جودت سعيد: صورة الشيخ في شبابه

في فترة مبكرة جدًا من حياة جودت سعيد، في الصف الثاني الابتدائي، لاحت أمام ناظريه أسئلة من نمط خاص شغلت باله وحرّكت تفكيره. أسئلة يندر أن تراود طفلًا في مثل سنه، لكن يندر أكثر أن تظل تلاحقه حتى شبابه فكهولته فشيخوخته. كان كتاب التربية الدينية يحتوي على نصّين للتشهد في الصلاة. قرأهما، ولم يعرف الفرق بينهما مع تشابههما، لماذا هما مختلفان؟ أيهما الصحيح؟ لم يجرؤ على سؤال أستاذه أو والده، وإنما سأل والدته؟ حدّقت الوالدة في الكلمات، ثمّ قالت: “هذا التشهد تشهد المذهب الحنفي، وذاك التشهد تشهد المذهب الشافعي”، ولم تنسَ الوالدة أن تصف المذهب الحنفي بالتفخيم والتعظيم باعتبارها حنفية المذهب! وانتهى الحوار بينه وبينها، واستمر بينه وبين نفسه: لو ذهب التلميذ الشافعي وسأل والدته لقالت له مثل هذا القول عن المذهب الشافعي أيضًا؟! أيهما الفخم إذن؟ وأيهما المعظّم([1])؟

آنس والده المزارع في السنوات اللاحقة منه استعدادًا جيدًا لطلب العلم، وربما خمّن تفوقه فيه، ولذلك أرسله إلى الأزهر الشريف في القاهرة ليطلب العلم الديني سنة 1946 وهو في عمر الخامس عشر، وبقي الفتى في مصر حتى سنة 1958، وهنالك بدأ وعيه اليافع يتبرعم أولًا ويتفتّح ثانيًا.

درس الإعدادية والثانوية في الأزهر، وضمن لنفسه تكوينًا تأسيسيًّا في العلوم الشرعية الأساسية من حفظ للقرآن الكريم، ومعرفة بالحديث الشريف، ودراسة لعلوم التفسير، ومصطلح الحديث، والفقه والأصول([2])، ثم انتسب إلى كلية اللغة العربية وحاز على إجازتها سنة 1958. قضى تلك الأيام في قليل من الدراسة وكثير من القراءة لا يعرف شيئًا سواهما. قراءة لا حدّ لها ولا زمام ولا خطام. قراءة الهائم الذي لا يرتوي، والمسترسل الذي لا يحيد. كان بيته الحقيقي دار الكتب المصرية لا يغادرها إلا إذا أطفأ أمين المكتبة الأضواء وأمسك بكتفه داعيًا إياه للمغادرة. كانت الأسئلة التي رافقته وهو في الصف الثاني الابتدائي تتطور في ذاته من تساؤلاتٍ حول المذاهب إلى تساؤلات حول الأديان، ثمّ حول المؤمنين بالأديان والرافضين لها! كيف يعرف الإنسان ما يعرفه؟ ولماذا يؤمن بما يؤمن به؟ وكيف يعرف الخطأ من الصواب؟ وكيف ينتج المجتمع مفاهيمه، وكيف يحميها؟ وكيف ينقلها للأجيال؟ وكيف تغدو عائقًا وعقبة؟ ومن خلال هذه الأسئلة بدأت تتكون لديه فكرة ضرورة الخروج عما سيسمّيه (الآبائية) والتي سيستلهمها من القرآن الكريم نفسه وهو يقول: {ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين} [القصص: 36]، والقرآن حين يورد هذه الفكرة لا يوردها على أنّها ميزة للمجتمعات التي تقولها، ولكن على أنّها إدانة لهم لأنّهم يرفضون الجديد من القيم والأفكار ابتداءً، بدون تفكير فيها، لمجرّد أنّهم لم يتلقوها عن آبائهم، أو لأنّ آباءهم لم يعرفوها، “فالوقوف عند الآباء، ورفض أن يكون هنالك علم لم يعلموه إنّما هو تمجيد للتاريخ، ورفض للزيادة في العلم، والله علّمنا أن ندعوه أن يزيدنا علمًا”([3]).

