خاصة في صيدنايا (قصة قصيرة)

(قصة قصيرة)

استعار سروال وقميص صديقه في المهجع. لديهما المقاس نفسه، مع آخرين في المهجع الخامس من الجناح الأبجدي في سجن “صيدنايا” الجميلة.. تقريبًا.

كان يردد منذ الصباح، أن زوجته ستحضر إلى زيارته وحدها هذا الشهر.. وحدها.. سيقضي الـ “نصف ساعة” الخاصة بالزيارة معها وحدهما.. سيمسك كفيها طوال الفترة الحارة تلك، في المسافة التي يسمح بها شبكا الزيارة، شبك الغرفة التي يقف فيها، بمقابل شبك الغرفة التي تقف هي فيها.. لن يأتي إخوته، ولا أمه، ولا أبوه.. حقيقة، لم يزره أبوه أبدًا في السجن..

اعتقد أبوه أن أفكاره غير صالحة.. لا تستأهل أن يُسجن الإنسان من أجلها.. أن يصرف عمره خلف القضبان.. أن يغادر زوجته، وطفلته، وإخوته، وقريته، ومدرسته، ورفاقه.. اعتبرها تضحية مجانية.. اعتبرها “كما وصله من أحد إخوته في زيارة بعيدة”.. حماقة!

كان الوحيد بين معتقلي الجناح، الذي لم يزره والده.. قال صديقه في المهجع الرابع في زمن ما.. إنه الوحيد في “صيدنايا”..

وضع السروال والقميص في كيس بلاستيكي. كان الكيس للخبز في زمن مضى.. وعندما خلص الخبز، استعمله كـ “درج” لثيابه الداخلية.

في الزيارة الماضية، أخبره أخوه، أن زوجته ستحضر منفردة.

إنها الزيارة الأولى له ولها منفردين. في السنوات الأربع الأولى من سجنه، كانت الزيارات ممنوعة، في السنة الخامسة، “تعرّض” لست زيارات، بمعدل زيارة كل شهرين، نصف ساعة كل شهرين.. لا يتذكر الكثير من الأحاديث التي “تعرّض” لها آنذاك.. نسيها كلها.. ربما لأن الزيارة كانت تنتهي بسرعة.. “كانت ومازالت”.. يدخل إلى غرفة الزيارة، يرافقه شرطي، أهله في الغرفة المقابلة، خلفها شرطي، يقف شرطي في الممر الفاصل بين شبكي الغرفتين.. يمد كفه، بعد أن يتفحصّها الشرطي، ويسلم على كفوف أهله، بعد أن يتفحصها الشرطي المقابل.. ثم يراقب العيون، يراقب كتل الأجساد التي تتغير من زيارة إلى أخرى..

كانت تحضر زوجته في البداية، وفي كل زيارة، ثم بدأت تغيب..

كان يعذرها.. لديها طفلتها.. هي طفلته أيضًا. أكثر ما يتذكر في الزيارات، هي الزيارة التي رأى فيها طفلته.. رفضت أن تمد يدها، لم تعرفه.. كانت خائفة بشدة.. الشرطة.. الخطا الثقيلة.. التفتيش.. الرجل الذي استقام أمام عينيها في دائرة الحديد تلك، والذي وصفته أمها بأنه أبوها.. كل شيء في تلك الصورة كان يثير الخوف.. الخوف حبس دموعها، وفي لحظة واحدة انفجرت بالبكاء..

وضع صابونة معطّرة، في الكيس مع السروال والقميص، حتى يستمدا منها بعض الرائحة..

وضع في جيب السروال “زوج حلق” من عظم، أمضى في صناعته ثلاثة أسابيع، احتفظ فيه عمرًا طويلًا، ليهديه لزوجته. كان يخجل أمام إخوته وأخواته أن يفعل ذلك..

لم يعتقد يومًا، أن أصابعه الغليظة، قد تكون مفيدة في صناعة تحف فنية، من العظام، بإبر الخياطة، والمقص والسكين والبورسلان المكسور..

يوم الأربعاء، من كل أسبوع تقريبًا، وفي وجبة الغداء، توزع إدارة السجن على السجناء، بعضًا من عظام خروف، أو دجاج، وما علق بها من لحم. كانت حصته في زمن ما، قطعة صغيرة من عظم صدر خروف. احتفظ بها شهورًا طويلة، قبل أن يفكر في صناعة “الحلق”.

كان يخشى ألا يسمح له شرطي الزيارة بأن يهديه لزوجته.. حدث أن منع شرطي، هدايا مشابهة في زيارات سابقة لأصدقائه.. لكن الهدية التي آلمت كفيه وعينيه وقلبه، تستحق المحاولة..

أقفل مساعد السجن مع عناصره، أبواب المهاجع مبكرًا هذا اليوم. ف”الفرخ الفاشي” يتابع مسلسلًا محليًا، أو مباراة رياضة، أو دعايات لمنظف، أو أي شيء آخر في التلفاز المحلي.. وأراد أن ينجز مهمة تأمين السجن، قبل أن ينطفئ في دهاليز التلفاز..

دخل في بداية تكليفه، لمهمة “أمن السجن” إلى الجناح الأبجدي في صيدنايا، مع العشرات من العناصر. صرخ أحد العناصر من بعيد، تفقد..

وقف المعتقلون داخل المهجع صفين، الأيدي خلف الظهر، والرؤوس مطأطئة..

انطلق المساعد داخل كل مهجع كالثور. صادر الكثير من المواد، و”البطاطين” والعوازل. وأتلف القوارير والعلب البلاستيكية، التي كانوا يخزنون فيها بقايا الطعام. ودقّ الأرضية بالعصا الغليظة والطويلة التي كانت في يده، ليعرف إذا كانوا قد حفروا فيها.. إذا تم إخفاء “الممنوعات داخلها.. وقبل أن يخرج، كان يبصق في وسط المهجع، وهو يقذف الوجوه، بأقذر النظرات وكانت شفاهه تتحرك، مصدرة تمتمة ما.. لم يشك أحدٌ أبدًا غير أنها الكثير من الشتائم..

ذاك اليوم، وبدون أي سبب، ضرب مريضًا في المهجع العاشر. عجز المريض عن الوقوف كما يتطلب “التفقد”، فاعتبرها المساعد إهانة له. ضربه في فراشه، وسحبه خارج المهجع، وسكب الماء في الفراش وفي ثيابه، ثم أعاده كتلة من السكون.. في اليوم التالي، كان قد لقب المساعد “فرخٌ فاشيٌّ”.

علقت ذبابة في شباك عنكبوت في الزاوية. فاستهجنت، واعترضت، وعلا أزيزها. راقبها، بحياد شديد، حتى تمكن منها العنكبوت. هناك عنكبوت آخر في الزاوية البعيدة.

في أزمة نقاش حادة في زمن مضى، أراد معتقل إنقاذ ذبابة عالقة، “أن تنقذ روحًا، عمل رائع، خاصة أنك روح تبحث عن منقذ في هذه المتاهة”.

اعترض معتقل آخر، “الطبيعة تقتضي أن يحصل العنكبوت على طعامه، العنكبوت روح أيضًا، فإن تنقذ الذبابة، يعني أنك تقتل العنكبوت. كيف ذلك”!

كان مهجعه من المهاجع التي قبلت أن تمارس الطبيعة.. طبيعتها..

استحم، وحلق ذقنه، واستلقى في فراشه، المكون من أربع “بطاطين” وعازل، وعلى مساحة 33 سنتيميترًا عرضًا و200 منه طولًا. وفي غفلة من نشرة أخبار قادمة بخفة، من الراديو “العام” في المهجع، نام..

في ساعة من الليل أفاق مرعوبًا.. سحب جسده البارد بحدة. جلس في فراشه. راقب زملاؤه خوفه وتشتته..

قام من فراشه. غسل وجهه. شرب كوب ماء.. كوبين.. عاد إلى فراشه.. قام من جديد.. انزلقت كفه ببطء، لتلامس وسطه.. قال، “أحد ما، في غرفة التحقيق، في الفرع الرمادي.. قطع قضيبي..”.

لم ينم تلك الليلة. تفحّص السروال والحلق والقميص والصابونة، مراتٍ عدة. شرب ماء عن أسبوع. سار في المهجع، حتى في الفترة التي يُمنع فيها السير. فتح “الراديو العام”، في الفترة التي يُمنع فيها، وسمع موسيقا. ما أزعج الكثير من رفاقه في المهجع.

فتح شرطي سريع أبواب المهاجع صباحًا، كان ما يزال جالسًا في فراشه. وحين خرج الشرطي، وأغلق باب الجناح، خرج يتمشى في الكردور الطويل.

كان الكردور وحيدًا في زحمة الصباح. يوزع أطرافه الخفيفة على المهاجع العشرة. وكانت النوافذ العالية، ترسم صورة شمس قلقة، على ورقة نُسيت في أحد الجدران.

تدفق زملاؤه، واحدًا واحدًا فانتعش الكردور بدفق الحرارة..

في ساعة من النهار، وهو يحكّ قلقه في باطن القلب، نادى الشرطي باسمه، وطلبه لشبك الزيارة.

ارتدى السروال والقميص. وتأكد من “الحلق” في جيبه. سرّح شعره. وشرب كوب ماء. ثم انسلّ بهدوء خلف شرطي، في متاهات صيدنايا الدفينة.

طلب من الشرطي أن يساعده في إيصال الهدية لزوجته، التي تحضر اليوم وحيدة. تفحص الشرطي الحلق، وصادره.. ثم قال له، “هذه الأشياء ممنوعة..” ألحّ عليه طويلًا.. فهدده الشرطي بالعقوبة.

وقفت زوجته خلف الشبك، بكامل أناقتها وأنوثتها. كانت خصلات شعرها “الكستنائي” تتأرجح على كتفيها. وكانت عيناها شرفتين.. وخداها حديقتين.. واستلقى كفاها على حديد الشبك، يغسلان توتره، ويوقدان الدفء فيه..

هطلت جميلة في عينيه، وتسرب ماؤها في تفاصيل شوقه..

مدّ كفيه، فتفحّصهما الشرطي، مدت كفها اليمنى. عانق كفها بأصابعه العشرة وقلبه، فسحبتها ببطء.

كان يريد أن يصف شوقه وحبه، أن يخبرها أنها قلبه، وطفلتهما روحه.. وأنه ينتظر فسحة من الأمل، بفارغ الصبر. حين قالت بهدوء، “لم أعد قادرة على الانتظار. سأهاجر قريبًا مع طفلتي.. ستصلك ورقة الطلاق.. أرجو أن تتعامل مع القضية بكامل المسؤولية..”.

ارتبك الشرطي بين الشبكين، والشرطي الذي وقف خلفه، والشرطي الذي كان يراقبها.. وحديد الشبك وجدران الغرفة، وقضبان صيدنايا الجميلة.. تقريبًا..

 

مشاركة: