(قصة قصيرة)
– هل جربتَ أن تعودَ بالزمنِ إلى الوراءِ؟
هكذا سألني محمد مع اقترابِنا من مدرسةِ حطينَ الابتدائيةِ التي درسَ على مقاعدِها ولداه جلال وليمار… أجبتُه:
– لا…فقال:
– أنا أعودُ كُلَّ يوم… بل كُلَّ ساعة… بل أنا أعيشُ في الماضي، فالحادثةُ التي أوقفتْ الزمنَ عندي كَتبتْها الحربُ في رأسي كما كان يكتبُ الإنسانُ القديمُ ليبقى ما يكتُبه مئاتِ السنين… سألتُه:
– كيف؟ … فأجاب:
– بمطرقةٍ وإزميلٍ من حجر.
أنا أعرفُ ما جرى مع محمدٍ لكن من يعرفُ التفاصيلَ ليس كمن يعيشُها.
… قبلَ الحادثةِ بثلاثةِ أيام، إدلب، يومُ الثلاثاء 24 آذار/ مارس 2015
كان الشتاءُ لا يزالُ يدسُّ أنفَه بين ساعاتِ الليلِ.
استيقظَ محمد صباحًا وهو يرتعشُ، احتارَ.. أمِنْ بردٍ أم خوفٍ؟
لم يشربْ قهوتَه التي يحبُ أن يتناولَها بوجودِ جلال وليمار الّلذين يدفئان أَكُفّهما وهما يمسكان كوبي الحليب…
إنّهما نائمان، مدرستهما مغلقةٌ لأنَّ أصواتَ الانفجاراتِ تملأُ مدينةَ إدلب، تأكلُ حاراتِها القديمة وتهدُ بُنْيانها وتحيطُ بها إحاطةَ الواسطةِ بالجيد.
بعد أن هدأ القصفُ قليلًا لبسَ ثيابَه وعلى بابِ المنزلِ ودعتْه زوجتُه وداعَ مفارقٍ لأنَّ الخروجَ هذه الأيامُ ضربٌ من الجنونِ.
أسرعَ إلى مقرِ عملِه تحتَ الشرفاتِ في شوارعَ مُقْفِرةٍ لها رهبةُ الحديثِ عن القيامةِ.
حاولَ أن يتفادى القذائفَ التي يمكن أن تصيبَه فترديه قتيلًا أو تحاذيه فتبترُ أحدَ أطرافِه.
إنَّ مراقبي الدوامِ لا يتهاونون مع من يتأخرُ عن عملِه ولو أمطرتْ الدنيا نارًا ودخانًا.
يعتقدون أنَّ غيمةَ الشعبِ الثائرِ ستمرُ وستذهبُ ريحهم وسيبقى رئيسُ الدولةِ البطل الّذي دمَّرَ دولةً كاملةً وحده.
وصلَ محمد، هنأه أصدقاؤه بالسلامةِ وراحوا يتبادلون الأحاديثَ.
قال مأمون إنَّ هناكَ تعزيزاتٍ وصلتْ من المعسكرِ القريبِ في قرية “المسطومة” ولا خوفَ على المدينةِ، فهمسَ طلال في أذنِ محمد أنّ الثوّارَ عقدوا العزمَ على تحريرِنا.
وقبلَ الظهرِ طُلبَ من الموظفينَ أن يغادروا بسببِ اشتدادِ وتيرةِ القصفِ.
إدلب، يومُ الأربعاء 24 آذار/ مارس 2015
أصابتْ قذيفةٌ الطابقَ الأخير من المبنى الّذي يسكنُ فيه محمدٌ وعائلتَه، فقررَ أن يتركَ البيتَ وكأنَّ القدرَ يدفعُه دفعًا إلى قدرِه، اعتقدَ أنَّ منزلَ ذويه آمِنٌ، لذلك حملَ بعض الثيابِ والأوراقِ المهمةِ وطفلينِ يرفضانِ تركَ المنزلِ فهو عالمهم الخاص…
فهنا غرفةُ ألعابِهما وهنا الشرفةُ التي يراقبانِ من خلالها شجرةَ صفصافٍ تنمو بسرعةٍ وعلى ذلك الكرسيِ رسمتْ ليمار لوحةً فيها شجرةُ زيتونٍ مثمرةٍ وفي تلك الزاويةِ أحرقَ جلالُ طرفَ سجادةٍ مصنوعةٍ بنولٍ يدوي.
أقنعهما محمد بأنهما سيعودانِ إليه بعد عدةِ أيامِ… أغلقَ بابَ المنزلِ ومضى.
إدلب، يومُ الخميسِ 26 آذار/ مارس 2015
بيتُ أهلِ محمدٍ بلا روح، لقد أخذَ أخوه براء الفتى المراهق معه روحَ المكان، اعتقلتُه قواتُ الأمنِ بتهمةِ التظاهرِ السلمي، مضى على اعتقالِه أربع سنوات، فأصبح البيتُ بلا ابتسامات.
إدلب، يومُ الجمعةِ 27 آذار/ مارس 2015 يومُ الحادثةِ
بعد انقطاعِ كُلّ وسائلِ الاتصالِ توقفَ سيلُ المعلوماتِ التي كانت تنتقلُ من الأفواهِ إلى الآذانِ بطريقةٍ جنونيةٍ…
بعضهم يقولُ إنَّ فلولَ النظامِ بدأتْ تغادرُ المدينةَ بعد أن دخلَ الثوَّارُ من جهةِ الغربِ فاتحين لهم ثغرةً شرقًا.
لم تقمِ الصلاةُ… خافَ الناسُ فهي المرَّةُ الأولى التي تغلقُ فيها أبوابَ المساجدِ في يومِ الجمعةِ… تلاشى الخوفُ مع سماعهم صوتَ تكبيرٍ قادمٍ من بعيد.
محمد لم يشاركْ في أيِ معركةٍ لكنَّه شعرَ بالنصرِ، لم يشعرْ بالخوفِ من الحناجرِ التي صرختْ “الله، سورية، حريةَ وبس” لكنَّه خافَ من انتقامِ آليةٍ عسكريةٍ حكمتْ البلدَ نصفَ قرنٍ بالحديدٍ والنارِ.
لذلك قررَ في صباحِ الغدِ أن يلحقَ بأهلِ زوجتِه الّذين نزحوا إلى قريةٍ قريبةٍ محررةٍ بسبب مضايقاتِ العسكرِ ومن سموا بالشبيحةِ.
في الساعةِ التاسعةِ مساءً لم تطحنْ أسنانُ من في البيتِ أيَّ شيء ولم تتبللْ بكأسِ شايٍ أو حتى ببضعِ قطراتٍ من الماءِ، الكُلُّ أصابهم الخوفُ والوجومُ والنفسُ المسدودةِ كطرقِ الوطنِ.
الحقائبُ جاهزةٌ والكَلّ ينتظرُ الصباحَ للمغادرةِ، نامَ جلال وليمار في غرفةٍ داخليةٍ بعيدةٍ عن الشارعِ وعن الخطرِ كما تهيأ لمحمدٍ.
الساعةُ الحاديةَ عشرة ليلًا، لم يغمضْ لمحمدٍ جفنٌ، انتصبَ واقفًا وراحَ ليطمئنَ على أطفالِه، قبَّلَهما، غطاهما وعادَ إلى فراشِه.
استلقى وسمحَ أن يلتقي جفناه بعضهما مع بعض وما هي إلا دقائقَ حتى أحسَ أنَّه سقطَ من سريرِ أخيه براء الّذي ينامُ عليه، اعتقدَ أنّه يحلمُ بالقيامةِ، شعرَ بألمٍ شديدٍ في ذراعِه الأيسر، ارتجفَ ونهضَ قائمًا، فتحَ عينيه، لم يرَ شيئًا، غبارٌ كتمَ أنفاسه، تلمَّسَ السريرَ باحثًا عن زوجته، خرجَ منها صوتٌ ضعيفٌ:
محمد، ما الذي جرى؟ وقفزتْ صارخةً: جلال… ليمار
أسرعَ محمد إلى خارجِ الغرفةِ وجدَ أمامَه ركامًا، شعرَ ببردٍ مفاجئ، نظرَ إلى الأعلى، رأى النجومَ، صاحَ:
أين سقفُ البيتِ؟
ركضَ باتجاهِ والديه وولديه، تسلَّقَ أكوامَ الحجارةِ وهو ينادي من أعماقِه ذلك الصوتَ الّذي يحررُ الروح:
جلال، ليمار، أمي، أبي
نسي تفاصيلَ بيتِ أهلِه الّذي عاشَ فيه طفولتَه وصِباه، فكَّرَ أين أنا الآن؟
أين غرفةُ الأولادِ؟ أين غرفةُ أمّي وأبي “الركامُ مسحَ ذاكرتَه”.
سَمِعَ أنينًا خافتًا جدًا، قادتَه أذناه ناحيتَه، الأنينُ صارَ أوضح، إنَّه قادمٌ من أسفلِ قطعةٍ كبيرةٍ سقطتْ من السقفِ، حاولَ رفعَها فوجدَ يدَ أمِّه تنادي: أنا هنا…
بدأ هو وأبوه بإزالةِ الركامِ من فوقِها إلى أن وصلا إليها….
قال بصوتٍ مبحوحٍ: هل ماتتْ؟
وضعَ يدَه التي ترتجفُ كيَد كهلٍ على رقبتِها ليتحسسَ نبضَها الضعيف.
حملها إلى الغرفةِ الوحيدةِ التي ما زالتْ قائمةً على أعمدتِها ورأى على ضوءِ قمرٍ يخجلُ مما يفعلُه البشرُ جرحٌ غائرٌ يبدأُ من جبهتِها وينتهي خلفَ رأسهِا، صرخَ:
“يا الله” فسمعهَا الثَّقَلان…
نداءُ زوجةِ محمدٍ أين أولادي أعادَه إلى المشهدِ.
عادَ إلى الأنقاضِ ليبحثَ عن ولديه، نادى على من تجمهرَ أمامَ البناءِ من علوِ طبقتين: هل رأيتم أولادًا سقطوا من الشرفةِ؟
الساعةُ الثانيةَ عشرة ليلًا، صعدَ أحدُ الجيرانِ باكيًا على بقايا درجِ البناءِ
بحثَ طويلًا حتى وجدَ طرفَ غطاءٍ بنيِّ اللونِ، نادى على محمدٍ الّذي انكمشَ على نفسِه وبدا فاقدًا تركيزَه، شعرَ محمدٌ بدفءِ هذا الغطاءِ فأيقنَ أنهما هنا…
هجمَ على الحجارةِ يلعنُها ويزيلُها إلى أن وصلَ إلى جلالَ رفعه عن الأرضِ وضمه إلى صدره، حمدَ الله أنه لا يوجد في جسده أيَّ إصابةٍ.
ارتفعَ صوتُ بكاءِ الجارِ، استغربَ محمدٌ، لماذا يبكي وجلالُ بخيرٍ بين يديه.
نظرَ محمدُ إلى ابنه ثانيةً فشاهدَ ما لم يشاهده في أولِ ضمةٍ، كان قحفُ رأسِه مفقودًا، وجهه يقولُ إنه نائمٌ وقفا رأسِه يدلُ على أنه ميت.
أين ليمار؟ دعا اللهَ أن تكونَ حيةً، دسَّ يده في المكانِ الّذي وجدَ فيه جلال،
كان الليلُ حالكًا ولا مجالَ للرؤيةِ، فقط عاطفتُه من يدلّه، كانت ليمارُ منكبةً على وجهِها سحبَ جسدَها النحيلَ برجاءِ من انقطعَ رجاؤه
خاطبها: ليمار…فقدتُ أخاكِ ابقي معي…
كانت نائمة كأخيها، مدَّ يده وكان أول ما قامَ به هو فحص قحف رأسِها، فقد خافَ أن تكونَ الحجارةُ التي هشمتْ رأسَ جلالَ قد هشمتْ رأسَها أيضًا.
وجده سليمًا، أدار وجهها فرأى كسرًا في جبينِها ونقطةَ دمٍ حمراءَ سالتْ من فتحةِ أنفها ووصلتْ إلى شفتِها العليا وتوقفتْ.
صدرَ صوتُ شيطانٍ من رأسِه يسألُه:
لماذا اختارَ اللهُ أولادَكَ؟
صدرَ صوتٌ آخرٌ يخبرُه أنَّ جلالَ وليمارَ دَعامِيصُ الجنة…
نظرَ إلى ليمارَ، تذَّكرَ ضَحِكاتِها التي كانتْ تملأُ أرجاءَ الدنيا عندما تخرجُ من البيتِ راكضةً على عشبِ الحديقةِ التي يطلُّ عليها منزلُهم مرتديةً رداءها الأبيضَ كأنَّها ملاكٌ نزلَ من السماءِ.
نظرَ إلى زوجتِه الثكلى وهي تنوحُ، قال لها بعينيه:
ما بيدي حيلةٌ، هذا قضاءُ اللهِ وقدرِه وأضاف:
تركَ الموتُ كُلَّ شيءٍ في جسديهما، أخذَ الروحَ فقط ورحل.
أرادَ محمد البكاءَ لكنَّه لم يستطعْ، لعلَ اللهَ منعَ عنه البكاءَ حتى يكتبَ أجرَه كاملًا غيرَ منقوص.
الساعةُ الواحدةُ ليلًا، الجميعُ في بيتِ الجيرانِ، أمُّ محمد تغطُّ في غيبوبةٍ، تستيقظُ كُلَّ عشرِ دقائقَ تستفرغُ دمًا وتعودُ إلى غيبوبتها، أصبحَ لونُها كليمونةٍ على شجرةٍ بلا أوراق، زوجُها جالسٌ بجوارِها يريدُ إسعافَها لكن أصواتَ الانفجاراتِ وانقضاضَ الطائراتِ وأزيزَ الرصاصِ يمنعه.
بقيتْ زوجة محمد ترددُ: أريدُ أولادي…حتى ظهورِ أشعةٍ زرقاءَ في الشرقِ تؤذنُ بانقضاءِ الليل.
سَمِعَ محمد الآذانَ، لم يكن المؤذنُ الشيخَ صبحي، إنَّه صوتٌ غريبٌ، توضأ وركضَ إلى الشارعِ، يريدُ أن يصلي ويحمدَ اللهَ في بيتِ اللهِ ويطلبُ المساعدةَ من المصلين…
خطرَ له أن يخبر َكُلَّ البشرِ عبر مكبراتِ الصوتِ بما حصل.
لم يكن يعلم من يسيطرُ على الحيِ، الثوارُ أم قواتُ النظامِ…
على بابِ المسجدِ رأى وجوهًا جديدةً تقعقعُ أسلحتُها قال لهم:
أمي مصابةٌ وأريد أن أدفنَ أولادي.
طأطأوا رؤوسُهم ومشوا خلفه، بدا أمامَهم مترنحًا متعثرًا في مشيه.
تناوبَ الجميعُ على حملِ الجسدين المسجيين بغطائِهم البني ونقلوهما إلى حديقةِ الحي.
فقد أشاروا عليه أنَّ الاشتباكاتَ على أشدِها في محيطِ مقبرةِ المدينة.
بحثَ محمدٌ عن شجرةِ صفصافٍ ليكون القبرُ تحتَها.
ضربَ الأرضَ بمعولٍ صدئ ٍكقلبِه وجثا على ركبتيه.
صرخ: يا رب أعطني القوةَ لأحفِرَ قبرًا لأولادي.
عاونه الناسُ… الحفرةُ صارتْ جاهزةً، صلوا عليهما ووضعوهما في القبرِ المؤقتِ وفجأة نزلَ محمد إلى القبرِ صارخًا:
أهيلوا الترابَ، لا أريدُ أن أبقى حيًا بدونهما.
اجتمعوا عليه ليخرجوه من القبرِ فرفض وبعد محاولاتٍ عديدةٍ وافق بشرطٍ أن يسمحوا له أن ينامَ على قبرِيهما ليلتَه المقبلة، ردَ الترابَ وذهبَ ليبكي جانبَ أمِّه فلا مشفى ولا طبيبًا في كُلِّ المدينة.
تضخمَ قلبُ محمد، شهيقُه العميقُ بعد كُلِّ كلمةٍ يقولُها تثبتُ ذلك.
واشتعلَ رأسُه شيبًا فهناك أرواحٌ لازمَته.
يومُ السبتِ 28 آذار/ مارس 2015
كانتْ كُلُّ مساجدِ المدينةِ تصدحُ بالتكبيراتِ لأنَّ المدينةَ تحررتْ بالكامل.
بعد مرورِ ثلاثةِ أسابيعَ على الحادثةِ، نقلَ محمد ولديه جلال وليمار من الحديقةِ إلى المقبرةِ.
عاد وزوجته إلى منزلهم بدونِ أولاد، روى لها وهو يفتحُ البابَ حديثَ رسولُ الله.
“صغاركم دعاميصُ الجنة، يتلقى أحدهم أباه فيأخذُ بثوبه فلا ينتهي حتى يدخله اللهُ وأباه الجنة”.