وسيوسع فكرة الآبائية لتغدو دالّة على المذهب والدين ورجاله والمعارف المستقرة ومناهج التعليم السائدة، غير أنّه، في الوقت نفسه، لن يرفض كل ما عند الآباء، فهو نفسه كان له آباؤه الفكريون أيضًا: ابن تيمية، ومالك ابن نبي ومحمد إقبال، ممّن تعرّف عليهم في تلك الفترة من التكوين، لكنهم كانوا له آباء على المبدأ القرآني القائل: {نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم} [الأحقاف: 16]. وقد قال في تأكيد على ذلك: “كم أتمنى أن يتعمق المسلمون في فهم مالك بن نبي ومحمد إقبال وأمثالهما حتى يتخلصوا منهما ومن أمثالهما، ليأخذوا من النبع مباشرة. من آيات الله في الآفاق والأنفس”([4]).

وفي تلك الفترة اختار أن يصحب الأستاذ الشيخ محمد زهري النجار، المولود في حمص سنة 1920، كان يكبره بإحدى عشرة سنة، وهو فرق هائل في مقتبل العمر يخوّل المرء أن يأخذ فيه دور التوجيه والإرشاد، و كان الشيخ محمد زهري قد تلقّى العلوم الدينية الأوّلية في حمص، ثم غادرها إلى دمشق طلبًا للعلم، وهنالك انتسب إلى الطريقة الشاذلية على يد الشيخ محمد الهاشمي، ثم تعرف على الشيخ ناصر الدين الألباني، فتأثر به، وأصبح أثري الهوى سلفي المشرب، ثم وفد إلى مصر سنة 1944، ودرس في كلية الشريعة وتخرج فيها سنة 1948، وبقي في مصر، يحقّق أمّهات الكتب ويطبعها، ككتاب الأم للإمام الشافعي، وكتاب شرح معاني الآثار للطحاوي، وكتاب تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة، وغير ذلك من الكتب. لقد كان في اختيار الشاب جودت صحبة هذا الأستاذ قطعة من عقله المتطلع للتجديد والإصلاح، ولمعة من روحه التوّاقة للتحرر من التقليد، ولذلك لاءمته النزعة السلفية، ووافقته مصاحبة محبيها ومعتنقيها، وهذه النزعة تنطوي في جوهرها، كما يقرر الفيلسوف محمد إقبال، على روح تحرّر ظاهرة، لأنها تمرّدت على قصر حق الاجتهاد على أصحاب المذاهب، وأصرّت بقوة على القول بحق الاجتهاد، وإن كان نظرها إلى الماضي خلا من النقد والتمحيص خلوًا تامًا ([5])، وعندما سيرجع الشاب جودت إلى سوريا ستكون أولى صداقاته، مع المشايخ، تلك التي سيعقد أواصرها مع الشيخ ناصر الدين الألباني، وسوف يتولى الشيخ ناصر بنفسه عقد زواج أخت الشيخ جودت السيدة ليلى على الدكتور خالص جلبي([6]). لكن تلك الروح السلفية التي كان يتمتع بها ذلك الشيخ الشاب لن تلبث أن تتكشّف عن تطوّر يفرّق بينه وبين رموز هذا التيار بدون قطيعة ولا موقف متشنّج، وسوف تثبت مسيرته المستقبلية أنه تحلّى بالجانب الإيجابي من السلفية في كونها دعوة للاجتهاد، وأنّه تخلّى عن الجانب السلبي منها في كون نظرها للماضي خلا من النقد والتمحيص، ولذلك سنراه، فيما بعد، لا يقتصر على إعمال العقل والفكر في أقوال السلف والخلف فحسب، وإنّما في مواقفهم أيضًا. لقد كانت سلفيته مشرَّبة بالمرونة والانفتاح الذهني والوداعة التي لا تعرف تسرّع الحنق الفقهي ولا احتدام الغيظ العقدي، ولعل صحبته للشيخ محمد زهري أكسبته تلك المرونة والانفتاح، فعلى الرغم من نزعة الشيخ زهري السلفية فإنّه لم يفقد جسور التواصل مع أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى حتى التي تُوصف عادةً بالانحراف، ويحدثنا السيد مرتضى الرضوي عن لقائه بالشيخ محمد زهري في القاهرة سنة 1950، ومناقشته إياه في مفهوم التقيّة ومواردها ويصفه بقوله: “وجدته يتحلّى بالمرونة والسماحة واتباع الحق، وله جهود وجهاد في سبيل تدعيم وحدة صفوف المسلمين في مواجهة أعدائهم”([7]).

نسوق هذا الكلام لندلّل على كيفيّة تشكّل صورة الشيخ جودت الفكرية في تلك الفترة من حياته، والأجواء التي كان ينضج فيها.

كانت أيام دراسته أيام التحولات الكبرى في تاريخ مصر بخاصة والعرب بعامة. شهدها عن قرب، وانفعل بها بقوة: قرار تقسيم فلسطين، ونكبة العرب وانهزامهم والاعتراف الأممي بدولة إسرائيل في أيار سنة 1948، ثم انهيار الحكم الملكي بانقلاب تموز سنة 1952، ثم تأميم قناة السويس في تموز أيضًا سنة 1956، وما تلاها من العدوان الثلاثي على مصر في تشرين الثاني من العام نفسه. ورافق تلك الأحداث الجسام أحداث لا تقل عنها خطورة وفداحة، أعني: الاغتيالات والإعدامات: اغتيال النقراشي باشا في نهاية سنة 1948، ثم اغتيال الشيخ حسن البنا بعد ذلك بشهرين في شباط سنة 1949، ثم إعدام عبد القادر عودة ورفاقه، من قيادات الإخوان المسلمين، الشيخ محمد فرغلي، ويوسف طلعت، وإبراهيم الطيب، وهنداوي دوير، ومحمود عبد اللطيف سنة 1954 بعد اتهامهم بمحاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر في حادثة المنشيّة الشهيرة.

كانت تلك الأحداث الجسام تشحذ أفكار الشاب، وتبري رؤاه، وتدفعه للتساؤل عن هذا المصير المريع الذي شهده بعينيه، فيحار في لملمة أسبابه وبواعثه في زحمة الوصفات الطبية/الفكرية التي كان يقدمها المشايخ وعلماء الدين وأرباب الفكر وروّاد الأدب. كانت الأسئلة، أسئلة المأزق الرهيب الذي يعايشه بكل تفاصيله، تتراكم في داخل حجرة نفسه، وتضغط على كيانه، من دون أن يكون له صمّام ولا استرواح، وبدأ يتفتّق فوق كتفه جذعُ حملٍ ثقيلٍ باهظٍ كثير الفروع والأغصان. أغصان تمتدّ امتداد العالم الإسلامي برمّته ورميمه، وتشاء المقادير في آخر سنتين من سنواته القاهرية أن يقرأ لمالك بن نبي، وأن يلتقي بفكره. هذا الفكر الذي صار، بالقياس إليه في تلك الآونة، الصمّام المرشِّد والمايسترو الموجِّه. وهنا أطلقت كتابة مالك في نفسه سيلًا من الهواجس الفكرية والمعرفية في سبيل تجاوز ذلك الدرك الذي كان الجميع يهوون فيه من دون أن يكون هنالك حدّ لتلك الهوّة: كيف نرتّب مشكلات العالم الإسلامي؟ هل التغيير ممكن؟ وإن كان ممكنًا فهل له سنن؟ كيف يحدث التغيير؟ وكيف نغيّر؟ وماذا نغيّر؟ وسوف يقول لمالك عندما يلتقيه: أنت كما كوبرنيكوس هدم الدنيا وأعاد تركيبها من جديد بنظريته في علم الفلك، وإنّك في الثقافة قمت بعملية كوبرنيكية في تغيير النظرية الثقافية في العالم الإسلامي، كما أنّه سيتلقف من مالك فكرة بل بالأحرى بذرة فائقة الأهمية، فكرة أنّ المسلمين مصابون بالغرام السقيم بالقوة من دون أن يدركوا بأن المعرفة هي قوة هذا العصر. ومن هذه الفكرة ومثيلاتها بالإضافة إلى ما شاهده بأم عينيه من تجارب عنفيّة في العلاقة المتبادلة بين المعارضة والسلطة نَمَتْ وأزهرت بذرة اللاعنف في نفسه وقلبه وفكره وروحه حتى غدا رائدها في عالمنا العربي والإسلامي، وسوف يتبلور لديه من خلال دراساته وإعادة قراءته للقرآن الكريم وللسيرة والأحاديث النبوية أنّ (اللاعنف) هو المـُحْكَم وهو الأساس في كل أحكام الشريعة، وأنّ ما يخالفه هو متشابه يُردّ إليه ــ المـُحْكَم ــ ويُفسّر على ضوئه، وبذلك سوف يؤسِّس، مع نظرائه عبد الغفار خان وسعيد النورسي، أول اتجاه فكري في تاريخ الإسلام يتبنى هذا القول، ويدافع عن هذه الرؤية.

بعد مغادرته مصر ذهب إلى السعودية مدرّسًا في مدارس بريدة، لمدة سنتين، ورجع إلى سوريا سنة 1960 والتحق بالخدمة العسكرية في السنة نفسها، وبتاريخ 28/ أيلول/ 1961 شاركت قطعته العسكرية غرب مدينة دمشق في منطقة قطنا بالانقلاب على الوحدة بين سوريا ومصر، وأمام قادة اللواء 71 الذي يخدم فيه اعترض جودت على العملية، وأعلن رفضه المشاركة أو تنفيذ الأوامر، ولا بأس هنا بالاستفاضة أكثر في ذكر ما يتعلق بهذه الحادثة كما كان يقصُّها الشيخ على جلسائه ومستمعيه، فقد أدخله قادته من الضباط إلى غرفة، وحاولوا إقناعه بشتى الطرق أن يغيّر موقفه، ولكنّه لم يتزحزح، وعندئذ جاءه ضابط من خلفه وضمّه ضمة شديدة القوة، وقال له وفمه قريب من أذنه: يا شيخ! يا شيخ! أنت ترفض الانقلاب على عبد الناصر الذي أعدم المشايخ وسجن الناس؟ فأجابه الشيخ: نعم أرفض الانقلاب عليه، لأنكم والله لستم أفضل منه([8])! وبعد نجاح الانقلاب نُقل إلى الكلية الحربية، وبقي فيها حتى انقلاب البعثيين سنة 1963، ثم عاد إلى التدريس في المدارس والمساجد.

كانت فكرة اللاعنف شديدة التبلور في نفسه، وكانت تعني المعارضة الشجاعة الصدّاحة التي لا تعرف الخوف ولا الجبن ولا الاستسلام، وتعني المقاومة العلنية السلمية العنيدة، وعدم الانصياع لأوامر الظلم والبغي والعدوان، وتعني أن النضال السياسي للتغيير السياسي في أي بلد يجب أن يتوسل الطرائق السلمية، وتعني طاقة أخلاقية ملء إهابها النزاهة والاستقامة والتقوى والعمل الصالح، وكما أنّه رفض المشاركة في انقلاب الانفصاليين، رفض كذلك انقلاب البعثيين فيما بعد، وأعلن على الملأ، خلال السنوات التالية للانقلاب في دروسه ومحاضراته في جامع المرابط في دمشق مخاطبًا البعثيين: لقد كفرت بثالوثكم المقدّس: الوحدة والحرية والاشتراكية. لأنه عَلِمَ عِلْمَ اليقين أنّ شعار (الوحدة) لم يكن في الممارسة العملية إلا استغراقًا تامًا في القطرية، وأنّ (الحرية) لم تكن إلا للحاكم في أن يطبق أفواه الشعب، وأن يخنق روحه وآماله، وأنّ (الاشتراكية) ما هي إلا غوغائية وتخبّط في الرؤية الاقتصادية التي تناصب الأرض والشعب والتاريخ والحاضر العداء والبغضاء.

وربّما كان من أحسن ما صادفه في حياته الاكتمال المبكّر لفكرته، ولطالما غبط الكتّابُ والروائيون ذلك الإنسان الذي يقبض على فكرته في أول سنيّ حياته وليس في نهايتها، وذلك الذي يعرف رسالته في ناشئة أمره، وهو في عنفوان الفكر، وريعان الجسد، ونضارة الروح، وباكورة الأحلام! وهكذا كان جودت سعيد.

كان شيخًا. نعم شيخ. ولكنّه مختلف في الطرح. مباين في الهموم! فهل نقع في عالم مشايخنا في وقته، أي: قبل أكثر من نصف قرن، على شيخ يتحدث عن كون وزارة السياحة من أفضل الوزارات، لأنّها تساهم في أن يعرف البشر بعضهم بعضًا، فتساعد بذلك على نقل الخبرات بين البشر من أيسر الطرق وأمتعها؟ فالسياحة من جملة الأوامر الإلهية التي أمرنا القرآن الكريم بها، ومن جملة ما ساقه في معرض المدح الجلي والثناء العطر؟ {قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين} [الأنعام: 11]، {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج: 46]، {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشّر المؤمنين} [التوبة: ١١٢]. و{مسلمات مؤمنات قانتات تائبات سائحات} [التحريم: 5]. وهو في فهمه هذا يوسّع دائرة التفسير التي اقتصرت على تفسير السياحة بالصيام تارة وبالهجرة تارة أخرى، إلى المعنى المتبادر الساذج، أي: غير المشوب، الذي تعضده آيات الأمر بالسير في الأرض ابتغاء التعرّف والتعقّل والتبصّر والتفّكر في العواقب، وما يلي ذلك من فوائد وعوائد، أوَ ليس القرآن يفسّر بعضه بعضًا! وهذا مثال من أمثلة عديدة وفيرة، متزاحمة متراحمة.

لقد كان هذا الشيخ الشاب يجتذب الأتباع اجتذابًا سحريًا، اجتذابًا لا يقوم على سحر الأفكار وجدّة الطرح فقط، ولكنْ على سحر الشخصية نفسها. أستاذٌ شيخٌ مشبع بالروح الرفاقية، تخيّم على دروسه حالة من الزمالة بينه وبين الحضور أكثر من حالة الشيخ والمريد. شيخٌ لا يشوّشه صلَفٌ أو غرور. حرٌ جذلان بأفكاره مهمومٌ بها. يفيض حماسةً فتتدفق إلى المحيطين به، وتغمرهم وتتغلغل في نفوسهم.

لم تكن تلك الفكرة التي اكتشفها مجرد موجة عابرة في حياته، بل غدت حياته المفعمة بالنشاط العقلي الذي لم يعرف الاسترخاء ولا الفتور، فتراه يعيد ويكرّر ويجرّب صوغها والتدليل عليها المرة تلو المرة تلو المرة، ثم يقفوها، بعد ذلك، بكمٍّ هائل من الأفكار الحافّة الداعمة. وكان كمن يفضي بكل مكنونه إلى من يتحدث إليه، ثم يقول له: أرجوك افهمني! لأنه يشعر بأنّه غير قادر على التعبير الوافي عمّا يجول في خاطره، أو أنّه لم يوفّق حتى الآن في صياغة فكرته الصياغة المناسبة.

كان في صوته نبرة لا تستسيغها الأذن ناجمة عن شبه لكنة أعجمية، لكنّ حديثه سرعان ما يأخذ المستمع فيطير به على جناح الأفكار الصادمة أو المستغرَبة أو الداعية لتشغيل الفكر والخيال فينسيه تلك النبرة غير المستساغة.

وكما أنّه قال لمالك بن نبي في إحدى لقاءاته به: أنت ككوبرنيكوس فإنني قلت له في لقاء به في بيته في ضاحية من ضواحي إسطنبول تُدعى بيكوز:

ــ أنت الأبله!

نظر في وجهي متفرسًا مع نصف ابتسامة وقال: ماذا؟

قلت: (الأبله) اسم رواية لدوستويفسكي بطلها يأسرَ قلب كل من يلتقي به، بطيبته الطفولية، وبساطته الآسرة. ومحاولته أن يحققَ السعادةَ لأعدائه وأصدقائه، وقد قال النقّاد: إنّ دوستويفسكي كان يتحدث عن المسيح في روايته تلك. لو كان دوستويفسكي حيًا لقال عنك: إنك (الأبله) الذي رسمتُه وتخيلتُه! فهزّ رأسه وأكمل ابتسامته في حياء وخفر.

كانت مودته القلبية تطفح من عينيه الزرقاوين اللتين إذا رمقتا أحدًا سكبتا الأنس والاطمئنان في نفسه بنورهما الداخلي، وكان صفاء نفسه يجعله من المشايخ القلائل بل النوادر الذين لم يعادوا أحدًا، ولم يبادلوه قارص الكلام! ولذلك لم يلفحه ذلك الأوار الملتهب الذي حرّق السلفيين والصوفيين، أو المذهبيين واللامذهبين، إذ لم يكن له مناظرات مع الأشخاص، ولكن مع الأفكار.

لقد تخلّى منذ شبابه المبكر عن مظاهر الحياة المترفة ليضمن لنفسه الاستقلال التام لصالح العمل الفكري الذي نذر نفسه له. لم يرغب في شيء من بهرج الحياة الظاهرة التي يتطلع إليها المشايخ: لا تطلعٌ لمنصب ديني سياسي، ولا اهتمامٌ بحيازة جمهور عريض، ولا رنوٌّ للأوسمة والجوائز، ولا منافسة مع أقرانه المشايخ على لُعاعة وفُقاعة. لم يكن يطمح إلا إلى تبليغ أفكاره وإيصالها بلا لَبس أو تحوير. وكان بيتاه الصغيران المتواضعان في حي قاسيون في مدينة دمشق وفي قريته بئر عجم في محافظة القنيطرة عاريين عن الزينة، بسيطين بساطة مفرطة، بساطة زاهد نقرأ أخباره في قوت القلوب لأبي طالب المكي أو في الرسالة القشيرية لأبي القاسم القشيري. ومن هنا ندرك أيضًا سرّ تأخره في الزواج، ففي لجّة انهماكه بقراءاته واعتقالاته ودروسه ومحاضراته وتفكيره وشروده انتبهت فجأة أختاه ليلى وسعدية إلى أنّ أخاهما جاوز الثامنة والثلاثين وهو في غفلة تامة عن الزواج، ولذلك بادرتا إلى حثّه ولزّه إلى الزواج، فاستجاب مستسلمًا وطالبًا منهما حسن الاختيار، فاختارتا له السيدة المدرّسة هالة ماتوق، وأنعِم به من اختيار تمخّض عن زوجة محبة، وأمّ حانية، وصديقة راعية، وما زلت أذكر ذلك المشهد الذي لم أشهد مثيله من قبل حين زار الشيخ حلب سنة 1992 وبصحبته زوجته وأخته ليلى وزوجها الدكتور خالص وبضعة من محبيه وعلى رأسهم الصديق الأستاذ محمد نفيسة، ونزلوا ضيوفًا في مضافة جامع الفرقان، وكان إمامه وخطيبه الشيخ الأستاذ أحمد الموسى. جلس الشيخ ومن معه على الأرض، وقد مُدّ السماط للفطور، وبدأ الجميع بتناول الطعام ما خلا الشيخ الذي كان مأخوذًا بالكلام والشرح والتبيان وضرب الأمثلة والاستشهاد، تارةً بكلام محمد إقبال، وتارة بكلام توينبي، وأخرى بكلام ميشيل فوكو، ثم بآية قرآنية، ثم بمعركة حدثت بين الصحابة، وما كان من زوجته الجالسة بقربه سوى أن تنتهز الفرصة بعد الفرصة لتضع في فمه لقمة من هذا الصحن أو ذاك، تفعل ذلك بكل محبة ومودة ورعاية واكتناف، وهو في غفلة عن الطعام والشراب والفطور، وفي اندفاع تلقائي لتأدية ما يحمله في صدره لأناس قد لا يلتقيهم مرة أخرى. كان ذلك المشهد غير المألوف في حلب يدلّل على أنّ مِنْ أوثق عرى السعادة إيمان المرء بنفسه، وإيمان المحيطين به إيمانًا قائمًا على الاحترام الكامل على الرغم من مناقشته وانتقاده في كثير من الأحيان.

صرامةٌ في وداعة، وإخبات في اضطرام، وعبقرية فطرية تجلّله وتجلّل حركته وأقواله وأحواله، ولكن هيهات لسلطة البعث أن تسمح لداعية شامس، مهما كان مسالمًا، يسعى جاهدًا للتخلص من النير غير المرئي أن تمضي حياته من دون تعكيرٍ لصفوها، لذلك بدأت في تلك الفترة سلسلة اعتقالاته، ثم نقله من مدرسة إلى مدرسة ومن منطقة إلى منطقة على سبيل العقوبة والإيذاء، وانتهت بفصله من التدريس بدون تعويض، وتجريده من الحقوق المدنية، ووقّع القرار رئيس الوزراء البعثي آنذاك يوسف زعين سنة 1968.

لقد قال مرةً دوستويفسكي في رواية المراهق: “الشباب نقيٌ طاهرٌ لمجرد أنّه شباب”. وقد تحقّقت هذه المقولة في جودت سعيد في شبابه وكهولته وشيخوخته وإلى اللحظة التي أُعلِنت فيها وفاته في مدينة إسطنبول صباح الأحد 30 كانون الثاني/ يناير سنة 2022، فنعاه الناس في الشرق والغرب، وذكره طلابه ومحبوه الذين توزّعوا على مختلف التيارات والاتجاهات بألقاب كثيرة على رأسها: المعلّم، وداعية العلم والسلم، ومنظّر اللاعنف، ورائد النضال السلمي، والمربي الكبير، والمفكر الإسلامي، وغير ذلك من الألقاب والأوصاف، وكتب بعضهم، لكيلا يغتر الناس بتلك الأوصاف، عن انحرفاته الفكرية والعقدية وعن شذوذ بعض أطروحاته وضلالها، وتورّع قسم ثالث عن وصمه مباشرة بالكفر والضلال، ولكنه أورد بعض عباراته وأقواله مجتزأةً متسائلًا عنها تساؤلًا استنكاريًا، تاركًا مهمة التفسيق والتكفير لتعليقات قارئيه ومتابعيه، وكان كثير من هؤلاء يصرّحون بأنّهم لم يقرؤوا كتبه، ولم يلتقوا به شخصيًا، ولكنّ ذلك لم يمنعهم من نسج شرانق التشكيك به، ومِن حَثْو تراب تسخيف آرائه وأقواله بخفّة واستهتار فوق جثمانه المسجّى الذي أطبقت عليه للتوّ عين الردى.

لم ينلْ جودت سعيد في حياته الاعتراف الإيجابي من معظم المشايخ السوريين، فقد تجاهلوه من طرف، وبخسوه أفكاره ودعوته من طرف ثان، وقالوا: هو ليس رجل أفكار، ولكنه رجل فكرة. فكرة لم يوافقوا عليها، ولم يتذوقوها، ولم يحاولوا فهمها ولا الاقتراب منها! لقد كانت الفروق بينه وبين بقية المشايخ فروقًا جوهرية، ولا سيما في الإيقاع! كان وجوده بينهم يحدث إرباكًا لا تخطئه العين ولا الأذن، فقد كان كضارب إيقاع أصمّ في فرقة موسيقية منسجمة ومتناغمة، يضرب آلته في سياقٍ خارج أداء الفرقة، ويستغرق في ذلك الضرب استغراقًا يخرجه من حدود وجوده فضلًا عن حدود الفرقة الموسيقية التي لا تستوعب على الإطلاق كيف يخرج هذا الخروج فيفسد صفاءها وانسجامها.

وبتعبير آخر كان الفرق بينهما هو الفرق ما بين (الأتباع) و(الهراطقة)، وهو تفريق تحدّث عنه علي عزت بيجوفيتش في معرض حديثه عن (الدراما) و(الطوبيا)، فالأتباع يُعجبون بالسلطة القوية: سلطة الأب، وسلطة الشيخ، وسلطة المذهب، وسلطة الحاكم. وقد يثورون في لحظة ما على سلطة الحاكم، لأنّهم يطمعون بها، ولكنهم لا يثورون على بقية السلطات، لأنّهم يحبون النظام، ويمجّدون الآبائية. يرفلون في حبرة دعة التسليم والاطمئنان، فلا يزعجون أنفسهم بالأسئلة العصية. فقط يتساءلون الأسئلة المريحة التي تجد أجوبة مريحة وسهلة، أما الهراطقة فأناس في ثورة دائمة ضدّ شيء ما، يتطلّعون إلى القضاء على المستنقع الآسن بتحريكه وتفريغه بفتح ينابيع الأسئلة المتفجرة التي تقلّبه وتجدّده. ألم يكن الأنبياء وكبار المصلحين هراطقة في نظر أبناء زمانهم على الدوام؟ إنّهم قليلًا ما يتحدثون عن الخبز، ولكنهم يتحدثون عن الحرية كثيرًا، ولا يسلّمون بالسلطات على اختلاف صنوفها، بل يعاندونها ويهزّونها طلبًا لزبدةِ جديدٍ مفيدٍ لن يظهر بدون هذه الخضّة. لا يقبلون فكرة أنّ الملك هو الذي يمنحهم مرتّباتهم، وإنّما على العكس يزعمون أنّهم هم الذين يطعمون الملك. يقول بيجوفيتش: “في الأديان يوقّر (الأتباع) الأشخاص والسلطات والأوثان، أما عشاق الحرية المتمردون فإنهم يمجّدون الله فحسب”([9]).

ولذلك لم يحظَ جودت أيضًا بهذا الاعتراف من الثلة المشيخية في يوم موته، فتجاهله المجلس الإسلامي السوري الذي يضم نخبةً معتبرة من المشايخ، فلم ينعَه، على الرغم من كونه ما فتئ يقدّم التعازي، ويكتب النعوات للمشهورين وغير المشهورين، للسوريين وغير السوريين، بل ولأقارب بعض أعضائه ومن يلوذ بهم! لقد كانوا أمام معضلة حقيقية في اتخاذ موقف معلن من موته، فالرجل يقف منارةً راسخة في ثباته على النزاهة والاستقامة والخُلق الرفيع، ولكنه في الوقت نفسه لا يكلّ من تسفيه أحلامهم وأوهامهم، ولا يملّ من القول في وجوههم: أنتم عراة، ولذلك كان الحل الأمثل بالقياس إليهم التناسي والتغاضي والتغافل والتجاهل.

يقول جودت سعيد: “إنّي أشعر أنّي سأتعلّم، وفي إمكاني أن أقدّم رؤية جديدة مفتوحة غير مغلقة إلا على العنيفين الذين يفسدون في الأرض. والتاريخ سيتحدث عن أشواقي، فإن لم يتذكرني فسوف يحقّق أحلامي وآمالي، والله لا يضيع أجر من أحسن عملًا”([10]).

ويقول: “سيكون كلام الذين يأتون من بعدنا أعلى مقامًا، وأوضح بيانًا، وأعمق أثرًا، وطوبى لأولئك الذين يصنعون سبل السلام، ويبنون دار السلام، ويخرجون الناس من الأوهام”([11]).

:المراجع

1- انظر: إبراهيم محمود، الهجرة إلى الإسلام: حول العالم الفكري لجودت سعيد، ط 1، (دمشق، دار الفكر، 1995)، ص42.

2- من هنا ندرك خطأ ظن عادل التل الذي أرجع وجود آراء غربية في فكر جودت سعيد إلى أنّ جذور الرجل الفكرية “لم تكن موصولة بالتربية الفكرية الصافية لأهل السنة والجماعة”! ونحن هنا نرى أنّ الشيخ تلقى العلم والتربية في المحضن الكلاسيكي الأول لأهل السنة.انظر: عادل التل، النزعة المادية في العالم الإسلامي: نقد كتابات جودت سعيد. محمد إقبال. محمد شحرور، ط 1، (دار البينة للنشر، 1415 هـ /1995)، ص 74. وهذا الكتاب هو كتاب هجومي يخبط خبط عشواء، وتجلّله نزعة بل لهفة تكفيرية عجيبة، ويفتتحه بقوله تعالى: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون}.

3- انظر: إبراهيم محمود، الهجرة إلى الإسلام، ص 55.

4- المصدر نفسه، ص 81.

5- انظر: محمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام، عباس محمود (مترجمًا)، راجع مقدمة الكتاب والفصل الأول منه: عبد العزيز المراغي، وراجع بقية الكتاب: د. مهدي علام، ط: 2، (مصر، دار الهداية، 1421ه-2000م)، ص 180.

6- استقيت هذه المعلومة إضافة إلى اسم الشيخ محمد زهري النجار، والمعلومة حول رفض الشيخ جودت المشاركة في انقلاب الانفصال سنة 1961 من سلسلة الفيديوهات التي خصصها الدكتور خالص جلبي للحديث عن الأستاذ جودت سعيد في قناته على اليوتيوب، وهذا رابطها:https://www.youtube.com/@channelkhalessjalabi1

7- انظر: سيد مرتضى الرضوي، مع رجال الفكر في القاهرة، ط 1، (بيروت ــ لندن، الإرشاد للطباعة والنشر، 1998)، ص 330.

8- كتب الشيخ جودت سنة 1992 نصًا طويلًا تعقيبًا على المرافعة التي ألقاها المفكر الهندي مولانا محمد علي في محاكمته بمحكمة كراتشي سنة 1921 أمام هئية محلفين لرفضه الالتحاق بالقوات البريطانية لقتال دول إسلامية أخرى، وقد اضطرت هيئة المحلفين أمام قوة حجته وبيانه أن تخلي سبيله، وفي تعقيبه الطويل عليها يتكلم عن الجندي والبندقية التي يحملها، ومتى يطيع ومتى يرفض الطاعة، وينتقد بشدة القانون العسكري (نفّذ ثم اعترض)، ويقول: ما فائدة الاعتراض بعد التنفيذ؟ انظر: هشام علي حافظ، جودت سعيد، خالص جلبي، أيها المحلفون! الله.. لا الملك، ط2، (بيروت، دار نجيب الريس، 2002)، ص 102.

9- انظر: علي عزّت بيجوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، محمد يوسف عدس (مترجمًا)، ط 1، (الكويت، ميونخ، مجلة النور الكويتية، مؤسسة بافاريا للنشر والإعلام والخدمات، 1994)، ص 250.

10- انظر: إبراهيم محمود، الهجرة إلى الإسلام، ص 47.

11- انظر: هشام علي حافظ، جودت سعيد، خالص جلبي، أيها المحلفون! الله.. لا الملك، ص 125.

مشاركة: