البوال (قصة قصيرة)

(قصة قصيرة)

خرج يسير في أروقة القصر في عمق الليل، كان عاريًا إلّا من سروالٍ داخلي فضفاض، تساوت فتحتا كمّيه ودكّته، وقميص قطني قصير مجعّد بالكاد يغطي سرّة بطنه.

كانت ساعة مسيره الليلي، تختلف بحسب ما تناوله من طعام وشراب في المساء الفائت.

عيونه نصف مغمضة على الدوام، لا أحد يعلم أو يجرؤ على الاستفسار عن السبب، قيل إن أنوار أروقة القصر الباهرة هي السبب، وقيل همسًا، إن السائر في نومه يفتح عيونه هكذا. ولم يُعْرَف أبدًا إن كان يرى أم لا، لكن ما كان يُذهل أمه وإخوته أنه كان يسير دون أن يصطدم بالأشياء. أمّا ما كان مؤكدًا أنه لا يسمع، إذ لطالما لحقت به أمه وهي تناديه بصوتٍ خافت ومرتجف، كي لا توقظ أباه ذا الأعباء الكبيرة والأحمال الثقيلة، كان يلتفت أحيانًا نحو الصوت، أو هكذا خُيّل إليها، لكنه كان يتابع مسيره وكأنّ شيئًا لم يكن.

كان الابن الثاني في العائلة، التي تعدُّ ستة أفرادٍ، كان اهتمام الأم ينصبّ على ابنها الأول الذي أبرز بعض الاهتمام بإرث أبيه، على عكس أخيه الأصغر، الذي لم يُعرف له أي ميول واضحة، فهو يصرف نهاره بين المدرسة واللّهو وحيدًا بأشياء ليست بذات معنى.

لولا خوفها من الفضيحة المجلجلة، لما لحقت بابنها العتيد في أروقة القصر الكبير ودهاليزه ما بعد منتصفات الليالي، لتعيده إلى غرفته التي تفوح منها رائحة البول الطازج، ممزوجة برائحة القديم منه، وقد عششت في الفراش والأغطية، وتعشّقت بالجدران والسقف والخزانة أيضًا، ربما كان هذا سببًا قويًا من أسباب انعزاله عن زملائه وأقرانه.

قيل إن من أسباب ابتعاده عن الناس خوفه من افتضاح أمره في مشكلة أنفه، فما أن يبدأ بالمسير الليلي حتى يبدأ أنفه بالاهتزاز والاستطالة، يصبح أطولَ من خرطوم فيل يتحرّك بغير هدى، يتشمم رائحة جسده ليساعده في تحديد سرعة خطواته، التي تختلف بحسب كثافة الرائحة، يسرع عندما تشتد ويبطئ عندما تخف.

كان يحسّ بفرادته وملكاته المخبوءة تعتمل بداخله، ممزوجة بمرارة الريبة والشكّ من إخوته، الذين اختار كل منهم طريقه بعيدًا عن روائحه.

كان أكثر ما يهابه ويؤرقه، هو ذلك الحلم اليومي، حين يجد نفسه في دورة مياه واسعة، نظيفة وناصعة، ذات رائحة منعشة فوّاحة، وقد فُرِشَتْ بأفخر أنواع السجّاد، وزُيّنت بباقات من زهورٍ وورودٍ طازجة أضفت جمالًا خاصًّا على المكان، تُرافقها موسيقا كلاسيكية هادئة تصدح بالمكان لم يَسْمَع بمثلها من قبل.

مباعدًا رجليه الطويلتين النحيفتين فوق المبولة، يشعر بالحرقة في أسفل بطنه من شدّة انضغاط مثانته. فتحة كم سرواله الداخلي الواسعة تسهّل الأمر، فلا حاجة إلى أن يخلعه. أخيرًا يستمتع بعملية تبوّل لا مثيل لها في التاريخ، وقبل أن ينتهي يشعر بسائل دافئ وحنون يعرفه جيدًا، يسري على فخذه نزولًا إلى الساق فالقدم، ليشكّل بركة صغيرة تسبح فيها أصابع قدمه بمرحٍ معتاد. كان في سريرة نفسه يحب رائحة بوله لدرجة التماهي.. أشدَّ ما أحزنه أنه لا يقدر على البوح بهذا الحب. ما أن يبرد البول قليلًا حتى ينتفض قافزًا من سريره، ليجد أنّه قد بال على نفسه. يَشْتُمَ الحلم الجميل الذي يراوده كل يوم، ويهرع إلى تجفيف نفسه، وإخفاء بقعة البول الجديدة على فراشه، الذي تحول لونه إلى الأصفر القرميدي، تزيّنه دوائر متداخلة ومتعرّجة لبولات الأيام الفائتة.

على الرغم من الإمكانيات غير المحدودة، فقد رفض الأب متابعة تغيير الفراش مع كل بولة، فقد أعياه الأمر، عدا عن الشعور بالإحراج أمام عمّال النّظافة وتجّار بيع الفراش الذين على الرغم من استبدالهم اليومي ووفرة عددهم، إلّا أنه قد نال كل منهم نصيب بيع فراشٍ للقصر كل عدة أسابيع.

بدأ الأب بتأنيب وتوبيخ ثاني أولاده في كل فرصة ووقت، بعد أن ضاق به وببوله، ما زاد من مفاعيل المشكلة.. تضاعفت تبولات الولد وليالي المسير الليلي والانعزال عن كل العالم، إلّا عن بقع البول التي بقيت تلازمه.

راح الولد يكبر، وتكبر معه أحزانه وآلامه، وأصبح يتلعثم بالكلام، وغالبًا ما يلوذ بالصمت، على الرغم من حبه للحديث وكثرة الكلام.

كان قد يأس من حالته، وأخذ كره الآخرين يعتمر في قلبه، خاصّة من الأهل والأقرباء وبعض المعارف والجيران.

اختلطت عليه مشاعره حين قرر الوالد إرساله في رحلة طويلة للعلاج. على الرغم من قناعته بعدم الجدوى، فقد كان حلًا مناسبًا للتخلص من الإحراج الذي طاول الجميع.

نام مطمئنًا في سريره الجديد، في غرفة فسيحة فاخرة الأثاث ومزوّدة بجهازٍ لشفط الهواء، وآخر لتنقية الجو، وثالث يرش العطر أنواعًا، في منزله الريفي الكبير، القابع على تلّة مرتفعة تُطِلُّ على مناظر خلّابة، تحوطه أسوار من نباتات غريبة ومدهشة الألوان والتشكيل. غمر نفسه بالغطاء الحريري الناعم، وغفى…بال وبال ولم يشبع، رغب أن يبول الليل كله، بل العمر كلّه، كان كلما صادف منعطفًا أو زاوية أو ساق شجرة باسقة في حديقة البيت الكبيرة، يبول.. بال حتى ملأ أرجاء مملكته بالبول.

فجأة شاهد أمه وأباه وأخاه الكبير أمامه في مدخل الحديقة، للحظة، لم يستطع أن يقدّر سبب مجيئهم، أهو الحب والشوق.. أم للعيادة والاطمئنان.. أم للتأنيب والتوبيخ. شال مبولته وأخذ يرشّهم بنار بوله الحارق، كانت ألسنة لهب البول تنتشر في كل الأرجاء، تحرق الأخضر واليابس، كان كلما رشَّ أحدهم مات. لم يرتوِ، خرج إلى الجوار ورشَّ كل مَن صادفه حتى ماتوا.. خرج صوته هادرًا بصيحات النصر.. ما زال الهدير يعلو.. تحول إلى صراخ أيقظه من نومه.. كان البول يحرقه بين فخذيه.

 

 

مشاركة: