعب السوري.
على سبيل الافتراض: لو أن الحدث (ألف) لم يحدث لكانت مدينة طرابلس سوريّةً، وليست لبنانيّةً مثلًا، لو أن الحدث (باء) لم يحدث لكانت مدينة دير الزور عراقيةً، وليست سوريّةً وفقًا لتقسيمات سايكس بيكو قبيل تعديلاتها، لو أن الحدث (تاء) لم يحدث لكانت مدينة أنطاكية سوريّةً وليست تركيةً… إلخ. ليست سورية استثناء في ذلك بل هي قاعدة عامة تنطبق على تشّكل معظم الدول الحديثة.
5- دور النظام السياسي الحاكم في تعيين الثقافة السورية
على مدى نصف قرن، وابتداءً من عام 1970 حُكِمَت سورية من نظام الأسد، وهي مدة طويلة نسبيًا بما يعادل حياة جيلين من السوريين. من سمات النظام السياسي في حقبة الأسد أنه نظام شمولي يتبنّى الأيديولوجيا الاشتراكية القومية العربية، ويعمل على تسويقها من خلال مبدأ حزب البعث القائد للدولة والمجتمع. ابتداءً من عمر السادسة، ومع دخول الطفل المدرسة الابتدائية، تقوم منظمة طلائع البعث بتنسيب الأطفال وتلقينهم مُحتوى ثقافيًا أحاديًا، وتقوم بتنظيم نشاطات مؤدلجة تتمحور حول ضرورة حُب القائد (حافظ الأسد ثم بشار الأسد) وتمجيد الأمة العربية والانتماء إلى الوطن العربي، ثم لاحقًا تستمر في تعبئة أفراد المجتمع والهيمنة على الفضاء العام عبر ما يُسمى بالمنظمات الشعبية، ابتداءً من اتحاد شبيبة الثورة، ومن ثم اتحاد طلبة سورية، إضافة إلى الاتحاد العام لنقابات العمال والاتحاد العام للفلاحين ونقابات الأطباء والمحاميين ونقابة الصحفيين والاتحاد العام للكتاب العرب وغيرها. يقوم النظام السياسي الحاكم على تعزيز الوثنية السياسية وعبادة القائد حافظ الأسد، ومن ثم القائد بشار الأسد، حيث يُحظّر على أفراد الشعب توجيه أي انتقاد مهما كان طفيفًا ولَبِقًا تجاه الرئيس حافظ الأسد ومن ثم بشار الأسد، وإنّ أي انتقاد قد يكلّف الانسان السوري حياته أو التعرض لاعتقال وحشي لسنوات طويلة.
وفقًا لنظرية ابن خلدون “يحتاج كل مُلك عضوض إلى دعوة وعصبية لكي يستمر”[4]، يمتلك النظام السوري بُعدًا طائفيًا حيث تشكّل مُجتمعات سورية علوية حاملًا اجتماعيًا-سياسيًا وازنًا للنظام، وخزّانًا بشريًا لمُنتسبي الأجهزة الأمنية شديدة الولاء وكبار الضباط في الجيش، وبفعل سياسات السلطة -وعلى مدى عقود- تحوّل الجيش العربي السوري إلى جيش خاص بالسلطة الأسدية مع بعد طائفي فاقع[5]. بالمقابل ينبغي التأكيد هنا على أن الطائفية هي صفة للسلطة السورية، وليست صفة للسّوريين العلويين، ولا يجوز الخلط بينهما أو التعميم.
لنتساءل الآن كيف انعكست طبيعة وسياسات النظام السياسي السوري على ثقافة السوريين؟ هنا تمكن الإشارة إلى النقاط التالية:
أ- القاسم المشترك الأكبر بين ثقافات السوريين على اختلاف فئوياتهم هو تأثرُّهم بطبيعة وسياسات السلطة السورية، ما ساهم في تعزيز قيم وسلوكيات مُشتركة بينهم.
ب- تسبّبت السلطة السورية في انتشار ثقافة الخوف، خوف السوري من السلطة، وخوف السوريين من بعضهم بعضًا خشية الوشاية وكتابة التقارير الكيديّة، ما ساهم في تعزيز الانتهازية وتدمير العلاقات الاجتماعية الطبيعية وانكفاء السوري على نفسه وعائلته القريبة.
ج- افتقاد السوريين لتقاليد العمل الجماعي والمُؤسساتي نتيجة احتكار السلطة الأسدية للفضاء الثقافي-السياسي العام، ونتيجة لتحريم منظمات المجتمع المدني وإلغاء التعددية الحزبيّة والانتخابات الديمقراطية التنافسية، إضافة إلى استمرار فرض قانون الطوارئ على مدى عقود طويلة.
د- انتشار وتسويق ثقافة الفساد، وتحويل الفساد من ظاهرة موجودة في كل الدول والمجتمعات إلى نشاط مُنظم يتم برعاية السلطة وإلى تقليد اجتماعي مُستقر لأسباب منها: انخفاض الأجور وإفساد النظام القضائي وتغييب دور البرلمان في محاسبة الحكومة، ما تسبّب في نمو شبكات فساد حكومية قوية يتحكم نظام الأسد في خيوطها.
ه- إنّ تبنّي السلطة السورية للأيديولوجيا القومية العربية انعكس تمييزًا ضد السوريين الكرد، بحرمانهم من الحقوق الثقافية وحجب الجنسية السورية عن عشرات الآلاف منهم، وبذلك ساهمت السلطة السورية في انقسام المُجتمع السوري نفسه على أساس قومي عربي/ كردي. و- ساهم البعد الطائفي للنظام السوري واستخدام العلويّة السياسية كعصبية اجتماعية في زيادة الشرخ الهوياتي بين السوريين أنفسهم، وتفاقم البعد الفئوي الطائفي في ثقافة الشعب والمجتمعات السورية.
ز- اعتمد النظام السوري على قانون فئوي للأحوال الشخصية في استمرار لوضع سابق منذ الحقبة العُثمانية، حيث لكل فئة اجتماعية دينية محاكم وقانون أحوال شخصية خاص بها، فهناك قانون خاص للمسلمين السُنّة، وقانون خاص للمسيحيين الكاثوليك وقانون خاص للمسيحيين الأرثوذكس وقانون خاص للموحدين الدروز. لم يكن الزواج المدني المُختلط بين الطوائف مُتاحًا بين السوريين. إن أحد واجبات الدولة هو العمل على انفتاح الفئات الاجتماعية السورية على بعضها بعضًا، واعتماد معايير قانونية-سياسية مشتركة وعادلة. الشعب كمفهوم سياسي والوطنية الجامعة هي في جزء كبير منها صناعة تقوم بها النخب السياسية الحاكمة في مفاصل وعبر صيرورة تاريخية مُمتدَّة، وهذا ما أخفقت السلطة السورية على امتداد الحقبة الأسدية في إنجازه وصولًا إلى الانفجار السوري الكبير واندلاع الثورة/الحرب السورية 2011.
6- في نشوء الهوية الوطنية السورية
إن ظهور الهوية الوطنية لأي شعب هو حدث تراكمي في التاريخ وبمفاعيل سياسية أساسًا. في أواخر الحكم العثماني بدأت الهوية السورية في إهاب عروبي بارز، وهي هوية تستند إلى الأرض التي يقيم عليها السوريون تاريخيًا.
في بدايات القرن العشرين بدأت أعمال التنقيب الأثري من جانب البعثات الأوروبية في سورية ليتم اكتشاف التاريخ السوري السابق للإسلام والمسيحية، ومن ثم إعادة الاعتبار لهذا التاريخ المنسي، وبدأت مصطلحات مثل: آراميين وسريانيين وفينيقيين والمسيح السوري، بالظهور. انتشرت الدعوات للقومية الفينيقية في لبنان خصوصًا، وانتشرت الدعوات للقومية الآرامية-السريانية في سورية كذلك، ولكنها بقيت هامشية ولم تحقق انتشارًا جماهيريًا، لا بل ربّما ساهمت في زيادة الشرخ الهوياتي بسبب موقفها الحدّي المُعادي للبعد العربي الإسلامي في ثقافة السوريين.
ظهرت دعوات القومية السورية أو الوطنية السورية في أواخر القرن التاسع عشر لدى كتاب ومثقفين في أغلبيتهم من أصول مسيحية في جبل لبنان، وقدّمت نفسها كدعوات علمانية تتجاوز التقسيمات الطائفية الإسلامية منها والمسيحية. أكّدت هذه الدعوات على الانتماء للأرض والإقليم السوري (الهلال الخصيب)، ونجد بداياتها عند الكاتب بطرس البستاني الذي أصدر جريدة نفير سورية في أعقاب الأحداث والمجازر الطائفية التي حدثت في جبل لبنان وسورية 1860، وسماها نفير سورية لتحذير السوريين من الطائفية وخطر التفرقة فيما بينهم، وكان يوقعها بعبارة “من محب لوطنه”[6]، كما تأسست جمعية بيروت السريّة من جانب إبراهيم اليازجي وفارس نمر مؤسس جريدة المقتطف، وكانت تُوزِّع منشورات سريّة لغرض انفصال سورية عن الدولة العثمانية، وكذلك رابطة الوطن العربي التي أسّسها نجيب عزّوري في باريس 1904. وفي عقب إعلان الدستور العثماني 1908 أُسِّست اللجنة المركزية السورية المُقربة من الحكومة الفرنسية من جانب شكري غانم والتي كانت تنادي بإقامة حكم ذاتي في سورية[7].
لاحقًا، مع أنطون سعادة وتأسيس الحزب القومي الاجتماعي 1932، سوف يتم التنظير لأيديولوجيا قومية سورية تؤكد على استقلالية الأمة السورية وكمالها. الحزب القومي السوري ينطق من بداهة واقع انتماء الإنسان اجتماعيًا وسياسيًا إلى الأرض التي يعيش فيها وهذه نقطة إيجابية مقارنة بالانتماءات الرومانسية على أساس عقائدي ديني (الإسلام السياسي) أو الانتماءات على أساس قومي عرقي مُمتد (القومية العربية)، ولكن الحزب نفسه انغلق على أفكار مؤسّسه، وتحوّل إلى كهنوت سياسي فئوي، ولم يستطع تحقيق انتشار جماهيري خارج مناطق سوريَّة معيّنة، تلك التي يغلب عليها المكوّنان المسيحي والعلوي.
عادة ما يُعرّف السوريون أنفسهم عبر انتماءات فوق وطنية أساسها العرق والدين، أو عبر الاصطفاف في خنادق الانتماءات ما قبل الوطنية، والتي تكون، عمليًا وإلى حد كبير، انتماءات طائفية، وتبقى الوطنية السورية نفسها هي الغائب الحاضر في الحديث عن الشأن السياسي العام.
بالعودة إلى السياق التاريخي في النصف الثاني للقرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين تم إدراك الهوية السورية والتنظير لها من جانب نخبة سورية مُثقفة من غير المسلمين غالبًا. ولاحقًا تم إعلان المملكة العربية السورية لفترة قصيرة حيث كان فيصل بن الحسين يلقّب نفسه باسم (أمير سورية) قبل الدخول في مرحلة الاحتلال الفرنسي.
لقد ساهم الاحتلال الفرنسي في تشكيل الهوية الوطنية السورية، حيث كان الفرنسيون بمنزلة العدو المُفيد للسوريين لكي يتعرّفوا إلى أنفسهم أكثر، وهنا تُمكن الإشارة إلى مفصل الثورة السورية الكبرى والدعوة إلى توحيد الدويلات السورية التي أسّسها الفرنسيون، حيث يخاطب سلطان باشا الأطرش، القائد العام للثورة السورية، الشعب قائلًا: “أيها السوريون، أيها العرب السوريون”[8].
أخذ تعبير الشعب السوري في الظهور بشكل مُتزايد. ولكن مع تحقيق الاستقلال 1946، بدأت التعبيرات السياسية للهوية الوطنية السورية بالخفوت والتعثر لمصلحة تعبيرات فئوية اجتماعية سياسية ما فوق وطنية وما تحت وطنية، وصولًا إلى انقلاب 1963 ومجيء حزب البعث، ومن ثم الدخول في الحقبة الأسدية. لم تكن الثقافة الديمقراطية السورية متجذرة في الوجدان الشعبي للسوريين، ولم يكن مبدأ الديمقراطية حاكمًا ومُتّفقا عليه ضمن النخب السياسية السورية في عقب الاستقلال، حيث كانت الكتل السياسية تستعين على بعضها بعضًا بالجيش أحيانًا، وكان العسكر يحكمون من خلف الستار أحيانًا أخرى وصولًا إلى الوحدة السورية المصرية التي قام الجيش بفرضها فرضًا على الحكومة، وبتأييد شعبي كاسح للالتفاف حول قيادة جمال عبد الناصر. إن واقعة الوحدة، ومن ثم الانفصال، تدل على هشاشية الثقافة الوطنية السورية بتعبيراتها السياسية وقبول سوريين كثيرين التضحية بها لمصلحة انتماءات فوق وطنية.
ثانيًا: في توصيف ومعالم الثقافة السورية
يمكن اقتراح المُشتركات التالية:
1- ثقافة مديْنيّة متعددة البؤر، مع ضعف حضور الدولة المركزية
لم تعرف بلاد الشام، أي سورية الطبيعية، الحكم المركزي لدولة وطنية خاصة بها إلا خلال فترات زمنية قليلة عبر التاريخ، وكانت جزءًا من إمبراطوريات كبيرة أو ساحة للصراع الإقليمي. عرفت بلاد الشام قديمًا حكم المُدن، كما في حالة ممالك المدن الكنعانية الفينيقية وممالك المدن الآرامية. شكّلت المدن السورية وحدات اجتماعية-اقتصادية–سياسية مُتمايزة، وكان حضور الريف هامشيًا إلى حد كبير حتى منتصف القرن العشرين، وقد شكّل الانتماء الجغرافي والاجتماعي العائلي للمدينة في دمشق أو حلب أو حماة أو حمص أو اللاذقية أو دير الزور وغيرها ملمحًا بارزًا في ثقافة السوريين. في كتاب (سورية الدولة المتوحشة) لميشيل سورا، يخصص أحد فصوله لدراسة المدينة العربية الشرقية وقد جاء فيه “فيما يتعلق ببلاد الشام أي سوريا الطبيعية، فنحن نميل الى القول إن ما يشكل خصوصية هذه البلاد هو المدينة، وبقدر ما كان للنسيج المديني من وزن من نشوء الحضارة في هذه المنطقة.. إنه وزن من ناحية الكثافة السكانية… ووزن من ناحية الجدلية الاجتماعية، فسواء تكلمنا عن الأرستقراطية المدينية أو ثأر الأرياف فنحن نجد دائمًا بطريقة أو أخرى مسألة المدينة في مركز عملية التنشئة السياسية في سورية المعاصرة”[9].
بدءًا من فترة الحكم العثماني، وصولًا إلى انقلاب آذار/ مارس 1963، هيمن ملّاك الأراضي الذين ينتمون إلى عائلات قليلة في المدن الكبرى، على الحياة السياسية السورية. ففي كل مدينة وُجِدت عائلات تتمتع بنفوذ اقتصادي-سياسي، وتتطلع إلى نفوذ أوسع في دمشق العاصمة، وهذا ما أعاق عملية إنتاج نظام سياسي ديمقراطي مُستقر في عقب الاستقلال. بدأت النخب البرجوازية في التكتل بناء على مصالحها الاقتصادية واصطفافها في سياسة المحاور الإقليمية، كما حدث بعد انشقاق الكتلة الوطنية إلى الحزب الوطني الذي يُمثّل عائلات دمشقية، وحزب الشعب الذي يمثل عائلات حلبية وحمصية ذات نفوذ. في سياق مشابه سوف نجد انقسام جماعة الإخوان المسلمين في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات ما بين تكتل دمشقي وتكتل حلبي، بينما كانت الطليعة الإخوانية المقاتلة ذات نفوذ أكبر في مدينة حماة، ولم تنجح محاولة انتخاب حسن هويدي مراقبًا عامًا للجماعة 1981 في تجاوز الانشقاقات المناطقيّة ضمنها. ومن جهة أخرى كانت المدينة السورية مجالًا للنشاط الحرفي-الصناعي-التجاري المُتوارث والمُستمر عبر أجيال طويلة، وهذا ما يفسر لنا أحد سمات الشخصية السورية من حيث كونها شخصنة بارعة في مجال الصناعات والحرف والتجارة عندما تتاح لها الأوضاع الملائمة، وقد ظهر هذا جليًّا في أعمال السوريين المُغتربين في مصر وتركيا والإمارات العربية المتحدة مثلًا، وهي قيمة حيوية بارزة في ثقافة السوريين.
2- ثقافة أبوية ذكورية
المجتمعات السورية، والمجتمعات العربية عمومًا، هي مجتمعات أبوية ذكورية يتماهى فيها الفرد بشخصية الزعيم الأب، وفي هذا الصدد تُمكن مُراجعة أطروحات هشام شرابي حول المجتمع الأبوي. وفقًا لشرابي، فإن البُنى الأبوية للمجتمع العربي لم تتبدل، ولم تتغير، خلال المئة عام الأخيرة، بل تم ترسيخها بما سوف يُطلِق عليه اسم النظام الأبوي المُستحدث مع دخول الحداثة الغربية إلى العالم العربي “يقوم حجر الزاوية في النظام الأبوي والأبوي المُستحدث على استعباد المرأة، من هنا كان العداء العميق والمُستمر في لاوعي هذا المجتمع للمرأة ونفي وجودها الاجتماعي كإنسان، والوقوف في وجه كل محاولات تحررها. تتمثل الذهنية الأبوية أول ما تتمثل في نزعتها السلطوية الشاملة التي ترفض النقد ولا تقبل بالحوار إلا أسلوبًا لفرض رأيها”[10].
إنّ عموم السوريين يشعرون بالانتماء للأسرة الصغيرة، ومُستعدون للتضحية المادية والمعنوية في سبيل سعادة وأمن الأسرة. الأسرة على الصعيد النفسي هي الوطن الحقيقي غير المُزيف، حيث يبدي أفراد الأسرة درجة كبيرة من التضامن مع بعضهم بعضًا في الأزمات وفي أوقات الخطر، وعادة ما تكون الأسرة هي الدائرة الأقرب والأبكر في تكوين الوعي الأبوي وضرورة الامتثال لسلطة الأب حفاظًا لهيبة الأسرة واستمرارًا للمزايا الإيجابية التي تقدمها على الصعيد النفسي والاجتماعي والاقتصادي.
مع توسيع دائرة الجغرافيا الاجتماعية سوف تتحول القبيلة والطائفة الدينية والطائفة القومية والحزب السياسي إلى أسرة أكبر تنطبق عليها قوانين الأسرة الأولى التي نشأ وترعرع فيها الفرد. من المُعيب في ثقافة المجتمعات السورية الاعتراض على قرارات الأب، فالأب يملك سلطة التأديب، وغالبًا ما يكون له الحق في استخدام العنف اللفظي والجسدي. كثيرًا ما يربط السوريون رضا الله برضا الوالدين في الأمثال الشعبية الدارجة، وتنتشر عادة تقبيل يد الوالدين في مجتمعات سورية كثيرة. يميل السوريون عمومًا للتعبير عن انتماءاتهم الاجتماعية والدينية والسياسية بدلالة الزعيم الفرد كبير العائلة.. الزعامات الاجتماعية يتم توريثها، والزعامات الدينية يتم توريثها، ومثالها: الشيخ محمد توفيق رمضان البوطي خلفًا لوالده الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، والشيخ أسامة الرفاعي خلفًا لوالده الشيخ عبد الكريم الرفاعي، وكذلك توارث زعامة الطائفة المرشدية في عقب وفاة مؤسسها الفعلي سلمان مرشد في أولاده مُجيب وساجي ونور المضيء. الزعامات السياسية كذلك يتم توريثها حيث تتحول الأحزاب السياسية إلى مؤسسات عائلية خاصة، ومن أمثلتها الحزب الشيوعي السوري، حيث ورِثت وصال فرحة بكداش رئاسة الحزب الشيوعي السوري، في عقب وفاة زوجها خالد بكداش 1995، ومن ثم قامت بتوريث رئاسة الحزب لابنها عمار بكداش، ويبقى المثال الأبرز هو توريث حافظ الأسد الحكم إلى ابنه بشار الأسد كما يقوم أي إقطاعي في القرون الوسطى بتوريث أرضه وأملاكه.
لنتساءل ما الذي يفسر الشعبية الكبيرة التي حظي بها جمال عبد الناصر وما يزال، على الرغم من إخفاق مشروع الوحدة السورية المصرية وهزيمة حزيران/ يونيو مثلًا؟! بالتأكيد توجد عوامل متعددة، منها كاريزما الزعيم عبد الناصر الذي أخذ دور الأب الروحي في وجدان السوريين.
تؤكد الثقافة الأبوية الذكورية على شخصية ناقصة الإحساس بالفردية والاستقلالية والندّية، وهي تُعيّن نفسها بدلالة التماهي بشخصية الزعيم الأب، وأقصى ما تسعى إليه هو العدالة في شروط الخضوع بين الأتباع، والتباهي في قهر الأعداء والخصوم. الثقافة الأبوية الذكورية هي العائق الأكبر في تحقيق التشاركية والقدرة على إنتاج مؤسسات اجتماعية – سياسية مُستقلة ذات كفاءة. تقوم الثقافة الأبوية الذكورية على ثنائية الطاعة والخضوع، وتميل لتعين الفرد بدلالة الانتماء للجماعة والفئة الاجتماعية الخاصة.
من تعبيرات الثقافة الأبوية الذكورية نذكر التعصب القبلي والعشائرية، ولا سيما في مناطق الجزيرة السورية والمناطق الشرقية. عادة ما تتوزع العشائر العربية على مساحات جغرافية ممتدة عابرة للحدود بين الدول، فكثير من العشائر السورية لها امتدادات في العراق والسعودية مثلًا. في سوريا العثمانية كان الانتماء العائلي والقبلي العشائري مُهمًا في تحديد المكانة الاجتماعية، ولا سيما بالانتساب إلى الأشراف من سلالة آل البيت وفاطمة بنت الرسول، حيث تقوم الدولة العثمانية بتعيين نقيب للأشراف في الولايات والأقضية، وهؤلاء بدورهم يحصلون على امتياز الإعفاء من الخدمة العسكرية وامتيازات اقتصادية واجتماعية مقابل الولاء للسلطان، وقد استمر حضور نقابة الأشراف في سورية حتى عام 1970 عندما قام الرئيس نور الدين الأتاسي بإصدار مرسوم بإلغاء نقابة الأشراف[11]. وعلى الرغم من مرور الزمن، وتغيّر الأحوال، هناك مئات العوائل والعشائر السورية ما تزال تتفاخر بانتسابها إلى الأشراف، ما يعكس منظورًا طبقيًا يتداخل فيه الديني بالقبلي.
يتناسب الوزن الاجتماعي والسياسي للعشائرية عكسًا مع قوة الدولة المركزية وسيادتها. لم يهتم النظام السوري، في الحقبة الأسدية عمومًا، بتحديث بُنى المجتمع السوري والدمج الوطني لبُنى ما قبل الدولة وضمنًا العشيرة، وبالمقابل لم يُشجّع عليها عدا امتيازات استثنائية لعشيرة آل الأسد نفسها. في أواخر حكم الأسد الأب، ومع مشاركة المُستقلين في انتخابات مجلس الشعب بداية تسعينيات القرن الماضي، شهد المجتمع السوري فورة الانتماء القبلي العشائري لغايات انتخابية مصلحية، وأخذ سوريون كثيرون يعيدون تعريف أنفسهم وانتماءاتهم عشائريًا. في مناطق ريفية ومدنية سورية كثيرة حيث تسود البنى العائلية، فجأة سوف تكتشف العائلات أصولها العشائرية البعيدة، وتتبادل العوائل الزيارات، وتستعيد صلة الرحم العشائرية المَنسيِّة سابقًا أو المشكوك في صحتها لغاية التحضير لانتخابات مجلس الشعب أو انتخابات النقابات، إضافة إلى أغراض الهيبة والتفاخر الاجتماعي. لقد انتشرت في هذه الفترة كُتُب ما يُسمى بعلم الأنساب مع رواج تأليفها وطباعتها. سعت الحكومة الايرانية وبتسهيل من سلطة الأسد الابن لنشر مذهب التشيع في سورية، ومن ضمن أولوياتها كانت عشائر الجزيرة السورية، حيث قامت ببناء مركز دعوي كبير في مسجد أويس القرني وعمار بن ياسر في الرقة، وحاولت استمالة القبائل العربية بدعوى انتسابهم لآل البيت كما فعلت مع قبيلة البكّارة التي تنسب نفسها إلى الإمام الباقر أحد أحفاد علي بن أبي طالب.
مع اندلاع الثورة السورية حاولت القوى العشائرية الاستفادة منها وحجز مقعد مستقبلي لها، وتم تنظيم تظاهرات حاشدة مناهضة للنظام السوري في ما سُمي بجمعة العشائر في حزيران/ يونيو 2011. ولاحقًا تم تشكيل تيارات سياسية تقوم على تحالف شخصيات عشائرية، منها المجلس الثوري لعشائر سورية، وهو أحد مكونات الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية. يُعرّف سالم المسلط، الرئيس الحالي للائتلاف الوطني، نفسه وفقًا للموقع الرسمي للائتلاف بما يلي “شيخ قبيلة الجبور في سورية والعراق- رئيس مجلس القبائل السورية” [12]. في الواقع إن ذلك يعكس طبيعة القوى السياسية السورية المُعارضة وعجزها عن تمثّل مفهوم الدولة الحديثة وثقافة المواطنة المتساوية. عمومًا، شكّلت العشائر السورية هدفًا مُغريًا للقوى السياسية المُختلفة المُتصارعة ابتداءً من النظام السوري، مرورًا بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) و(قوات سوريا الديمقراطية)، حيث قامت القوى السابقة كلها باستخدام سياسات الترغيب والترهيب لكسب ولاء زعماء العشائر السورية، وبالتالي كسب ولاء مجتمعات سورية ممتدة وكبيرة في مناطق بادية الشام والجزيرة السورية.
3- ثقافة مِلل وطوائف مُغلقة
قد يكون من المفيد تقديم سياق تاريخي يفسّر هذه الظاهرة، حيث اعتمدت الدولة العثمانية نظام الملل في الإدارة السياسية. يعتمد نظام الملل على تصنيف السكان على أساس ديني- طائفي، حيث تُدار الملل والطوائف من جانب الزعامات الدينية الخاصة بها، والتي تكون بدورها –أي الزعامات- مسؤولةً أمام الباب العالي نفسه. لكل ملة أحوالها الشخصية وقوانينها ومحاكمها ومدارسها ونظام تحصيل ضريبي مستقل، وغالبًا ما يكون لها علاقات خاصة مع قوى أجنبية كبرى خارج حدود السلطنة العثمانية نفسها، وهنا ينبغي لنا الاعتراف بوضع خاص إشكاليّ لطائفتي الموحدين الدروز والعلويين اللتين تميزتا عن الطوائف المسيحية. عمومًا كان الانتماء الديني- الطائفي والانتماء العشائري هما الأبرز في بلاد الشام، ولكن مع منتصف القرن التاسع عشر بدأت فكرة الانتماء القومي للأرض بالظهور في الولايات العثمانية السورية، وأصبح الحديث يدور حول الانتماء القومي العربي عامة والسوري خاصة.
على الصعيد الشعبي المُؤثر لم يغادر السوريون ذهنية الملل الدينية والإرث العثماني، وما زال الانتماء السوري غير مُتجذر في وجدان السوريين بما يكفي. كانت الثورة / الحرب السورية 2011 محاولة طموحة، وقدّمت مؤشرات لتجاوز الانقسام السوري، حيث طرحت التظاهرات الشعبية شعارات (الشعب السوري واحد- الله سورية حرية وبس)، ولكنها – لأسباب ثقافية وسياسية عديدة- عبر صيرورتها وسلسلة المجازر التي ارتكبتها السلطة السورية، إضافة إلى التدخل الإيراني ذي الطابع الطائفي وصعود نجم جماعات الإسلام السياسي السنّي؛ لم تصمد طويلًا.
يميِّز دارسو السياسية ما بين المجتمع الأهلي والمجتمع المدني والمجتمع السياسي. تشمل تعبيرات المجتمع الأهلي كلًا من العائلة والقبيلة والطائفة الدينية والانتماء القومي العرقي، وهي تعبيرات اجتماعية مُغلقة وغير مرنة نجدها مُتجذِّرة في المجتمعات التقليدية السورية. تمارس هذه البُنى ما قبل الوطنية تأثيرًا كبيرًا في الثقافة السيّاسية السورية.
تشمل تعبيرات المجتمع المدني كلًا من الجمعيات والاتحادات والنقابات التي يشكّلها أفراد المجتمع بناء على هدف مُحدد كما في حالة منظمات حقوق الإنسان أو منظمات حماية البيئة أو الجمعيات النسوية، أو بناء على مصالح الأفراد المُنتمين لمهنة مُحددَّة كنقابات العمال ونقابات الأطباء والمحاميين والنوادي الرياضية. في الدول الديمقراطية الحديثة عادة ما تُحافظ منظمات المجتمع المدني على استقلاها بعيدًا عن المجتمع الأهلي، وبعيدًا عن المجتمع السياسي، وتكون الدولة صلة الوصل بين هذه المجتمعات، وتُشكّل المساحة الضرورية للتفاعل الاجتماعي العام، ما يتيح آليات ديناميكية فاعلة لتعزيز حيوية الشعب والدولة.
مع استلام حافظ الأسد للسلطة في عام 1970، وفي عقب بدايات الصراع مع جماعة الإخوان المسلمين في أواخر السبعينيات، عمد الأسد إلى تطبيق نظام استبدادي شمولي يلغي منظمات المجتمع المدني. بعد سلسلة من الاعتقالات لقادة العمل النقابي والتضييق الأمني تحوّلت النقابات المهنية واتحادات العمال والنوادي الرياضية وغرف الصناعة والتجارة إلى منظمات شعبية على الطريقة السوفياتية، حيث يقوم حزب البعث العربي الاشتراكي بالوصاية عليها وإدارتها، وبحيث تنتقل من ممارسة دورها في الدفاع عن مصالح منتسبيها إلى مجرد آلية للتحشيد والضبط الاجتماعي لمصلحة منظومة السلطة. أما في ما يخص منظمات حقوق الانسان، فلم يمنح النظام أي ترخيص لهذه المنظمات التي كانت تمارس عملها في ظروف صعبة، وكان ناشطو حقوق الانسان عرضة للاعتقال المُتكرر والاختفاء القسري. من المُلاحظ أن منظمات حقوق الانسان نفسها انقسمت بتأثير اصطفافات المُجتمع الأهلي والمُجتمع السياسي، فعلى الصعيد القومي-العرقي نجد: المنظمة الكردية لحقوق الإنسان والشبكة الآشورية لحقوق الانسان، بينما على الصعيد الديني -الطائفي كان معظم ناشطي لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان من خلفيات علوية وأقلّوية، وتحديدًا من النشطاء المُنتمين لرابطة العمل الشيوعي سابقًا، بينما كان معظم ناشطي جمعية حقوق الانسان في سورية ينتمي إلى مجتمعات عربية سنّية وأوساط قريبة منها.
بالانتقال إلى المجتمع السياسي السوري، عمد الضباط البعثيون في عقب انقلاب عام 1963 إلى حظر الأحزاب السياسية ومنع ممارسة النشاط السياسي، وتحوّل حزب البعث العربي الاشتراكي من حزب سياسي شكّل سابقًا أحد معالم الحياة السياسية التعددية في سورية إلى حزب سلطة وواجهة لحكم ضباط بعثيين أغلبيتهم من خلفية علوية. وبعد صراعات داخلية بينهم استلم حافظ الأسد السلطة، ومع تدشين النظام الشمولي وإقرار مبدأ الحزب القائد للدولة والمجتمع تحوّل حزب البعث العربي الاشتراكي إلى واجهة سياسية هشة لنظام حكم فردي عائلي ذي بعد طائفي، لا يقوم على شرعيّة الانتخابات، ولا يحترم التراتبيّة الحزبية أو حتى العسكرية، حيث يكون الولاء لشخص الرئيس وعائلته هو مصدر القوة الرئيس. غالبًا ما يستطيع ضابط صغير في الأمن من أصول علوية إهانة ضابط كبير غير علوي في الجيش، أو يستطيع ضابط صغير من عائلة الأسد أو مخلوف أو شاليش إهانة ضابط كبير في الجيش أو وزير أو محافظ مدينة أو رئيس جامعة، وغالبًا من دون تبعات، ما يعني وجود حالة مهيمنة من ضعف الانتماء السياسي للحزب في مقابل قوة الانتماء إلى المجتمع الأهلي المُتمركز حول السلطة الفعلية.
عادة ما ينظر السوريون إلى بعضهم بعضًا اعتمادًا على تصنيفات ذات بعد طائفي، وربّما يجتهد السوريون في معرفة الخلفية الطائفية لزملائهم والأشخاص في بدايات تعارفهم سواء أكان ذلك في أثناء الخدمة العسكرية أو عند الالتحاق بالدراسة الجامعية أو مكان العمل أو حتى في المُغتربات حيث يتكتّل السوريون إلى حد كبير بناء على الخلفية الطائفية، مع استثناء الحالة الكردية حيث تحلّ القومية العرقية محل الطائفة الدينية. حرّم نظام الأسد الحديث عن الطوائف والسؤال عن الخلفية الطائفية للأشخاص في العلن، ولكنه في الوقت نفسه كان يحكم البلاد وفقًا لتوازنات وترتيبات طائفية، فرئيس الوزراء يجب أن يكون سنّيًّا، وهناك مقعد وزاري أو مقعدان للموحدين الدروز، ومقعد وزاري للإسماعيليين مثلًا. في المقابل، ينبغي أن تكون الأغلبية العظمى من كبار ضباط الجيش والمنتسبين للأجهزة الأمنية من العلويين لضمان الولاء للسلطة[13].
كما تنص الدساتير السورية المتعاقبة على أن يكون “دين رئيس الجمهورية الإسلام”[14]، بما فيها دستور 2012 الذي وضعته السلطة في عقب اندلاع الثورة/ الحرب السورية 2011. عندما حاول حافظ الأسد حذف المادة الثالثة من الدستور التي تنص على “دين رئيس الجمهورية الإسلام- الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع”، اندلعت حركة احتجاجات شعبية واسعة ضد الدستور الجديد، ما اضطره إلى إبقاء المادة الثالثة وإقرار المادة الثامنة التي تنص على “حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة”[15]. السؤال هنا: هل يُعتبر تخصيص دين معين لرئيس الجمهورية انحيازًا طائفيًا؟ بالتأكيد هو كذلك لكونه ينتهك شرط المواطنة المتساوية والحقوق السياسية المتساوية للمواطنين في الدولة الديمقراطية الحديثة، ولكونه يفتح الباب واسعًا أمام محاكمة الإيمان والاعتقاد الديني الخاص برئيس الجمهورية، ابتداء من دعاوى الردة والاتهام بالإلحاد، إلى اعتبار رجال دين مسلمين سنّة الطائفة الدينية التي ينتمي إليها الرئيس هرطقة إسلامية غير مُعترف بها[16]. في العموم، وخوفًا من بطش السلطة أو أدبًا من باب اللباقة الاجتماعية، يمتنع السوريون عن السؤال المباشر عن الخلفية الطائفية للآخرين، ولكنهم يجتهدون في معرفة ذلك بناء على اللهجة المحلّية المُستخدمة أو السؤال عن المدينة والحي والقرية والعائلة التي ينتمي إليها الشخص أو بناء على الرموز الدينية الظاهرة، كالحجاب وشكل القلادة (صليب- سيف الامام علي- محمد صلى الله عليه وسلم) أو السوار القماشي الأخضر بالنسبة للعلويين. يمكن تفسير هذا السلوك الاجتماعي بميل الانسان للبحث عن أشخاص يشبهونه ويشاطرونه تقاليد وأنماط المعيشة، وكذلك للبحث عن شبكة أمان اجتماعي، ولتحقيق منافع متبادلة في ظل غياب دولة القانون والمواطنة المتساوية.
يمكن معاينة الهويات المُختلفة للفئات السورية من خلال اختلاف أنماط عيشها، وخصوصًا في ما يتعلق بحضور المرأة ولباسها، وفي الموقف من تناول المشروبات الكحولية أيضًا. نذكر أيضًا أنّ الديموغرافيا السورية، منذ العهد العثماني، تقوم على توزع طائفي في حدود كبيرة، فجبال الساحل السوري كانت تعرف رسميًا، وما زالت تعرف شعبيًا، باسم جبال العلويين، وأغلبية سكانها من السوريين العلويين، وجبل العرب كان يُعرف رسميًا باسم جبل الدروز، وما زال يعرف شعبيًا باسم جبل الدروز أيضًا، قبل أن يقوم جمال عبد الناصر بإطلاق اسم جبل العرب عليه في عام 1958، كما يمكن تلمّس الطابع الطائفي للديموغرافيا السورية في توزيع الطوائف المختلفة على القرى والأحياء والمدن، فهناك قرى وأحياء معينة في المدن ذات هوية مسيحية، وهناك قرى وأحياء ذات هوية علوية، إضافة إلى أحياء مُختلطة. في أثناء الثورة / الحرب السورية 2011 تم تهجير أو قتل عائلات كثيرة في الأحياء المُختلطة في حمص ودمشق لأسباب طائفية. كما كانت المناطق الريفية المُختلطة التوزع بين العلويين والسنة في سهل الغاب وسهل الحولة ميدانًا لأعمال عنف وارتكاب مجازر ضد مجتمعات سنّية من جانب السلطة، وبمشاركة مجتمعات أهلية مُجاورة موالية لها (مليشيا الشبيحة) كما في مجزرة الحولة [17]، ومجزرة القبير[18].
من الصعوبة أن يحدث تزاوج بين السوريين والسوريات من الفئات الطائفية-الدينية المُختلفة، فهكذا تزاوج غالبًا ما يكون خطرًا، وقد ينتهي بجرائم قتل للنساء، ويختلف هذا بحسب الانتماء الطائفي-الديني للشاب والفتاة، وتشدُّد العائلة والطائفة الدينية في ذلك، مع التذكير بوجود عائق قانوني أيضًا، حيث أن القانون السوري للأحوال الشخصية لا يسمح بزواج شاب مسيحي من بنت مُسلمة مثلًا قبل أن يقوم هذا الشاب بدعوى قضائية لتغيير دينه.
في أحداث ومجريات الثورة/ الحرب السورية 2011 بدا البعد الطائفي العلوي للسلطة السورية واضحًا، وجرى تعزيزه من جانب مليشيات شيعية لبنانية وعراقية وإيرانية وأفغانية. وفي المقابل، كانت الفصائل المُسلحة الواقعة في صفّ الثورة/المعارضة ذات بعد طائفي إسلامي سنّي.
ثالثًا: معوِّقات انتشار الثقافة الليبرالية الديمقراطية
كثيرًا ما توصف الثقافة السورية بأنها ثقافة مدنيّة، وأنها ثقافة وسطية حضارية مُعتدلة لا تقبل التطرف الديني ولا تقبل الحكم العسكري. إنّ مفهوم الثقافة المدنية، ومنه مفهوم الدولة المدنية، مفهوم مُلتبس وغائم، قابل للفهم المُختلف بما قد يصل إلى درجة التعارض. إنّ مفهوم الدولة المدنية قد يكون مَخرجًا لغويًا تلفيقيًا لحل إشكالية مُهمة ما تزال مطرحة في الفكر السياسي العربي. الإسلاميون بأطيافهم معظمها لا يرون تعارضًا بين اعتماد مرجعية الشريعة الإسلامية للحكم ومدنيّة الدولة، ويؤصّلون لذلك في كون دولة النبي محمد في يثرب أول دولة مدنيّة في التاريخ. خصومهم من الاتجاهات اليسارية والليبرالية يفهمون صفة المدنيّة كمعادل للعَلمانية، ويرون تعارضًا صارخًا بين مرجعية الشريعة الإسلامية للحكم ومدنيّة الدولة. عند أول اختبار حقيقي سوف يتفرق دعاة الثقافة المدنية والدولة المدنية، ويتمترس كلٌ في خندقه.
يُفهَم من مصطلح الدولة المدنية أنها دولة لا يتحكّم فيها العسكر أو يُفهم منه بأنها دولة لا يحكمها الكهنوت الديني. إنّ هذا المقصد التعريفي يكتفي بتعيين الفَرْق وحسب، من دون تعيين المعايير والاشتمالات. قد يكون من المناسب التحفّظ على استخدام مصطلح الثقافة المدنية أو الدولة المدنية حتى يتم تحديده مُقترنًا بالمقصود به، ونقترح استخدام مصطلح الثقافة الليبرالية الديمقراطية أو الثقافة العلمانية الديمقراطية، فهما أقلُّ التباسًا. في مقابل مفهوم الدولة المدنية، تبدو مفاهيم الحقوق المدنية Civil Rights والمجتمع المدني ومنظمات المجتمع المدني Civil Society Organizations أكثر وضوحًا واستخدامًا في الفكر السياسي المعاصر.
يُمكن تقويم حال الثقافة الليبرالية الديمقراطية من خلال المؤشرات التالية:
أ- حالة منظمات المجتمع المدني في هذه الدولة، لكونها تتشكل من الأفراد بمعزل عن انتماءاتهم الطائفية والأثنية والقبلية، ولكونها تشتغل في الفضاء العام العمومي، وتقدّم خدمات ضرورية يحتاج إليها عموم الشعب وتنعكس إيجابيًا عليه.
ب– وضع حقوق الانسان الأساسية، وضمنًا حرية الرأي والتعبير في هذه الدولة.
بالاستناد إلى المعيارين السابقين، يمكن تقديم إجابة وافية حول درجة حضور السّمات الليبرالية الديمقراطية في ثقافة السوريين بعيدًا عن التخمين والتفكير الرغبوي.
السياسة هي قمة الهرم الثقافي للمجتمع، وتتجلّى درجة حيوية ثقافة أي مجتمع في قدرتها على إيجاد آليات للضبط الاجتماعي-الإداري بسمات ديناميكية وفقًا لأولويات الحياة والعدل والحرية. عمليًا، لا يمكن فصل الثقافي عن السياسي إلا على سبيل الاجراء المفيد في سياق دراسة الظواهر، وإن الحديث عن الثقافة لا ينفصل عن السياسة وحالها.
يمكن الحديث إجرائيًا عن مستويين متفاعلين من المعوِّقات: أ- عقبات بفعل سياسات السلطة السورية الحاكمة منذ نصف قرن. ب- عقبات اجتماعية في ثقافة الشعب /الشعوب السورية نفسها. في ما يخص العقبات السياسية يمكن تفهُّمها بحكم أن السلطة الأسدية سلطة استبدادية أحادية مطلقة، وليس من مصلحتها السّماح بوجود مجتمع سياسي سوري مُتعدّد أو مجتمع مدني متعدد وفاعل. من النادر عبر التاريخ أن تقوم سلطة استبدادية بالتنازل سلمًا عن مكاسبها أو جزء من مكاسبها غير المشروعة.
سنعرض الآن لأهم المعوِّقات أمام انتشار الثقافة الليبرالية الديمقراطية في مُجتمعات السوريين:
1- انتشار ثقافة الخوف
استثمرت السلطة الأسدية في ثقافة الخوف، خوف السوريين من السلطة، خوف الفئويات السورية المختلفة من بعضها بعضًا. مثلًا، إحدى الحجج التي تروّجها مجتمعات علوية سورية موالية للسلطة هي أنه في حال سقوط الأسد، فسوف يقوم العرب السنة بالانتقام منّها، ولذلك فنحن لا ندافع عن سلطة الأسد فحسب بل عن وجودنا كأشخاص ومجتمعات وطائفة أيضًا! الأجهزة الأمنية تخاف من بعضها بعضًا وتتنافس في خدمة السلطة الأسدية… السوريون يخافون من بعضهم بعضًا خشية الوشاية وكتابة التقارير.. ويخشون التفكير والتعبير… لقد طبعت السلطة السورية الفرد السوري بسِمة الخوف من السوري الآخر وسمة الخوف من المستقبل، وعمليًا هذا أحد الأسباب التي سوف تؤدي إلى شلل التفكير وإغلاق الفضاء العام السوري.
2- ضعف اقتران الحرية الاجتماعية بالحرية السياسية
ما تزال ثقافة السوريين مُتمحورة حول الانتماء الفئوي العائلي-القبلي-الطائفي إلى حدّ كبير. هذا النمط من التعيين الاجتماعي للفرد يعوق نمو شخصية الفرد كذات حُرة ومسؤولة. عمليًا لا يمكن الحديث عن مواطن ومواطنة من دون الاعتراف باستقلالية وحرية الفرد. مثلًا، في مجتمع لا يملك فيه الفرد حرّية الإفطار في نهار رمضان لا يمكن الحديث عن ثقافة تعددّية، وفي مجتمع لا تملك المرأة فيه حرية نزع أو ارتداء الحجاب لا يمكن الحديث عن ثقافة تعددية، وفي مجتمع يتم قتل الفتاة التي تتزوج من خارج طائفتها الدينية أو نبذ أسرة الفتاة اجتماعيًا لا يمكن الحديث عن ثقافة تعددية. الحرية الاجتماعية-الثقافية هي الوجه الآخر والجذر الأقرب للحرية السياسية، ولا يمكن الفصل بينهما. المجتمعات التي تملك حساسية عالية تجاه نقد الشخصيات والرموز الدينية وتبرر العنف اللفظي والجسدي تحت ذريعة الانتقاص من الثوابت الوطنية أو ازدراء الأديان هي مجتمعات ضعيفة من حيث إدراكها لأهمية الحرية وضرورة التعايش والحوار مع المختلف.
3- ضعف اقتران العلمانية بالديمقراطية
يأخذ الدين في حضوره السوري، والعربي عمومًا، شكلًا طائفيًا مُنغلقًا على جماعة/ جماعات المؤمنين، والدينُ عمومًا يقبل الانغلاق والانفتاح ربطًا بالسياقات الاجتماعية والسياسية. ولكونه لا يوجد دين ومذهب واحد مشترك للسوريين، فإن الدين سوف يتحوّل بحضوره الطائفي إلى عامل تفريق وشرذمة للشعب السوري على الأغلب. من هنا تأتي ضرورة حضور العَلمانية كإجراء ضروري لتحقيق استقرار المجتمع السوري وتحييد تأثير العامل الديني عن الحقل السياسي ما أمكن. إنّ العَلمانية لأسباب كثيرة قد أُسيءاساءة فهمها وتقديمها من جانب النخب الاجتماعية-الثقافية السورية، سواء من جهة الإسلامويين أو من جهة العلمانويين، ولذلك من الضروري تقديم خطاب ديني يُسوّق أو على الأقل لا يتعارض مع مفهوم العلمانية بوصفها آلية ضرورية لتحقيق الحكم الرشيد وضمان حيادية الدولة تجاه عقائد مواطنيها. إنّ دولة المواطنة المُتساوية المنشودة تقتضي لزومًا اقتران العلمانية بالديمقراطية وحقوق الانسان. تغليبُ الديمقراطية وإهمال العلمانية قد ينمُّ عن جهل سياسي بها أو حيلة تستخدمها قوى طائفية سُنّية للوصول الى السلطة وإقامة نموذج ثيوقراطي ديني استبدادي قاصر للحكم. بينما تغليبُ العلمانية وإهمال الديمقراطية وحقوق الانسان هو أيضًا دلالة على الجهل السياسي أو على حيلة تستخدمها قوى سياسية أو شخصيات ذات نزوع معادٍ للدين أو نزوع إلحادي أوأقلّوي طائفي لغرض إقامة نموذج استبدادي في الحكم يؤجّل أو يعيد إنتاج الصراعات الفئوية في المجتمع والدولة.
4- قصور الخطاب الديني والثقافة الدينية السائدة
يعوق الدين، في شكله الانغلاقي، التواصل الحقيقي بين السوريين أو بين المجتمعات السورية. إن الثقافة الدينية السائدة اليوم ذات نزوع ماضوي مشغولة بالنقل، وما تزال حبيسة الإرث النصّي وتفسيراته المدّشنة منذ نحو ألف عام. فالثقافة الدينية السائدة تهتم عمومًا بالحاضر والواقع المعيش بصفته موضوعًا لتطبيق مقولات مسبقة ونظام جاهز مُتخيّل وراسخ في الأذهان، فالحاضر هو مجرد موضوع. الثقافة الدينية السائدة موضوعها الماضي وليس الحاضر، تجعل جماهير المؤمنين يقدّسون أبطال الماضي ويحلمون باستعادتهم، وهي أيضًا ثقافة ذات حسّ إمبراطوري- إمبريالي مهزوم تتأسف على ضياع الأندلس وتستعمل تعابير الروم والفرس والكفار واليهود والمسلمين وأهل الكتاب، ويبدو ذلك واضحًا في منظور أصحابها إلى الدولة التركية الحديثة بصفتها استمرارًا لـ “دولة الخلافة العثمانية”، أي دولتهم التي تآمر الغرب لإسقاطها! يبدو هذا واضحًا في أسماء الفصائل العسكرية المسلحة التي ظهرت خلال الثورة السورية، وفي تعيين كل فصيل عسكري منصب شرعيٍّ له يحكم بالاستناد إلى مرجعية الشريعة الإسلامية، إضافة إلى ظهور مصطلحات من قبيل أهل الشام والحرائر والرِباط… إلخ.
هناك دراسة ميدانية إحصائية لكاتب هذه الدراسة عن نماذج التدين الإسلامي للسوريين بعنوان “الإيمان الإسلامي.. سؤال المعيار والقيمة”، نُشرت في عام 2018، حيث أُرسل الاستبيان إلى نحو 3000 شخص سوري عبر البريد الإلكتروني[19].
كانت نسبة المشاركين الذين لديهم موقف عنصري صريح يبرر القتل لأسباب عقائدية، نحو 4% في حالة ترك الصلاة، و4% في حالة زواج الفتاة المسلمة من شاب مسيحي أو زواج الفتاة السنّية من شاب شيعي، و8% في حالة شتم الذات الالهية، و17% في حالة الانتقال العقائدي من الإسلام الى المسيحية، و32% في حالة المثلية الجنسية. من جهة أخرى رأى ما نسبته 10% من المُشاركين أنّ التدخين في الشارع العام في نهار رمضان هو جريمة تستوجب عقوبة السجن مع الصيام الإجباري إلى نهاية شهر رمضان، بينما رأى 63% من المشاركين أن القرض المصرفي مخالفة دينية ينبغي تجنّبها، كما أيَّد ما نسبته 22% تقريبًا مشهد قطع يد السارق في مكان عام. بالتأكيد لا يمكن تعميم نتائج الدراسة، ونحتاج إلى الكثير من الدراسات الميدانية، ولكنها تعطي فكرة عن وجود مشكلة في الثقافة الدينية للسوريين وضرورة الإصلاح والتنوير الديني.
لنتساءل كيف يمكن تحقيق الانتقال الديمقراطي في ظل وجود رأي عام وازن مقتنع بضرورة تطبيق الحدود وأحكام الشريعة الإسلامية، تلك التي صاغها فقهاء في القرن الثالث والرابع الهجريين؟! كيف يمكن تحقيق الانتقال الديمقراطي في ظل وجود رأي عام يرفض قانون الزواج المدني بين السوريين والسوريات كخيار مُتاح لمن يرغب؟! كيف يمكن تحقيق الانتقال الديمقراطي مع شيوع استخدام تعبيرات كافر ومسلم ومرتد ومشرك وملحد وأهل الكتاب وغيرها في الفضاء العام؟!
تقوم ثقافة الدولة الحديثة على مفهوم المواطنة المتساوية، أي المساواة بين السوريين من جهة الاعتبار الإنساني والحقوقي. بينما تقوم الثقافة الدينية – والشعب السوري متدين في العموم – على عدم التساوي وتصنيف الناس ما بين مؤمنين وكفار وفق درجات. إن عقيدة الولاء والبراء، والتي تعني وجوب محبّة وولاء المسلم للمسلم ووجوب براء المسلم لغير المسلمين، لم تنشأ مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب وقبله ابن تيمية بل هي عميقة الجذور في التراث العربي الإسلامي، ويمكن تفهّم ذلك ضمن الفضاء الثقافي والسياسي للقرون الوسطى وعصور ما قبل الدولة الحديثة وانتشار ثقافة حقوق الانسان. إنّ الخطاب الإسلامي بشِقّه الشيعي ليس أفضل حالًا من شقه السنّي، وقد ركزنا على الشق السنّي في هذه الدراسة لأن أغلبية الشعب السوري تنتمي إلى الإسلام السنّي.
إذا كان التعصب الديني يأخذ شكلًا اجتماعيًا طقوسيًا في المجتمعات العربية السنّية، فإنه سوف يأخذ شكل عصبية اجتماعية–سياسية في المجتمعات السورية العلوية والمسيحية والدرزية والمرشدية وغيرها، وفي الحالتين نحن أمام معوِّقات تمنع انتشار الثقافة الليبرالية الديمقراطية التي تؤسس للمواطنة المتساوية في الدولة الحديثة.
إن الإصلاح الديني ليس شرطًا مسبقًا لتحقيق الاصطلاح السياسي كما يعرض محمد شحرور وكثير من دعاة التجديد الديني[20]، لكن هناك علاقة ديناميكية تفاعلية ما بين السياسي والديني والاقتصادي. من الصعوبة بمكان تسويق خطاب ديني إصلاحي يؤكد على قيم الحرية والعدالة في حال وجود سلطة سياسية ظالمة تقمع حريات الشعب. السلطة المستبدة في الأنظمة الشمولية تصادر الفضاء العام الضروري للتفاعل والنقاش وتسويق الخطاب الديني التجديدي. في الحقيقة لا توجد قاعدة عامة في ذلك، لأن الأولويات تختلف بحسب وضع كل دولة، فهناك سياقات سياسية معيّنة داخلية أو خارجية تسمح بتحقيق اختراقات في الاصلاح الديني أو السياسي أو فيهما معًا، ولا تكون العلاقة بينهما على شكل “سبب ونتيجة”، كما يؤدي العامل الاقتصادي دورًا مهمًا في التغيير، ونذكر هنا اقتران ظهور البروتستانتية في أوروبا بالثورة الصناعية وظهور الطبقات البرجوازية على سبيل المثال لا الحصر.
رابعًا: في ضرورة الثقافة الليبرالية الديمقراطية
تحتاج الثقافة العربية الإسلامية -باتجاهاتها كافة- إلى حضور أكبر لقيمة الحرية، لكونها شرطًا لكلِّ تفكير نقدي وإبداعي، من هنا يبدو مُبرَّرًا استحضار مفهوم الليبرالية Liberalism الذي يؤكد أساسًا على قيمة الحرّية، أو الليبرالية الاجتماعية الذي يؤكد على مبدئي الحرية والمساواة. عمليًا لا يوجد بديل – قابل للحياة- للخروج من الاستعصاء والمجزرة السورية بعيدًا عن الثقافة الليبرالية الديمقراطية. البدائل الأخرى هي: الاستمرار في وضعية الدولة الفاشلة.. أو استمرار حكم السلالة الأسدية أو غيرها بالطريقة نفسها … أو إيجاد تسوية سياسية مُستقبلية تقوم على المُحاصصة الطائفية والقومية على خطى لبنان والعراق… أو استمرار وضع التقسيم والارتهان للقوى الإقليمية والدولية.. أو استمرار الفوضى وانتشار التنظيمات السلفية الجهادية السنية والشيعية والنكوص الماضوي واستمرار الصراع السنّي الشيعي الذي لن ينتهي، وهو صراع عقائدي عدمي يهدر حيوية المجتمعات التي تنخرط فيه.. أو التطبيع السياسي والثقافي مع إسرائيل بصفتها دولة دينية تطمح إلى جوار من دويلات دينية – طائفية وقومية هشة مُتنازعة. بديل الثقافة الليبرالية الديمقراطية هو هروب ولجوء السوريين بحثًا عن وطن بديل تتوافر فيه هذه الثقافة، وتحديدًا في دول الغرب الديمقراطية.
إنّ ميزة الثقافة الليبرالية الديمقراطية والنظام المُنبثق عنها، أي دولة المواطنة المتساوية، هي في كونها تقدم بديلًا نظريًا ومُمكنًا يكون فيه السوريون جميعًا رابحين باستثناء القلة الحاكمة الفاسدة. يمكن تسويق الثقافة الليبرالية الديمقراطية أخلاقيًا فهي تخاطب الناس في مصالحهم المُرتبطة بوجود دولة حديثة ووطن كريم. لقد خبر السوريون جميعًا البدائل الأخرى، سواء البقاء تحت حكم السلطة الأسدية أو البقاء تحت سلطة التنظيمات الجهادية والمليشيات التي تديرها تركيا في الشمال السوري أو تحت سلطة قسد أو سلطة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) سابقًا أو حالة الفوضى المُخطط لها كما هو حال محافظة السويداء. كل الاحتمالات السابقة جُرِّبت وأخفقت.
نتائج الدراسة
1- بالمعنى السياسي-القانوني، يمكن الحديث عن الشعب السوري كمشروع مُستقبلي مؤجّل وثيق الصلة بعملية الانتقال الديمقراطي وتحقيق دولة المواطنة المتساوية.
2- بالمعنى الثقافي-الاجتماعي، يمكن الحديث عن شعب سوري واحد، ولكن بحدود غائمة وتباينات ثقافية فئوية ظاهرة. يتشكل الشعب السوري من شعوب مُختلفة لكل منها هوية ثقافية وذاكرة جمعيّة خاصة تقوم على سرديات هي مزيج من ادعاء البطولات والمظلوميات.
3- لعبت الجغرافيا السياسية وتقسيمات الحدود في عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، وكذلك طبيعة النظام السياسي الحاكم، خاصة في الحقبة الأسدية، دورًا أساسيًا في تشكيل الهوية الثقافية السورية.
4- ظهرت الهوية القومية السورية في أواخر القرن التاسع عشر على أيدي مُثقفين أغلبيتهم من خلفيّة مسيحية، لتجاوز الصراعات والانقسامات الطائفية آنذاك، ومن ثمّ تبلورت الوطنية السورية في سياق تراكمي أثناء الاستعمار الفرنسي وصولًا إلى إعادة توحيد الدويلات السورية والاستقلال.
5- من معالم الثقافة السورية كما تقترح الدراسة: أ- ثقافة مدينيّة متعددة البؤر مع ضعف حضور الدولة المركزية. ب- ثقافة أبوية ذكورية. ت- ثقافة ملل وطوائف تميل للانغلاق.
6- التحفّظ على استخدام مصطلح الثقافة المدنية أو الدولة المدنية حتّى يتم ضبطه معرفيًا وقانونيًا، وتقترح الدراسة استخدام مصطلح الثقافة الليبرالية الديمقراطية فهي أقل التباسًا.
7- في ما يخص عقبات انتشار الثقافة الليبرالية الديمقراطية في سورية تميز الدراسة ما بين عقبات بفعل سياسات السلطة السورية الحاكمة، وعقبات اجتماعية في ثقافة الشعب/الشعوب السورية نفسها. تقترح الدراسة وجود العقبات التالية: أ- انتشار ثقافة الخوف بين السوريين. ب- ضعف اقتران الحرية الاجتماعية بالحرية السياسية. ت- ضعف اقتران العلمانية بالديمقراطية. ث- قصور الخطاب الديني والثقافة الدينية السائدة.