جودت سعيد؛ مُجَدِّدًا

ملخص تنفيذي

تميز جودت سعيد عن معاصريه بتقديمه أطروحات فكرية جديدة للعقل المسلم؛ لم يتعود سماع مثلها؛ فخالفت أطروحاتُه الفكرية المدارسَ الإسلامية كلَها التقليدية والحَرَكية؛ فكان مجددًا حقيقيًا في الفكر الإسلامي؛ إذ قدَّم هذه الإضافات الفكرية معتمدًا النص القرآني كدليل على صوابية أفكاره أولًا، والمنطق العقلاني ثانيًا؛ والبعد الإنساني ثالثًا؛ واستلهام العبر والدروس من التاريخ رابعًا.

ولقد تمحورت أفكارُه المُضافة للعقل الإسلامي ضمن مفاهيم؛ يكمل بعضها بعضًا؛ دفعتنا إلى وضعه في مصاف المجددين؛ إذ إن العقل والفكر الإسلامي؛ كانا في حالة ترهل وتصحر؛ وفي حاجة إلى أفكار غير مسبوقة تخرجه من عنق الزجاجة التي وضعته فيها المدرستين التقليدية والحَركية.

سنتوقف عند تلك الإضافات الفكرية له من خلال المحاور التالية:

المدخل لفهم إضافاته الفكرية

مفهوم اللاعنف

مفهوم (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)

مفهوم ثبات مبدأ السُننية وقانون السببية (الوجود السُنني)

مفهوم التغيير الذاتي كمقدمة للتغيير الموضوعي

خاتمة

المدخل إلى فهم إضافاته الفكرية

يُعدُّ جودت سعيد حالة فكرية متميزة بالمقارنة مع المشايخ والدعاة والمفكرين الإسلاميين على الأقل في العقود الأخيرة المنصرمة.

فما بين دعاة اعتمدوا القصص والأساطير لجذب الناس إلى التدين؛ ومشايخ انشغلوا بأمور فقهية؛ لا تؤسس لنهضة وتطور؛ ومفكرين حركيين تبنوا الإيديولوجية العنفية لتحقيق أهداف سياسية؛ كان جودت علامة بارزة في فكره وسلوكه؛ لفتت أنظار المتدينين وغير المتدينين إليه.

إذ خرج مبكرًا من صندوق المدرسة التقليدية؛ والإسلام السياسي؛ وابتعد عن المنهج السلفي؛ ليقدم فكرًا جديدًا؛ ذا مقاصد إنسانية نهضوية؛ تسعى لتغير عقلية المجتمع باتجاه آخر؛ لا مُفَكّرَ فيه من قبل أقرانه من مشايخ ودعاة ومفكرين إسلامويين. حتى قال خصومه عن أفكاره: ما سمعنا بها عند آبائنا الأولين.

لقد كرّس حياته من أجل أفكاره التي كان يُطلق عليها اسم (بَنَاتي)؛ وكلما توسع في فكرة؛ يفرح قائلًا: إن بناتي يكبُرّنَ. حيث فتح جودت للأجيال القادمة طريقًا جديدًا غير مسبوق؛ يعتمد فهم السننية لإدراك مفاتيح النهضة والتقدم؛ رافضًا الإكراه والعنف في مجالات الحياة الدينية والدنيوية.

فما هي تلك الأفكار التي قدمها جودت؛ وشكلت إضافةً للعقل المتدين؛ أخرجته عن النمطية الدينية التقليدية بمختلف مدارسها؛ وجعلته مجددًا وعلامةً بارزة في الفكر الديني؛ اهتم بها كثيرٌ من الباحثين.

نستطيع تلخيص جملة أفكاره بما يلي:

أولًا: مفهوم اللاعنف

يرى جودت أن المتدبر لتاريخ المسلمين؛ سيلحظ أن العنف كان وسيلتهم في التغيير؛ إنْ كان سياسيًا كما هو حال السلطات المتعاقبة؛ أو فكريًا كما فعل المعتزلةُ وأهلُ الأثر عندما قهروا المجتمع على أفكارهم؛ حتى بات العنف سُنةً التغيير الوحيدة للعقل المسلم؛ وهذا الفهم لعملية التغيير مخالف للمنهج القرآني؛ الذي قدم للبشرية الدرس الثاني في مواجهة الحياة ومفهوم التعايش[1].

وبالتالي فإن أردتَ رضى الله؛ وتأسيس مجتمع راشد؛ عليك أن تنهج منهج العقلاء؛ وترفض العنف؛ حتى لو كنتَ من ضحاياه! ودعم هذه الفكرة بقصة ابْنيّ آدم (هابيل وقابيل) في القرآن؛ وقدم من خلالها اللاعنف بوصفه منهجًا للعيش والتعايش مع الآخر المختلف معنا. فالتغيير في فكر جودت يعتمد السلميةَ؛ ويرفض العنفَ مطلقًا.

ما ميز فكرة اللاعنف عنده المعروفة قبلَه عالميًا من خلال “غاندي” و”مانديلا” و”مارتن لوثر كينغ” و”دالايلاما” وسواهم؛ أن جودت دعم الفكرة بالنص القرآني دليلًا على حُجيتها؛ معتمدًا الدرس الإلهي الثاني للبشرية:

لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ. المائدة:28+29.

وأضاف العبرة التاريخية كدليل على مصداقية مذهبه؛ لأن التاريخ مصدر من مصادر المعرفة؛ فعندما نتدبر التاريخ نجد أن العنف وإنْ نجح عند بعضهم في البداية؛ لكن نتائجه كانت كارثية فالدولة الأموية جاءت بالعنف؛ وبه ذهبت؛ وكذلك الدولة العباسية إلخ…وبذا يستنتج أن الضحية إنْ قابلت عنف المستبد بعنف مثله؛ انحطت معه أخلاقيًا؛ وفقدت الفكرةُ طهارتَها الإنسانية؛ وهذه ليس مثالية مفرطة كما يظن بعضهم، إنما الدرس الإلهي الثاني للبشرية عند بدء الخلق؛ وبداية مشوار الحياة. فرغم مقتل ابن آدم الأول؛ إلا أنه كان منتصرًا أخلاقيًا وروحيًا؛ إذ وصف القرآنُ القاتلَ بأنه أصبح من الخاسرين ومن النادمين.

ويذهب في تأكيد فكرته قرآنيًا بأن الملائكة حينما استفهمت من الخالق استنكاريًا عن علة خلق “آدم” رغم كونه سيفسد ويسفك الدماء؛ فجاء “الرهان” الإلهي على الإنسان العاقل الرافض للعنف بقوله[2]:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا. البقرة:30+31.

آخر ما كتب قبيل وفاته؛ وعلى جداريته بالفيسبوك مؤكدًا إيمانه العميق باللاعنف قائلًا:

من المستحيل أن يعود العالم المتحضر الى حسم خلافاته مرة أخرى بالسلاح؛ وما ترسانتهم إلا لبيعها للشعوب المتخلفة والجاهلة وخاصة في العالم الإسلامي! وبعض الحروب التي يقومون بها في غير أوطانهم ليست سوى عروض استعراضية لبيع ترسانتهم العسكرية للسذج والحمقى، الذين يتقاتلون أعوامًا ثم يعودون لنقطة البداية (السِلم)؛ وأما الرؤوس النووية التي يملكونها ليست إلا كالخرز الأزرق التي يعلقونها كي لا يصابوا بالسحر؛ وإلا فبماذا يمكن أن نفسر وجودها. إنّ خسارة الاتحاد السوفيتي صاحبة أكبر ترسانة نووية بحرب باردة دون أن تستخدم طلقة واحدة وليست قنبلة نووية. وصعود اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية دون أن يكون لها اي اهتمام بموضوع ترسانة الأسلحة إلا بقدر ما يتعلق منها بالتجارة للشعوب الجاهلة التي يستخدمونها. وما التخلف والفقر والحاجة التي تعيشها كوريا الشمالية صاحبة الترسانة النووية مقارنة بجارتها الجنوبية. والباكستان الدولة الإسلامية الوحيدة التي استطاعت أن تدخل النادي النووي؛ ولازالت تعيش حالة من الفقر والحاجة. إلا دليلًا على صحة ما نقول[3].

وبناءً على فكرة اللاعنف؛ أسس جودت فكرته التالية.

ثانيًا: مفهوم (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)

يقدم جودت سعيد فكرته في مفهوم اللاإكراه معتمدًا النص القرآني أيضًا؛ وهو بذلك يرفض مبدأ الإكراه برمته؛ وبالتالي لا يعتقد بصحة الأحاديث المنسوبة للنبي ﷺ في قتل المرتد؛ التي باتت دستور الحركات الإسلامية المتطرفة؛ وتتبانها المؤسسة الدينية في أماكن شتى، ولندعه يتحدث عن فكرته؛ حيث يقول:

إن عالم اللاإكراه ليس له نقيضًا إلا عالم الإكراه، والذين لا يمارسون الإكراه هم الذين حموا أنفسهم وأموالهم، واستحقوا العدل والإحسان. فلنسمِّ آية اللاإكراه، آيةَ الرشد، ولننظر من خلال آية (لا يَنْهَاكُمْ) إلى آية الرشد! إن آية (لا يَنْهَاكُمْ) موجهة إلى مجتمع الغي، كما هي موجهة إلى مجتمع الرشد، ومجتمع الرشد هو المجتمع الذي يحتوي كل الآراء والمذاهب والرؤى، المختلفة في تفسيرها للوجود، ماعدا الذين يقتلون الناس ويخرجونهم من ديارهم من أجل أديانهم……ولذلك قال الله تعالى: (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) فالدين أيضًا يمكن أن يكون دين الله، ويمكن أن يكون دين فرعون أو المشركين أو الكافرين: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ: … إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ… لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)……(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ) إذن الفريقان هما فريق الرشد وفريق الغي، فريق الذين يقاتلون في الدين ويُخرجون من الديار، وفريق الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم[4].

ومما تقدم؛ فإننا نجده يضع للجهاد شروطًا محددة؛ حتى لا ينزلق إلى دركات الإكراه؛ فينبغي أن نعرف منهج النبوة في تحديد شروط الجهـاد! ومتى يجوز استخدام العنف؟ حول هذه النقطة التي شغب بعضهم على فكر جودت؛ أوضح شروط استخدام العنف قائلًا:

بحسب فهمي للإسلام ولحياة النبي ﷺ؛ فإن للجهاد شرطين: الأول في المُجَاهِد: وهو أن يكـون قـد وصـل إلى حكـم الدولة برضا الناس، وعلى طريقة (طلع البدر علينـا)، وألا يكـون قـد وصـل إلى الحكم عن طريق العنف والضغط على الناس. والثاني في المُجَاهَد ضده: وهـو أن يكـون قـد أخـرج النـاس من ديارهم بسبب معتقدهم، أو أكرههم على دين دون دين. فالجهـاد ليس لأجل الكفر، قال تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ). والجهاد لا يعني أن تقتل الذي لا يعجبك دينه، أو الذي لا يدين بدينك، لأنه وفقًا لقواعد الإسلام، يجوز للذي نقاتله ونهزمه أن يبقى على دينه، ولا يجوز لنا أن نكرهه على ديننا، حتى لو كان مجوسـيًا أو بوذيًا، لقوله تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ). إذن: الجهاد القتالي موجّه إلى الذين لا يقبلـون أن يديـن النـاس إلا بدين واحد، ويقتلون الذين ليسوا على دينهم، هـؤلاء يجاهَدون. لا يجاهدهم الفرد، بل يدعو هذا الفرد الناس إلى أفكـاره حتى يصـل إلى الحكم برضا الناس. عندها يحق له أن يمارس الجهاد المشروط[5].

ويوضح أن أولى خطوات الطريق لخلاص المجتمع من فكرة العنف والإكراه؛ تتمثل بالقراءة للخلاص من الثقافة الآبائية؛ قائلًا:

إن السبيل إلى الخلاص من الآبائية والتقليد والنموذج والسلف والأشخاص، هي القراءة الواسعة العميقة هي: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ. العلق: 3+5) إن القراءة المحدودة، الضحلة المرعوبة، لا تخلِّص من التقليد والآبائية. فمَنْ لم يرَ إلا نموذجًا واحدًا؛ وربمًا مشوها أيضًا…. كيف يمكن له أن يبدع ويضيف شيئًا جديدًا لم يسبق له مثيل. فالاجتهاد في حقيقته زيادة على بناء سابق. إن الذي يرى نماذج كثيرة، وبتأمل عميق، هو الذي يستطيع أن يستخلص النموذج أو المثال الذي يجمع الحسنات، أو المثال الذي لم يظهر بعد[6].

وهذا يحتاج إلى تعلم ثقافة الحب؛ ونبذ الكراهية؛ على حد قوله من خلال معرفة تأثير سر الحب في النفس البشرية فيقول: مازال الانسان لم يكتشف سر الحب؛ وعندما يكتشف تسخيرها ستكون أعظم من اكتشاف النار. وهذا الذي يقودنا إلى المفهوم الثالث الذي قدمه جودت؛ ويحتاجه مسلمو اليوم بشدة.

ثالثًا: مفهوم ثبات مبدأ السُننية وقانون السببية (الوجود السُنني)

وقع خلاف كبير بين الإمام الغزالي أحد أهم مراجع الأشاعرة تاريخيًا؛ الذي نفى مبدأ السببية؛ وأن الطبيعة غير فاعلة؛ حتى أنكر والأشاعرةُ الفاعليةَ البشريةَ؛ وقالوا بمبدئهم الشهير (عندها لا بها) إلا أنّ الفيلسوف ابن رشد والشيخ ابن تيمية؛ عارضا الغزالي والأشاعرة في إثبات مبدأ السببية؛ لكن جودت أعطى جزءًا مهمًا من كتابته لتأصيل مبدأ السببية؛ الذي يقوم عليه العلمُ الحديث اليوم؛ وإعادة تفعيله في العقل المسلم؛ وبدأ ذلك بقوله:

لقد توقف الوحي بموت رسول الله ﷺ، وانتهى عصر الغيب وبدأ عصر الشهادة، وانتهى عصر المعجزات وبدأ عصر العلم، وانتهى ضباب الخوارق وبدأ عصر السنن. فالقرآن هو كتاب الله المسطور؛ والكون هو كتاب الله المنشور. إن كلمات الله التي تحكم الكون؛ ليست فقط التي نجدها في الكتب المقدسة؛ فالقرآن والتوراة والإنجيل ممكن أن نكتبهم بمحبرة أو محبرتين، ولكن ما هي الكلمات التي لا تكفي لها البحار مدادًا ولا الأشجار أقلامًا (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا). إن كلمات الله الباقية هي السنن التي يتعرف إليها الإنسان كل يوم عبر البحث العلمي والحقائق الفيزيائية المكتشفة، وهي سنن كونية تملك قوة الوحي؛ وهي كلمات الله المستمرة في كونه…. فالقرآن لا يغني عن كتاب الأكوان؛ وفي كل منهما نقرأ وجه الله[7].

ومن أهم ما يُحسب للإمام الغزالي وابن تيمية فلسفيًا؛ أنهما أول من تحدثا بين الفلاسفة عن مراتب الوجود؛ حتى بات مفهوم مراتب الوجود في الفلسفة إبداعًا لهما مشهود به عالميًا؛ حيث قسّما مراتب وجود الشيء إلى أربع مراتب وهي: الوجود العيني أو الخارجي؛ والوجود الذهني؛ ثم الوجود اللفظي. وأخيرًا الوجود الكتابي. وبرهنا عليها في مواضع عدة من كتاباتهم.

جودت سعيد أضاف لمراتب الوجود مرتبةً خامسة؛ أطلق عليها اسم الوجود السُنني؛ بمعنى أن الله خلق القانون أولًا ثم جاء الموجود ليعمل وفق القانون الذي خُلِقَ له؛ فالله خلق الموت؛ وجعل له قانون يَتَفَعْل فيه؛ فمتى تَفَعَّل قانون الموت؛ واستكمل شروطه؛ مات الإنسان، كما أنّ الله جعل الإنسانَ خليفتَهُ في الأرض؛ فمتى حقق شروط الاستخلاف؛ استحق الخلافة الإلهية؛ ويذهب إلى أن الوجود السنني فاعل لا يتخلف أبدًا؛ لأنه من سنن الله التي لن تتبدل أبدًا؛ ويبرهن عليه بقوله:

وفي موضوع السنن أمران مهمان. الأول: أن السنن ثابتة لا تتبدل. والثاني: أن السنن التي يعنيها القرآن الكريم هي سنن المجتمع والأنفس، وليست سنن الآفاق، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا). وهذان الأمران يلتبس فهمهما على المسلم، فلابد من تصحيح هذا الفهم. فالمسلم أولًا: لا يرى للعلم ثباتًا، وإما يرى تغييرًا مستمرًا (فما يثبته العلم اليوم ينفيه غدًا). والذي يوقع المسلم في هذا أن هناك فرضيات شاعت بين الناس على أنها حقائق ثم اكتُشف خطؤها، فيظن أن ذلك نفي للعلم أو تغيير للسنة؛ وهو ليس كذلك. كما أن هناك حقائق اكتشفت جزءًا منها، ثم اكتُشفت – بعد حين – ما يتمم هذه الحقيقة…. فالعلم هنا لم ينتفِ، ولكنه تكامل، وهذا ليس تبديلًا للسنة؛ وإنما انتقال من سنة إلى سنة؛ ومن قدر إلى قدر…. والمسلم ثانيًا لا يرى أيضًا أن العلم يدخل في الأمور الاجتماعية مثلما يدخل في الأمور الطبيعية. وهاتان العقبتان الكبيرتان تقفان أمام تذوق المسلم لمعنى العلم[8].

ويقدم “بشر جودت سعيد” نجلُ مقاربة لمفهوم الوجود السنني الذي أبدعه والده فيقول:

يرى جودت أن الإنسان الذي لا يميز بين ما هو علم، وما هو ظن، أو وهم أو هوى، وما هو صورة ذهنية، وما بين الحقيقة الخارجية، هذا الإنسان لن يدخل عصر العلم، ولهذا لم يدخل العالم الإسلامي إلى الآن عصر العلم. فهِم جودت الكون والتاريخ والحياة، بحسب قانون الزيادة في الخلق (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء)؛ (وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) ولاحظ أن هذه الزيادة يحكمها قانون الزَّبَد: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ). وعلى هذا، لا يكون من المعقول أن يتوقف الزمن عند التفاسير والتأويلات القديمة للقرآن والكون والإنسان[9].

ما تقدم يقودنا إلى مفهوم التغيير الذي يريده جودت سعيد.

رابعًا: مفهوم التغيير الذاتي كمقدمة للتغيير الموضوعي!

وضع جودت مفاهيمه للتغيير في كتاباته ومحاضراته؛ ولكن كتابه (حتى ما يغيروا بأنفسهم) جمع كل تلك المفاهيم؛ وشرحها.

فعملية التغيير بحسب ما قدمها؛ تبدأ من أسس فكرية؛ ومعنى أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم؛ أي ما في عقولهم؛ وبالتالي فإن مشكلة العالم الإسلامي في فكره؛ مما يجعله يخطئ في استدلال طرق التغيير والنهضة؛ وكان يرى أن ما لدينا من إخلاص يكفي للإقلاع بالنهضة؛ ولكن ما ينقصنا هو الصواب.

ففي كتابه (حتى يغيروا ما بأنفسهم) يؤكد أن مشكلة التخلف عندنا تتمثل بجهلنا بقوانين النهضة وسُننها؛ وهذه يمكن فهمها وتسخيرها لننهض، وإن الأفكار التي غيرت البشرية؛ كانت مؤثرة على العقل أولًا، فكان التغيير خاضعًا لسنن الله ــ قوانينه ــ في النفس والمجتمع؛ وبالتالي فإن عملية التغيير تبدأ بتغيير ما في العقول؛ وهذه وظيفة المجدد والإصلاحي. ثم يبين موضوع الصواب الذي نحتاجه في مقدمة كتابه المذكور آنفًا بقوله:

“إنّ شباب العالم الإسلامي عندهم استعداد لبذل أنفسهم وأموالهم في سبيل الإسلام، ولكن قَلَّ أن تجد فيهم من يتقدم ليبذل سنين من عمره ليقضيها في دراسة جادة، لينضج موضوعًا، أو يصل به إلى تجلية حقيقية، مثلًا كمشكلة الانفصال الذي يعيشه المسلم بين سلوكه وعقيدته، إذ كثير من الأسئلة التي تطرح، ولا جواب شافيًا لها، مع أنه لا يمكن التغيير من وضع إلى وضع، إلا بعد إجابة موضوعية عن هذه الأسئلة، ولا يمكن ذلك إلا بعد الدرس والتحصيل”.

كما يؤكد في مقدمة كتابه أن العقل المسلم لم يدرك بعد أهمية مراكز الدراسات والأبحاث؛ وأثرها في عملية التغيير هذه؛ فيذهب باتجاه التضحية بالنفس والعنف وحتى الإكراه.

ثم يعود لقضية التغيير في بداية الفصل الأول من كتابه ليقول:

“إن كثيرًا من مفاهيم المسلمين عن الإسلام كثير منها ظنون وأوهام؛ ومنها مثلًا مفاهيم التغيير والنهضة؛ حيث يظن كثير من المسلمين أن مجرد انتسابهم للإسلام وقيامهم بالصلاة والصوم مثلًا؛ سيجعلهم قادة العالم، وسيهزم الأمم الكافرة دون الأخذ بالأسباب المادية من القوة والعلم والعمل وغيرها”.

وهذا كله لن يحصل كما يقول إلا بالاهتداء إلى سنن التغير الاجتماعية؛ ومعرفة مفاتيحها؛ لإدراك الخلل؛ وبدء عملية التصحيح والصواب فالنهضة. وإنّ تجاوزنا لحالة الانفعال والعاطفة في الأحداث؛ يكمن في معرفتنا للسنن التغيير في النفس والمجتمع.

ثم يقدم جودت فكرةً رائدة في طلب العلم؛ وبدء عملية النهوض والتحضر؛ تقول إن العلم لا يجب أن نبحث عن أسسه في القرآن الكريم؛ كما يروج دعاة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة؛ فهذا مخالف للقرآن ذاته؛ إنما طَلَبُ العلمِ للنهضة والتحضر يكون من خارج القرآن لا داخله؛ فيقول:

القرآن الكريم يطلب منا أن نطلب العلم خارجَ القرآن؛ وذلك بـ”السير في الأرض والنظر إلى آيات الله المُودَعة في الآفاق والأنفس”. وبالتالي، فآياتُ الأَنْفُسِ والآفاقِ: مِن القرآن؛ حيث إن القرآن يأمرُ بالنظر إليها، ولكنَّ مكانَ طَلَبِهَا “ليسَ في القرآن”، وإنما “في الكون والأنفُس والآفاق”.

خاتمة

رحل جودت سعيد إلى جوار ربه؛ بعد أن تحرش بالعقل المسلم؛ ولفت انتباهه إلى قضايا لم يطرحها السابقون؛ وأن العمل من أجل نهضة الأمة أهم بكثير من تلك المعارك “الدونكوشوتية” التي يمارسها المسلمون اليوم فيما بين فرقهم ومذاهبهم؛ وأنّ سؤال النهضة؛ ومعرفة مفاتيح التقدم والحضارة؛ قِلّة مَنْ سخّر حياتَه من أجلها؛ ومنهم جودت سعيد؛ فكان بحق مجددًا لامعًا في الفكر الإسلامي.

:المراجع

1- الدرس الأول كان العنصرية؛ عندما رفض إبليس السجود لآدم متعللًا بعنصريته: (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ). سورة ص: 76.

2- راجع (مذهب ابن آدم الأول: أو مشكلة العنف في العمل الاسلامي) ص 48.

3- https://rb.gy/s0s67i 

4- راجع كتاب جودت سعيد: كن كابن آدم الأول. وموقعه على الانترنت:https://rb.gy/c8pmv8

5- انظر: الإسلام وظاهرة العنف. إعداد وتقديم محمد نفيسة. الطبعة الأولى، 1996.

6- راجع مدخل كتاب (اقرأ وربك الأكرم) لجودت سعيد.

7- انظر: https://rb.gy/mbawyp 

8- راجع كتاب (اقرأ وربك الأكرم) الفصل الأول. جودت سعيد. وموقعه على الانترنت: https://rb.gy/mr6bzh  

9- بشر جودت سعيد: فكر جودت سعيد. المادة منشورة باللغة التركية تحت عنوان “CEVDET SAİD DÜŞÜNCESİ ÜZERİNE NOTLAR” في مجلة “Umran” التركية في عددها لشهر آذار/ مارس 2022. والتي خصصته لفكر جودت سعيد.

مشاركة: