الصداقة والحب في الروحانيات الإسلامية

كنت أودّ التحدث عن “الصداقة” من دون التطرق إلى الحب إن كان بوسعي ذلك، لكن التمييز بين هذين المفهومين ليس سهلًا سواء باللغة العربية أم بالفارسية، لأن هاتين اللغتين العظيمتين تمثلان الحضارة الإسلامية الكلاسيكية[2]. فمن يعرف الفارسية قد يقول إن كلمة دوست تعني “صديق ودوستي تعني “صداقة”، وإن الصداقة تختلف عن الحب الذي يستخدمون معه لفظة محبة أو عشق. إلا أن هذه المقاربة تتغاضى عن حقيقة العبارة الفارسية التي تُستخدم لنقول لشخص ما “أحبك” وهي دوست دارم، والتي تعني حرفيًا: “اتخذت منك صديقًا”. ويرجع ذلك الاستخدام إلى بدايات اللغة الفارسية الحديثة، فعلى سبيل المثال، بقي الميبدي الذي أكمل تفسيره الكبير للقرآن بالفارسية في السنة 1126 ميلادية، يترجم كلمة (حب) العربية بعبارة تعني “اتخاذ الصديق”[3]. أي أن عبارة أحبك بالفارسية كانت قبل تسعمئة سنة دوستات دارم كما هي اليوم. وثمة شيء مماثل في اللغة العربية، التي تستخدم لفظة حب (أو محبة) للتعبير عن الحب، ولا تشير هذه اللفظة إلى الحب فحسب (بالمعاني الغربية التي تحملها تلك الكلمة)، بل تشمل الصداقة أيضًا. إذ يوجد في اللغتين العربية والفارسية عشرات من المفردات الأخرى المستخدمة لتدل على أنواع مختلفة من الحب والصداقة، ولكن أشمل وأشيع مفردتين استخدامًا في هاتين اللغتين تشيران إلى هاتين العلاقتين في آن معًا.

مدارس الفكر الإسلامي
مهما اختلفت اللفظة التي نستخدمها لنصف الصداقة والحب، فإننا نناقش صفات الروح البشرية، لأن الحب يتصل بحياتنا الداخلية بالضرورة، أي بمجال الحياة والوعي الذي يوصف بأنه النفس. إذ لا يهم عدد المؤشرات والمظاهر الخارجية للحب والصداقة، لأنه لا يمكن أن يُعرّف هذان المفهومان بمصطلحات تصف السلوك والنشاط. لذا، عندما نتقبل بأن الحب والصداقة يتصلان بحياة الروح بصورة رئيسة، عندها لا بد أن يتضح لنا بأن بعضًا من أشهر مدارس الفكر الإسلامي لم تجد ما تصفهما به، إلا النزر اليسير.

لعل أشهر شكل من أشكال العلوم الإسلامية اليوم، أو على الأقل أكثرها انتشارًا، هي الشريعة، أي القانون الشعائري والاجتماعي المستمد من القرآن ومن هدي النبي. إلا أن الفقهاء الخبراء بالشريعة ليس لديهم ما يقولونه -بصفتهم فقهاء- عن الحب والصداقة، لسبب بسيط هو أنه لا يمكن وضع تشريعات لهذه العلاقات، فلا توجد طريقة ممكنة لفرض قانون “حب الله” و”محبة الجار”.

أما ثاني أهم مدرسة فكرية في الحضارة الإسلامية الكلاسيكية فهي مدرسة الكلام، أو الفقه العقائدي. ولقد تحالفت مدرسة الكلام مع مدرسة الشريعة بشكل وثيق، فقد تحدثت عن الله بوصفه قادرًا على كل شيء وبأنه المشرع الأعلى الذي يتمتع بسلطة مستبدة إلى حد ما. بيد أن مدرسة الكلام لم تنكر المرات التي ورد فيها ذكر الحب في القرآن وفي أحاديث النبي، ولهذا عرّفت الحب من حيث نشاطه في ظل القانون. ويؤكد علماء الكلام بصورة أساسية على أنه من السخف القول إن بوسع مخلوقات ضعيفة وغير كاملة وجاهلة، أي البشر، أن تقيم علاقة حب مع الله تعالى أو إنه يمكن لله القادر على كل شيء أن تربطه علاقة بنا غير تلك التي يملي علينا من خلالها ما يجب علينا أن نفعله. بالمختصر، وبحسب ما يراه علم الكلام، فإن محبة الله لنا تتجلى من خلال تعاليمه وأوامره التي وجهها إلينا، أما حبنا لله فيتمثل في إطاعة أوامره. أي أن تفسير مدرسة الكلام للحب يسيء إلى معنى هذه الكلمة، ولهذا تعرضت هذه المدرسة لانتقادات علماء آخرين في أغلب الأحيان. ولكن على أي حال، عدّل علماء الكلام نظرتهم للحب في عصر الغزالي، أي في القرن الحادي عشر، حيث جعلوه أكثر انسجامًا مع التجربة الفعلية للحب بوصفه يمثل حضورًا يخلق حالة تحول في الروح[4].

كما يوجد تياران آخران أساسيان في العلوم الإسلامية، ظهرا في الوقت ذاته الذي ظهرت فيه مدرسة الشريعة وعلم الكلام، إلا أنهما أوليا اهتمامًا كبيرًا بالحب والصداقة، أحدهما تيار الفلسفة، الذي سار علماؤه على خطا أرسطو وأفلاطون، حيث خرجوا بعلوم متطورة حول الأخلاق، وأناطوا بالصداقة دورًا بارزًا، لأنها من الفضائل التي يحبها أرسطو. لكن يجب ألا ننسى أن الفلسفة كانت وقتها -كحالها اليوم- مشروعًا للنخبة، فقلة قليلة من الناس درست دقائق الفلسفة، أو حتى تعرفت بشكل فعلي على ما كان الفلاسفة يقولونه، وينطبق الأمر ذاته على الفقه العقائدي. أما التيار الثاني المعروف بالصوفية، فيركز على الاكتمال الأخلاقي والروحاني، ويهدف إلى تحقيق تحول عميق في جوهر الروح البشرية، عبر تغيير الطريقة التي نرى من خلالها أنفسنا والعالم.

وبخلاف الفلسفة والفقه العقائدي، وصلت الصوفية إلى المسلمين جميعًا بكل سهولة، فقد كتب أساتذة الصوفية كثيرًا من المؤلفات عن فكرهم بكل وضوح، كما أسسوا مدارس ومراكز تعليم، وألقوا الخطب في المساجد. والأهم من ذلك، كان أعظم شعراء الحضارة الإسلامية من أساتذة الصوفية في الغالب، وقد أتت الشهرة الواسعة لأشعارهم عبر تغنيهم بالحب، بوصفه موضوعًا للوله الدائم بين بني البشر. ومن أشهر شعرائهم في الغرب الرومي، الذي كان قاصًا بارعًا، ومن أعظم أساتذة الروحانيات في الإسلام. وقد تجاوز ألق الرومي -كغيره من الشعراء الصوفيين- حدود العالم الفارسي، ليصل إلى البلقان عبر تركيا وإيران وآسيا الوسطى وشبه الجزيرة الهندية. كما نذكر من بين الصوفيين الناطقين باللغة العربية، الشاعر الصوفي المصري ابن الفارض الذي توفى عندما كان الرومي شابًا، ولقد أدى هذا الشاعر الدور ذاته في تأكيد أهمية الحب بوصفه المفتاح الأساس للعلاقات البشرية والإلهية برمتها.

الحقيقة الواحدة
إذا أردنا أن نفهم دور الحب والصداقة في الروحانيات الإسلامية، علينا أن نبدأ حيث بدأ أساتذة الصوفية بحكم العادة، أي علينا أن نبدأ من الله. إذ تسلّم الروحانيات الإسلامية والقرآن، المرتكزان الوحيدان للفكر الإسلامي كله، بوجود الله لكنهما تشككان في كل ما سواه، ما يعني أن اليقين الوحيد المتمثل بالله هو الشيء الحقيقي، أما عالم البشر فهو عالم ضبابي وغامض، لا يمكننا أن نتبين الأمور فيه، إلا من ناحية واحدة، هي وجود الحقيقة الصادقة دومًا. وبالمقابل، نجد أنفسنا حاضرين أحيانًا وغائبين في أغلب الأحيان، أي أن وجودنا أمر جديد، بأي مقياس للكون، لأنه يبقى فترة قصيرة، في حين تعزى الديمومة لله، وليس لنا. وكذلك العلم الذي يرجع لله وليس لنا، ثم إن كل ما نملكه يعود لنا في الوقت الحالي، ولكن ليس بالأساس.

يمكن صوغ تلك الأفكار بلغة الفكر الإسلامي التقليدي عند القول إن الحقيقة التي تُستمد منها الحقائق كلها تتمثل بالحقيقة المطلقة وهي تمثل الحقيقة الصادقة الوحيدة. ولنصوغ ذلك بعبارة أبسط، يمكن القول إنه لا توجد حقيقة صادقة خلا الله، وعبّرت عن هذه الفكرة أربع كلمات موجزة باللغة العربية تمثل القاعدة الأساسية في القرآن، وهي: “لا إله إلا الله”، أي أن كل شيء خلا الله، باطل، لأننا نمثل شيئًا حقيقيًا في بعض الأحيان، أما في أغلب الأحيان، لا نمثله. وهنا يأتي السؤال المهم: من أي ناحية من النواحي نمثل الحقيقة، ومن أي ناحية لا نمثلها؟ وأول ما تُطرح تلك القضية باستخدام هذه المصطلحات، عندها يتضح لنا بأن الغاية من حياة البشر يجب أن تُختصر بالبحث عن الحقيقة الصادقة، ونبذ الحقيقة الزائفة. وهنا قد يقول قائل إن التراث الروحاني يرى أن هذه العملية التي تنطوي على بحث عن الحقيقة يطلق عليها اسم “الحب”، ولفهم السبب الذي جعل هذه التسمية ملائمة، علينا أن نبحث في أربع قضايا أساسية: الحب بوصفه حقيقة إلهية، والحب بوصفه صورة بشرية للحقيقة الإلهية، واكتمال الحب، والطريق الذي يؤدي إلى ذلك الاكتمال.

الحب بوصفه حقيقة إلهية
تتحدث آيات قرآنية كثيرة عن محبة الله لأشخاص بعينهم، كما يتحدث قسم منها عن محبة هؤلاء الأشخاص لله، ومحبتهم لأمور أخرى أيضًا، أي أن القرآن يوضح أن المحبة متبادلة بين الله والبشر، وأشهر آية قرآنية يُستدل بها في معرض أي نقاش عن هذا الحب والتي توضح بدقة هذا المعنى هي الآية رقم 54 من سورة المائدة والتي جاء فيها: “يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ”.

إن كان الله هو الحقيقة الصادقة الوحيدة وكل ما عداه عبارة عن خليط ضبابي وغامض من الحق والباطل، فهذا يعني أن صفات الله صادقة وحقيقية، في حين أن الصفات نفسها التي تعزى لأي شيء آخر غامضة ومؤقتة. لذلك، عندما يحكي أحدهم عن حب الناس، فإن هذا الحب يتضاءل بصورة كبيرة عند مقارنته بحب الله، كما أنه من السهل تشتيت حب الناس وتضليل وجهته، ولقد ألمح القرآن مرات عديدة إلى تلك الحقيقة التي ترى أن كل ما يحبه الناس غير الله لا بد أن يخيب ظنونهم.

خير ما يشرح حقيقة محبة الله التي تتناقض مع بطلان حب البشر هي المصطلحات التي تُستخدم مع صيغة الوحدة الإلهية، والتي تختصر بعبارة: “لا إله إلا الله”، فالله يحب الناس، إذن فهو محب، وحبه صادق وحقيقي، إلا أن محبة أي شيء آخر ليست كذلك، وتأتي بعد ذلك الفكرة التي تقول إنه لا محب حقيقي خلا الله، ثم إننا نعرف أن الله موضوع الحب، إذن، لا يوجد محبوب حقيقي خلا الله، أي بالمختصر، يمثل ذلك كله الموقف الأساس للقرآن والروحانيات الإسلامية تجاه الله والحب، إذ في الحقيقة وفي التحليل النهائي، يتبين لنا بأن الله وحده المُحبّ، والله وحده المحبوب، والله وحده الحب.

إضافة إلى ذلك كله، يمثل الحب حقيقة الله الأبدية، لأنه لا يتغير، ثم إن الله محب ومحبوب خارج الزمان، أكان هنالك كون أم لم يكن، ومن خلال وحدته، يحب الله نفسه، لعدم وجود شيء آخر يحبه، فلقد ألمح النبي إلى محبة الله لنفسه في حديث شهير جاء فيه: “إن الله جميل يحب الجمال”، وبما أن جمال الله أبدي، فهو يحب نفسه إلى مالا نهاية.

فإن بدا ذلك كله شبيهًا بالأنانية، فهو المقصود من هذه الفكرة بالضبط، لأنه لا توجد إلا حقيقة صادقة واحدة، وذات صادقة واحدة (كما يحب كتاب الأبانيشاد[5] أن يذكرنا دومًا). فعندما كلم الله موسى، كما ورد في القرآن، من شجرة كانت تحترق، قال له: “لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا”، أي بمعنى أصح، لا توجد “أنا” صادقة وصحيحة سوى الأنا الإلهية، أي لا توجد ذات صادقة إلا الذات الإلهية.

الحب بوصفه صورة إلهية
عندما ندرك أن الله هو الحب وأنه يحب نفسه، علينا أن نتساءل: كيف يسبغ الله حبه علينا؟ ولماذا يحب الله البشر؟ ورد الجواب الشافي في القرآن من خلال الفكرة القائلة إن الله من خلال محبته لجماله، يحب كل جمال ممكن أيضًا، لأن كل جمال ممكن هو ببساطة ارتداد لجماله اللانهائي أو انعكاس له. وعبر محبة لله لنفسه، يحب أيضًا أنواع الجمال الفاني التي تظهر نتيجة إبداعه اللانهائي. وتمثل أنواع الجمال الفاني كل شيء خلا الله، أي الكون برمته، بكل ما فيه من امتداد وتوسع في الزمان والمكان، وهذا ما عبر عنه القرآن في سورة السجدة في الآية السابعة منها: “الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ”. وبما أن الله يحب الجمال، وبما أن كل شيء خلقه الله جميل، فهو يحب كل شيء.

ولكن ليس كل ما خُلق من الجمال على سوية واحدة، ولهذا فإن أجمل المخلوقات هي التي تبدي جمال الله إلى أقصى درجة ممكنة. ولقد وصف القرآن صفات الله في آيات عديدة من خلال: “أسماء الله الحسنى”. إذ كما ورد في العهد القديم من الكتاب المقدس، فقد ذكر النبي بأن الله خلق آدم على صورته، وهذا ما ورد في القرآن في سورة التين، الآية الرابعة: “لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ”، أي بأحسن هيئة ممكنة لتعكس أسماء الله الحسنى كلها. وعليه يصبح الإنسان أجمل المخلوقات، لأنه خُلق على صورة الله، وهذا يفسر لنا سبب عدم ذكر القرآن بشكل صريح لمحبة الله لأي شيء آخر غير البشر.

يمكن تلخيص التعاليم الأساسية للقرآن حول البشر بآيتين: أولهما: “يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ” (سورة المائدة، الآية 54)، وثانيهما: “وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا” (سورة البقرة، الآية: 31)، فالله يحب البشر لأنهم أجمل المخلوقات، وعندما خلقهم على صورته الجميلة، وهبهم فَهْمَ الأسماء كلها، بما فيها أسماؤه الحسنى. وما يميز البشر عن بقية المخلوقات ليس جمالهم التام فحسب، بل قدرتهم التي وهبهم الله إياها على تمييز الأسماء وحقائق الأمور، ومن ثمّ قدرتهم على تبين الجمال أنى رأوه.

وتمامًا كما يحب الله الجمال، كذلك يفعل من خُلقوا على صورته، فالبشر يعشقون الجمال فور تبينهم له، كما سبق أن تعلموا الأسماء كلها، أي لديهم القدرة على تمييز الجمال في كل شيء، بما أن كل اسم يحدد شيئًا من الجمال المخلوق، ولديهم القدرة أيضًا على تبين أسماء الله الحسنى كلها، وعلى محبة الله تبعًا لكل اسم من أسمائه وكذلك تبعًا لتلك الأسماء بأكملها، أي بالقدر الذي تشير فيه تلك الأسماء مجتمعة إلى الله بذاته.

بالمختصر يمكن القول إن الله يحب البشر، فقد خلقهم على صورته، وعلمهم الأسماء كلها، إلا أن القرآن يُدخل هنا أحد المحاذير وهو أن البشر عمومًا لا يسترجعون معرفتهم الفطرية بالأسماء كلها، ولا يتصرفون بما يتماشى مع جمال أسماء الله وجمال صورته. فقد خلق البشر على هيئة جميلة، لكنهم لا يرتقون إلى مستواها، فيأتي قبحهم مساويًا لدرجة عدم وصولهم إلى مستوى تلك الهيئة، لأن الله لا يحب القبيحين.

وهنا يظهر سؤال مهم وهو: إن كان الله يحب كل شيء، فلم لا يحب القبيحين؟ وثمة إجابات كثيرة عن هذا السؤال، ولكن للتعاطي مع هذا السؤال، يمكن أن نقول إن القبح ليس شيئًا حقيقيًا، إنما يعني عدم وجود الجمال، وثمة طريقة أخرى للرد على هذا السؤال عبر التمييز بين نوعين أساسيين للحب، حيث يعرف النوع الأول باسم الرحمة، التي تترجم إلى mercy أو compassion باللغة الإنكليزية. والرحمة اسم مجرد مشتق من اسم جامد هو الرحم. وأوضح الأمثلة على الحب القائم على الرحمة على المستوى البشري هو حب الأمهات الذي تحدث عنه النبي في أحاديث كثيرة، وذلك لأن الأمهات يتمنين أن يتصرف أولادهن بشكل جميل، وأن يبتعدوا عن القبح، كما يثنين على أولادهن عند قيامهم بتصرف حسن، ويوبخنهم عندما يسيئون التصرف، من دون أن يقطع ذلك محبتهن لهم. أما النوع الثاني فهو الحب الإلهي الذي يتوافق مع جمال الإنسان أو عدمه، وسأعود لأشرح هذه الفكرة بعد قليل.

لكن في البداية من الضروري أن نفهم ما المقصود بالجمال والقبح البشري، لأن ذلك لا يشير إلى سمات جسدية، بل إلى سمات أخلاقية وروحية، أي ما يتصل بالصفات الداخلية للروح. وقد أورد القرآن بعضًا من تلك الصفات في الآيات التي تحدثت عن أشخاص يحبهم الله، كالمؤمنين، والمحسنين، والمتوكلين على الله، والمقسطين. كما ذكر القرآن الأشخاص الذين يتصفون بخصال قبيحة، كالآثمين، والمعتدين، والمغرورين، والمتكبرين، وأعلن بصراحة أن الله لن يحب هؤلاء طالما بقيت تلك الخصال ملازمة لهم.

ومن خلال هذه النظرة للطبيعة البشرية، خلق الله البشر على أحسن صورة، لكنه وضعهم بعد ذلك في موقف يخفي صورتهم، وحتى يظهر الجمال الفطري للصور الإلهية التي خلق الله البشر عليها، يتعين على البشر أن يوظفوا إرادتهم الحرة لتحقق أفضل نتيجة، وبقدر ما يظهر عليهم من جمال، تكون محبة الله لهم ولكنها تظهر مع محبة أخرى، تُسبغ على المحبة التي فُطر عليها الناس بالأصل.

عندما ندرك أنه يجب على الناس أن يفعلوا شيئًا حتى يبدو الجمال عليهم، يظهر السؤال الآتي: ما الذي يجب عليهم أن يفعلوه على وجه التحديد؟ وهنا نكتشف من خلال النظرة القرآنية بأن الناس نسوا صورتهم الجميلة والمحبة التي ترافقها، ولهذا أرسل الله الرسل إليهم بسبب هذا النسيان، فبلغ العدد الكامل لهؤلاء الرسل والأنبياء 124 ألفًا، وقد حمل الرسل كلهم رسالة واحدة وهي تذكير الناس بما نسوه، وتعليمهم كيف يحبون الله وكيف يستعيدون جمالهم الفطري.

تعاريف الحب
لم يُعرّف الحب بشكل صريح في التراث الإسلامي، إلا أن معظم النصوص الإسلامية التي تدور حول الحب تؤكد بأنه لا يمكن أن يُعرّف. أما بالنسبة للجمال، فقد شرحه التراث الإسلامي على أنه: “ما يجذب الحب”، وبذلك يبقى الجمال بلا تعريف أيضًا.

إن أي محاولة لتفسير الحب وتعريفه مصيرها الإخفاق، وبوسع أي شخص ذاق طعم الحب أن يقدر ذلك، لأن هنالك شيئًا أساسيًا يتصل بالحب لا يمكن تفسيره، لذا، وبدلًا من محاولة تعريفه، وصف المتصوفة والفلاسفة وغيرهم من العلماء صفات العشاق، فسماها بعضهم “أعراضًا” بعدما ربطوا الحب بالمرض. وعندما يقول الرومي إنه يجب عليك أن تحب حتى تفهم الحب، فإنه يذكّرنا بأن الحب غير قابل للتفسير، وعندما يقول إن بوسعه الحديث عن الحب إلى يوم البعث، فإنه يعني أن بوسعه الحديث عن أمارات الحب وأعراضه إلى الأبد[6].

إن من يتحدثون عن الحب عمومًا يتفقون على أن السمة الأساسية للحب هي الرغبة في بلوغ القرب، فالعاشقان يرغبان أن يكونا معًا، لا مفترقين، لأن القرب ممن تحبه سعادة، والبعد عمن تحبه تعاسة، أي أن هدف الحب باختصار هو: “الاتحاد” وهذا يعني اجتماع الشخصين وتحولهما إلى شخص واحد. أما على المستوى الجسدي، فيمكن أن تشير كلمة “الاتحاد” إلى الفعل الجنسي. إلا أن أغلب الناس يعرفون أن الإشارة إلى الجنس على أنه “حب” ما هي إلا استعارة في أحسن أحوالها، لأن الحب الحقيقي ينطوي على قدر كبير من الأمور التي تفوق الاقتران الجسدي فحسب.

كما يعلمنا القرآن أن الهدف من حياة البشر هو الفوز بالقرب من الله، فالناس بعيدون عن الله لأنه يمثل شيئًا وهم يمثلون شيئًا آخر، فهو الخالق، وهم المخلوقات، إلا أنه خلق البشر بدافع محبته لهم، والخلق يعني إسباغ الوجود، وكان الله يعرف مسبقًا بأنه يحب الناس قبل أن يخلقهم، أي أنه أحبهم منذ الأزل. ولكن ذلك يمثل حبًا من طرف واحد، لأن الناس لم يكن لديهم أي وعي أو إدراك بكيانهم كأفراد. لكن الله خلقهم حتى يشاركوه سعادة الحب. فكما قلت سابقًا، يمثل الحب الرغبة في الاتحاد والتجمع، لذا عندما منح الله البشر صفة الوجود على صورته، فإنه منحهم الرغبة في التجمع والاتحاد والوحدة.

يمثل التوحد مع الله الحالة الأصيلة للبشر قبل أن يوجدوا. فقد كان الناس، في عالم الغيب أو ما قبل الوجود، مجرد احتمالات ولم يكونوا أمورًا محققة. وأول ما أتوا للوجود، بدأوا يشعرون بإحساس الفراق الذي تسرب إلى وجودهم، ومن هنا بدأت رغبتهم في التوحد بالظهور. أي أن الفراق يؤدي دورًا مهمًا في النقاشات كلها التي تدور حول الحب، إذ من دونه لن توجد الرغبة في التوحد، ولهذا بدأ الرومي أول شطر من أبيات قصته الملحمية حول الحب والمحبين، أي المثنوي (المؤلفة من 25 ألف بيت) بما يلي:

أنصت إلى الناي يحكي حكايته..

ومن ألم الفراق يبث شكايته

فحكاية الحب كما يرويها الشعراء والعشاق هي حكاية فراق وسعي وراء التوحد، فقد أدرك البشر بعدما أتوا إلى الوجود وتحولوا إلى أفراد، أنهم موجودون بعيدًا عن الآخرين كما أدركوا رغبتهم في التوحد، ثم عرفوا أنهم لا يملكون ما يريدونه، وبأن الحب يدفعهم إلى البحث عما يريدون.

ولكن ما الذي يريده الناس بالضبط؟ يعيدنا هذا السؤال إلى صيغة الوحدة، أي عدم وجود محبوب حقيقي خلا المحبوب الإلهي، فالناس يظنون أنهم يريدون هذا أو ذاك، لكنهم في الحقيقة عندما يحبون الأشياء، فإنهم يحبون صفات الله، كالجمال والكرم واللطف. ثم أن ما يجعل الحب البشري إشكاليًا هو عثور الناس على تلك الصفات في أشياء سريعة الزوال، وهنا يقول الرومي إن الجمال الذي ندركه ونحبه في الأشياء والأشخاص ما هو إلا قشرة ذهبية، لأن الشيء الوحيد الذي بوسعه أن يرضي توق البشر للجمال يكمن في مصدر الذهب ذاته، وهذا ما كتبه الرومي في فقرة رائعة عندما قال: ” الرغائب والمحبات والشفقات والمودات كافة التي لدى الخلق ويحسونها تجاه المخلوقات الأخرى كالآباء والأمهات والأصدقاء والسموات والأرضين والحدائق والأواوين والعلوم والأعمال والمطاعم والمشارب كل هذا ما هو إلا رغبة في رؤية الحق وتلك المرغوبات كلها ما هي إلا حُجب”[7].

والسبب الذي يجعل من كل ما نحبه مجرد حجاب هو أن تلك الأشياء كلها هي عبارة عن مخلوقات، وليست بخالق، والأشياء المخلوقة تحجب الخالق، ولكنها تكشف أسماء الله وصفاته الحسنى أيضًا، أي أنها تؤدي دورًا مهمًا وضروريًا في عملية الحب. فيرى الرومي مثلًا أن الله يمنحنا أنواعًا متباينة من الحب والرغائب، للسبب ذاته الذي يدفع الجندي لإهداء ابنه سيفًا من خشب، لأن الناس يجب أن يتعلموا كيفية الحب، وهذا بالنهاية يعني أن عليهم أن يتعلموا ما يحبونه بشكل حقيقي، وكلما سارعوا إلى معرفة الفرق بين القشرة الذهبية والذهب بحد ذاته، تمكنوا من الاستغناء عن السيوف الخشبية بصورة أسرع، كما يرى الرومي بقوله: “في الإنسان عشق وألم وطلب وطموح بحيث لو ملك مئة ألف عام ما استراح وسكن؛ ويظهر هذا الخلق بالتفصيل في كل صنعة وحرفة ومنصب وتحصيل للفلك والطب وغيرهما ولا تسكن ثائرته؛ لأنه لم يحصل على ما يقصد، ألا يسمى المعشوق (سكون القلب)؛ لأن القلب يسكن ويستريح به إذن فلا يهدأ بغيره. وهذه الرغائب والمقصودات كلها كالسلم، وبما أن درجة السلم ليست محل الإقامة والتوطن، وإنما للعبور، فما أسعد ممن استيقظ ووقف وعلم بعمل حتى يقصر أمامه الطريق الطويل، ولا يضيع عمره على هذه الدرجات التي للسلم”[8].

اكتمال الحب
إن هدف الحب والصداقة بالنسبة للحبيبين أو الصديقين هو أن يكونا معًا، من دون أن يفترقا. وهنا لا بد أن يتضح بأن حالة الاتحاد هذه ليست جسدية، حتى في العلاقات الشخصية، بل إنها حالة انسجام وتناغم مع الطبيعة بصورة غير مرئية، وهي صفة يصعب تفسيرها كونها تجتذب شخصين، ويمكن للنشاط الملائم أن يعززها ويغذيها ويرعاها، بالرغم من عدم وجود ما يضمن بقاءها.

عندما ترغب في أن تحقق حالة توحد مع شخص آخر، فمن الأساليب المتبعة للقيام بذلك هو أن تفعل ما يحبه. وأن تبذل نفسك لأجل صديقك أو محبوبك، وليس من أجلك. فلو تصرفت لمصلحتك الشخصية، فهذا ليس حبًّا للآخر، بل حبًّا لنفسك. وإن أحببت شخصًا حتى تحقق مكانة أو ثروة أو غير ذلك من الصفات والخصال المحببة، فإنك تحب الخصلة لا الشخص.

وكذلك الأمر مع الله، فعندما ترغب في أن تصبح صديقًا لله أو محبوبه، فإنك تفعل ما بوسعك لتحقق حالة الانسجام. أي أنك تفعل الأمور كما يريدها محبوبك، أما تقديسك لله وأنت تضع مصلحتك نصب عينيك فلا يستحق أن يسمى حبًا. لأن الرغبة في التوحد تتطلب إليك إخضاع نفسك، لأن النفس هي سبب الازدواجية والفرقة. وكلما جاء الخضوع مكتملًا، اكتملت حالة الحب.

وفي حالة المحبوب الإلهي، تمثل حالة التوحد الوضع الأساسي قبل أن نأتي إلى الوجود، وتمثل أيضًا الهدف النهائي للحب. ولكن هنالك فرق أساسي بين البداية والنهاية، فقبل أن نفترق، لم نكن ندري أننا كنا مجتمعين، ولهذا يتطلب الاكتمال النهائي وعيًا كاملًا بحقيقة الفرقة، وعندها فقط يمكننا أن نستوعب معنى الاتحاد وأن نقدره حق قدره.

وفي السياق الإسلامي، من الواضح أن الله -بوصفه العاشق الحقيقي الوحيد- لا يضمر أي دافع خفي، أي بمعنى أصح، يمكن القول إن الله غني إلى ما لا نهاية، ولن يحقق شيئًا لنفسه عندما يحب الآخرين ويأتي بهم إلى الوجود، لأن الآخرين ينالون فيضًا من وجود الله اللانهائي، ويستفيدون منه، بينما لا يستفيد هو منهم، أي أن حبه عبارة عن هبة مجانية، لا تحدها أي قيود.

وبصرف النظر عن تفاصيل الطريقة التي تربط بين الله والبشر، ليس صعبًا جدًا علينا ملاحظة النقطة الأساسية في النقاشات حول المحبة الإلهية والبشرية، في الروحانيات الإسلامية على الأقل، والتي ترى أن محبة الله للبشر محبة غير مشروطة أبدًا، وأن الهبة التي يهبهم إياها هي نفسه، فلقد خلقنا الله على صورته، التي تشتمل أسماءه الحسنى كلها. ثم إننا بالأصل نتمتع بجمال رباني داخلنا، ولذلك فإن شوقنا للعودة إلى حالة الوحدة الأصلية يظهر بالتزامن مع شوق للعودة إلى ذواتنا الحقيقية. وتمثل ذواتنا الحقيقية الصور الربانية الفريدة المتمثلة بكل فرد منا. إذ ترى إحدى وجهات النظر حول هذا الموضوع أن هدف الحب هو تحقيق حالة توحد مع الله، فيما ترى وجهة نظر أخرى أن الهدف هو قهر حالة تشرذم الذات وتشتتها، أي حالة الألم والمعاناة والفوضى والتبعثر والتنافر التي يتسم بها وجودنا بصورة يومية.

التحول الأخلاقي في الحب
يشير معظم الصوفيين والفقهاء من بعدهم (من أمثال الغزالي) إلى العملية المزدوجة لصيرورة المرء مع الله واندماجهما ضمن ذات المرء الحقيقية بوصفها “صيرورة تتسم بسمات شخصية الله” (أي التخلق بأخلاق الله). فالله يحب الجمال، لكنه لا يحب القبح، وتنشأ هذه الصفة حصرًا بسبب النسيان والأنانية في الروح البشرية. وإذا أردنا لأنفسنا أن نصبح موضوعًا لحب الله، فعلينا أن ننبذ صفات القبح الشخصية التي تحجب جمال الروح الفطري. بيد أن أسماء الله حددت سمات الشخصية الجميلة، ومن تلك السمات نذكر العطف والعدل والكرم والغفران، وغيرها، وتمثل إجمالي تلك السمات صورة الله بتفاصيلها كلها، وتحويل تلك الصورة إلى واقع يعني تحقيق حالة توحد للمرء مع ذاته الحقيقية، ما يعني في الوقت ذاته تحقيق حالة توحد مع صفات الله التي تتسم بالجمال.

يمثل الجدل حول الكمال البشري الذي يتحقق عبر التخلق بأخلاق الله نقطة من النقاط التي تتقاطع عندها الروحانيات الإسلامية مع الفلسفة، فيناقش الفلاسفة المسلمون الصداقة عبر طرح فكرة اكتمال الفكر العملي، الذي يُعدونه نقيضًا للفكر النظري. إذ يطبق الفكر العملي الرؤية النظرية على مجال النشاط، في حين يناقش الفلاسفة مبادئ الرؤية العملية بوصفها “أخلاقًا”. وقد استخدم الصوفيون والفقهاء كلمة الأخلاق نفسها على حد سواء. ما يعني أن الصداقة/الحب في النقاش الفلسفي تشير إلى إحدى السمات الأخلاقية الفطرية المتأصلة في الروح، إلا أنها تتطلب طرائقًا وأساليب متعددة حتى تتفاعل مع الآخرين، غير أنها لا تتحقق بشكل كامل إلا عندما تحقق الروح حالة كمال فكري بما أن تلك الحالة تُعد هدف التدريب الفلسفي. ومن المفردات التي يستخدمها الفلاسفة لتحديد حالة تحقيق هذا الهدف، كلمة تألُّه (المشتقة من الأصل الله)، وهذه الكلمة تعني: “تشوه، انحراف”، أي حالة تحقيق تحول الفرد إلى صورة الله، أي بمعنى أدق، تعتبر كلمة تأله رديفة لعبارة التخلق بأخلاق الله، أي صيرورة المرء عندما تتمثل شخصيته سمات الله”.

بالمختصر يمكن القول إن “الصداقة” التي اعتبرها الفلاسفة المسلمون من أرقى الفضائل التي تتحلى بها الروح البشرية هي الخصلة الربانية ذاتها التي تحدث عنها المتصوفة ووصفوها بأنها أرقى ما تمارسه الروح. لكن لا يعني أن المتصوفة لم يهتموا كثيرًا بحاجة هذه الفضيلة إلى التوسع حتى تشمل الناس كلهم، لأنهم اقتدوا بسنة النبي ورحمته للعالمين. فلقد شدد الفلاسفة (خاصة خلال المراحل الأولى) بصورة كبيرة على الأخلاق في التعامل ما بين البشر، وقد يعود سبب ذلك إلى عدم وجود ميل لديهم للحديث عن الفضائل عبر الإشارة بشكل صريح للقرآن والحديث، بما أن الله والنبي يمثلان محور النقاش على الدوام.

طريق الحب
من خلال هذه الصورة حول الوضع البشري، عندما يدرك الناس أن الموضوع الحقيقي لحبهم هو الله، يتعين عليهم أن يبذلوا جهدًا ليتخلقوا بأخلاق الله الجميلة. لذلك يجب عليهم أن يتبعوا هدي النبوة، لأن الأنبياء يعلموننا كيف نحب. وبالنسبة إلى من يخاطبهم القرآن، فإن ذلك يعني اتباع النبي محمد الذي وصفه القرآن بأنه “أسوة حسنة” (سورة الأحزاب: الآية: 21). أي أنه أسوة حسنة بما يكفي للدلالة على حب الله له، لذا فإن من يتأسون به يمكنهم أن يحظوا بمحبة الله.

لطالما علّمنا أساتذة الروحانيات بأن الأسوة الحسنة التي يمثلها محمد تكمن بشكل رئيس في الصفات الداخلية التي تتحلى بها روحه، وتتمثل هذه الصفات أخلاق الله تمامًا. ويتطلب تقليد هذه الصفات أمرًا أكبر من مجرد إطاعة الأوامر واتباع الشريعة، لأن ذلك يعني التغلب على حالة غفلة الروح كل يوم، مع تحويل وعي الروح وإدراكها عبر التخلق بأخلاق الله.

لقد أوضح القرآن بأن على الناس اتباع هدي محمد ليهذبوا محبتهم لله ويصقلوها، لأنه بوسع أي شخص أن يقول: “إني أحب الله”، ولكن هذه الجملة تبقى كلامًا فارغًا إلى أن توضع موضع التنفيذ. وقد شرح القرآن المبدأ الأساس هنا عبر آية خاطبت محمدًا جاء فيها: “قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ” (سورة آل عمران: الآية: 31). أي بمعنى أدق، لا يهم مقدار حبك لله بحسب ظنك، لأنه لن يبادلك الحب إلى أن تغير من نفسك، وتصبح جديرًا بمحبته. ويتمثل السبيل لتصبح جديرًا بتلك المحبة باتباعك للهدي النبوي.

وقد شرح النبي الهدف من اتباع هدي النبوة في حديث قدسي شهير جاء فيه: “ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها”، أي بمعنى آخر يمكن القول إن ممارسة الحب من طرف البشر تجتذب محبة الله المتبادلة، فينجم عن ذلك حالة اتحاد، وذلك هو الهدف من الحب.

بيد أن الحب الذي خلقه الله يقع خارج سيطرتنا بشكل كامل، وبالمقابل، فإن محبته التي تتفاعل مع محبتنا تتطلب إلى الإنسان أن يبذل جهدًا حتى يحقق تلك المحبة. غير أن معظم المؤلفين الإسلاميين أضافوا أن الأثر بحد ذاته ما هو إلا نتيجة لنعمة من الله وفضل منه، ومحبة ورحمة، لأن الناس لا يملكون القدرة على الارتقاء بأنفسهم بمفردهم. وعلى أي حال، تشير النقطة الأساسية إلى أنه يتعين علينا أن نفعل شيئًا لنتفاعل مع الحب الأولي المخلوق الذي منحنا وجودنا.

خلاصة
يُعد الحب والصداقة، في سياق القرآن والروحانيات الإسلامية عمومًا، الحقيقة الوحيدة. ويتبين من خلال التحليل الأخير، أن تلك الحقيقة ما هي إلا الله بحد ذاته. فالله خلق الكون بدافع الحب، كما خلق البشر على صورته، ولهذا فإن الحب يتصل بذواتهم. وبما أن الحب من فطرة البشر، فإنهم يتمتعون بالقدرة على حب الله لذاته، وليس من أجل نعمه وخيراته.

ثم إن حقيقة الحب تخترق الوجود وتدفع الناس إلى البحث والسعي، فقد غفل الناس عن موضوع الشيء الذي يحبونه بحق لفترة طويلة، ولهذا يتعرضون لخيبة أمل مستمرة في حبهم. والسبب في هذا التشوش والارتباك لدى البشر هو تشتت حقيقة الحب الوحيدة، بما أنها تمنعهم من رؤية الكون كله الذي يسير بدافع الحب. ولذلك أرسل الله الرسل ليساعد الناس في رؤية ذلك خلال مرحلة تخبطهم، فكانت وظيفة الرسل تعليم الناس طريقة الحب. وعندما تعلم الناس كيفية الحب عبر اتباع هدي الأنبياء صار بوسعهم أن يحبوا الله بحق وأن يحبوا جيرانهم كذلك (بما أن ذلك يمثل وظيفة من وظائف محبة الله).

ربى خدام الجامع

ربى خدام الجامع

مترجمة، خريجة أدب إنكليزي جامعة دمشق، حاصلة على دبلوم لغويات ودبلوم تأهيل وتخصص في الترجمة وماجستير في الترجمة الإلكترونية والسمعبصرية من جامعة دمشق، وعلى شهادة في الترجمة المحلفة من وزارة العدل السورية. تعمل حاليًا مترجمة لدى تلفزيون سوريا في إسطنبول. ومن ترجماتها كتاب التطوّع عند المسلمين في الغرب بين روح الإسلام والمواطنة الصادر عن مؤسسة ميسلون للثقافة والترجمة والنشر في عام 2022.

عرض مقالات الكاتب

مشاركة: