اشتهر جودت سعيد في الأوساط الشعبية والسياسية والثقافية العربية بمذهب (اللاعنف)، الذي اتخذه طريقًا للكفاح السياسي والعمل الدعوي والحراك التغييري في العالم الإسلامي. وطبيعي أن هذه الاشتهار لم يأتِ من فراغ، فكتابه الأول (مذهب ابن آدم الأول: مشكلة العنف في العمل الإسلامي)، مخصّص بالكامل لبيان نظريته (اللاعنفية)، ومناقشة مدى مشروعية استخدام العنف، وجدواه في التغيير الاجتماعي والسياسي من منظور إسلامي، وعلاقة كل ذلك بمبدأ الجهاد الذي زكاه الإسلام، وحضَّ عليه القرآن، ومارسه النبي بنفسه.
كان مسكونًا بمبدأ اللاعنف، ولطالما عبَّر عن غبطته بأن يُنسب إليه، أو يُعرّف به، كأن يقال: (داعية اللاعنف) أو (غاندي العرب)، وطيلة سني نشاطه الطويلة لم يبرح هذا المبدأ، ولم يغادر حديثًا أو درسًا أو خطبةً أو مقالًا أو كتابًا أو حوارًا… إلا ضمّخه بالحديث عن العنف واللاعنف، في التاريخ والواقع والعواقب والسنن والدين والسيرة والقرآن والتراث، وعلاقة كل ذلك بالإيمان والتوحيد واللاإكراه والرشد والشرعية… إلخ.
ولكن، وأيًا يكن موقع (اللاعنف) في فكر جودت سعيد، ومهما بلغت هيمنته على إنتاجه، فإنه ليس من الموضوعية بمكان -فيما أرى- أن يُختصر المفكر في فكرة؟ أو أن يُلخص المشروع في الأداة والوسيلة؟
إنني وفي هذه الصفحات، لأطمح إلى تقديم إضاءة مكثفة على البعد الآخر في مشروع جودت سعيد، لاستكشاف مدى اختلافه عن مجمل المشاريع التغييرية التي طُرِحت في القرن الأخير في العالم الإسلامي، متجاوزًا الحديث عن السلمية والعنف واللاعنف – والتي تشكل بتقديري الفضاء الأساسي والمناخ الضروري لاستنبات الأفكار والرؤى والحلول – إلى ما يليها من أفكار في موقع الذات المسلمة، وطبيعة المشكلات التي تعانيها، وآفاق التغيير وإمكاناته وشروطه.
ينطلق الشيخ جودت سعيد في بحثه ودراساته وأحاديثه وكتبه من مرحلة ما بعد الإيمان الراسخ بالله والأنبياء والكتب، فهو مؤمن ملتزم بالدين (الإسلام)، بعباداته ومعاملاته وشعائره، وعناوين كتبه إما آيات قرآنية أو عبارات مستوحاة من آيات قرآنية. هويته محسومة بالنسبة إليه على الأقل، وانتماؤه واضح جلي من البداية وحتى النهاية، لا تشغله قضايا المتكلمين التقليدية، في الإلهيات والنبوات والسمعيات، ولا يخوض في تفاصيل أدلة الوجود والعدم والجوهر والعرض والأسماء والصفات والألوهية والربوبية والمبدأ والمعاد، والجنة والجحيم… ولن تجد له أطروحات في قضايا أصول الفقه المتعارف عليها، في الأدلة والأحكام، والاستنباط ووجوه الدلالة، والتعارض والترجيح… كما أنك لن تراه فقيهًا مفتيًا في قضايا الحلال والحرام والعبادات والمعاملات والزواج والطلاق والإرث والجنايات والحدود بالطريقة المعهودة لدى الشيوخ والفقهاء والدعاة.
فإذا وجدت له حديثًا أو موقفًا في قضايا عقدية، كالموقف من التصور الذي تفرزه المناهج الكلامية لله وصفاته وأفعاله. أو وقعت له على آراء في قضايا الأصول لاسيما مسائل الاجتهاد والتقليد، أو اطلعت على رؤيته في قضايا الفقه في مسائل الجهاد والردة والخروج والمرأة، إذا وجدت شيئًا من هذا، فإنك لن تجد بحثًا على الطريقة المتعارف عليها لدى المتكلمين أو الأصوليين أو الفقهاء، بل رؤى ومقاربات تعتمد القرآن والسنة وعلوم النفس والاجتماع (الآفاق والأنفس) والتاريخ والعواقب والمآلات، في ضوء المقاصد الكلية للدين في الحرية والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية.
وتحتل مسألة الهوية والانتماء موقعًا مهمًا في بنية شخصية جودت سعيد الفكرية[1]، فالتنكر للهوية ليس سوى انتحار بالمعنى الحضاري، واتهام الدين بأنه سبب التخلف وعلّة التأخر مجافٍ لواقع التاريخ، ((فالمؤرخون والمفسرون والنقاد والفقهاء والنحاة والشعراء (كالطبري والشهرستاني والأصفهاني والجاحظ والشافعي وابن جني وابن رشد والتوحيدي وابن خلدون والزركشي والسيوطي… إلخ) أكدوا هويتهم الإسلامية على أكثر من صعيد من خلال ما كانوا يكتبونه، من دون أن ينسوا أرضية الاختلاف التي توضحت عليها قاماتهم الفكرية والعلمية والأدبية…)) [2].
ومسألة الإسلام عند جودت سعيد ليست مسألة إيمان والتزام وانتماء فحسب، بل تتعداها إلى ما هو أكبر وأشمل، فالإسلام -حسب تعبيره- يشكل رأسمال كبير في التغيير: ((إن هذا الدين الذي يعترف بالأعمال الماضية والأنبياء السابقين الذين عرفناهم أو لم نعرفهم، والذي قطع الاتصال بالسماء مرة أخرى، وأغلق الباب، ورَدّنا إلى وقائع الأرض، أرى أن مثل هذا الرأسمال من يزهد فيه في حياة البشر لا يعرف كيف يتم الإصلاح ولا التقدم، وإن هذا المبدأ ليجذب الأتباع الجدد مع ضعف المسلمين وجهلهم، يجذب الأتباع من كل أنحاء الأرض….. أرى المستقبل بشكل يصدق نبوءة القرآن، وبأن هذا النور غير قابل للإطفاء… إن غوته – في حواره مع أكرمان – قال عن القرآن: إن هذا المبدأ لا يخفق أبدًا، وغير ممكن أن نأتي بأفضل منه… فلعل هذا الرأسمال (رؤية حضارية أكثر عدالة) الذي أودع قلوب المسلمين هو الذي جعلهم يرفضون الحضارة الغربية، فلم تبهر أعينهم تقنياتها، لأنهم يتصورون عالمًا أفضل وحضارة أفضل… ليس لصالح البشرية أن نعمم قيم الحضارة الغربية، لأنها لا تزال محكومة بقيم الرومان، وبالفيتو، إننا نتطلع إلى إمكان بناء عالم جديد لا يشعر المرء فيه أنه أقل أو أكبر قدرًا من غيره سوى بعمله الصالح… كما قال محمد إقبال:
في رماد اليوم مِنّا تَرْقدُ شعلة يرمي بها الكونَ الغدُ
لقد اخترق الغرب العالم بزينته كما فعل قارون من قبل، ولكن الرفض والتطلع إلى رسالة أسمى، وإلى عملٍ حضاريٍ أفضل، هو رأسمالنا الكبير، وإنّ الاعتقاد بإمكان اختراق الفكر الإسلامي وجعله يستسلم، بعيد عن التحقق، وكلما تعمقنا أكثر في فهم العالم المتحضر، كلما كان ذلك قمينًا بأن نفهم حقيقته، فنحقق استقلالنا، وإن ما يُنتظر منا أن نقدمه للعالم مرة أخرى أهم وأكبر)) [3].
أما مُخاطَبُ جودت سعيد الرئيسي فهو الإنسان المسلم الحائر القلق المتوثب المحبط، إنسان محور الجنوب، أو محور طنجة جاكرتا على حد تعبير مالك بن نبي، المستعد رغم الآصار والأغلال التي تثقله، للبذل والتضحية، والذي يشعر رغم تقهقره وضعفه أن له رسالة لا بد أن يؤديها في نيويورك ولندن وموسكو. وهدفه الأخذ بيد هذا الإنسان، للتخلص من مشكلاته، والتغلب على أزماته، وتجاوز العقبة التي تحول بينه وبين تحقيق تطلعاته، وانبعاثه من جديد لتحقيق رسالته.
لا يشعر المسلم اليوم أنه أمام تحدٍ يتعلق بإيمانه وعقيدته، بقدر ما هو أمام تحدٍ يتعلق بسيادته وكرامته واستقلاله واعتماده على نفسه وأخذه مكانه اللائق في ميادين التنافس الحضاري بما يكافئ الآخرين ويجاريهم. والعالم الإسلامي مريض باتفاق المسلمين وغير المسلمين، ومشكلته متطاولة، وتشخيص مرضه مختلف فيه، وإذا كان واقع المسلمين هكذا فإن من نافلة القول أن يعملوا على تغييره، وقد عكف على ذلك كثيرون، منذ عصر الغزالي وابن تيمية والحركة السلفية، مرورًا بعهد الموحدين، وصولا إلى الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وجلال نوري ومحمد إقبال ومالك بن نبي وغيرهم.
أما رؤية جودت سعيد في التغيير، فقد أفرد لها كتابًا بعنوان: (حتى يغيروا ما بأنفسهم)[4]، وهي تتميز كما أشار مالك ابن نبي في تقديمه لهذا الكتاب بأنها تتجاوز مقولات الحتمية التاريخية التي تفرضها قوانين مراحل التاريخ والدورة الحضارية، والتي تجعل قوانين حركة التاريخ في حتميتها شبيهة بقوانين الطبيعة، والحتمية التاريخية تُفقِد الإنسان دوره في التغيير وتصيبه باليأس، فأنت -كما يقولون- لن تكافح من أجل مجيء الصيف والخريف والربيع. وإذا كان الإنسان قد واجه قوانين الطبيعة -كالجاذبية مثلًا- بالتصرف مع شروطها الأزلية بوسائل جديدة، خلصت به إلى توظيفها وتسخيرها لخدمته، فإن ((جودت سعيد المتشبع بالثقافة الإسلامية، يعلم أن التغيير، أي التاريخ، لا يخضع فقط للحتميات الطبيعية، بل يخضع أيضًا لقانون النفوس، وبذلك تتغير وجهة النظر في سير التاريخ، إذ إن المراحل التي تتقبل أو لا تتقبل التغيير حسب طبيعتها، تصبح مراحل قابلة كلها للتغير، لأن الحتمية المرتبطة بها أصبحت اختيارًا في أعماق النفوس)) [5].
وقد حاول جودت سعيد في كتابه: (حتى يغيروا ما بأنفسهم). إثبات أن التغيير المطلوب ممكن، وأن له سننًا وقوانين يمكن اكتشافها وتسخيرها، وأن التغيير المعني والمجدي هو تغيير ما بالأنفس أولًا، وأن هذا التغيير هو وظيفة الإنسان، ولا يأتي من الغيب. فواقع الإنسان وسلوكه مرتبطان بما في نفسه، ولا يمكن تغييرهما إلا بتغيير ما بنفسه، ومردّ مشكلاته إلى ما يُلحِقه هو بنفسه من ظلم، وليس إلى ما تُلحِقه به العوامل الخارجية المختلفة.
وعلى خلاف الاتجاهات التغييرية الأخرى يرى جودت سعيد أن (ما بالنفس) هو الأفكار والتصورات والمفاهيم والمسلمات والعقائد…، والتغيير يبدأ منها، ولذلك: ((فإن من المفارقات، أن نتطلع بشوق إلى تغيير الواقع، دون أن يخطر في بالنا، أن ذلك لن يتم إلا إذا حدث التغيير قبل ذلك لما بالأنفس. ونحن مطمئنون إلى ما بأنفسنا، ولا نشعر أن كثيرًا مما فيها هو الذي يعطي حق البقاء لهذا الواقع الذي نريد أن يزول، ونحن نشعر بثقل وطأته علينا، ولكن لا نشعر بمقدار ما يساهم ما في أنفسنا في دوامه واستمراره)) [6].
يبدو أن ما أراد جودت سعيد إحداثه من خلال التأكيد على (سنن التغيير)، هو إقناع المسلم الذي يشعر بوجود المشكلات، بأن مشكلاته ليست قدرًا مبهمًا، ولا حدثًا اعتباطيًا، والانتقال به من البحث في الغيبيات والتطلع العشوائي للخلاص، إلى إدراك إمكانية اكتشاف القوانين النفسية والاجتماعية التي تحكم حركة المجتمع، وحياة الأمم، وأدوار الحضارة، والانتباه إلى أن هذه القوانين يمكن تسخيرها، وليست سحرية ولا غامضة ولا خارقة، والفيصل في التسخير هو مقدار العلم بها والإحاطة بمتغيراتها وشروطها وظروفها، وهكذا فإنَّ العقل المسلم يقف إزاء المشكلات أحد موقفين، فإما أن يعتقد أن لها قوانين وسننا تخضع لها، أو أن يعتقد أنها بلا قوانين ولا تخضع لسنن، وبالتالي فهي اعتباطية وعشوائية وتحكمها الخوارق والشعوذة والسحر [7].
إن الاعتقاد بعشوائية الكون، ونفي وجود القوانين والسنن، أو حتى الإيمان بوجود الأسباب والنتائج مع جعل العلاقة فيما بينها عشوائية واعتباطية، كل ذلك يُعَدُّ من أهم أسباب تعطيل العقل وإصابة الحواس بالشلل في العالم الإسلامي، والقرآن الكريم شبّه من يعطلون عقولهم وحواسهم بالأنعام بل هم أضل، وإن الاعتقاد بعبثية الكون ونفي وجود سنن الآفاق والأنفس، يمنعنا من إدراك أبعاد كلا المسؤوليتين، الفردية والجماعية، وإن قدرًا كبيرًا من معاناة المسلمين خلال القرون الأخيرة يعود إلى هذه العقيدة المتوارثة مضمونًا ومعنىً، والمتغلغلة في النفوس والثقافة، والتي كان من أعراضها إغلاق باب الاجتهاد، وانتشار التقليد بشكل رسمي ومنظم، وهيمنة الآبائية (تقديس الآباء أو السلف أو القدماء)، والاحتكام إلى الهوى، إذ كيف لك أن تكد وتجتهد وتكدح وتتعب فكرك وتنعم النظر، مادام الكون عبثًا، وما دمت لا تؤمن بوجود قوانين يمكن اكتشافها وتسخيرها وتغيير الواقع بواسطتها، ومادام سعيك غير ذي جدوى في التغيير والإصلاح؟![8].
إن ربط عقيدة العشوائية واللاسنن واللاقوانين بأصول الدين، وربطها بالتوحيد والتنزيه، وربطها كذلك بالإيمان بالغيب، جعلها على قدر كبير من الرسوخ والثبات، وجعلها عنصرًا أساسيًا في فهم المسلمين لله، فحصدوا نتائج تصورهم الفاسد، وكانت النتيجة ما آلت إليه أحوالهم من التأخر والضياع، رغم اعتقادهم أنهم مؤمنون حقًا، ورغم أعمالهم وقرباتهم وعباداتهم: ﴿وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين﴾ [فصلت: 41/23]، ﴿يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية﴾[آل عمران: 3/154][9].
إن منهج التغيير القائم على الإيمان بوجود القوانين والسنن، وآيات الآفاق والأنفس، مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالعلم، العلم بمعناه العريض، والذي يشمل المجالات الطبيعية والإنسانية، أو (آيات الآفاق والأنفس) بتعبير جودت سعيد ومن قبله محمد إقبال، إذ العلم هو السبيل الوحيد لكشف هذه السنن واختبارها ومن ثم تسخيرها، وقد أفرد جودت سعيد كتابًا كاملًا بعنوان: اقرأ وربك الأكرم[10]، لمناقشة مشكلة العلم في العالم الإسلامي، ولبيان معالمه ومعناه، ووَضْعِ الإنسان المسلم على طريق العلم، وترسيخ ملكته لديه.
ينتقد جودت سعيد تصور المسلمين للعلم، ويراه مخالفًا للتصور الذي يقدمه القرآن، فالعلم في القرآن هو الذي يكشف الحق، وهو ليس كذلك عند المسلمين. وينتقد كذلك مفهوم العلم لدى كثير من الباحثين الغربيين، الذين يقصرونه على مجال المادة والظواهر الطبيعية. ويدعو بالمقابل المسلمين إلى الثقة الكاملة بالعلم الذي يمد سلطانه ويتناول كافة القضايا، من الطبيعة والمادة إلى القيم والأخلاق والدين والمجتمع والنفس[11].
إذن فالعلم في القرآن -حسب جودت سعيد- في مكان عالٍ رفيع: ((والعلم بحرصه على الحقيقة يصبح أخلاقًا لا يطيق الصبر على الخطأ حتى يجري التصحيح اللازم عليه. بهذا تصبح الأخلاق علمًا، ولا يكون هناك أي مواجهة أو تقسيم بين العلم والأخلاق)) [12].
وأيًا يكن تعريف العلم، فإن واقع العالم الإسلامي يشي بأنه بعيد كل البعد عن أوليات المنهج العلمي، ففهم المسلمين لمصادر المعرفة قاصر محدود، وارتباطهم بالنص باعتباره منجمًا للمعاني الخالصة القطعية البعيدة عن واقع موضوعها، أدخلهم في متاهة الحفر في الألفاظ، والانفصال عن الواقع، والغياب عن التاريخ، وجعل منهم أمة نصّية منغلقة، وظواهر خطابية جوفاء. ويظن أكثر المسلمين أن الإسلام كما يتصورونه ((نظام فكري ممهور بخاتم رب العالمين، من غير أن يكون هذا النظام الفكري التفسيري قد تأثر أو مرَّ بأذهان البشر القابلين لأن يخطئوا ويصيبوا)) [13]..
من هنا كان لا بد من دراسة اللغة وعلاقتها بالواقع، ومعرفة آليات تشكل المفاهيم، وانتقال المعلومات عبر اللغة، ومقدار النقص والتشوه الذي يعتري الحقيقة الخارجية والتي تتحول إلى صورة ذهنية، خلال رحلتها ومراتب وجودها من الواقع إلى الذهن إلى مخزن الترميز اللفظي ثم الكتابي، لتصل إلى الذهن الآخر بشكل مختلف. فالكلمات ليست هي الحقيقة، بل هي رموز على الحقيقة، والخطأ والتلاعب بالنصوص والكلمات ممكن ووارد، والتصحيح إنما يكون بالعودة إلى الواقع مرة بعد مرة، وكتاب الله وإن نزل من السماء، فإنه لم يصل إلى البشر إلا برموزهم، وهو يتحدث عن الواقع، والواقع موجود، وبالإمكان العودة إليه وفحصه ودراسته وتصحيح الخطأ المتأتي من محدودية دلالة اللغة وطريقة انتقال المعاني عبرها: (( لكن الله عز وجل تعامل معنا بالرموز (الكتاب) وبحقائق الواقع (الكون والقوانين والسنن) وأمرنا بأن نرجع دائمًا إلى الواقع، فننظر فيه ونتأمله… وما الرموز إلا أسماء سميناها ما أنزل الله بها من سلطان، السلطان في القانون الثابت والسنة الثابتة فحسب، فالرمز إذن أداة تساعد على الفهم المؤقت، أما الواقع فهو أبدي وذلك من سنّة الذرة إلى سنّة المجرة)) [14]، ومعرفة الواقع ستغير فهمنا للكتاب، والتاريخ سيضطر المسلمين إلى تغيير فهمهم للقرآن.
((إن الحدث أو الشيء أدل على ذاته من كل وصف، فالصخرة أدل على نفسها من كل كلام يقال عنها، حتى ولو كان هذا الكلام كلام الله عز وجل، وعند الاختلاف بشأنها يصبح المرجع الأصدق هو الصخرة ذاتها وليس ما قيل عنها، أيا يكن القائل. وإن إعلان القرآن ختم النبوة وانقطاع الوحي كان إيذانًا بولادة عالم جديد، وقد تنبه إلى هذا المعنى محمد إقبال، فاعتبر أن هذا الختم كان إعلانا لانتهاء عصر التوجيه السماوي عبر الوحي والرسالات، لأن القرآن أحالنا إلى السنن والقوانين والواقع والتاريخ والعواقب. ومن هنا نفهم أهمية ما ألح عليه القرآن من ضرورة معرفة التاريخ البشري ودراسة أخبار الأمم، وهذا ما أهمله المسلمون، ولم يروا له قيمة تذكر، ولذلك فقد الكتاب الذي بين أيديهم معناه، وصاروا يقرؤونه قراءة ببغاوية للتبرك وبِنِيَّة تحصيل الثواب وتجميع الحسنات من خلال قراءة الختمة بعد الختمة منه، والدليل أن ((آية: ﴿قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق..﴾[العنكبوت: 29/20]، رغم أنها أمام المسلمين منذ نزولها فإنهم لم يستفيدوا منها… في حين صار محتواها هو المرجع الأساسي لفهم الأمور)) [15].
والدين بحد ذاته يمكن أن يصير مادة للبحث العلمي: ((وإذا فهمنا ارتباط الأسباب بالنتائج، وأنها ليست عقلًا بل مشاهدة ورؤية في الواقع، فيمكن القول: إن الإيمان بالله واليوم الآخر علم، أي أن إيماننا بالله واليوم الآخر يقوم على أساس أسباب لها نتائج معينة… أي أنك إذا شاهدت أن الإيمان بالله واليوم الآخر في واقع الأرض -عالم الشهادة- يعطي نتائج إيجابية، فإن ذلك سيكون دليلًا على صحته، وستضطر إلى التسليم بالارتباط بينهما (السبب والنتيجة)… وما إلحاح القرآن المستمر على التأمل في الكون، إلا لتكون أدلة الإيمان بالله من عالم الشهادة… بهذا الأسلوب يعرض القرآن الإيمان على أنه علم، وأن العلماء هم الذين يدركونه: ﴿وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلى العالمون﴾[العنكبوت: 29/43]… هكذا يصبح الغيب علمًا، عندما تكون طريقة إيماننا بالقيم السماوية كإيماننا بأي شيء محسوس)) [16].
وللتاريخ في فكر جودت سعيد قيمة كبرى وأهمية بالغة، فهو يعتبره مصدرًا أساسيًا للمعرفة، والتاريخ هو مختبر القيم وميزان الحكم على الحضارات، والعواقب التي ذكرها القرآن تشمل القيم والأخلاق والدين والفكر، إنه مختبر العلوم الإنسانية والاجتماعية، وعواقب التاريخ هي برهان صحة وسلامة وعلمية وسننية كل من القيم والأخلاق والأديان. وقد قدم القرآن نماذج للاعتبار ولاستخراج السنن والقوانين في الصلاح والفساد من سير الأقوام الغابرين، فإن كان الأمر لازال جاريًا في الواقع، فإن القرآن يحيلنا إلى المستقبل، فإما أن تنظر إلى (تاريخ ماضٍ) لتستخرج القانون ﴿انظروا﴾، أو أن تتأمل ما يجري في واقعك من (تاريخ معاشٍ) لتتعلم منه ومن تجربتك فيه ﴿انتظروا﴾، ﴿سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق﴾[فصلت: 41/53].
واهتمام جودت سعيد بالتاريخ جعله عرضة للاتهام من قبل تيارات إسلامية عديدة، فقد وجد بعضهم في هذا توجهًا يساريًا شيوعيًا ماركسيًا، وأطلقوا عليه الألقاب المسيئة كالشيخ الأحمر أو الماركسي المسلم[17]، فهو قد استشهد في كتاباته بآراء العديد من الكتاب اليساريين، من مثل قولهم: ((كما أمكن معرفةُ قوانين تطور الطبيعة، يمكن معرفة قوانين تطور المجتمع، ولها دلالة موضوعية. وبالتالي رغم تعقد حوادث الحياة الاجتماعية وتشابكها من الممكن أن تصبح علمًا فيه من الدقة ما في البيولوجيا، وقادرًا على استخدام قوانين التطور الاجتماعي في تطبيقات علمية، وبالتالي تصبح الاشتراكية علمًا))[18]. ولم تمنعه توجهاتهم الإلحادية من الاعتراف لهم بما أضافوه من معارف وأفكار، مع انتقاده لموقفهم الأيديولوجي الذي جعل من الاكتشافات العلمية في مجال العلوم الطبيعية والاجتماعية دليلًا على وجوب نبذ كل نظرية دينية على الإطلاق، فقد كان على يقين كبير من مصداقية القرآن، وأننا ((حين نتعلم كيف نقرأ آيات الله في الآفاق والأنفس، فلن يعود هناك ما يجعلنا نخاف على آيات الله في الكتاب، لأن آيات الآفاق والأنفس ستبين أن آيات الكتاب هي الحق… وإن الاعتراف بجانب الصواب الذي في النظرية الماركسية لا يضرنا شيئًا… فحين يقول الماركسي: إن دراسة التاريخ الاجتماعي أصبحت علمًا، ينبغي أن لا نقول له أخطأت، بل نقول له هذا حق… لكن حين يصل إلى القول بأن من الواجب نبذ كل نظرية إيمانية على الإطلاق، هنا نقول له: أين هذه النتيجة من تلك المقدمة؟ هذه الفكرة الطوباوية ناشئة عن الكراهية والعاطفة، لا عن الدراسة الموضوعية…))[19].
إن ما قدمه جودت سعيد في موضوع العلم والتغيير، أكبر بكثير من أن تتسع له هذه الصفحات المحدودة، فقد تعمق في تشخيص مشكلات العالم الإسلامي، وبحث في حرية الرأي والعقيدة في الإسلام، وحقوق الإنسان في الإسلام، والسيف والقانون أو العلاقة بين القوة والدعوة والفكر في الإسلام، وأسهب في شرح بعض الأجِنَّة القرآنية، أجنَّة التنظيم الاجتماعي والديمقراطي والاقتصادي الموزعة في القرآن، والتي تنبه محمد إقبال إلى الخسارة الفادحة التي مني بها المسلمون من جراء إهمالها والاشتغال بدل ذلك بالحروب والفتوحات[20]، إلى غير ذلك من العناوين والأفكار.
ولا يزال فكر جودت سعيد موضع جدل في الأوساط الإسلامية، ولم يتحول إلى تيار واسع في الفكر الإسلامي المعاصر، رغم اتساع نطاق المهتمين به، وكثيرون -في تقديري- لم يسلّموا له، وهو إضافة إلى ذلك يثير من الأسئلة أكثر مما يطرح من أجوبة، ولعل هذه إحدى أهم ميزاته. وبمقتضى قانون الزَّبَد الذي كثيرًا ما يذكره جودت سعيد ويؤكد عليه، فإن المستقبل كفيل ببيان مدى الحق والصواب، والباطل والخطأ فيما ذهب إليه: ﴿كذلك يضرب الله الحق والباطل، فأما الزبد فيذهب جفاءً، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض﴾ [الرعد: 13/17].