التغيير عند جودت سعيد

لعل شهرة الشيخ جودت سعيد عند محبيه وناقديه تأتي من طرحه اللافت بنظر أبناء مدرسته، والمثير للجدل عند أنصار الإسلام السياسي، مذهب ابن آدم الأول، والذي يرتكز على الفكرة الجوهرية: لئن بسطت الي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي اليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين، والذي على أساسه صنف الشيخ سعيد باعتباره أبرز داعية لا عنف في العالم الإسلامي، والمنظر الأكبر عند خصومه لطروحات تبدو في ظاهرها أنها دعوة لمهادنة الأنظمة المستبدة بل أنظمة الابادة، وترويج لفكرة بائسة تقضي بجواز ولاية المتغلب… إلخ.

التركيز فقط على هذه الفكرة (مذهب ابن آدم الأول)، واعتبارها الأصل الأساس في فكر جودت سعيد، أضاع على الناس إدراك كنه وجوهر تفكيره والذي أنفق عمره من أجله، ألا وهو حل مشكلة العالم الاسلامي، والعمل على تغييره ورقيه بأنجع السبل، وضمان نجاح هذا التغيير ضمن سنن الله في التغيير.

هذا هو جوهر المسألة، وفرق كبير بين أن تدرك الفكرة الكلية، ومن ثم الفكرة الجزئية، وبين أن يصبح الجزء كلًا ويفسر على أساسه.

ما أريد أن أطرحه هنا، أن فكرة اللاعنف تأتي ضمن فكرة استراتيجية أكبر وأشمل، وهي فكرة التغيير في العالم الإسلامي، وهذا يقتضي منا تعميق فهمنا لما طرحه الشيخ جودت سعيد في هذا المضمار سواء في كتابه القيم، حتى يغيروا ما بأنفسهم، أو طرحه المبدع حول الوجود السنني في كتابه الرائع، اقرأ وربك الأكرم.

وعلى الرغم من أن المسافة الزمنية بين الكتابين أكثر من عشر سنوات، إلا أنني أرى أن الشيخ وعلى الرغم من كل التفصيلات التي ذكرها في كتابه حتى يغيروا ما بأنفسهم، وجد أن ما طرحه لم يكن ليشفي غليل تلاميذه، فعمد إلى دراسة الموضوع من الناحية الفلسفية، فأبدع بفكرة الوجود السنني وجعلها مرتبة من مراتب الوجود فأصبحت خمسة، بعد أن كانت في نظر الفلاسفة المسلمين أربعة.

وهذا ما يدفعني إلى أن أناقش في هذا المقال أولًا ما طرحه الشيخ أخيرًا حول الوجود السنني في كتابه اقرأ وربك الأكرم، والذي أنصح بقراءته أولًا قبل أي كتاب من كتب جودت ففيه عصارة فكره والتأطير النظري الأساس لكل ما طرحه في كتبه الأخرى، ثم أعود لمناقشة عدد من أفكاره القيمة في كتابه حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأحاول من خلال هذين الكتابين أن أوفق في تبيان جوهر فكر جودت سعيد، وإضافته المميزة للفكر الإسلامي خاصة والإنسانية عامة، وأن أهم ما لدي الشيخ هو فكرة حل مشكلة العالم الاسلامي وهي الأساس الذي انطلق منه في أبحاثه كافة، تأسيًا بشيخه المفكر مالك بن نبي، ومن هنا كنت أفهم لماذا كان جودت سعيد يقول لنا في دروسه دائمًا إذا أردتم تغيير العالم الإسلامي وحل مشكلته، فعليكم بادئ ذي بدء أن تضعوا السلاح جانبًا، واتخذوا سبيل: أنا أقول وأنت تقول وللناس عقول.

الوجود السنني

يذكر ابن تيمية ومن قبله الإمام الغزالي وسواهما أن مراتب الوجود أربع:

1- الوجود الخارجي وهو وجود الشيء في الواقع، كوجود الرعد والبرق والبحار والنجوم وسائر الموجودات من الذرة إلى المجرة.

2- الوجود الذهني أو الصورة الذهنية للوجود الخارجي، وهي التي تحدث للإنسان عن هذه الموجودات الخارجية.

3- الوجود اللفظي (الوجود الاسمي اللغوي) وهو اللفظ الذي ينطقه الإنسان على الصورة التي حصلت عن الواقع الخارجي، وهو وضع الأسماء والرموز (اللغة) على الصورة الذهنية، وهو المقام الذي رفع به الله آدم حين علمه الاسماء كلها (وعلم آدم الأسماء كلها).

4- الوجود الرسمي (الكتابي، مرحلة التعلم بالقلم)، ويقصد به وضع رمز مرسوم ليدل على اللفظ الذي ينطق به الإنسان، فاللفظ آني لحظي (والكلام هنا لجودت سعيد) يتكلم به الإنسان فينتشر في الهواء موجات صوتية تتلاشى، واما الرسم الكتابي الذي يدل على اللفظ، فيبقى مرسومًا على الورق أو الحجر، وهو ما يراه الفلاسفة انه أثبت وادوم من الوجود اللفظي.

ولقد استنتج العلماء أن الوجود الخارجي هو الحقيقة الثابتة التي نرجع إليها عند الاختلاف والصورة الذهنية قابلة للزيادة النقصان، وقل مثل ذلك فيما يتعلق بالوجود اللفظي، ولعل أقرب شيء للوجود الخارجي هو الوجود الرسمي او الكتابي.

ومن هنا نستنتج أن هذا هو السر في حفظ القرآن الكريم مقارنة بالكتب السماوية الأخرى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)، ذلك أن القرآن قد دون بمجرد نزول الوحي (الوجود الرسمي الكتابي)، بينما كانت بقية الكتب السماوية قد نقلت إلى البشر عبر الوجود اللفظي، ولم يدون الإنجيل إلا بعد مئة وخمسين سنة بعد السيد المسيح عليه السلام.

على أن إبداع جودت سعيد أنه أضاف لمراتب الوجود الأربعة المتعارف عليها عند الفلاسفة مرتبة أخرى وهي مرتبة الوجود السنني وهو وجود سابق على مراتب الوجود الأربعة وعلى رأسها الوجود العيني (الخارجي)، والذي كان يعتبر أساس مراتب الوجود الأربعة بينما اعتبره الشيخ جودت راجع لهذا الوجود السنني وتال له، وأن هذا الوجود العيني قد نشأ بناء على القانون الذي يخضع له الموجود (السنة الكونية)، (ذلك تقدير العزيز العليم)، وبعبارة فلسفية يكون الوجود عرض لسنة.

ويمكن القول بحسب جودت سعيد، إن الوجود السنني هو كلمة الله (إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون). وبالمناسبة يرى جودت سعيد أن هناك سننًا لم تنتقل بعد إلى الوجود الخارجي، وأكثر ما يمكن أن يكون هذا واضحًا في علم الكيمياء، وجدول مندلييف يشير لهذا اذ ترك فراغات في جدوله الدوري ملئ بعضها ولم يملأ الباقي لأن العلماء عَرَفوا السنة الكونية ولم يعرفوا بعد كامل الوجود الخارجي العيني المبني على هذه السنة.

لقد اعتبر جودت سعيد أن الوجود السنني قد يكون مدخلًا لتصور وجود الروح، والروح من أمر الله (قل الروح من أمر ربي)، وأمر الله وكلمة الله وسنة الله ألفاظ قد تكون متقاربة في مدلولاتها ولكن سنة الله توصف بأنها لا تتحول ولا تتبدل.

هذه الإضافة العظيمة للفلسفة (مرتبة الوجود الخامسة) هي من نتاج بحث الشيخ في معضلة العالم الإسلامي الكبرى وسعيه لوضع إطار فلسفي لسنن التغيير المنشود، وبدا واضحًا للعيان أن هذا التأطير النظري العميق والتأكيد على الوجود السنني هدفه الترسيخ في الأذهان أن التغيير المنشود إنما يكون وفق سنة الهية لا تتبدل، وأن الالتزام بشروطها سيؤدي للنجاح في تكرار مخرجاته وهكذا تنقذ الأمة.

على أن ما يعزز ما سقناه آنفا ويخدم فكرة المقال الاساسية هو ما ذكره الشيخ حول ثبات السنن، وحديثه عن مفهوم السنة الإلهية والمعجزة بقوله: وفي موضوع السنن أمران مهمان:

الأول: أن السنن ثابتة لا تتبدل، والإنسان مصطحب لمعنى ثبات السنة والنظام والقانون في الحياة، وعلى أساسه يتحرك ولكنه ينبغي أن يوضح للإنسان هذا الثبات حتى يكون تعامله مع الاشياء على بينة، ولهذا عرف شيخ الإسلام ابن تيمية السنة تعريفًا حسنًا حين قال: السنة: أن يُفعَل بالثاني ما فُعِل بالأول. أي إذا تكررت الشروط نفسها أعطت النتائج نفسها في الآفاق والأنفس، في الطبيعة والمجتمع. فيكون الأمر علمًا إذا أمكن إعادته عند توفر شروطه، فما حدث مرة قابل ٌان يحدث مرارًا إذا توفرت الشروط، إذ تحتفظ السنة بمكانتها وشروطها.

والثاني: أن المقصود بالسنن وفق منطوق القرآن هي سنن المجتمع والأنفس، وليست سنن الآفاق [سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلًا].

مفهوم السنة والمعجزة

ولقد تطرق الشيخ في معرض حديثه عن الوجود السنني إلى فكرة بالغة الأهمية خلاصتها أن الآيات والبراهين الدالة على الحق قد ترقت مع تطور العقل البشري حتى وصلت البشرية إلى مرحلة الفطام الفكري فختمت النبوة بحسب تعبير الفيلسوف الباكستاني محمد اقبال، وأصبح بإمكانها الاعتماد على نفسها، ومن خلال ثبات السنن للوصول إلى الحق بمعزل عن الخوارق والمعجزات.

وفي هذا يورد الشيخ أدلة على ترقي الآيات والبراهين، فذكر ما قاله الإمام الغزالي في كتابه (المنقذ من الضلال) حين بحث علم اليقين الثابت الذي لا يتغير، قال: لو قال لي أحدٌ: إن دليلي على صدق أن الواحد أكثر من الثلاثة أني سأقلب هذه العصا حية، ولو قلب العصا حية لما تغير يقيني من أن الواحد أقل من الثلاثة، ولكني سأتعجب كيف قلب العصا حية. لو حللنا قول الإمام الغزالي، لأدى بنا إلى أن مثل عقلية الغزالي لم تعد ترى الآية على صدق النبوة قلب العصا حية، بينما كان قلب العصا حية دليل صدق موسى عليه السلام.

على أنني أرى أن ما طرحه الشيخ من خلال أمثلة ثلاث تدل على ترقي العقل البشري وصولًا إلى مرحلة الفطام الفكري هو طرح بالغ الأهمية غفل عنه كثير من حملة القرآن ولم يعوا ما فيه تمامًا.

ففي المثال الأول حيث يقول تعالى [ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:259].

فهذا المتسائل عن كيفية البعث في بدايات التجربة الآدمية لم يصل لمرحلة العلم والإيمان إلا بعد أن طبقت التجربة عليه فأماته الله مئة عام ثم بعثه.

أما في المثال الثاني وبعد أن ترقت البشرية نسبيًا، أورد الشيخ قصة إبراهيم عليه السلام ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 260].

إبراهيم عليه السلام لم تقع عليه التجربة بل شاهدها في الطير في مثل خارج عن نفسه وآمن، وهذا دليل على ترقي المدارك البشرية في الوصول للحق.

أما في المثال الثالث فتحدث الشيخ عن طلب أبي بن خلف من النبي محمد صلى الله عليه وسلم [وَضَرَبَ لَنَا مَثَلٗا وَنَسِيَ خَلۡقَهُۥۖ قَالَ مَن يُحۡيِ ٱلۡعِظَٰمَ وَهِيَ رَمِيمٞ (78) قُلۡ يُحۡيِيهَا ٱلَّذِيٓ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٖۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلۡقٍ عَلِيمٌ (79)] يس. هنا رد القرآن الناس إلى تذكر العلم والسنة وعدم نسيانها. وكم هو من دليل ناصع على ترقي المدارك البشرية وأن عليها أن تجنح باتجاه السنة الثابتة التي لا تتبدل ولا تتحول وليس البقاء على اعتقاد استمرار المعجزات والخوارق إلى يوم الناس هذا.

والمسلمون إلى الآن إلا من رحم ربك في نظر الشيخ سعيد يعيشون عصر ما قبل العلم وما قبل الإسلام فهم وإن لم يطالبوا بمعجزات كمعجزات الأنبياء السابقين إلا أنهم في احتفالاتهم بمناسبات تتعلق بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم يلحون بالحديث عن معجزات مماثلة، ويرددونها كإكثار الطعام والماء ونطق الحجر… ويغفلون عن العصر العلمي الآفاقي الذي طرحه القرآن على العالم.

ولقد بلغ تأثر تلاميذ الشيخ بما طرحه في موضوع الوجود السنني ومناقشة قضية المعجزات مبلغًا كبيرًا، لدرجة أن أحدهم طرح في إحدى الندوات التي شهدتها فقال: إن القرآن يؤكد ثبات السنن الكونية، وفي الوقت ذاته يتحدث عن معجزات وخوارق وقعت على يد أنبياء ومرسلين قبل محمد صلى الله عليه وسلم، والذي تناها اليه فكري (والكلام للتلميذ) أن المعجزات والخوارق تخضع لقانون ما يمكن اكتشافه يومًا ما. وبغض النظر عن صحة ما قاله التلميذ ومنطقيته إلا أنني سقته للدلالة على مستوى النقاش المميز الذي كانت تشهده جلسات الشيخ الجليل ومقدار الحرية المتاحة أمام التلاميذ.

التغيير في كتابه “حتى يغيروا ما بأنفسهم”

بدأ التحضير للكتاب منذ عام 1972 وبعد زيارة مالك بن نبي لدمشق، وأنجز الكتاب من خلال الجلسات المستمرة لسنوات مع التلاميذ عام 1978.

سأسوق هنا مجموعة من الأفكار المهمة التي طرحها الشيخ في كتابه، وحاول من خلالها أن يثبت لدى القارئ مجموعة من الركائز حول مفهوم التغيير وآلياته بما يخدم حل مشكلة التخلف وتراجع الأفكار وانخفاض مستوى الرقي الحضاري في العالم الإسلامي.

صحيح أن الشيخ لم يرتب هذه الأفكار ترتيبًا مدرسيًا متتاليًا، ولربما لو أعاد كتابته آخر حياته لسلك في كتابته منحًا آخر، ولكن من المؤكد أنك إذا نظرت إلى هذه الأفكار ستجد أنها بمثابة حبات العقد التي إذا جمعت بخيط واحد كانت لديك قطعة فنية جميلة ومقنعة ومفيدة.

ولعل المقدمة تشي بفكرة الكتاب عندما يتساءل هل التغيير ممكن، وإن كان ممكنًا فهل له سنن، وكيف أغير؟ أو كيف يحدث التغيير، وماذا أغير؟

ويتحدث عن أسئلة كثيرة ناقدة وجهت له من قبل كثيرين أنه لم يبين بوضوح سنن التغيير ولا كيف يتحقق التغيير؟ مع اعترافه بأنه لم يستطع إيصال أفكاره عن التغيير إلى تلاميذه وقرائه كما ينبغي، وأن أقدر الناس على شرح فكرة ما أكثرهم فهمًا لها، وأن تلاميذه النجباء هم من سيشرحون أفكاره خيرًا منه، إلا أنه يرى أن مجرد طرح الأسئلة يحتوي ضمنًا تسليمًا بأن هناك سننًا لتغيير ما بالنفس، وهذا التسليم يعتبر خطوة مهمة في طريق التفكير الجدي لحل مشكلة الأفكار في العالم الاسلامي.

ثم يسوق الشيخ بضعة أسطر داعمة للفكرة فيقول: إن كل فكرة وخبرة تقدم للإنسان، تؤثر في موقفه. وهذا هو التغيير، فكل صورة تعرض على الأبصار، وكل خبر يعرض على الأسماع يهدف ولو ضمنًا إلى تغيير موقف، أو يحدث بالفعل تغيير موقف سواء كان هذا الموقف ايجابيًا أم سلبيًا وإنما يتجلى الحق في إعطاء مواقف أسلم وييسر.

يعرض الشيخ جودت لمشكلة خطرة يعانيها شباب العالم الإسلامي وتعوق التغيير، أن كثيرًا منهم عنده استعداد لبذل أنفسهم واموالهم في سبيل الإسلام، ولكن قلّ أن تجد فيهم من يتقدم ليبذل سنين من عمره ليقضيها في دراسة جادة لينضج موضوعًا، كمشكلة الانفصال الذي يعيشه المسلم بين سلوكه وعقيدته، مع انه واضح انه لا يمكن التغيير من وضع إلى وضع إلا بعد إجابة موضوعية عن أسئلة كثيرة بعد درس وتحصيل.

إلى الآن ينظر إلى بذل المال والنفس على أنها أعلى المراتب دون مراعاة ما يجعل بذل المال والنفس مجديًا والبذل لا يعطي نتائجه إلا بشروطه الفنية.

وبذل المال والنفس يمكن أن يتم في لحظة حماس وتوتر ولكن طلب العلم لا يتم في لحظة حماس وإنما بجهد متواصل يحتاج لنوع من الوعي كوقود، يجعل الاستمرار ممكنًا.

طرح الشيخ المعلم أن العقل يمكن أن يتخذ أحد موقفين إزاء المشكلات؛ إما أن يفترض أنها تخضع لقوانين، وبالتالي يمكن السيطرة عليها وتسخيرها، وإما أن يفترض أنها لا تخضع لقوانين، أو لا يمكن كشف قوانينها.

ولكلٍ من الفرضيتين نتائج عملية تظهر في مواقف البشر وسلوكهم بصور متفاوتة على حسب الخضوع للموقفين.

عجز المسلمون أن يعيشوا وفقًا للعقيدة الإسلامية، مشكلة لا يحتاج إثباتها إلى جهد كبير، شريطة التسليم بأنها مشكلة، ووجود قوانين تخضع لها هذه المشكلة، وبكشفها يمكن السيطرة عليها وتسخيرها.

اعتقد المسلمون أن المشكلة الاسلامية لا تخضع لقوانين يمكن كشفها، وعليه فلا جدوى من جهد الإنسان للبحث عن هذه القوانين، واعتقد البعض أن القوانين تعمل في حياة البشر بطريقة سحرية خارقة غامضة الأسباب.

إن لسلامة النظرية اثرًا مهمًا في الوصول إلى الحل بل يتوقف الحل على صحتها ومقدار وضوحها، وهذا ما هدف إليه الشيخ جودت سعيد من بحثه هذا.

إن الذين ينتظرون المهدي أو اشراط الساعة قد رسخ في أذهانهم أن المشكلة ليس لها من دون الله كاشفة وأن سعي العالمين لحلها ضلال.

هؤلاء لن يصلوا إلى نتائج، فعدم اعترافهم بالقانون لا ينفي القانون، وإنما يمنعهم من السيطرة عليه وتسخيره، ويجعل منهم أداة يلعب بها الآخرون اللذين علموا القوانين الصحيحة.

يرى الشيخ جودت أن من عرف قوانين المجتمع يمكنه استخدام وسائل مختلفة لقياس صلابته وسلامة شبكة علاقاته ويستعين بتحاليل شتى لأحكام يصدرها المجتمع لتفسير الأحداث، ليحدد نوع الخلل الذي يعانيه المجتمع، ويفرض نظام الحمية على الأغذية الفكرية التي يتناولها لما تحمل من جراثيم فكرية تعطل قوى المجتمع وتماسكه.

وكما يمكن استخدام الحجر الصحي لإيقاف الأوبئة في مستوى المرض الصحي، يمكن استخدامه في مستوى المرض الاجتماعي. كما يمكن إعطاء اللقاحات والمناعات الفكرية ضد أفكارٍ مرضية.

انظر إلى طرح الشيخ المتقدم: ولئن ذهب زمن المعجزات، إلا أن العلم قد تقدم لخدمة الإنسان، ولو علمنا نحن المسلمين كيف نستفيد من العلم في خدمة إيماننا، لأدركنا أن نتائج استخدام العلم أجدى من وصفنا الإسلام أنه دين العلم.

إن الغيورين يبكون على الإسلام الذي أخذ أهله ينحسرون عنه، كما يبكي المحب الجاهل على المريض الذي اشتدت عليه وطأة المرض.

لقد وضع الشيخ فصلًا مستقلًا حول أن السنة الواردة في قوله تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) إنما هي سنة عامة للبشر وليست خاصة بالمسلمين ولا بغيرهم، لابل إن السنة لا تكون سنة إلا إذا كانت عامة.

وهذا يعني أن الآية تشمل كل الناس، بدليل أن كلمة (قوم) في الآية لم تأت مخصصة لقوم معينين، وإنما هي لكل قوم، ومجيؤها نكرة في الآية يدل على ذلك.

إن طرح الشيخ لهذه المسألة بهذا الشكل يصدم كثيرًا من أفهام المسلمين الذين يظنون أن لهم خصوصية ليست لغيرهم وأن ما يتحدث به القرآن يعنيهم وحدهم (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق).

إن المسلم اليوم لا يجعل المشكلة الإسلامية خاضعة لسنن عامة تشمل البشر جميعًا ويراها غير خاضعة لما يخضعون له، وهو حين يفعل هذا، يفعله بروح من التسامي والتقدير، وظنه أن رفع شأن المسلمين يكون بعدم خضوعهم للسنن التي يخضع لها سائر البشر.

لقد أودع البشر نفوسهم أفكارًا خاطئة عن الشمس والقمر في قديم الزمان ولكن هذه الأفكار لم تكن لتؤثر في حقيقة سير الشمس والقمر، ولم يتغير من نظام الكون من أجل تلك الأفكار.

ولم يكن الذي كان في حاجة إلى تغيير حينذاك، سنة الشمس والقمر، بل كان الإنسان الذي حشى نفسه بالظنون والأوهام وارتفع بها إلى درجة القداسة، وسفك دماءً من أجلها ظنًا منه أنها تقربه إلى الله زلفى.

ثم يردف الشيخ ما سبق آنفًا بالقول: وعلى الرغم من أن كثيرًا من الأوهام اكتسبت قداسة وقوة آيات الله نفسيهما في أنفس المسلمين، إلا أن المسلم على علاته عنده من التعلق بالقرآن ما ليس لأحد من أهل الكتاب. لهذا كانت صعوبة تخلص المسلمين من الأوهام أكبر، في تغيير ما بنفسه عن دينه وعقيدته، من الخطأ إلى الصواب. وإن عجز المسلم عن هذا التغيير يرجع إلى غياب وضوح سنن تغيير ما بالأنفس، ولا سيما وقد طال عليهم الأمد.

ثم يفرد الشيخ فصلًا آخر عن أن السنة الواردة في الآية إنما هي سنة مجتمع لا سنة فرد، سنة مجتمعية لا سنة فردية. يا له من فهم عميق لمنطوق الآية.

لو كان غير ذلك لقال الله: إن الله لا يغير ما بإنسان حتى يغير ما بنفسه. ولا فرق بين رجل وامرأة.

يفهم الشيخ أيضًا مما سبق أن هناك أمورًا خاصة بالمجتمع لا بد من تغييرها حتى ينال الفرد نصيبه من هذا التغيير.

ثم يتطرق الشيخ إلى مسألة بالغة الأهمية تظهر فهمه الاستثنائي والشامل لآيات الله فيقول معلقًا على قوله تعالى [ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرِّضِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ عَلَى ٱلۡقِتَالِۚ إِن يَكُن مِّنكُمۡ عِشۡرُونَ صَٰبِرُونَ يَغۡلِبُواْ مِاْئَتَيۡنِۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٞ يَغۡلِبُوٓاْ أَلۡفٗا مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَفۡقَهُونَ (65) ٱلۡـَٰٔنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمۡ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمۡ ضَعۡفٗاۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٞ صَابِرَةٞ يَغۡلِبُواْ مِاْئَتَيۡنِۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمۡ أَلۡفٞ يَغۡلِبُوٓاْ أَلۡفَيۡنِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ (66)] الأنفال.

يرى الشيخ أن الخصوصية الظاهرة في الآيات ليست محصورة في المعركة القتالية، فمعارك الحياة كثيرة، ومعركة بناء المجتمع كذلك تحتاج إلى التوازن نفسه.

نعم، في المعارك الثقافية عشرون مثقفًا صابرًا محتسبًا صاحب روح رسالية، يهزمون مئتين بل ألفًا من الغوغائيين الذين هم كالأنعام بل أضل سبيلًا.

إن النظر إلى هذا الموضوع من هذه الزاوية يبين كما يرى الشيخ المعلم خطورة أن يبقى في المجتمع أعداد مهما كانوا قلة لا يتمتعون بالوعي التام لقضايا المجتمع، وكذلك خطورة عدم وجود العدد الكافي أو الحد الأدنى من الذين يعون الأمور على هذا الأساس من النظر. وإدراك ضرر وجود غير الواعين في الأمة، يولد لدى المجتمع شعورًا بالخطر. حقًا أن وجود نماذج لا تعي سنن طفو الأجسام على الماء كارثي، فيسعون بحسن نية أو سوئها لخرق السفينة، كما ورد في الحديث الشريف الصحيح.

ولعل من فهومات المعلم الجميلة ما أفرده في فصل سنة دنيوية لا أخروية، وأن الآية لا تتوجه إلى الحساب الأخروي بل إلى المحاسبة الدنيوية الاجتماعية، وان التغيير الذي يحدث هو في الدنيا. وأن هذا هو مجال السنن وحدودها.

المحاسبة في الدنيا جماعية ومحاسبة الآخرة فردية.

[وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ (25) الأنفال]. وبالمقابل قد يسعد أفراد مقصرون في مجتمع سليم.

ثم يتطرق الشيخ في فصل تال إلى أن هناك في الآية تغييران، تغيير الله وتغيير القوم (المجتمع)

وأن القدرة التغييرية الإلهية مشروطه بتغيير ما في أنفس المجتمع. أي أن هناك ترتيب بين حدوث التغييرين، والنتيجة حتمية. وإن حدوث أي تهاون في الخلط بين التغييرين، وإدخال التغيير الذي يحدثه الله بالتغيير الذي يقوم به القوم، أو العكس، يفقد الآية فعاليتها، وتضيع فائدة السنة الموجودة فيها. إن الرجاء بأن يحدث الله التغيير. الذي يخصه قبل أن يقوم القوم (المجتمع) بالتغيير الذي خصهم الله به يخالف الآية، وبالتالي أبطالًا لمكانة الإنسان، وأمانته ومسؤوليته، وبما منحه الله من مقام الخلافة في أرضه.

ثم يطرح الشيخ المعلم الفكرة التالية فيقول: إن الله علق التغييرات التي يحدثها الأقوام بما في الأنفس. فما هذا الذي بالأنفس، وهل للبشر قدرة على تغييره بما مكنهم الله فيه؟ سؤال مهم وعميق. إن المراد بما في الأنفس: الأفكار والمفاهيم والظنون، في مجالي الشعور واللاشعور.

يرى الشيخ أن قوله تعالى [حتى يغيروا ما بأنفسهم] يفيد أنه يمكن أن توضع في النفس الأفكار ابتداء، كما يمكن أن يرفع ما فيها من مفاهيم ويوضع فيها أخرى، وهذا أهم في عملية التغيير من إنشاء الأمر ابتداء، ومع ذلك أسند الله للبشر هذه القدرة في إزالة المفاهيم واستبدال غيرها بها.

وما زلت أذكر المناظرة الشهيرة في بيروت عام 1993 بين الشيخ جودت سعيد وبين الدكتور البوطي رحمهما الله حول فهم قوله تعالى: [إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم]، فكان رأي البوطي أن تغيير النفس يكون من خلال التزكية القلبية فإذا زكت القلوب إيمانًا فإن الله سيتدخل بقوة علوية لتغيير الواقع إكرامًا لعباده المتقين على زكاة نفوسهم. أما الشيخ جودت فذهب إلى أن المقصود بالآية إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم أي حتى يغيروا ما بعقولهم وأفكارهم، وكان يردِّد باستمرار جملة خلاصتها أن ما لدينا من إخلاص وإيمان ما يكفي للإقلاع بنهضة ولكن ما ينقصنا هو الصواب، وبعبارة أخرى بحسب تعبير أستاذ الفلسفة الشهير الدكتور أحمد برقاوي: نقصان الاستقامة العقلية.

لعل هذه الفكرة فيما أرى أنها من أهم الأفكار عند الشيخ المعلم، وهي المعبرة عن فلسفته في الحياة، والسبيل للبدء بحل معضلة العالم الاسلامي، إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، أي حتى يغيروا ما بعقولهم.

هناك الكثير والكثير من الأفكار النيرة الأخرى التي طرحها الشيخ حول هذا المفهوم وخصوصًا في ندواته الشهرية في جبل قاسيون، ولكن لا يتسع المقام هنا لإيرادها خشية الإملال.

رحم الله جودت سعيد رحمة واسعة، فقد أنفق عمره من أجل إنقاذ العالم الإسلامي وبنى مدرسة فكرية قويمة لم تأخذ حقها بين أبناء العالم الإسلامي، وإن كنا على يقين أن من سيأتي خلفنا سينظرون إليه باعتباره مجددًا أراد استنهاض أبناء الأمة لمزيد من الدراسة والتحصيل ووفق سنن الله التي لا تتبدل ولا تتحول ولم يكن يضيره أبدًا أن يأتي أحد تلاميذه بخير مما جاء به، حاملًا قول أبي حنيفة رحمه الله شعارًا: إن قولنا هذا رأي فمن جاءنا بخير منه قبلناه.

مشاركة: