حرب غزة وصراع الروايات: جغرافيا واحدة ورؤى ثقافية متدافعة

مقدمة

يتناول موضوع هذه الدراسة “حرب غزة” والتبعات والمسارات التي فجرتها عملية “طوفان الأقصى” العسكرية؛ والتي وقعت في يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وما صاحبها من أحداث أشعلت الصدام الواسع مجددًا مع المشروع الصهيوني ودولة الاحتلال، وما كشفت عنه العملية من تصورات الاحتلال القائمة على فكرة الإزاحة الجيوثقافية للفلسطينيين، أي النفي الناعم لروايتهم الثقافية وإنكار حقهم التاريخي في فلسطين (بنفي وجود شعب فلسطيني تاريخيًا كما صرح وزراء عدة في حكومة الاحتلال في أكثر من مناسبة([1]))، والنفي الخشن الواقعي لوجودهم في جغرافيا فلسطين وأرضها مع السعي لطردهم، وتهجير سكان غزة إلى مصر وسكان الضفة إلى الأردن (وفق تصريحات متكررة لحكومة الاحتلال ورئيسها نتنياهو)، وأشعلت حرب غزة التي تلت عملية “طوفان الأقصى” مأزقًا عربيًا وإقليميًا صعبًا، حيث قفزت القضية الفلسطينية في وجه الجميع متمردة على تفاهمات الاتفاقيات الإبراهيمية، وصفقة القرن الأصلية التي طرحها ترامب والصفقة المعدلة التي استكملتها إدارة بايدن بعده، لتعود مشكلة فلسطين إلى الواجهة والبحث عن حلول ممكنة لها أو أسس ومنطلقات للحلول يمكن البناء عليها، لتكون هذه مشكلة الدراسة أيضًا.

تتبدى مشكلة الدراسة في تعقد القضية الفلسطينية وتعقد الحلول المطروحة لها منذ قرار التقسيم عام 1947، وحتى حرب غزة الدائرة منذ عملية 7 تشرين الأول/ أكتوبر العسكرية 2023، أما إشكالية الدراسة فتتجسد في تعارض الروايات الجيوثقافية بين أطراف الصراع، وتبني كل منهم سردية ثقافية خاصة به لجغرافيا فلسطين؛ حيث يتصارع الجميع على مساحة جغرافية واحدة ولكن وفق روايات ثقافية مختلفة ومتدافعة. فمن جهة تقف الرواية الصهيونية لدولة الاحتلال وخلفها الدعم الغربي بتصوراته الثقافية التاريخية في الصهيونية الماركسية، والصهيونية الليبرالية، والصهيونية الوجودية، ومن جهة أخرى تقف الرواية العربية التي أصبحت شديدة التمزق بين التصورات الأيديولوجية القديمة، وبين تصورات صفقة القرن الجديدة، وبين أزمة النخبة العربية التي تبنى بعضها تصورات تروج للهزيمة الحضارية، وتبنى البعض الآخر الدعم العاطفي والعام قليل الحيلة قصير اليد، وبين قلة أخرى تحاول البحث عن رواية جديدة بعيدًا من أزمة التصورات التاريخية واستقطاباتها.

وفي هذا السياق الأخير ستختبر الدراسة فرضية تقوم على؛ أولوية استعادة ثوابت “الجغرافيا الثقافية العربية” المشتركة بعيدًا من تكسرات الأيديولوجيا القديمة المتعددة إرث القرن العشرين، التي هي لحد بعيد ليست إلا امتدادات للمتلازمات الثقافية المرتبطة بالمسألة الأوروبية ومركزيتها التاريخية واستقطاباتها، وبعيدًا من تفاهمات صفقة القرن و”الصهيونية الإبراهيمية”، التي هي إحدى أشكال الاستلاب الناعم للحق العربي الفلسطيني باسم المشترك الديني الإبراهيمي السماوي.

حيث ستفترض الدراسة أن مشكلة الصراع هي مشكلة صراع جيوثقافي بالأساس، وبوصفه صراعًا جيوثقافيًا يقوم على حرب روايات بين راوية دولة الاحتلال وخلفها الحضارة الغربية وتصوراتها الجيوثقافية المتعددة، ورواية الفلسطينيين وخلفها رواية العرب وتصوراتهم الجيوثقافية، ستقدم الدراسة فرضية “استعادة الجغرافيا الثقافية” أولًا، أي أنها من ضمن الأطروحات المتعددة لمقاربة القضية الفلسطينية وسبل حلها، ستطرح فرضية مقاربة “التأسيس الجيوثقافي” للحق الفلسطيني بوصفه قيمة ثقافية يتفق عليها الجميع، بعيدًا من مقاربات التيارات الأيديولوجية إرث القرن العشرين التي فجرت تناقضات المشكلة أكثر ولم تحلها، لتكون تلك المقاربة من وجهة نظر الدراسة حجر الزاوية الذي يمكن البناء عليه مستقبلًا، والحل لمشكلة تعقد حلول القضية الفلسطينية وإشكاليتها التي فجرتها عملية طوفان الأقصى.

وسوف تستخدم الدراسة منهج “الدرس الثقافي” متتبعة جذور الصراع بين الروايتين العربية والصهيونية، وأين يكمن جذر الصراع والقيمة المركزية له في الغرب وعند الصهيونية (إسرائيل بوصفها ممثلة للحضارة الغربية)، لتحاول تقديم قيمة مركزية مضادة له تفكك جذور هذا الصراع (فلسطين بوصفها الحجر الجيوثقافي الأساس للذات العربية ومستودع هويتها)، من ثم يمكن التأسيس على هذه القيمة الجيوثقافية الجديدة لتكون منطلقا للتأكيد على الحق الفلسطيني وفي حاضنته العربية و”مستودع هويتها”، للوصول إلى تفاهمات عادلة تحفظ للرواية الفلسطينية العربية حقها في الوجود، الذي تغولت عليه تفاهمات “الاتفاقيات الإبراهيمية”. ليقوم منطق الدراسة الحجاجي في اختبار طرحها وفرضيتها البديلة لإشكالية الدراسة والقضية الفلسطينية؛ على بيان تهافت المنطق الغربي في بناء سرديته الجيوثقافية، ودورانها في إطار مركزية الحضارة الأوروبية/ الغربية ومعاييرها المزدوجة تجاه الذات وتجاه الآخر، وعدّ “إسرائيل” ممثلًا لتلك الحضارة المتعالية التي تدعي أنها ذروة التطور البشري ونهايته، والمركز الذي يجب أن تدور حوله جميع التنوعات البشرية والثقافية والحضارية الأخرى، بما فيهم العرب والفلسطينيون والمسلمون.

وقد اعتمدت الدراسة في مصادرها على التصريحات السياسية المباشرة، والأخبار والتقارير الإعلامية والتغطيات التي تناقلتها وكالات الأنباء والمنصات الإخبارية المتداولة، كون موضوعها يدور حول أحداث يومية جارية ولا تزال مستمرة حتى لحظة الانتهاء من الدارسة، مع إشارة الدراسة للمصادر المرجعية من الكتب الموثقة كلما اقتضت الحاجة من دون إسهاب، ومن دون أن يؤثر ذلك في منهجها العلمي الاستشرافي، وفلسفته القائمة على “بناء الأنماط” المستقبلية البديلة واختبارها وتصور السرديات الجيوثقافية وجدلها، بعيدًا من الرصد المجرد كما في الدراسات البحثية الوصفية والإحصائية المتراكمة في الموضوع.

تتكون الدراسة من خمسة مباحث رئيسية ضمت كل منها ثلاثة عناصر فرعية، وجاءت عناوين المباحث الرئيسية كالآتي؛ أولًا: طوفان الأقصى جغرافيا ثقافية تتمرد على الجيوسياسي، ثانيًا: ردة الفعل بالعنف المفرط وعملية “السيوف الحديدية”، ثالثًا: الحرب وأزمة “الجغرافيا الثقافية” وتشقق “الجيوسياسي”، رابعًا: المحور الشيعي وحسابات الصعود الجيوثقافي، خامسًا: جدل الجغرافيا الثقافية في فلسطين بين الإقليمي والدولي.

أولًا: طوفان الأقصى جغرافيا ثقافية تتمرد على الجيوسياسي

1- صدمة المكانة المستقرة لدولة الاحتلال

من المنظور الجيوسياسي التقليدي كانت محصلات القوة النهائية كلها في نهاية عام 2023 تقف في غير صالح فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة المحتل، فهي منطقة محاصرة جغرافيًا من جميع الجهات بلا امتداد سكني أو حدود طبيعية جغرافية حامية أو حاضنة، وعلى المستوى السياسي تفجرت التناقضات كافة في مستودع الهوية الفلسطيني وتمثلاته السياسية، بين السلطة الفلسطينية (وخلفها منظمة فتح) التي نشأت من اتفاقيات أوسلو في تسعينيات القرن الماضي، وبين حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، وهو ما أدى إلى سيطرة حماس على غزة بعد صدام مسلح مع السلطة في غزة، لتنعزل السلطة في الضفة الغربية وحماس في غزة، وعلى المستوى الإقليمي تفجرت التناقضات بين “حماس” والدولة المصرية في مرحلة ما بعد الثورات العربية، خاصة بعد إزاحة نظام الإخوان من مصر، وأصبح هناك شبه قطيعة أو عداء مع الدولة المصرية ومؤسساتها، مع الإشارة إلى أن مصر هي القلب الجيوسياسي بالنسبة إلى قطاع غزة.

وعلى الرغم من جميع هذه المعطيات الجيوسياسية التقليدية التي لا تصب في مصلحة القوة العسكرية لحركة المقاومة الإسلامية، إلا أنها أخذت قرارًا لا يمكن تفسيره إلا من خلال نظرية جيوثقافية عربية واختيار الدفاع عن مقدسات مستودع الهوية العربي ببعده الديني، عندما شعرت أن المخططات الصهيونية للسيطرة على المسجد الأقصى وفق تصورات صفقة القرن القديمة([2]) قاب قوسين أو أدنى، فقامت بعملية “طوفان الأقصى” العسكرية آملة في أن يستيقظ محيطها الجيوثقافي العربي/ الإسلامي، وينفض عنه التناقضات التي تراكمت طوال الفترة الماضية، ولم يكن رهان المقاومة الفلسطينية جيوسياسيًا أبدًا وفق حسابات القوى التقليدية، ولكنه كان رهانًا جيوثقافيًا يُحدث صدمة في وعي الحاضنة الجيوثقافية التي ينتمي إليها منتظرًا أن تقوم بما عليها.

فجوهر العملية الحربية الفلسطينية كان المحاولة الأخيرة لوقف المخططات الصهيونية –وفق صفقة القرن والاتفاقيات الإبراهيمية([3])– تحديدًا في ما يخص مخططات السيطرة على القدس والمسجد الأقصى، وفي ظل جملة التناقضات التي تفجرت في الحاضنة العربية في مرحلة ما بعد الثورات العربية في العقد الماضي، وبعد غواية بعض دول الخليج للصعود الإقليمي على حساب الدول العربية المركزية القديمة، شرط اعتمادها لمشروع الصهيونية الإبراهيمية وصفقة القرن، ومن جهة أخرى كان مركز صفقة القرن والاتفاقيات الإبراهيمية الفعلي إذا استبعدنا جميع الرطانات والديباجات الزخرفية والشعارات الرنانة، يقوم على نقطتين، أولًا: سيطرة دولة الاحتلال تمامًا على مدينة القدس العربية و”المسجد الأقصى” تحديدًا، ثانيًا: تنفيذ الهدف الصهيوني الدائم بعملية “الترانسفير” والتهجير ودفع الفلسطينيين إلى الاستيطان في سيناء المصرية.

لذا في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2023 لم يكن أمام الفلسطينيين إلا حل أخير، وهو “الخيار شمشون” بهدم المعبد وتغيير قواعد اللعبة الجيوثقافية تمامًا، فطوال عشرات السنين تجمعت لدى المقاومة الفلسطينية خبرات متراكمة للقتال ضد “عدو متفوق” تفوقًا تامًا، وتراكمت لديها التكتيكات الفعالة في هذا الصدد، مستفيدة من خبرات المقاومة في لبنان، والقدرات العسكرية الإيرانية التي اكتسبت عبر السنوات الطويلة مهارة مواجهة أميركا بصفتها “عدوًا متفوقًا”، تكاد تكون التكتيكات التي تستخدمها أميركا هي ذاتها التي تستخدمها دولة الاحتلال. فحدث ما لم يتوقعه أحد وهو “السيناريو الغائب” بأن جمع الفلسطينيون خبرات السنين كلها في عملية حربية واحدة، بهدف كسر شوكة الغرور الصهيوني وردع محاولات هدم المسجد الأقصى الجدية والسيطرة الصهيونية التامة عليه.

وإذا انطلقت الدراسة من هذا الفهم بأن غرض عملية 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 كان ضرب صفقة القرن بعد تفكيك جميع الموانع العربية والأممية أمامها، يمكننا أن نتصور ما يحدث حاليًا وأن نختبر بدائل التعاطي معه، بوصفه محاولات مستميتة لتغيير أو تأكيد المكانات المستقرة في المنطقة العربية برمتها (وفق تراتبات صفقة القرن والاتفاقيات الإبراهيمية)، واستعادة دولة الاحتلال لمكانتها ومن خلفها أميركا والغرب، والأهم سيمكن فهم ما صرحت به دولة الاحتلال على لسان نتنياهو من أنه على الفلسطينيين في غزة أن ينزحوا باتجاه سيناء، “فخلال جلسة برلمانية مغلقة لنواب حزب الليكود الحاكم، قال نتنياهو إنه يسعى لوضع خطط لتنفيذ “الهجرة الطوعية” للفلسطينيين من غزة إلى دول أخرى، بحسب ما نقلت صحيفة إسرائيل هايوم”([4])، ومن بعدها التجاوز الخطير وخرق القانون الدولي وقصف معبر رفح الدولي بين مصر ودولة الاحتلال.

1- انقلاب توازنات الجغرافيا الثقافية

من وجهة نظر تدقق في الأثر العميق لعملية “طوفان الأقصى” فإنها ستكون بلا شك كسر “الحائط المسدود” الذي وصلت إليه البدائل الجيوثقافية العربية، وتصديها للاتفاقيات الإبراهيمية وصفقة القرن المعدلة في عهد بايدن، ومخططات السيطرة على مدينة القدس والمسجد الأقصى تحديدًا، فلقد أدت تشابكات الأوضاع الإقليمية والدولية وعمليات إدارة التناقضات وتفجيرها، التي اتبعتها إدارة “ترامب” ومن بعده إدارة “بايدن”، إلى أن أصبحت السيناريوهات الصهيونية للسيطرة على مدينة القدس والمسجد الأقصى بلا أي رادع أو كابح فعال، خاصة بعد ارتباك البلدان العربية في مرحلة ما بعد الثورات الكبرى في العقد الماضي، وبعد تفجر التناقضات المحيطة بها لمصلحة مشاكل داخلية، أو ثنائية بينية، أو مشاريع جيوثقافية إقليمية أخرى متنافسة معها (التمدد الإيراني- المركزية العنصرية السوداء مع أثيوبيا- التمدد التركي-الهيمنة الصهيونية).

من ثم يبدو أن المقاومة الفلسطينية -بغض النظر عن هويتها السياسية والاستقطابات المرتبطة بها- وجدت أنه لم يعد أمامها من خيار إلا “الخيار صفر”، والعودة للمواجهة المفتوحة، وإعادة تأسيس قواعد الاشتباك السياسي والعسكري مع التمدد الصهيوني شديد التبجح والتوحش، فنحن أمام عملية عسكرية نوعية شاملة تماثل إعلان الحرب على دولة الاحتلال ومستوطناتها القريبة من غزة، دفعت “إسرائيل” لتعلن حالة الحرب أول مرة منذ مدة طويلة، عملية حدث فيها إبرار جوي عبر طائرات شراعية بمحرك أحادي وبدائي تحمل فردًا واحدًا، وقصف صاروخي واستيلاء على معدات عسكرية وأسرى بالعشرات.

والدليل الأبرز هنا؛ هو حسن اختيار المقاومة الفلسطينية لموعد العملية العسكرية في اليوبيل الذهبي لذكرى حرب تشرين الأول/ أكتوبر، وفي يوم سبت أيضًا تمامًا كما كانت حرب عام 1973م، مع التقديرات التي كانت ترى أن دولة الاحتلال تمهد لاقتحام المسجد الأقصى على نحو نهائي، وربما بناء الهيكل اليهودي مكانه مجددًا، وفق مشروع “التقسيم الزماني والمكاني” للمسجد الأقصى، حيث كان المعلن والمعروف أن “المخطط اليهودي يشمل فرض تقسيم ساحات الأقصى زمانيًا بين الفلسطينيين والمحتلين الإسرائيليين في غير أوقات الصلاة في إطار مرحلة أولية يتبعها تقسيم مكاني، ثم السيطرة الكاملة عليه لاحقًا، وتغيير هويته ببناء ما يسميه الاحتلال الإسرائيلي ‘الهيكل الثالث’ مكان قبة الصخرة”([5])، خاصة مع تصاعد تلك الممارسات ووصولها إلى مرحلة خطرة مع صفقة القرن وكذلك في مرحلة جو بايدن، لتقلب عملية 7 تشرين الثاني/ أكتوبر العسكرية معظم التوازنات والتفاهمات التي ارتبطت بصفقة القرن والاتفاقيات الإبراهيمية، وتبدو وكأنها تغيير لقواعد الاشتباك الجيوثقافي مع دولة الاحتلال على الرغم من تفوقها الجيوسياسي، لتطرح أن هناك خطوطًا جيوثقاقية عربية يجب عدم تخطيها.

من ثم تصبح العملية العسكرية مشكلة للنفوذ “الإسرائيلي” المتصاعد، وشرخًا كبيرًا يفكك قدرتها المدعومة غربيًا على تفجير التناقضات العربية وإدارتها لصالح مشروع الاتفاقيات الإبراهيمية وجيوثقافيته، والهيمنة الناعمة الجديدة على العرب وفرض الأمر الواقع، إذ بدت العملية العسكرية الفلسطينية فرصة إستراتيجية مهمة وملائمة جدًا للتقدم إلى الأمام، وتجاوز التناقضات التي تفجرت على المستويات كافة “مستودع الهوية” العربي وتفاهمات مرحلة دونالد ترامب، ومن جهة أخرى دفعت الدول العربية إلى ضرورة السعي لإنشاء مظلة سياسية صلبة وقوية لدعم الحق الفلسطيني والمسار المسدود الذي وصلت إليه مع صفقة القرن والاتفاقيات الإبراهيمية، مظلة سياسية عربية تستعيد الخطوط الحمراء في القضية الفلسطينية، تعيد تأسيس الثوابت العربية بقدر المستطاع في مواجهة الاحتلال ومشاريعه في القدس تحديدًا.

وعلى الصعيد الفلسطيني الداخلي قدمت عملية “طوفان الأقصى” مشتركًا للحركة الوطنية وهدفًا جامعًا مرحليًا، وربما هذا أقصى ما يمكن الحصول عليه حاليًا في ظل الظرفية التاريخية الراهنة وتناقضاتها الفلسطينية المتنوعة، إلى حين إعادة تأسيس مشتركات سياسية عربية جديدة تتجاوز استقطابات القرن العشرين، وإرثها الذي وصل إلى مرحلة اليأس من الإصلاح وفق تصورات البعض. وعلى الصعيد العربي ربما تكون بادرة لتأسيس مشترك ثقافي عام جديد بعد تناقضات صفقة القرن والاتفاقيات الإبراهيمية، وتضارب السياسات العربية في معظم الملفات الإقليمية لصالح الأجندات الدولية والمشاريع الإقليمية المتدافعة مع الذات العربية، وفي القلب منها مواجهة التمدد الصهيوني وشبكة علاقاته الدولية والإقليمية المتصاعدة، وكسر “حائط الانسداد” الذي وصلت إليه مقاربات التصدي للاتفاقيات الإبراهيمية، والاستيلاء على “بيت المقدس” والمسجد الأقصى.

1- الجغرافيا الثقافية وقصور الرواية الداعمة

كانت أبرز نقاط الضعف التي ربما لم تعد لها المقاومة الفلسطينية العدة، هي غياب الرواية الإعلامية الكلية ليوم عملية طوفان الأقصى العسكرية 7 تشرين الأول/ أكتوبر، فحدثت فجوة بين التمدد الجغرافي والعسكري وتغطيته الإعلامية وروايته الثقافية الذائعة عالميًا، وعلى الرغم من إذاعة بعض اللقطات للعملية العسكرية إلا أن الرواية التي قدمتها دولة الاحتلال للعالم أصبحت لفترة طويلة وفي بداية حرب غزة عقبة في سبيل وقف جرائم الحرب تجاه الشعب الفلسطيني، وعلى الرغم من أن حركة حماس قامت بعمل إعلامي مكثف بعد عملية طوفان الأقصى وعندما قامت قوات الاحتلال بالدخول البري لغزة، مدلية ببيانات ولقطات مصورة لعمليات رجال المقاومة، إلا أن المكتب السياسي للحركة لم يلتفت لأهمية تقديم رواية كلية ليوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر تنفي ما روجت له دولة الاحتلال حتى وقت متأخر من عام 2024.

وهو ما جعل العمليات العسكرية في قطاع غزة الفلسطيني تستمر مدة طويلة جاوزت الشهر ونصف، قبل أن يُتفَق على هدنة، واستمرت مع العمليات سياسة المذابح التي يقوم بها جيش الاحتلال تجاه المستشفيات وتجمعات السكان المدنيين العزل ومرافق القطاع، وعجز المجتمع الدولي عن اتخاذ موقف موحد بقرار ملزم لدولة الاحتلال لوقف جرائم الحرب تجاه المواطنين الفلسطينيين، ورفع مظلة الحماية الأميركية/ الغربية عنها، لأن البروباغندا الأميركية والغربية كانت تقدم رواية شديدة العدوانية والتشوه عما قامت به المقاومة الفلسطينية في يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي في عملية طوفان الأقصى، وتقدمه بوصفه عملية إرهابية عنصرية استمرارًا لممارسات “معاداة السامية” التي قامت بها دول أوروبا تجاه يهود أوروبا وأقلياتهم هناك، خاصة ما عُرف بالهولوكوست أو المحرقة في العهد النازي من جانب ألمانيا/ هتلر، ويبررون جرائم الحرب بحجة حق دولة الاحتلال “إسرائيل” في “الدفاع عن نفسها”، حتى تنزع عن حركة المقاومة الإسلامية “حماس” قدرتها على تكرار العملية العسكرية، ولننظر جميعًا في التصريح الذي أدلى به جو بايدن الرئيس الأميركي حين قال إن روسيا وحماس تحاربان دولتين ديمقراطيتين صديقتين ويجب التصدي لهما!

كان الحائط الصلب الذي يستند إليه جيش الاحتلال في استمرار جرائم الحرب بحق أهل غزة، هو رواية الفلسطيني السفاح قاتل الأطفال والعزل في يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر في مستوطنات محيط غزة، ذلك على الرغم من أن إعلام دولة الاحتلال نفسه وتحقيقاته التي أعلنت عنها جريدة هآرتس وتناولها وسائل الإعلام، قالت إن المقاومة الفلسطينية لم تكن تعرف بوجود الحفلة الضخمة يوم تنفيذ العملية العسكرية، وأن طائرة تابعة لجيش الاحتلال قصفت المدنيين، وكذلك ما تردد عن تفعيل بروتوكول هانيبال الذي ينص على عدم وقوع أسرى في يد العدو وأن الجندي المقتول خير من الجندي الأسير، وسُلّط الضوء على التجاوزات كلها التي قام بها جيش الاحتلال بنفسه وأودت بحياة بعض جنوده أو مستوطنيه.

ليصبح لزامًا على المقاومة الفلسطينية أن تقدم رواية بديلة لما حدث في يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، تخبر العالم بـ”الجانب الآخر من القصة” (The other side of the story)، الذي هو واحد من أبجديات الثقافة الديمقراطية التي ينادي بها الإعلام الغربي ويعمل من خلالها، بما يكسر الشحن الجماهيري الذي تستخدمه إدارة بايدن (ومعه فرنسا وألمانيا وبريطانيا) لدعم جرائم الحرب وقصف المدنيين الفلسطينيين العزل، وقد جاءت الرواية الفلسطينية متأخرة كثيرًا بعدما تقدمت دولة جنوب أفريقيا بقضيتها إلى المحكمة الجنائية الدولية، وفي النصف الثاني من شهر كانون الثاني/ يناير عام 2024م حيث نشرت حركة “حماس” وثيقة بعنوان “هذه روايتنا” من نسختين بالعربية والإنكليزية([6])، ربما لتقدم رواية فلسطينية تستند إليها جنوب أفريقيا في قضيتها في المحكمة الجنائية الدولية، عندما اتهمت دولة الاحتلال بممارسة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين.

ثانيًا: ردة الفعل بالعنف المفرط وعملية “السيوف الحديدية”

1- أهداف صعبة لمأزق المكانة المهتزة

كان الهدف من عملية “السيوف الحديدية” برمتها الذي يأتي في سياقها اجتياح قوات الاحتلال البري لقطاع غزة، هدفًا جيوثقافيًا مركبًا، وهو هدفٌ نفسي ومعنوي ودعائي في المقام الأول؛ يقوم على استعادة الصورة الذهنية لجيش الاحتلال “الإسرائيلي” بصفته الجيش الذي لا يقهر، حيث أن بضع مئات من رجال المقاومة الفلسطينية في عملية 7 تشرين الأول/ أكتوبر المسماة “طوفان الأقصى”، استطاعت التغلب على جميع التدابير العسكرية والنقاط الحصينة في السياج المحيط بغزة، مستخدمين تكتيكات بسيطة وأسلحة خفيفة، وهناك هدف سياسي وإستراتيجي للاجتياح البري الذي يأتي بالتزامن مع القصف الجوي المركز بالأحزمة النارية؛ يسعى لدفع الفلسطينيين إلى سيناء وتنفيذ مخطط صفقة القرن.

وهذا الهدف الإستراتيجي سيصبح شيئًا فشيئًا مركز الصراع خاصة مع دخول الحرب عام 2024م، وتهديد جيش الاحتلال باجتياح مدينة رفح الفلسطينية ومطالبته مصر بالسيطرة على الشريط الحدودي بينها وبين قطاع غزة المسمى محور صلاح الدين/ فيلادلفيا، ومطالبته بإجلاء الفلسطينيين من رفح لترفع مصر من نبرة خطابها ضد دولة الاحتلال في معركة دبلوماسية طاحنة، شملت التهديد بسحب السفير المصري، والتهديد بتعليق اتفاقية السلام بين مصر ودولة الاحتلال، كما رفعت حضورها العسكري قرب معبر رفح البري إلى درجة غير مسبوقة منذ توقيع الاتفاقية بين البلدين.

إجمالًا وُضِعت عملية “السيوف الحديدية” في مأزق صعب جدًا، ففي ظل هذه الأهداف والمعطيات لا يمكن أن ينجح الاجتياح البري ويحقق الانتصار للجيوثقافية الصهيونية، لكن الأهم أن العملية العسكرية وحرب غزة منحت المجموعة العربية حدًا مشتركًا أدنى للعمل عليه على الرغم من تناقضات الجغرافيا الثقافية المتراكمة كلها، لتنطلق منه لدعم الرواية الفلسطينية وحقها في الحياة والإجهاز على صفقة القرن ومخططاتها في القدس والمسجد الأقصى، والترانسفير وتهجير الفلسطينيين.

فقد كان البعض يعتقد أن صفقة القرن قد انتهت بسقوط ترامب الجمهوري في الانتخابات الأميركية الماضية ونجاح بادين الديمقراطي، ولكن على العكس من ذلك قدم بايدن والديمقراطيون نسخة خاصة بهم من صفقة القرن، وروجت إدارة بايدن للاتفاقيات الإبراهيمية، ليتضح أن البنية الثقافية العميقة للشخصية الأميركية المتطرفة واحدة، والاختلاف قد يكون في القشرة الضحلة التي يرفعها هذا أو ذاك لكنهما يحملان وهم المسألة الأوروبية القديمة وخرافة الحضارة المطلقة التي يجب أن تسيطر على الآخر دائمًا.. فقد ضغط بايدن من أجل انضمام السعودية إلى الاتفاقيات الإبراهيمية، وقبلها حاول تفجير التناقضات بين العرب السنة وإيران الشيعة مروجًا لحلف ناتو عربي تقوده “إسرائيل” في “اجتماع النقب” العام الماضي، وفي عهده أصبح اقتحام المسجد الأقصى فعلًا اعتياديًا، واستمرت أميركا في تفجير التناقضات العربية وإدارتها كسياسة خارجية ضاغطة تُضعف البلدان العربية وتضعها تحت دائرة الخضوع والعجز دومًا.

تاريخيًا ظهر تيار الاستلاب العربي والترويج للجيوثقافية الصهيونية ودولتها “إسرائيل”، في فترة حملة ترشح ترامب الأولى عام 2015 مع إعلانه عن مشروع صفقة القرن، ونقل عاصمة أميركا في دولة الاحتلال إلى “القدس”، قاد هذا التيار يوسف زيدان لكن التيار نفسه سرعان ما اتسع يمينًا (ليضم بعض القرآنيين والمنفصلين عن حركة الإخوان والمتطرفين المسيحيين) ويسارًا (ليضم بعض العلمانيين والليبراليين والملحدين)([7]) ويشمل جميع الخارجين على الجيوثقافية العربية والمحتجين على متونها وأفكارها الرئيسية السائدة، وبعد أن قام هذا التيار بدوره انتقل تيار الاستلاب العربي إلى مستوى الدول ليصبح مركزه في دولة الإمارات العربية المتحدة، لكن السعودية تمردت عليه بعدما تشدد ترامب مع محمد بن سلمان، وضم التيار البحرين، وكذلك المغرب والسودان عبر تكتيك إدارة التناقضات في كل من البلدين، لتأتي عملية طوفان الأقصى وحرب غزة وتقلب تلك التفاهمات كلها وتهز المكانة التي قد استقرت لدولة الاحتلال وتضعها في مأزق شديد، مع عجز القوة العسكرية وممارستها لمذابح إنسانية خلفت عشرات آلاف الضحايا من المدنيين العزل.

1- الحرب الجيوثقافية بين الفلسطيني الضحية ومعاداة السامية

هناك إشارة مهمة جدًا توضح كيف قامت الرواية الصهيونية التي قدمتها عن عملية “طوفان الأقصى”، وهذه الإشارة هي نقطة مركزية دالة لفهم عقدة الصراع الجيوثقافية برمتها لإدراك أبعاد التصور الجيوثقافي للصراع العربي/ الصهيوني، وذلك في المكالمة التليفزيونية المصورة التي تناقلتها وكالات الأنباء العالمية بين رئيس دولة الاحتلال نتنياهو والرئيس الأميركي جو بايدن، في هذه المكالمة قدم نتنياهو تلخيصًا للرواية الجيوثقافية لإسرائيل ولماذا يدعمها الغرب، حيث قال: “إنه هجوم أستطيع أن أقول إننا لم نشهد وحشيته منذ المحرقة”.([8])

لتبلور هذه الجملة ملخص التصور الجيوثقافي الذي قامت عليها الصهيونية، فهم يقدمون وجودهم في الأرض الفلسطينية المحتلة بصفته استمرارًا لوجودهم في جغرافيا أوروبا، حين مارست الثقافة الأوروبية الاضطهاد ضدهم في ما عرف بـ”معاداة السامية”، يقدمون تصورًا جيوثقافيًا يخاطب عقدة الذنب في العقلية الأوروبية/ الغربية عما تعرضوا له هناك في الجغرافيا الأوروبية والثقافة الأوروبية الحاكمة لعقليتها، من ثم تتخيل العقلية الأوروبية أن احتلالهم للجغرافيا العربية هو تعويض عن اضطهادهم في الجغرافيا الأوروبية، وتتصور أن الانتصار للثقافة الصهيونية هو انتصار على ثقافة النازية التي قامت بالمحرقة (الهولوكوست)، حيث يمكن القول إن الجيوثقافية الصهيونية رواية منتزعة من سياقها الجيوثقافي الغربي والأوروبي، لتُزرَع على حساب الجيوثقافية العربية أي على حساب الجغرافيا والأرض العربية، وعلى حساب الثقافة والموروث العربي الديني والتاريخي والشعبي والقومي والإنساني الشامل.

كما قال نتنياهو في المكالمة ذاتها عبر ترديد ادعاءات لم يدعمها بوقائع: “لقد ذُبِح المئات، عائلات بأكملها قضي عليها في أثناء نومها، نساء قُتلن واُغتصبن بوحشية. كما اختُطِف أكثر من مئة شخص، بما في ذلك الأطفال. ومنذ تحدثنا آخر مرة، ازداد حجم هذا الشر. لقد أخذوا عشرات الأطفال ربطوهم وأحرقوهم، وقطعوا رؤوس الجنود”([9])، لتصبح هذه المكالمة هي الرواية السائدة في الغرب والتي استخدموها لتبرير جرائم الحرب في حق الفلسطينيين، لأن الصورة الجيوثقافية المسبقة عند العقلية الغربية/ الأوروبية تمنح المستعمرين أو المستوطنين الصهاينة صورة الضحايا الأبرياء، ولم تترك للفلسطينيين إلا دور الشرير.

ولكن شيئًا فشيئًا ومع دخول الحرب عام 2024 والإفراج عن بعض المحتجزين من المستوطنين الصهاينة؛ بدأت تظهر رواية بديلة تفكك ادعاءات نتنياهو خاصة قطع رؤوس الأطفال واغتصاب النساء وذبح العائلات، ولكن لفترة طويلة ظل صراع الروايات بين دولة الاحتلال والفلسطينيين يميل لصالح دولة الاحتلال، مستندًا إلى الأوهام والعقد الثقافية المسبقة لدى العقلية الغربية/ الأوروبية، كاشفًا عن الربط الذي تقوم بها العقلية الجيوثقافية الأوروبية وإسقاطها رواية “معاداة السامية” التي أنتجتها الثقافة الأوروبية ووقعت أحداثها في جغرافيتها، على الصراع بين العرب والصهاينة على أرض فلسطين المحتلة.

فما زال هناك حائط صلب تصطدم به رواية الفلسطيني الضحية، وهو حائط الجيوثقافية المقبلة من أوروبا ومن الغرب، لأنه وفق التصور الجيوثقافي للظاهرة البشرية لا يمكن أن تنتصر جماعة بشرية ما على أرض الواقع من دون أن تقدم رواية جيوثقافية فاعلة لوجودها ومساراته الخشنة والناعمة، ومما يجب لفت الانتباه إليه أن الجيوثقافية الصهيونية المقبلة من أوروبا والغرب، لها عدة مصادر ليبرالية وماركسية ووجودية وما بعد نازية، جميع هذه الروايات ومصادرها تمثل حائطًا صلبًا، ومن دون مواجهة لهذه الجيوثقافية الصهيونية الكامنة في الحاضنة الأوروبية، لن يتمكن العرب من سحب الغطاء الأخلاقي والثقافي عن الحشود التي أرسلتها أميركا والغرب وسوف تستمر في إرسالها، ولا تحقق العدالة الإنسانية أبدًا للجيوثقافية العربية على أرض فلسطين، لأن الجيوثقافية الصهيونية لا تستمد قوتها من حيث هي قائمة في الوطن العربي وثقافته وجغرافيته، إنما تستمد قوتها من جغرافية وثقافة أخرى قابعة هناك في الغرب.

1- عجز القوة وتسوية مدن غزة بالأرض

العقيدة العسكرية الخاصة بقوات الاحتلال قامت على أسطورة الجيش الذي لا يقهر، ونظرية الذراع الطويلة التي يمكن أن تضرب على مدى واسع من العراق (ضرب المفاعل النووي عام 1981) إلى تونس (ضرب مقر منظمة التحرير عام 1985)، وأنها يمكن أن تنقل المعركة إلى أرض العدو كما فعلت في حرب لبنان، وفي حرب عام 1967، لكن الحقيقة المرة أن جنود الاحتلال القادمون من بقاع الأرض شتى وبثقافات عميقة مختلفة ليسوا بمثل هذه السمعة عند القتال وجهًا إلى وجه! وهو ما حدث عند بدء الاجتياح البري لقطاع غزة بعد عملية تمهيد نيراني كثيف يدعمها مدد من الذخائر لا ينقطع من أميركا، وأول مرة تجد قوات الاحتلال نفسها أمام قوات فدائية تتسم بحسن التدريب والرغبة في التضحية بالنفس، وتجد نفسها أمام حرب مدن وشوارع، لم تستطع التكنولوجيا والأسوار أن تنفعها فيها.

لنجد أن هناك حالة تسترعي لفت الانتباه علميًا وتحليل المضمون؛ للصراع بين قوة عسكرية تملك موارد نووية وأسلحة فائقة وقوة عسكرية أخرى بتسليح شخصي وبدائي في الأغلب الأعم، لأهمية هذه النقطة في رصد أدوات الصراع الواقعي ومدى علاقتها بالتمسك بالرواية الجيوثقافية لدى كل طرف، وأثر الاختيارات الثقافية/ الجيوثقافية في الواقع وتحمل نتائجه، والقدرة على توظيف المتاح في ظل تفاوت موازين القوى واستخدام فكرة “الصدمة والمفاجأة” بموارد غير مواتية، وكشف المفارقة بين الموارد العسكرية الضخمة غير المحدودة لدولة الاحتلال، والموارد العسكرية البدائية التي تقوم على التسليح الشخصي ومهماته، وذلك لبيان فكرة الدراسة عن “عجز” القوة وإخفاقها على الجانب الصهيوني، و”انتصار” الضعيف عبر صموده بالإمكانات البسيطة لأفراد المقاومة الفلسطينية، خاصة مع العمليات المصورة التي كانوا يبثونها لتدمير الدبابات والآليات وقنص جنود الاحتلال، الأمر الذي زاد من الأزمة النفسية وعمق جراح قوات الاحتلال وزادها تخبطًا، خاصة حينما استهدفت المستشفيات المدنية، وعندما اقتحمت مستشفى الشفاء بحجة أن حماس والمقاومة الفلسطينية تستخدمه استخدامًا عسكريًا، وكم كانت فضيحتها مدوية حينما لم تجد في المستشفى ما يثبت صحت ادعائها.

وفوجئت إسرائيل بمدى فاعلية التصنيع المحلي الفلسطيني للقذائف المضادة للآليات “ياسين 105″، كما عجزت عن تحييد عمليات الرشق الصاروخي التي تنفذها المقاومة الفلسطينية، وأدهشتها عمليات المقاومة التي تتم من المسافة صفر وتفجير الآليات عبر جنود أشباح يخرجون من باطن الأرض ويعودون إليها من دون أثر، وأصبحت أنفاق حماس لغزًا غير قابل للحل فهي كانت الحل الفلسطيني الملائم بسبب غياب الطبيعة الجبلية الحاضنة للمقاومة، وتتحدث المصادر عن امتداد هذه الأنفاق لأكثر من 500 كم تحت الأرض، وأخفقت ادعاءات دولة الاحتلال بأنها ستغرق أنفاق غزة بمياه البحر.

لتجد قوات الاحتلال نفسها عاجزة عن تحقيق أهدافها وأخفقت القوة المزعومة لجيش الاحتلال، كما أن سياسة الأحزمة النارية الكانسة على الرغم من أنها روعت المدنيين وطردتهم، إلا أن تأثيرها العسكري ظل محدودًا في قوات المقاومة الفلسطينية، وكذلك استطاع الفلسطينيون الصمود ضد سياسة الحصار والتجويع لحد بعيد، على الرغم من سياسة القتل الجماعي وتعطيل المستشفيات ومنع الوقود وقطع الاتصالات، جربت قوات الاحتلال كل ما في جعبتها من أسلحة وخطط وعتاد وسيناريوهات ولم تفلح في الانتصار لا على الجغرافيا الفلسطينية في غزة ولا على الثقافة الفلسطينية وتكسر إرادتها، لتؤكد الجيوثقافية الفلسطينية قدرتها على كسر جميع معادلات الجيوسياسية التقليدية.

وجاء تصريح الوزير “الإسرائيلي” باستخدام السلاح النووي([10]) وضرب غزة به في سياق العجز والإحباط والرغبة في الشعور بالتفوق ووهم شخصية السوبرمان الإرث التوراتي القديم والإرث الغربي الحديث الخاص بالمسألة الأوروبية، هو تصريح يعبر عن ”إخفاق القوة” وعجز آلة الحرب التي رُوِّج لها وعنها بأنها من أقوى الجيوش في العالم، ومن أقوى أجهزة الاستخبارات، فلقد كشفت عملية طوفان الأقصى زيف هذه الدعايات كلها، إنها ليست حربًا متكافئة بالمعنى المتعارف عليه بين جيشين نظاميين، لهما العتاد والتسليح نفسه، لكن على الرغم من ذلك فإن تراجع قوات الاحتلال في عمليات التوغل البري، والخسائر التي يصاب بها، والروح الفدائية العالية لدى رجال المقاومة وعملياتهم المصورة؛ تصيبه بالجنون وتضع آلة الدعاية والبروباغندا السياسية في مأزق شديد جدًا، خاصة في ظل بعض التقارير التي أفادت بقتل مرتزقة إسباني كان يقاتل في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي، و”كشفت صحيفة “الموندو” الإسبانية النقاب عن تسلل مرتزقة إلى صفوف جيش الاحتلال، ومن بينهم مقاتل إسباني يدعى بيدرو دياز فلوريس، والذي قال إنه جُنِّد مقابل مبلغ نقدي كبير، ليقاتل في صفوف الجيش الإسرائيلي”([11])، بما يشي بوجود مشكلة في التجنيد وبوجود تهديد وجودي لهذا الكيان الهش، وأيضا بوجود تمويل مفتوح لدى جيش الاحتلال.

ثم كانت فضيحة استخدام الذكاء الاصطناعي في قصف غزة وعملية الإبادة الجماعية، حيث ظهر “تحقيق نشرته وسائل إعلام إسرائيلية وتناقلته عدة وسائل إعلام عالمية، قد تحدث عن وجود برنامج لدى الجيش الإسرائيلي اسمه ‘لافندر’، يستخدم الذكاء الاصطناعي لتحديد أهداف في غزة مع هامش معين للخطأ… حين شنت إسرائيل موجة لم تتوقف من الغارات الجوية على القطاع أدت إلى هدم أحياء سكنية بكاملها”([12])، وهو ما أثار احتجاج الأمين العام للأمم المتحدة نفسه، حين “قال غوتيريش للصحافيين: يساورني قلق بالغ إزاء التقارير التي تفيد بأن حملة القصف التي يشنها الجيش الإسرائيلي تستخدم الذكاء الاصطناعي كأداة لتحديد الأهداف، ولا سيما في المناطق السكنية المكتظة بالسكان، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع مستوى الخسائر في صفوف المدنيين”([13]).

إضافة إلى فضيحة المقابر الجماعية التي دفن فيها جيش الاحتلال العنصري ضحاياه من شهداء أهل غزة، خاصة بعد اقتحامه المخالف لجميع الأعراف الدولية للمنشآت الصحية في مستشفى الشفاء ومستشفى ناصر بقطاع غزة، حيث “قال المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة إنه يشعر ‘بالذعر’ من تدمير مستشفيي ناصر والشفاء في غزة والتقارير عن العثور على “مقابر جماعية” في الموقعين بعد الهجمات الإسرائيلية”([14]).

ثالثًا: الحرب وأزمة “الجغرافيا الثقافية” وتشقق “الجيوسياسي”

1- التهجير إلى سيناء و”تفكك الجيوسياسي تابعًا للجيوثقافي”

حين تنظر الدراسة إلى أهم المتغيرات الجيوثقافية التي صاحبت طوفان الأقصى والتي كشفت عن نفسها بكل سفور، سنجد مطالب الجيوثقافية الخاصة بدولة الاحتلال وروايتها، ومناداتها بالتوسع نحو سيناء المصرية وتهجير الفلسطينيين سكان قطاع غزة إليها، وهنا يطرح السؤال المهم: لماذا استهدفت دولة الاحتلال ذلك في ظل اتفاقية السلام الرسمية بينها وبين مصر؟ فحرب عام 1973، كانت بهدف تحرير سيناء تحديدًا، كما خاضت مصر بعد ذلك التحكيم الدولي لاسترداد طابا على الحدود بين مصر وأرض فلسطين المحتلة.

ولماذا أيضًا في ظل الاتفاقية نفسها التي تحظى بالضمانة والشراكة الأميركية؛ كانت صفقة القرن الأولى في عهد ترامب تحمل الفكرة نفسها لتهجير الفلسطينيين من القطاع إلى غزة؟ ولماذا على الرغم من إعلان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في النصف الثاني من عام 2019م موقفه صراحة من صفقة القرن، والالتزام بقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة بحل الدولتين، ورفض وجود سيناء ضمن تسريبات الصفقة.. لماذا أعلن “الإسرائيليون” عن خطتهم لإزاحة الفلسطينيين إلى سيناء في عقب عملية “طوفان الأقصى”!

تطرح الدراسة أن أبرز الفرضيات الصالحة لتفسير التغول على الجغرافيا المصرية من جانب الجيوثقافية الصهيونية، هي فرضية “أن تأكل الجيوثقافي يتبعه تأكل الجيوسياسي” أو “تفكك الجيوسياسي تابعًا للجيوثقافي”، بمعنى أن تخلي مصر عن الالتزام الثقافي القوي تجاه قضية فلسطين مع توقيع اتفاقية كامب ديفيد منفردة نهاية سبعينيات القرن الماضي وما تبعه من سياسات، ثم تمرير البعض -في ظل التناقضات السياسية وتوظيفها- لتيار الاستلاب في الإعلام المصري منذ نهاية عام 2015 مروجًا للتخلي عن القدس (وعلى رأس هذا التيار يوسف زيدان)، تواكبًا مع حملة دونالد ترامب الانتخابية آنذاك، وحديثه عن صفقة القرن ونقل السفارة الأميريكية إلى القدس، هذا التأكل للجيوثقافية المصرية وتخليها عن التزامها الدفاع عن ثوابت “مستودع هويتها”، وإيمان البعض في المؤسسة المصرية بفلسفة أو إستراتيجية “الحدود الدنيا” لعبور مرحلة تدافعات ما بعد 2011 واستقطاباتها، أقام قناعة لدى الجيوثقافية الصهيونية ومن خلفها أميركا بإمكان التمدد على حساب الجيوثقافية المصرية والتزامها تجاه مستودع هوية الذات العربية، خاصة مع الشعور بالأزمة والاختناق الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في مصر.

من هنا كان تغول الجيوثقافية الصهيونية على حساب الجيوثقافية المصرية ودفع الفلسطينيين إلى الهجرة باتجاه سيناء، والذي ظهر للعلن مباشرة عند أول محك للتمدد الجيوعسكري والجيوثقافي للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، حيث من خلال هذه الفرضية عن “تأكل الجيوساسي تابعًا لتأكل الجيوثقافي” يمكن أن تضع الدراسة الإطار العام للصورة الكلية عن علاقة مصر بجيوثقافيته التاريخية خلال الفترة الماضية، حيث يتبدى لنا أن التناقضات التي حدثت في سردية الذات العربية في القرن الماضي وصولًا إلى الحظة التاريخية الحالية في ما بعد الثورات العربية؛ أدت إلى تراجع مصر على مستوى السردية المركزية الخاصة بها فلم تمنح الجغرافيا الثقافية دورها الوظيفي بصفتها المادة اللاصقة للجغرافيا السياسية في محيطها القريب.

وسمحت للتناقضات المتنوعة مع التمدد التركي/ العثماني الجديد، والتمدد الإيراني/ الشيعي، والتمدد الصهيوني/ الإبراهيمي، بالقفز على جغرافيتها الثقافية في علاقتها بقضية فلسطين ومستودع هويتها خاصة في ما يخص المسجد الأقصى، وهذا التراجع أو التأكل على مستوى الجغرافيا الثقافية سرعان ما أعلن عن نفسه وقفز في وجه مصر عندما نفذت المقاومة الفلسطينية عملية تشرين الأول/ 7 أكتوبر؛ لينتقل النمط في التعبير عن نفسه من الجغرافيا الثقافية إلى الجغرافيا السياسية، ومطالبة “إسرائيل” بالتمدد الجغرافي في النطاق الواقعي والاستحواذ على الأرض التي قدمت لها جغرافيا ثقافية مع صفقة القرن و”الصهيونية الإبراهيمية”، ومطالب التوسع الجغرافي وإزاحة الفلسطينيين في غزة إلى مصر.

وترى الدراسة أن انفجار الجغرافيا السياسية مسلمة حتمية عند انفجار الجغرافيا الثقافية الجامعة، أي بوضوح أكثر للفرضية التي تطرحها الدراسة في موضوع الأمن القومي العربي والمصري في القرن الحادي والعشرين، أن تراجع الاهتمام بالجغرافيا الثقافية وإهمال دورها أدى إلى انفجار الجغرافيا السياسية بالتبعية، ومطالبة القوة الصاعدة أو السردية الثقافية الصاعدة (أي الصهيونية الإبراهيمية) بما لها، وإزاحة الفلسطينيين جغرافيًا إلى مصر. حيث تؤكد الفرضية أن كل انتشار وتمدد لجغرافيا ثقافية لا بدَّ أن يصحبه تمدد وحضور في الجغرافيا السياسية، وأنه عندما أهملت مصر الحضور الثقافي وجغرافيته في فلسطين تحت وطأة سردية السلام والتطبيع في القرن الماضي، وتحت وطأة تناقضات ما بعد إزاحة الإخوان حديثًا، فإن التمدد الجغرافي للصهيونية الإبراهيمية كان سيحقق عاجلًا أو آجلًا إزاحة في الجغرافيا السياسية الواقعية لصالحه.

1- الفرضية المضادة واستعادة الجغرافيا الثقافية لحضورها

من أبرز ما يمكن أن ترصده الدراسة تدليلًا على صحة الفرضية النظرية الخاصة بـ”تفكك الجيوسياسي تابعًا للجيوثقافي”، وعلى التصحيح الطبيعي والتلقائي للنمط الجيوثقافي دفاعًا عن مكونات مستودع هويته، هو سرعة تغير الجيوثقافية المصرية تجاه القضية الفلسطينية ومشروع تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، والذي وصل إلى ذروته عندما انتقل رئيس الوزراء المصري من المقر الجغرافي للحكومة في العاصمة الإدارية، وأعلن من قلب الحدث الجغرافي من رفح المصرية عن موقف ثقافي مصري واضح لا لبس فيه، يرفض تصفية القضية الفلسطينية على حساب تهجير الفلسطينيين إلى سيناء([15])، ليكون الأمر أوضح ما يكون في استجابته الجيوثقافية للتمدد الجيوثقافي الصهيوني.

كما وفي سبيل عملية التصحيح الجيوثقافي للتناقضات التي كانت قد تفجرت في الحالة المصرية، والتصحيح الذاتي للمسار، سنجد أن عملية طوفان الأقصى قد حدثت في وقت كانت فيه العلاقات الجيوثقافية بين مصر وحركة المقاومة الإسلامية “حماس” ليست على أفضل ما يكون، وفي فترة كانت مصر قد قامت فيها على المستوى الجغرافي بمجموعة من الإجراءات، في المساحة الحدودية الفاصلة بين مصر وقطاع غزة ومدينة رفح، تماشيًا مع تصديها للجماعات المسلحة التي انتشرت في سيناء في ظل مرحلة ما بعد إزاحة الإخوان، شملت هذه الإجراءات شبه إخلاء تام للمنطقة الحدودية من السكان على الجانب المصري.. وعلى الجانب الثقافي كان خطاب الدولة المصرية في مرحلة ما بعد إزاحة الإخوان على شبه قطيعة مع حماس ويقدمها البعض بصفتها ذراعًا إخوانيًا، يسقط عليها الصراع الثقافي/ السياسي مع تنظيم “الإخوان” في مصر.

لكن على الرغم من هذه القطيعة الجيوثقافية بين مصر وحماس، استجابت مصر فورًا لنداء مستودع الهوية والتزاماته بعد عملية “طوفان الأقصى”، وتجاوزت التناقضات التي تفجرت مع عدة إجراءات جيوثقافية سريعة منشأة امتدادًا مصريًا -على قدر الإمكان- يصنع رديفًا للتمدد الفلسطيني والمواجهة التي أصبحت لا مفر منها مع قوات الاحتلال، وتجهيز المستشفيات المصرية، ورفع درجة استعداد القوات المسلحة المصرية، وتخصيص مطار العريش لاستقبال المساعدات المخصصة لقطاع غزة المحتل، كما شملت هذه الإجراءات التي تمت على فترات متباعدة إعلان رئيس الوزراء المصري عن إعادة تعمير المنطقة الحدودية بالسكان، على الرغم من الأوضاع الاقتصادية شديدة الصعوبة التي تمر بها مصر، وجميع التناقضات التي تفجرت في محيطها العام.

وكانت أبرز الاستجابات الجيوثقافية المصرية لخلق مظلة سياسية مبكرة لعملية طوفان الأقصى، هي الدعوة لعقد قمة سلام عقدت في القاهرة، وذلك في أعقاب ردة الفعل “الإسرائيلية” المنفلتة بقصف المدنيين في غزة قصفًا كانسًا يدفعهم إلى الجنوب باتجاه مصر، فقامت مصر بعقد قمة القاهرة للسلام مؤكدة الثوابت الجيوثقافية للقضية الفلسطينية –متخطية تناقضات صفقة القرن- بمشاركة ممثلي الدول الإقليمية والعالمية، وحينما تعثر الاتفاق بين المشاركين العرب والدول الأوروبية على بيان موحد، أصدرت الرئاسة المصرية بيانًا جيوثقافيا مهمًا يطرح وجهة نظرها إزاء ما يحدث ويؤكد على الثوابت الفلسطينية والعربية، على الرغم من أن الظروف الجيوسياسية لم تكن ملائمة حينها لتفعيل البيان لكنه كان تأكيدًا على ضبط بوصلة القاهرة المركزية وفق مستودع هويتها الجيوثقافي، واستجابة للصدمة الجيوثقافية التي أحدثتها عملية طوفان الأقصى لما هو مستقر عليه عربيًا وصهيونيًا وفق تناقضات المرحلة السابقة ومساراتها الجيوسياسية، وهنا كانت أبرز تمثلات نظرية الجيوثقافية العربية الجديدة حيث كانت هي الجوهر الذي ضبط الواقع الجيوساسي الراهن قدر المستطاع، على أن استكمال الطريق وضبط المسارات الجيوثقافية برمتها عند الذات العربية.

وفي الوقت نفسه رفضت القاهرة أن يكون معبر رفح ممرًا لخروج بعض المحتجزين لدى المقاومة الفلسطينية، من دون فتحه لإغاثة غزة المحاصرة ومدها بالوقود اللازم للمستشفيات وسبل الحياة، والأدوية والأغذية وطواقم الإغاثة الطبية، وخصصت مصر مطار العريش لاستقبال جميع مواد الإغاثة المرسلة إلى رفح، وتعاملت بضبط نفس شديد إزاء الاستفزازت “الإسرائيلية” وقصفها الجانب الفلسطيني من المعبر.. وحينما استمرت الضغوط “الإسرائيلية” تجاه مخطط التهجير قام رئيس الوزراء المصري وفي جلسة استثنائية لمجلس النواب حول فلسطين ومنع تهجير الفلسطينيين وتوطينهم في سيناء، حيث “أكد أنه في حالة أي نزوح للفلسطينيين ‘سيكون لمصر رد حاسم وفق القانون الدولي’، مؤكدًا أنها ‘لن تتوانى في استخدام الإجراءات كافة التي تضمن حماية وصون حدودها’. وقال رئيس الوزراء في كلمته، إن تهجير الفلسطينيين يعني تصفية القضية الفلسطينية، مؤكدًا أن هذا غير مقبول تمامًا”([16]).

1- الصدام الجيوثقافي وسياسة حافة الهاوية

في يوم 9 شباط/ فبراير 2024 وبعد نحو أربعة أشهر من انطلاق الحرب كانت منطقة رفح الحدودية بين مصر وفلسطين المحتلة قاب قوسين أو أدنى، من احتمالات متعددة للتماس بين جيش الاحتلال الإسرائيلي والقوات المصرية التي تقف دفاعًا عن أرضها، وعن تهديدات الاجتياح ضد النازحين في منطقة رفح من الفلسطينيين العزل، ذلك بعد أن استمرت السياسات الأميركية في تكتيك “حافة الهاوية” وإدارة التوزان الحرج بين دولة الاحتلال “إسرائيل” بصفتها ممثل الحضارة الغربية المطلقة، ومصر بصفتها الدولة العربية التي شاء القدر أن تتحمل المسؤولية السياسية والتاريخية لوقف مخططات صفقة القرن وتهجير الفلسطينيين إلى سيناء المصرية.

من جانبها قامت تصريحات دولة الاحتلال في الصراع على معركة رفح الحدودية بوصفها ذروة الاجتياح البري؛ وعبر سياسة حافة الهاوية، على تصريحات متكررة باتخاذ خطوات من جانب جيش الاحتلال وحكومته بالتمهيد لاجتياح رفح، وقبلها فترة طويلة من الشد والجذب حول آليات السيطرة والمراقبة لمحور صلاح الدين/ فيلادلفيا، بوصفه الشريط الحدودي العازل بين مصر وحدود فلسطين المحتلة، وفي يوم 9 شباط/ فبراير كانت ذروة سياسة حافة الهاوية والتصريحات التي توحي بالقيام بالعملية خلال ساعات.

على الجانب الأميركي كانت سياسة حافة الهاوية تقوم على إدارة التوزان بين مصر ودولة الاحتلال شكلًا، مع الانتصار مضمونًا بالطبع لدولة الاحتلال، ومن ضمن عملية إدارة التوزان بين مصر و”إسرائيل” كانت أميركا تصرح ضغطًا على “إسرائيل” بربط الحصول على الأسلحة الأميركية بقوانين معينة للاستخدام (مع إمهال بايدن “إسرائيل” 45 يومًا لإثبات عدم انتهاكها القانون الدولي أو ستخسر الدعم العسكري الأميركي.)، وتصريحات من بلينكن بخطورة العلمية العسكرية المرتقبة في رفح، إضافة إلى تصريحات لمسؤولين أميركيين تنتقد ردة الفعل الأميركية التي سكتت عن تجاوزات إسرائيل بحق الفلسطينيين مثل تشبيهم بالحيوانات، حيث “في تصريح خلال اجتماع في القيادة الجنوبية للجيش الإسرائيلي، قال غالانت: “لقد أمرت بفرض حصار كامل على غزة. لن يكون هناك كهرباء ولا طعام. نحن نقاتل الحيوانات البشرية ونتصرف وفقًا لذلك”([17]).

ومن التصريحات الأميركية التي كانت تضغط على مصر ما قاله بايدن من أن الرئيس السيسي كان يرفض فتح معبر رفح، ولكن الضغوط الأكبر على مصر كانت عبر تكتيك “إدارة التناقضات” وتفجيرها، مثلما حدث مع إعلان أثيوبيا عن الاتفاق مع دولة أرض الصومال حول نفاذ أثيوبيا لميناء بحري على البحر الأحمر، وكذلك تزايد الضغوط الاقتصادية والتمويلية، مع الإعلان عن تمديد بقاء حاملة الطائرات “باتان” وقوة التدخل السريع في شرق البحر المتوسط([18]).

أما مصر فقد اعتمدت مواجهتها في عملية رفح العسكرية الباردة على عدة تصريحات أو خطوات، منها: التهديد بسحب السفير، التهديد بوقف العمل باتفاقية كامب ديفيد للسلام وعدّ العملية العسكرية إذا تمت خرقًا لها، ثم رفع الحضور العسكري المصري في المنطقة الحدودية بدرجة لم يسبق لها مثيل منذ توقيع اتفاقية السلام. ثم تجمدت معركة “عملية رفح” الباردة موقتًا –التي نشبت منذ البدايات المبكرة للحرب- بأن صرح نتنياهو بأنه أخبر الطرف الأميركي بأن اجتياح مدينة رفح قد يتم خلال أسبوعين، وتوصيفها بالجمود لأن التصور الجيوثقافي العام لنهاية الحرب وفق قوة الأطراف المختلفة لم يحسم بعد، وربما يحتاج إلى استقطاب مصري جديد (مؤتمر القاهرة الثاني للسلام مثلًا) ووضع الجميع أمام مسؤولياته.

لتبدو “معركة رفح الباردة” نموذجًا مصغرًا للمعارك الجيوثقافية الحديثة في القرن الحادي والعشرين؛ حيث يضغط كل طرف لتمرير أهدافه ويسعى لتوظيف الأوراق المتاحة كافة، لكن المشكلة أن الذات العربية انتظرت وقتًا طويلًا وتراجعت جغرافيتها الثقافية بشدة، حتى وصلت إلى الحد الأقرب للانفجار والهزيمة الحضارية في قضيتها المركزية، لتصبح معركة “رفح الباردة” درسًا في السياسات البديلة، ودرسًا للمستقبل الجيوثقافي والسياسات العربية البديلة التي من الممكن ممارستها، لاستعادة الجغرافيا الثقافية العربية المتأكلة التي تمددت فيها جغرافيات ثقافية بديلة، ومتنافسة على المحاور كافة.

رابعًا: المحور الشيعي وحسابات الصعود الجيوثقافي

1- إيران ونمط التمدد الجيوثقافي: التنظيم- التمويل- التسليح

على الرغم من أن الدراسة تدعو إجمالًا للتعامل مع التناقضات الجيوثقافية التي تفجرت في مستودع الهوية العربي، والتي يأتي من ضمنها التدافع على السردية/ الرواية الإسلامية وتمثيلها بين مصر وتركيا وإيران، إلا أنه من وجهة أخرى يجب دراسة الآليات التي تمددت من خلالها الأنماط الجيوثقافية الخاصة بهما على حساب الذات العربية، مع الإشارة إلى أن التنافس والتدافع هو سنة البشر والجماعات الإنسانية الجامعة لهم، فعلى المستوى الإيراني والذي يتداخل بشدة في المجال العام لهذه الدراسة، سنجد أن هناك نمط إيراني في التمدد الجيوثقافي على حساب الذات العربية أصبح يمكن رصده بسهولة، يعتمد على تقوية الوجود الشيعي الثقافي في الدول العربية وتفجير التناقض الناعم بين السنة والشيعة في مستودع الهوية العربي، وذلك في معظم الدول التي يمكن تفجير التناقض فيها.

ويمكن رصد طريقة عمل إيران وتمددها الشيعي في البلدان العربية، حيث أن النمط الجيوثقافي الشيعي يعتمد في تمدده على ثلاث مراحل، وهي: التنظيم- التمويل- التسليح، أي يبدأ في البداية بتكوين رأس تنظيمي عقائدي شديد القوة والصلابة، يعمل في إطار مذهبي شيعي، ثم إذا وجد الفرصة سانحة وكانت الدولة العربية التي يوجد فيها هذا التنظيم في حالة رخاوة وضعف وعدم تماسك، زاد من تمويل التنظيم المذهبي ليزيد من حضوره السياسي والاجتماعي، والمرحلة الأخيرة من نمط التمدد الجيوثقافي الإيراني في جغرافيا الذات العربية، تمدد هذا التنظيم الشيعي وتسليحه ليصبح له وجود جيوثقافي وسياسي مستقل في الدول العربية، ولننظر في حالة جماعة الحوثي اليمنية ومراحل تطور وجودها في اليمن من التنظيم إلى التمويل وتفجير التناقض السني الشيعي وصولًا إلى التسليح.

كما أن إيران اختارت لنفسها على المستوى الجيوثقافي العام اختيارًا ثقافيًا براقًا، يقوم على تبنيها لحالة المقاومة العربية عمومًا لدولة الاحتلال والصهيونية، وظهر هذا التناقض الجيوثقافي وبزغ للوجود وأصبح متمايزًا في عقب معاهدة السلام بين مصر و”إسرائيل”، لينتقل مركز الثقل الجيوثقافي الخاص بالمقاومة إلى إيران، خاصة منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي وبعد انضمام الأردن إلى مسار التطبيع مع “إسرائيل”، ثم الضغوط الجيوثقافية التي مارستها أميركا بعد زيادة نفوذها وحضورها الجغرافي في منطقة الخليج العربي بعد حرب الخليج الثانية ضد العراق، لتخسر الذات العربية حتى الخطاب الجيوثقافي الناعم الداعم للمقاومة شيئًا فشيئًا الذي كانت تحاول الدول الخليجية الصاعدة الجديدة تقديمه، وانتقلت بالتدريج أيضًا من حالة القطيعة التي كانت عليها مع مصر بسبب معاهدة السلام المنفرد مع إسرائيل، لكي تصبح الإمارات والبحرين (والسعودية بدرجة أقل) مراكز جديدة للصهيونية الإبراهيمية وصفقة القرن التي ظهرت في مرحلة ما بعد الثورات العربية، لتنفرد إيران تقريبًا بالاختيار الجيوثقافي لدعم المقاومة، ومعها الأذرع الخاصة بها التي استطاعت تقوية حضورها الجيوثقافي والسياسي في البلدان العربية خاصة في ظل الفشل الجيوثقافي العربي في تقديم بدائل سياسية مقبولة لدولة ما بعد الاستقلال عن الاحتلال الأجنبي في مرحلة الثورات العربية في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.

وعلى الرغم من التباين المذهبي المعروف بين السنة والشيعة والحركات الخاصة بكل منهما في التاريخ الإسلامي عمومًا وللمنطقة العربية خصوصًا، إلا أن حركة المقاومة الإسلامية “حماس” سرعان ما وجدت المشترك الجيوثقافي بينها وبين إيران وأذرعها في المنطقة العربية، لأن كل منهما على المستوى الثقافي كان يتبنى اختيار مقاومة العدو الصهيوني، وكل منهما ركز جهد الجغرافية في اتجاه العدو المشترك “إسرائيل”، ومع دخول بعض الدول الخليجية تحت مظلة الصهيونية الإبراهيمية وتفكك دولة ما بعد الاستقلال في ليبيا والصدام بين مصر وكل تمددات جماعة الإخوان بما فيها “حماس”، أصبح هناك مدد يكاد يكون وحيدًا لحركة المقاومة الإسلامية في فلسطين يأتي من إيران، من ثم أصبحت إيران حاضنة جيوثقافية شبه منفردة للمقاومة الفلسطينية، خاصة بعد تحول منظمة التحرير الفلسطينية إلى العمل السياسي المؤسسي في ظل اتفاقيات أوسلو التي وقعت في التسعينيات بعد تفجير التناقض العراقي الكويتي وحرب الخليج الثانية، وعودتها إلى فلسطين حالمة بالدولة لكنها وصلت إلى الطريق المسدود لا مستقبل أمامها ولا تستطيع الخروج ثانية من الأرض المحتلة، بعد اغتيال إسحاق رابين وتفكك الظرف الضاغط لحرب الخليج الثانية ومحاولة تجميل وجه أميركا بعد احتلال العراق وضربه.

وهكذا في نهاية عام 2023 أصبحت إيران تمثل الحاضنة الجيوثقافية شبه الوحيدة للمقاومة في فلسطين، والذات العربية عمومًا لدولة الاحتلال متصدرة ما عرف بـ”محور المقاومة” أو “محور الممانعة”، بما فيه النظام السوري العلوي الشيعي، بما لا يترك مجالًا للشك أن إيران وبقية محور المقاومة كانوا على علم -بدرجات متفاوتة- بقرب قيام حركة حماس بعملية طوفان الأقصى، أو على الأقل كانت إيران قد رفعت درجة استعداد هذا المحور، وزودته بأسلحة يمكنها أن تدعم العملية عند وقوعها.

1- حزب الله والتصعيد المحسوب للدخول في المعركة

من أبرز تمثلات التمدد الإيراني الشيعي لدى الذات العربية يأتي حزب الله اللبناني محتلًا الصدارة بجدارة، ولقد بزغ هذا الحزب بعد الغزو “الإسرائيلي” للبنان في نهاية السبعينيات في عام 1982، وبعد تفجر تناقضات لبنان في سبعينيات القرن الماضي وشيئًا فشيئًا سيطر حزب الله على الفضاء الشيعي في لبنان مُزيحًا حركة أمل الشيعية الأقدم منه، خاصة مع تزايد الدعم والتمويل والرعاية الإيرانية وصعودها بعد تفكك العراق وحرب الخليج الثانية، واتسمت مواجهات حزب الله مع دولة الاحتلال بالقوة والندية منذ تسعينيات القرن الماضي، خصوصًا في مرحلة حرب العصابات التي أدت إلى انسحاب “إسرائيل” من لبنان في 24 أيار/ مايو عام 2000.

كما خاض حزب الله مواجهة جديدة وحربًا مع دولة الاحتلال عام 2006 في 12 تموز/ يوليو (عرفت في لبنان باسم حرب تموز)، كانت الحرب الجديدة تمددًا جديدًا للجيوثقافية الإيرانية الشيعية، في ظل التراجع العربي بعد سقوط بغداد عام 2003، حيث طالب حزب الله دولة الاحتلال بإطلاق سراح الأسرى والمحتجزين اللبنانيين لديه عن طريق وسطاء، لكن انسداد المفاوضات غير المباشرة أدى إلى قيام حزب الله بعملية عسكرية نجم عنها أسر جنود “إسرائيليين”، تبعه محاولة تدخل بري من جيش الاحتلال قابلته قوات حزب الله بالتصدي الشديد مردية ثمانية قتلى في القوة المهاجمة، الأمر الذي كان فتيلًا لاشتعال الحرب التي استمرت 34 يومًا، وفيه حاول حزب الله تحمل تبعة التصعيد العسكري وحده مخليًا مسؤولية الحكومة اللبنانية، وعلى الرغم من الفارق في التسليح بين الجانبين وتكتيك القصف الجوي والذراع الطويلة التي استخدمته دولة الاحتلال، إلا أن البعض رأى في صواريخ حزب الله التي قصفت المستوطنات والمدن الصهيونية ندًا قويًا، وطرفًا فاعلًا في محور المقاومة العربية كما حظي الحرب بدعم شعبي عربي متجاوزًا التباين المذهبي بين مذهب السنة الذي يسود في معظم لدول العربية ومذهب الشيعة الذي ينتمي إليه حزب الله.

وبعد انتهاء الحرب خاض حزب الله مواجهة في عام 2015 في مزارع شبعا اللبنانية المحتلة مستهدفًا قافلة عسكرية “إسرائيلية”، ردًا على استهداف “إسرائيل لقافلة عسكرية في جنوب سورية تابعة لحزب الله وإيران، وتعرضت صورة حزب الله وإيران إلى الاهتزاز كثيرًا في المخيلة الشعبية العربية بسبب وقوفهما في مرحلة ما بعد الثورات العربية، إلى جانب قوات النظام السوري لتأتي عملية طوفان الأقصى وحرب غزة في عام 2023 محققة لحزب الله وإيران مكسبًا جيوثقافيًا يعيد لهما بعض ما فقداه في مرحلة ما بعد الثورات العربية، حيث “بدأ حزب الله عملياته العسكرية، بعد 24 ساعة على انطلاق معركة غزة، حيث استهدف مواقع عسكرية في منطقة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا التي يعدّها لبنان محتلّة، وهو ما ظهر على أنه وجهة ضربة ‘ضمن قواعد الاشتباك’، وفق ما يقول رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات، الدكتور هشام جابر، قبل أن يتوسع الاستهداف إلى تبادل للقصف وإطلاق النار، بعد مقتل عنصرين من الجهاد الإسلامي عبرا الحدود إلى جانب مجموعة أخرى، واشتبكا مع الجيش الإسرائيلي. وردّت إسرائيل بقصف موقع لحزب الله أسفرت عن مقتل ثلاثة من عناصره، الاثنين 9 تشرين الأول/ أكتوبر، الأمر الذي استدرج ردودًا متبادلة، ما أدى إلى نزوح مدنيين من قرى حدودية. وفي المقابل، جرى إخلاء مستوطنات إسرائيلية إلى عمق سبعة كيلومترات من المستعمرات الشمالية الحدودية مع لبنان”([19]).

وبعد اندلاع الحرب بأكثر من ثلاثة أسابيع خرج الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله بخطاب سياسي، توقع كثيرون أن يكون مؤشرًا على تحول الحرب ودخولها منعطفًا جديدًا، إلا أن التصورات السياسية لحزب الله ومن خلفه إيران في قراءة المشهد الإقليمي والدولي، وتحديدًا المشهد الإقليمي والحشد العسكري الغربي والرسائل التي بعثت بها أميركا، جعلت حزب الله في خطاب حسن نصر الله يرد على دعاوي الرواية الغربية والصهيونية بأن عملية طوفان الأقصى كانت بتحريض إيراني، وجاء الخطاب سياسيًا في المقام الأول يدعم المقاومة ويقف في صفها لكن بحسابات سياسية دقيقة مفتوحة على الاحتمالات كلها أيضًا، كما رصد عدة مفاصل أدت إلى حدوث عملية طوفان الأقصى، حيث “عدّ نصرالله أن السنوات الأخيرة كانت قاسية جدًا في غزة وفي الضفة الغربية، وتتلخص بأربعة ملفات ضاغطة مهدت لمعركة ‘طوفان الأقصى’ وهي: ملف الأسرى، وملف القدس والمسجد الأقصى، والحصار على غزة، والمخاطر الجديدة في الضفة الغربية من استيطان وقتل يومي”([20])، وظل دور الحزب في تصاعد مع دخول الحرب عام 2024.

1- اليمن والعراق: أطراف للمناوشة والإشغال العسكري الجيوثقافي

كما شهدت عملية طوفان الأقصى وحرب غزة 2023/ 2024 ظهورًا قويًا لذراعين إيرانيين آخرين في فضاء الذات العربية، الأول هو جماعة الحوثيين اليمنية، والثاني هو الحشد الشعبي في العراق، وإن كان الدور والظهور اليمني مع جماعة الحوثيين أكثر بروزًا من الحشد الشعبي، مع استخدام الأسلحة والصواريخ البالستية والطائرات الموجهة بعيدة المدى، وكذلك عملية احتجاز سفينة الشحن المملوكة جزئيًا لـ”إسرائيل”، حيث “جاء احتجاز السفينة ‘غالاكسي ليدر’ وطاقمها الدولي المكوّن من 25 فردًا الأحد، بعد أيام من تهديد الحوثيين المدعومين من إيران باستهداف السفن الإسرائيلية، على خلفية الحرب بين إسرائيل وحماس”([21]).

وكانت جماعة الحوثي قد بزغ نجمها بعد مشاركتها في الثورة اليمنية ضمن سياق الثورات العربية الكبرى في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، على الرغم من أنها أُسست عام 1992، وقد ظهر الدعم الإيراني لها في العلن أكثر من مرة عن طريق التسليح حيث ضبطت السلطات اليمنية في عام 2009 سفينة أسلحة إيرانية متوجهة إلى الحوثيين، واشتعل الصدام بينها وبين الجيش اليمني الذي اتهمها بتكوين تنظيم مسلح على غرار حزب الله بلبنان، وتدخلت السعودية في المواجهة العسكرية بين الطرفين، غير أن الحوثيين أثبتوا فيها جدارة عسكرية ملحوظة.

ومع العقد الثاني وحالة الهشاشة والتأزم بين الرغبة الشعبية في التغيير مع الثورات العربية وعدم استجابة المؤسسات الحاكمة، استطاعت جماعة الحوثي أن تتقدم شيئًا فشيئًا ويزداد نفوذها، ويزداد الدعم والتمويل والصلات مع إيران، خاصة مع الصدام العسكري بين الحوثيين في عام 2012 وبين حزب الإصلاح في مدينة صنعاء، وفتح الحوثيون جبهات كثيرة حتى عام 2014 وفي عام 2015 سيطروا على الحكم والقصر الجمهوري وأزاحوا الرئيس هادي عبد ربه لتندلع الحرب الأهلية في اليمن، وتتدخل السعودية والإمارات.. وصولًا إلى عام 2023 وعملية طوفان الأقصى التي وجد الحوثيون فيها الفرصة ملائمة لاكتساب تأييد شعبي عربي، يجمل وجههم في مرحلة ما بعد الثورات العربية، مثلما وجد حزب الله الفرصة بعد تورطه في دعم النظام الثوري في قمع التمرد والثورة الشعبية.

أما الحشد الشعبي في العراق فظهر للوجود عام 2014 بمباركة حكومية لمواجهة داعش، جامعًا عديدًا من قوات المليشيات الشعبية العراقية التي يُعدّ كثير منها مقرب من التيار الشيعي على الرغم من وجود بعض العشائر السنية المسلحة داخله، مع الإشارة إلى أن الحشد الشعبي شُكّل استنادًا إلى فتوى من المرجع الشيعي الأعلى بالعراق على السيستاني، وكان الدعم الإيراني للحشد الشعبي علنيًا وبمباركة الحكومة العراقية وفي ظل التناقضات وتفجرها مع ظهور داعش أو تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، بعد ضمور القوة أو السيطرة التنظيمية لتنظيم القاعدة الذي نشأ بالأساس برعاية أميركية، ضمن دعم المجاهدين في أفغانستان للتصدي للاحتلال السوفياتي لها.

وفي أعوام 2015 و2016 و2017 حقق الحشد الشعبي تقدمًا في المعارك ضد داعش، غير أن التطرف قد ظهر في خضم حراك الحشد الشعبي حيث ظهرت عمليات تشبه التطهير العرقي وجرائم في مناطق السنة والمناطق المختلطة بينهم وبين الشيعة، وفي ظل تكتيك إدارة التناقضات وخلقها باستمرار الذي تستخدمه الولايات المتحدة ضد الذات العربية، أعلن بعض المسؤولين الأميركيين عن رغبتهم في تكوين تنظيمات سنية توزان التنظيمات الشيعية الموجودة ضمن الحشد الشعبي المدعوم من إيران، على الرغم من أن أميركا هي التي تعمدت عند وقف الحرب في حرب الخليج الثانية، أن تضع مناطق نفوذ وحظر طيران تكرس لتفكيك العراق إلى أكراد وسنة وشيعة.. إلى أن جاءت عملية طوفان الأقصى في عام 2023، حيث وجد فيها الحشد الشعبي فرصة لتجميل صورته السلبية مثله مثل حزب الله بعد مشاركته في قمع الثورة الثورية وجماعة الحوثي وانقلابها على السلطة اليمنية، ليعلن قادته دعمهم لعملية طوفان الأقصى، حيث “أكد رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقية فالح الفياض، أن بلاده ستقوم ‘بكل الواجبات تجاه الفلسطينيين، أكان ذلك على صعيد المساعدات أم على المستوى العسكري، وقال.. إن “مشروع تهجير سكان غزة بائس، ولا يمكن تطبيقه”([22])، كما تعرضت عدة قواعد أميركية في العراق للقصف، وهو الأمر نفسه الذي حدث في سورية التي فيها كثير من القوات الإيرانية والجماعات الموالية لها ولحزب لله.

خامسًا: جدل الجغرافيا الثقافية في فلسطين بين الإقليمي والدولي

الجغرافيا الثقافية للصهيونية: جغرافيا ثقافية خارج الحدود

على مستوى الجغرافيا الثقافية وصراع الروايات والتدافع الذي تحمله في القضية الفلسطينية، والبحث في الحالة الصهيونية وروايتها والحاضنة الحاوية لها، سنجد أن جغرافيتها الثقافية تأتي من خارج المنطقة ومن الحاضنة الأوروبية/ الغربية تحديدًا، على تنوع هذه الحاضنة وتباين تياراتها الثقافية، والتي لو فُكّكت هذه الرواية الحاملة لها سيكون قد قُطِع نصف الطريق لتجفيف رواية التعالي لدى دولة الاحتلال.. وعلى سبيل إقرار الواقع الأليم سنجد أن البعض يتخيل أن الصهيونية ليست إلا “صهيونية دينية” أو حركة يهودية متطرفة تستند إلى مرحلة الاصطفاء والوعد الإلهي لبني إسرائيل بأرض فلسطين في التوراة، لكن كثيرًا من العرب يجهلون أنه في خليفة الدعم ورواية الجغرافيا الثقافية للصهيونية التي تأتي من خارج المنطقة وحدودها، كانت توجد “صهيونية ماركسية” و”صهيونية وجودية” و”صهيونية ليبرالية”، وكل هذه الصهيونيات لها جذورها في القيم الثقافية العميقة للغرب ووهم الحضارة المطلقة والمسألة الأوروبية القديمة المستمرة حتى هذه اللحظة([23]).

فعلى الرغم من الموقف الروسي الحالي من “إسرائيل” بسبب الحرب الأوكرانية، إلا أن البعض رأى أن لينين قد دعم تيار “الصهيونية الماركسية” الذي أسسه الروسي بيير دوف بيرخوف، في المفاوضات التي شملت حضور ممثليها لاجتماع الأممية الشيوعية، وعدّ البعض أن شروط الأممية عليها في حينه ليست إلا اعترافًا ضمنيًا يعدّ الصهيونية طليعة تقدمية في الشرق العربي، بسبب حضورها الاجتماع نفسه ووجودها فيه من الأساس، على الرغم من تلك الشروط([24]). ومن بعده يرى البعض تأكيد ستالين الدعم للصهيونية نفسه من خلال اعترافه بـ”إسرائيل” وقرار التقسيم عام 1947م، في استمرار لفكرة توظيف الصهيونية في الصراع بين الرأسمالية والشيوعية، أو عدّ الصهيونية طليعة تقديمة في الشرق العربي، حيث” أدى اعتراف أميركا السريع بإسرائيل إلى اعتراف الاتحاد السوفياتي بها”([25])، ويخبرنا التاريخ أنه “بعد عدة لقاءات ومفاوضات صعبة وطويلة قررت اللجنة التنفيذية الكومنترن [بمعرفة لينين بالطبع] قبول الحزب [اليهودي] في صفوف الأممية الشيوعية.. لقد اشترطت اللجنة التنفيذية للكومنترن على الحزب من أجل قبوله في صفوف الكومنترن “أن يسعى لإقامة أوثق الصلات مع أوسع الجماهير العربية بغية تحويله من منظمة للعمال اليهود إلى حزب قطري حقيقي”([26])، في حين يعدّ البعض أن هذا كان خطأ وتشوهًا في التصور للموضوع الصهيوني من لينين والكومنترن، لأن اعترافه بالحزب اليهودي الصهيوني داخل الأممية لم يذهب به أبعد من تصورات بيرخوف عن التحول إلى مرحلة النضال الأممي بعد تأسيس الدولة التي تجمع العرب واليهود.

أما “الصهيونية الوجودية” فقد ظهرت في فرنسا مع سارتر تعاطفًا مع يهود فرنسا فيما بعد الحرب العالمية الثانية وعدّ الصهيونية أعلى وعي وجودي جماعي ليهود أوروبا، وأن من يعادي الصهيونية و”إسرائيل” معادٍ للسامية واليهود كما هو مستقر في القيم الثقافية العميقة للشخصية الأوروبية عمومًا، لذا تجد مواقف فرنسا أكثر تشددًا في دفاعها عن “إسرائيل”([27]).

في حين تعد الصهيونية الليبرالية([28]) من أعقد أنواع الصهيونية على خلاف السائد عنها، فهي ترتبط بالقيم الثقافية العميقة عن تفوق الشخصية الأوروبية البروتستانتية في مرحلتها الجرمانية (صعود القبائل الجرمانية) أو الأنجلو ساكسون تحديدًا، “كما أن الفكر الليبرالي صاغ المشروع الصهيوني على هيئة مشروع ليبرالي ديمقراطي، لكنها ديمقراطية المستوطنين فحسب”([29])، لذا تجد قوة الصهيونية الليبرالية في بريطانيا وأميركا أكان في تمثلها الديني وما عرف بالصهيونية المسيحية، أم في تمثلها السياسي مع دولة الليبرالية الديمقراطية وشعاراتها الرنانة وعدّ “إسرائيل” نموذجًا ديمقراطيًا، أو في تمثلها الإمبريالي القديم بعدّ “إسرائيل” مستعمرة حصينة للغرب في الشرق.

كذلك يجب الإشارة لـ”صهيونية ردة الفعل تجاه النازية” المقبلة من ألمانيا شديدة التعاطف مع “إسرائيل” حاليًا، “وليس هذا فحسب، بل إن ألمانيا الاتحادية ظلت تنظر إلى علاقتها مع إسرائيل بأنها علاقات ذات طبيعة خاصة، مهما بلغ مستوى التطبيع في ما يخص العلاقات الألمانية- الإسرائيلية محكومة ومتذرعة في آن معًا بعقدة الذنب النازية تجاه يهود ألمانيا والعالم”([30])، حيث أنه بعد الحرب العالمية الثانية وفي نوع من تكفير الذنب بعد ما قام به هتلر تجاه يهود أوروبا، أصبحت ألمانيا من أشد المناصرين لدولة الاحتلال، وهو ما كان جليًا في قاعة المحكمة الجنائية الدولية في شهر كانون الثاني/ يناير الماضي، حينما بررت ألمانيا دعمها لإسرائيل بعقدة الاضطهاد النازي الثقافية القديمة، حيث “أعلنت ألمانيا عن دعمها لإسرائيل يوم الجمعة [في الأسبوع الثاني من شهر كانون الثاني/ يناير 2024م]، وهو اليوم الذي اختتمت فيه جلسات الاستماع [في المحكمة الجنائية]، وهو دعم له أهمية رمزية بالنظر إلى تاريخها في المحرقة [الهولوكوست]، عندما قتل النازيون ستة ملايين يهودي في أوروبا. وأُنشئت إسرائيل بعد الحرب العالمية الثانية كملاذ لليهود في ظل تلك الفظائع”([31]). وهكذا تجد أن لدعم الصهيونية الحالي جذورًا ثقافية عميقة في الشخصية الأوروبية في روسيا وفرنسا وأميركا وبريطانيا وألمانيا، وهو ما يغيب بشدة عن وعي كثير من العرب.

وفي ما يخص “الصهيونية الوجودية” هناك ما يمكن تسميته ب”المسألة الأوروبية” التي لها تمثلات كثيرة يقوم معظمها على فكرة النظرية المطلقة والحضارة النهائية، التي تجعل من نفسها مركزًا لكل شيء في الكون والآخر يدور حولها، وهذا نجده في تمثلها الهيغلي أصل النظرية المطلقة والأب التاريخي للدولة الرأسمالية، وفي تمثلها الماركسي والدولة الشمولية العمالية، وبالمثل لم يختلف جان بول سارتر الفيلسوف الوجودي الشهير، فلقد عدّ سارتر أن الذات الأوروبية وقيمتها الثقافية العميقة القديمة تجاه يهود أوروبا المتمثلة بمعاداة السامية التاريخية، كظاهرة تصاعدت في العصور الوسطى، والاضطهاد النازي لهم في الحرب العالمية الثانية حديثًا مركزًا للكون ولا مركز بعده، فخرج بنظرية وجودية ليهود أوروبا ترى أن وعيهم الوجودي الفاعل العام يرتبط بتحولهم لجماعة كبرى تتمثل بالصهيونية واحتلال فلسطين، هو قدم الأمر بوصفه انتصارًا ليهود أوروبا المضطهدين وتحريرًا لهم من نيران أوروبا الدينية في العصور الوسطى مع معاداة السامية، ومن الاضطهاد النازي الحديث، لكنه لم يمتلك الحِجاج المنطقي والفلسفي العادل لينفصل عن وهم المسألة الأوروبية ومركزيته الخاصة، لينظر إلى العرب الفلسطينيين الذين ستقام حرية يهود أوروبا الوجودية على حسابهم! وتلك هي أزمة الشخصية الأوروبية وقيمها الثقافية العميقة عامة التي تفتقد لفكرة النسبية وتعدد وجهات النظر واحترام الآخر، إنما تنظر إلى الأمر دومًا من زاوية واحدة وتتطرف في التشيع لها.. على عكس ما يروّج له البعض([32]).

وكذلك الأمر بالنسبة إلى “الصهيونية الماركسية” فبالمنطق نفسه لفكرة المسألة الأوروبية ومركزية نسقها وظرفها الخاص وتجاهل أي ذوات إنسانية أخرى والتعالي عليها، قدم تيار “الصهيونية الماركسية” مع المنُظر الروسي اليهودي بيير دوف بيرخوف قراءة طبقية ومادية لأزمة اليهود في أوروبا وعبر التاريخ، فقال إن البناء الطبقي للجماعات اليهودية في العالم كان مشوهًا يقوم على مهن غير عمالية أو زراعية في المعظم ومعظمه مهن نوعية، وقال إن الحل يتمثل بتصحيح البناء الطبقي ليهود أوروبا وتحويلهم إلى مجتمع كبير قاعدته المهن العمالية والزراعية، وليست المهن النوعية التي تتسبب بصدامهم وتنافسهم مع المجتمعات التي يعيشون وسطها، ولكن انحراف النموذج وعنصريته سيبدأ عندما يختار بيير دوف بيرخوف فلسطين ليقيم عليها مشروع الصهيونية الماركسية، حيث سيعدّ أن فلسطين هي الحق التاريخي لليهود! وأن يهود أوروبا سيقودون العرب المتخلفين في مرحلتين، المرحلة الأولى بناء الدولة المزعومة (إسرائيل) والمرحلة الثانية المشاركة في نضال باقي الدول الشيوعية لتأسيس دولة عمالية عالمية، وهو هنا لم يأخذ رأي الفلسطينيين في مشروعه، وعدّهم بنية حضارية أقل في حاجة إلى ممثل الحضارة الغربية (الصهيونية) ليقوم بالتحديث نيابة عنهم! في أعلى درجات التعالي والعنجهية الحضارية([33]).

1- ذروة الارتباك الجيوثقافي الغربي والربط بين روسيا وفلسطين

يتضح أثر المسألة الأوروبية/ الغربية ومتلازماتها الجيوثقافية في القضية الفلسطينية، من خلال عملية طوفان الأقصى وحرب غزة عمومًا، من خلال نموذج للخطاب الأميركي بوصفه الممثل السائد للمسألة الأوروبية في القرن الحادي والعشرين، وبوصف أميركا هي القوة العالمية التي ورثت التجربة الغربية/ الأوروبية عن نظرية الحضارة المطلقة، وذلك من خلال تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن في خضم الحرب وذروتها، والتي تعد أبرز دليل على تشوهات العقلية الجيوثقافية الغربية والارتباك الذهني الشديد الذي تمارسه على المستوى الثقافي/ النظري، وعلى المستوى التطبيقي، حيث في مقالة للرأي نشرتها صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية: “أشار بايدن إلى أن الرئيس الروسي بوتين وحماس ‘يقاتلان من أجل محو (الدولة) الديمقراطية المجاورة من على الخريطة، ويأملان انهيار الاستقرار والتكامل الإقليميين والاستفادة من الفوضى التي تترتب على ذلك”([34])،

ففي الفقرة السابقة تتبدى بكل وضوح ذهنية المسألة الأوروبية الجيوثقافية التي ترى أن “إسرائيل”، وأوكرانيا الجديدة في مرحلة ما بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، جزءًا من حضارة النظرية المطلقة في تمثلها الأميركي الليبرالي الديمقراطي، لتبرز هنا مشكلة هذه الحضارة التي تعتقد في ديمومة تمددها باستمرار، وفي ضرورة قيامها بتفكيك أي احتمال لنهضة الآخر الحضاري، وهذا سر تسمية الدراسة لها بالحضارة المطلقة أو حضارة النظرية المطلقة، التي أول من قدمها الفيلسوف الألماني هيغل أبو الدولة الطبقية (التي عكسها تلميذه ماركس بنظرية مطلقة ومضادة لها عن الدولة غير الطبقية).

فذهنية المسألة الأوروبية/ الغربية تقوم على التمدد على حساب الآخر باستمرار بحجة أنها تحمل الرسالة البشرية المطلقة عن الديمقراطية والليبرالية، وترى عدوًا مشتركًا في المقاومة الفلسطينية وفي التصدي الروسي الجديد لتمدد حلف الأطلنطي باتجاه حدودها من خلال أوكرانيا، وفي المقالة ذاتها استطرد بايدن، قائلًا إن “العالم يواجه اليوم نقطة انعطاف، حيث ستحدد الاختيارات التي نتخذها، بما في ذلك تلك التي نتخذها في الأزمات الحالية في أوروبا والشرق الأوسط، تجاه مستقبلنا على مدى أجيال مقبلة”([35]).

وسر الارتباك الثقافي الذي تمارسه المسألة الأوروبية وذهنيتها هنا، أنها ترى في كل تمثل سياسي مرتبط بعُقدها أو متلازماتها الثقافية القديمة مقدسًا يحظر المساس به، وبالنظر إلى المستوى التاريخي سنجد أن المتلازمة الثقافية التي أنتجت الصهيونية هي عقدة “معاداة السامية” التي جرت على أرض أوروبا، واضطهاد الأقليات اليهودية هناك وعقدة الذنب التي نشأت من ذلك، أما أميركا والمستوطنون الأوروبيون الجدد بها في البدايات، استطاعوا أن يجدوا من خلال المذهب البروتستانتي الصلة، والقدوة في أبطال العهد القديم وتفاسيره وشروحه في “التلمود” التي تبرر لهم القتل المقدس تجاه سكان أميركا الأصليين (الهنود الحمر)، بعيدًا من المذهب الكاثوليكي (الذي أُسس في عهد الإمبراطورية الرومانية) الذي ارتبط بسماحة المسيح عليه السلام والموقف المتشدد تجاه اليهود بوصفهم قتلة المسيح عليه السلام.

ومن ثم أصبحت الصهيونية متلازمة جديدة من متلازمات المسألة الأوروبية وتمثلاتها الثقافية، من يحاول المساس بها يصبح عدوًا للديمقراطية والليبرالية وجميع القيم التي أصبحت مقدسة/ مطلقة ترتبط بالحضارة الغربية ووهم أنها آخر الحضارات البشرية لا يوجد بعدها حضارة، ومن خلال دراسة السلوك الجيوثقافي الحديث للمسألة الأوروبية تجاه فلسطين والجماعات الجيوثقافية الأخرى عمومًا، سنجد ظاهرة أو “نمطًا تكراريًا” تستخدمه السياسات الخارجية الجيوثقافية الغربية يقوم على “تفجير النمط الجيوثقافي للآخر من داخله”، حيث تعتمد الذهنية الغربية في المستوى الجيوثقافي على خلق تناقض داخل الجماعات البشرية المتنافسة معها، ثم تحول هذا التناقض الجيوثقافي إلى تناقض سياسي واقعي.

ولننظر هنا إلى كيفية استقطاب أميركا لتايوان على المستوى الثقافي، وموقعها الجغرافي بالنسبة إلى الصين مفجرة التناقض الجيوثقافي بينهما، على الرغم من التاريخ الجغرافي والثقافي المشترك الذي يجمعهما، ثم تتمرس حول هذا التناقض الجيوثقافي عسكريًا وسياسيًا، للوصول إلى ذروة الصدام تمهيدًا لتفكيك احتمال الذات الصينية في الصعود الحضاري والسياسي. وبالمثل فعلت مع أوكرانيا التي فجّرت المشترك الجيوثقافي بينها وبين روسيا، ليتحول إلى تناقض عسكري وسياسي انتهى لذروة الصراع والحرب بين البلدين، وتقسيم للجغرافيا، وتباين في الاختيارات الثقافية/ السياسية/ الفكرية، على الرغم من كل ما بينهما من مشتركات ثقافية وجغرافية تاريخية.

1- الجغرافيا الثقافية للرواية الفلسطينية: جغرافيا ثقافية عربية قاصرة وجزئية

في علاقة الجغرافيا الثقافية ونظريتها بالرواية الصهيونية في حاضنتها العربية الطبيعية؛ سنجد كثيرًا من التناقضات حاضرة، فالجغرافيا الثقافية الحاضنة الآن للرواية الفلسطينية ومقاومتها المسلحة تأتي من خارج الجغرافيا الثقافية العربية، وتستمد المدد تحديدًا من الرواية الشيعية الخاصة بإيران، ومحور التمدد الخاص بها في الدول العربية الموجود في كل من العراق ولبنان واليمن وكذلك سورية (وهو التمدد الذي قام على التمويل والتنظيم والتسليح)، في حين تتصف الجغرافيا الثقافية العربية في دعمها للرواية الفلسطينية عمومًا –وليس المقاومة فقط- بالقصور والجزئية.

حيث يجوز القول إن النخبة العربية الثقافية من خلال أزمتها في علاقتها مع الثقافة الأوروبية قد عكست ذلك على الرواية الفلسطينية، بالحذف أو التمركز حول جانب واحد للرواية الفلسطينية لتصبح الرواية الفلسطينية مأزومة في الجغرافيا الثقافية الخاصة بها، خاصة وأن معظم المشاريع الثقافية للتيارات الفكرية والسياسية العربية في القرن العشرين قد تفككت أو ثبت عجزها، وكانت معظمها ردة فعل (مع اليمين الديني) أو مجرد انعكاس باهت (اليسار والليبرالية) للمسألة الأوروبية، كما أن الثورات العربية كشفت اليمين الديني فلا يكفي أن تتطور نظرية مطلقة مضادة للمسألة الأوروبية تستند إلى السماء من دون مهارات سياسية أو اجتهادات فكرية حقيقية، وكشفت اليسار والليبرالية فلم يستطيعا التعبير عن تطلع الناس للانعتاق من الشعارات الجوفاء القديمة إرث المسألة الأوروبية واستقطاباتها.. الجميع الآن عاجز لا يملك القدرة على الاعتراف بذلك أو البحث عن نظرية وجودية جديدة فيما بعد المسألة الأوروبية، يعيشون على ذكريات نفسية مريحة عن النضال القديم، لكن هذه النخبة الثقافية ليس لديها البنية النفسية لتقديم جديد فقد استُهلكت، والأمل في نخبة ثقافية جديدة تتحمل مسؤولية المستقبل.

وعلى الرغم من التعاطف الذي يبديه المثقفون العرب والمصريون على وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أن المشكلة الجادة الآن حقيقة في الصراع بين الفلسطينيين وجيش الاحتلال؛ هي الصراع على امتلاك رواية وسردية عادلة وحاضرة في المحافل الدولية، ومواجهة أدبياتها المعادية لنا وصورها النمطية وبديهياتها الفكرية، لأن دولة الاحتلال “إسرائيل” تقدم رواية تستمد قوتها “الجغرافية الثقافية” من رواية المسألة الأوروبية ووهم المركزية والسيادة الحضارية المطلقة، وهي رواية شديدة التجذر في تصورات الماركسية والليبرالية والوجودية وألمانيا ما بعد النازية، هؤلاء كلهم يقدمون مشروع احتلال فلسطين بوصفه العدالة الغائبة ليهود أوروبا المضطهدين وحقهم في الحياة! من دون أخذ حق الفلسطينيين العرب في الحياة في الحسبان.

ولم يقدم المثقفون العرب روايات مضادة تفكك تصورات الصهيونية في حاضنتها الأوروبية، أكان في “الصهيونية الماركسية”، أم “الصهيونية الليبرالية” بروافدها، أم “الصهيونية الوجودية” عند سارتر، أم صهيونية” ألمانيا ما بعد النازية”.. كل تيار سياسي أو ثقافي/ فلسفي/ أيديولوجي عربي يداري على الجذور الكامنة والراسخة للصهيونية في هذا التيار الذي ينتمي إليه، فأخفى كل منهم جزءًا من الرواية المركزية للصهيونية لنصطدم الآن بالحائط الصلب للدعم الغربي لمذابح جيش الاحتلال بحجة الدفاع عن النفس. وعلى الرغم من تقديم البعض نقدًا مركزيًا للصهيونيات([36]) الأوروبية أو الروايات الفكرية الأوروبية التي تدعم إسرائيل؛ إلا أن التمثلات الثقافية العربية تعمدت عدم الاهتمام بها لأنها تكشف القصور أو الأخطاء التي وقعت فيها تلك التيارات العربية، واكتفى كل تيار بشعارات خاصة به في مواجهة الصهيونية تصلح للاستهلاك المحلي، لكنها لا تصلح لمواجهة المركزية الأوروبية في تبنيها للصهيونية ومشروعها الوجودي.

وتبدو أزمة الثقافة العربية والمصرية أنها تعيش على ذكريات القرن العشرين وشغف البدايات الأولى، من دون حتى أن تقدم رؤية نقدية لتلك البدايات أو تسعى لتقديم رؤى وآفاق جديدة للذات العربية في القرن الحادي والعشرين، وفي المقابل هناك روايات نمطية للاستقطاب الداخلي؛ فمن يسعى للانتصار للرواية الفلسطينية والحق العربي فيها يقدمون له صورة نمطية مسبقة بأنه يريد الحرب وتوريط العرب في ذلك. والحقيقة أن أي حرب من دون رواية متعاطفة معها، أو أي قوة خشنة في العموم من دون قوة ناعمة تحميها وتمنحها مظلة للعمل بها؛ سيكون مصيرها الأزمة والتفكك والتحلل مهما كانت الموارد التي استُثمرت فيها.

خاتمة

تتبعت الدراسة مسار الصراع الناشئ من عملية طوفان الأقصى وحرب غزة التي تلتها؛ وتمثلاتهما على مستوى فلسطين المحتلة التاريخية ذاتها مع دولة الاحتلال، وعلى المستوى الإقليمي وتدافعاته، وعلى المستوى الدولي وتشابكاته، وكشفت أن الصراع الجيوثقافي على فلسطين له تمثلاته الإقليمية التي مركزها رواية صفقة القرن والاتفاقيات الإبراهيمية التي كشفت الحرب عنها فجأة، مع تصريح ممثلي دولة الاحتلال المتكرر بإزاحة الفلسطينيين وتهجيرهم من غزة ومن الضفة، أهل غزة إلى سيناء وأهل الضفة إلى الأردن، وأدت الحرب إلى ظهور موقف مصري جديد صلب يرفض إزاحة الفلسطينيين إلى سيناء، ورصدت الدراسة التدافع الدبلوماسي بين مصر وحكومة الاحتلال وجيشها حول مدينة رفح الفلسطينية ومحور صلاح الدين/ فيلادلفيا. كما ترى الدراسة أن عملية طوفان الأقصى قامت بها المقاومة بوصفها الخيار الأخير أو “الخيار شمشون”، حيث إنها وجدت نفسها قاب قوسين أو أدنى من التصفية وأن تكون خارج التاريخ وخارج الجغرافيا، مع تصاعد تفاهمات صفقة القرن المعدلة في عهد بايدن، وتغول دولة الاحتلال على المسجد الأقصى، وتكرار دعوات الاقتحام والهدم وإقامة الهيكل اليهودي، ودخول مخطط “التقسيم الزماني والمكاني” للحرم الأقصى مرحلة جديدة.

ورصدت كذلك السردية الجيوثقافية أو الدعم الذي نالته المقاومة الفلسطينية من الجغرافيا الثقافية التي تمددت فيها السردية الشيعية المرتبطة بإيران، في كل من لبنان والعراق واليمن، وكذلك رصدت جذور الدعم الأميركي والغربي لدولة الاحتلال بوصفها ممثل سردية الحضارة المطلقة الغربية، أكان قديمًا مع الصهيونية الماركسية أو الليبرالية أو الوجودية، أم حديثًا مع خلال الاستقطاب الجديد بين قوى الأوراس الجدد أو روسيا وحليفتها الصين ومن معهم، وبين قوى الأطلسية أو أميركا والغرب ومن معهم، بوصف “إسرائيل” تمثل قوى الأطلسية في تلك السردية الجيوثقافية الجديدة.

وقد طرحت الدراسة تصورًا أو مقاربة ترى أن حل القضية الفلسطينية ومشكلتها لا بدَّ أن ينطلق من فرضية تعيد تأسيس الجغرافيا الثقافية العربية وثوابتها، مقدمة تصورًا وتفسيرًا لجرأة دولة الاحتلال على الجغرافيا السياسية المصرية وإزاحة الفلسطينيين إلى سيناء، يرى أن السبب في ذلك هو تفكك رواية الجغرافيا الثقافية المصرية مع اتفاقية السلام (كامب ديفيد)، ثم تفجير التناقضات الإقليمية المحيطة بمصر في عهد إدارة دونالد ترامب، لكي تمرر مصر أو تغض الطرف عن صفقة القرن في طبعتها الأولى، لتؤكد الدراسة تصورها أن استعادة ثوابت الجغرافيا الثقافية المصرية وارتباطها بمستودع الهوية العربي وفي القلب منه قضية فلسطين وثوابتها، هو الأساس الصلب لكي يحترم العالم الجغرافيا الثقافية الفلسطينية وسرديتها، ويحترم الجغرافيا الثقافية العربية وسرديتها عمومًا، ويحترم الجغرافيا السياسية لمصر في سيناء على وجه الخصوص.

ورصدت الدراسة ارتباك سردية الجغرافيا الثقافية الغربية في دعهما لإسرائيل وضعف منطقها وحجتها العقلية؛ من خلال عدة مواقف شملت ربط بايدن بين حرب جيش الاحتلال في غزة وحرب بوتين في أوكرانيا، وشملت تصوير نتنياهو ما جرى في يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023م بوصفه امتدادًا لعقدة الاضطهاد النازي ليهود أوروبا، وأن الفلسطينيين يمثلون النازيين الجدد، وعديد من المواقف الأخرى التي تدعم مقاربة الدراسة بأن الصراع على فلسطين هو صراع في الجغرافيا الثقافية، أي أن تمدد دولة الاحتلال ووجودها في الجغرافيا العربية هو فعل للجغرافيا الثقافية الغربية بوصف الصهيونية تمثل الحضارة الغربية في الشرق العربي، وتستحضر تمثلات الصراع الجيوثقافي بإرثه الغربي المتعدد، أكان ذلك بأوهام جيوثقافية ترى أن المشروع الصهيوني هو الحل لاضطهاد أوروبا وهتلر ليهود أوروبا القدامى، أم بأوهام ترى المشروع الصهيوني واحة ليبرالية ديمقراطية تحاربها قوى فلسطينية رجعية تقف على المساواة مع بوتين وروسيا.

وقدمت الدراسة أيضًا نقدًا للسردية العربية في دعمها للجغرافيا الثقافية الفلسطينية وروايتها؛ مستندة إلى ضرورة تجاوز السردية العربية مواقف التعاطف العام الرومانسي والمجمل، وأهمية تطوير سردية جديدة تدعم الحق الفلسطيني وتواجه جذوره الجيوثقافية التي تأتي من الغرب والحضارة الغربية، أكان ذلك قديمًا مع تصورات الصهيونيات الماركسية والليبرالية والوجودية (في القرن العشرين)، أو حديثًا مع توظيف القضية في الصراع العالمي الجديد بين سردية الأوراس الجدد التي تقدمها روسيا في مواجهة سردية القوى الأطلسية أو غرب أوروبا وأميركا (في القرن الواحد والعشرين).

وتخلص الدراسة إلى أن مشكلة قضية فلسطين كما قدمتها حرب غزة تكمن في السردية الغربية الحاملة للمشروع الصهيوني نفسه ورواياتها المتعددة والمتجاورة والمتعاضدة، والتي تبرر له ما يفعله بوصفه تمثيلًا للحضارة الغربية في منطقة الشرق العربي والمسلم، هذا التمثيل الذي يجب على الغرب أن يؤكد من خلاله هيمنته بأشكالها الثقافية كافةً شرقًا وغربًا، وذلك بالاستناد إلى الخلفيات التاريخية للصهيونية في علاقتها بالغرب، من خلال الصهيونية الماركسية القديمة التي قدمها البعض بوصفها طليعية تقدمية في الشرق الأوسط، ومن خلال الصهيونية الليبرالية بعلاقاتها المتعددة بتيار البروتستانتية وما سماه البعض” المسيحية الصهيونية”، والثقافة الأنجلو ساكسونية عمومًا والمشابهة بين الاستيطان الأوروبي (الأنجلو ساكسوني المسيحي) في أميركا وفظائعه، وبين أفعال اليهود في التوارة تجاه “الأغيار” أو غير اليهود، ومن خلال الصهيونية الوجودية ودعمها لـ”إسرائيل” بوصفها التحرر الوجودي الجماعي ليهود أوروبا من اضطهاد النازيين لهم في الحرب العالمية الثانية.

وكذلك تشير الدراسة إلى أن مواجهة الرواية الصهيونية عربيًا لا يمكن أن تتحقق إلا في أرض الجغرافيا الثقافية الحاضنة لها، أي في الغرب ذاته وفي معاقلها الرئيسية في فرنسا وألمانيا وأميركا وبريطانيا وكذلك روسيا التاريخية، عبر تقديم رواية عربية تواجه مباشرة الحواضن الليبرالية والماركسية والوجودية للصهيونية، والتي يعدّها الغرب ممثلًا لها ومن ثم يمنحها السمات نفسها للتعالي الحضاري الغربي في مواجهة الآخر الفلسطيني/ العربي/ المسلم/ الشرقي.

إذ دللت الدراسة على تشوه المعايير وازدواجها في تبرير عنصرية الصهيونية وممارسة الإبادة الجماعية من جانبها، بحجة استدعاء أوهام الروايات الغربية الحاملة لها، ففي المخيلة الألمانية التي تتذكر الاضطهاد النازي لهم (كما صرحت في ساحة المحكمة الجنائية الدولية في القضية المرفوعة ضد “إسرائيل” في حرب غزة)، وفي المخيلة الفرنسية التي تعدّ “إسرائيل” تحريرًا ليهود فرنسا الذين اضطهدهم النازيون (كما طرح سارتر في كتابه: تأملات في المسألة اليهودية)، وفي المخيلة الأميركية التي تعدّ “إسرائيل” واحة الليبرالية الديمقراطية في الشرق الأوسط (كما صرح بايدن في خضم الحرب على أهل غزة).

وربما يحتاج الأمر من الثقافة العربية إلى تجاوز أوهام نهاية السرديات الكبرى، وتجاوز انشغال كثير من مثقفيها ونخبها بالقضايا الصغيرة والفردية والهامشية والشخصية (نتاجًا لفلسفة الدارسات الثقافية وهوامشها، وفلسفات ما بعد الحداثة، ونفوذ الاستشراق الجديد وحضوره، وأزمات ما بعد الثورات العربية الجديدة بالقرن الواحد والعشرين)، والعودة مجددًا للبحث عن كيفية الخروج من المأزق العربي والبحث عن سردية عربية جامعة، يمكنها أن تواجه السرديات الحاملة للرواية الصهيونية، بعيدًا من عُقد الماضي التي تجعل البعض يصدر حربًا أهلية ثقافية استقطابية، بين التمترس المجرد حول الذات وروايتها التاريخية كردة فعل لهيمنة الآخر الحضارية، أو الخروج التام عليها والاستلاب للآخر وروايته السائدة من جانب البعض كردة فعل لمشاريع الذات العربية في القرن العشرين وتكسرها، وهو الاستقطاب الذي يستهلك قطاعًا من الثقافة العربية تمامًا حتى أن حرب غزة ومشاهدها المؤلمة ومذابحها ومقابرها الجماعية لم تستطع أن تخرجهم من الاستقطاب، ليبحثوا في وجودهم الجماعي الراهن والمتأكل وبدائله الممكنة.

وكذلك يحتاج الأمر إلى البحث في مآل دولة ما بعد الاستقلال إرث القرن الماضي في الوطن العربي برمته، وكيف يمكن أن تطور هذه الدولة من نفسها، وتواجه التحديات الداخلية والإقليمية والدولية التي أصبحت تحيط بها من كل جانب والتي وصلت إلى ذروة التحدي الجيوثقافي مع عملية طوفان الأقصى، والمأزق الذي وضعت به الجميع.

المراجع / المصادر:

الكتب العربية

– سارتر. جان بول، تأملات في المسألة اليهودية، حاتم الجوهري (مترجم)، الطبعة 1 (القاهرة: دار روافد، 2015).

– الجوهري. حاتم، دفاعًا عن القدس وهوية الذات العربية: نقد خطاب الاستلاب العربي للصهيونية في ظل الاتفاقيات الإبراهيمة وصفقة القرن والمروجين العرب لهما، الطبعة 1 (القاهرة: دار إضاءات، 2023).

– ــــــــــــــــــــــ. خرافة التقدمية في الأدب الإسرائيلي: نقد أسطورة الاحتلال التقدمي، الطبعة 2 (مصر: الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2013). (رسالة ماجستير منشورة).

– عايش. حسني، أمريكا الإسرائيلية وإسرائيل الأمريكية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة 1 (لبنان، 2006).

– السلموني.سعاد ، السياسة الخارجية تجاه الشرق الأوسط، الطبعة 1 (الأردن: دار غيداء للنشر والتوزيع، 2020).

– سابزر. ستيفن، الصهيونية.. المسيحية: إنجيليون توراتيون متطرفون، نبيل صبحي (مترجم) (لبنان: مؤسسة الرسالة العالمية، 2010).

– حرفي. سوزان، حوارات عبد الوهاب المسيري، الصهيونية واليهودية، الطبعة 1 (مصر: دار دون، 2024)، ص 211.

– الشريف.ماهر، الأممية الشيوعية وفلسطين، الطبعة 1 (بيروت: دار ابن خلدون، 1980).

 

الكتب الأجنبية

– Ber Borochov, Class Struggle and the Jewish Nation: Selected Essays in Marxist Zionism, editor Mitchell Cohen, Routledge, UK, 1st Edition, 1983.

1– راجع التصريحات التي تناقلتها المنصات الإخبارية للوزير إيتمار بن غفير بتاريخ 22 شباط/ فبراير 2024، جريدة الشروق المصرية.https://www.shorouknews.com/news/view.aspx?cdate=22022024&id=a4471b36-8359-4401-ad43-8bf6468ad1feوكذلك تصريحات سميتريتش المنشورة في موقع آي 24 نيوز بتاريخ 20 آذار/ مارس 2023 قبل الحرب.

https://www.i24news.tv

2 صفقة القرن: هي مفهوم ومشروع طرحه دونالد ترامب في فترة ترشحه الأولى عام 2015 وظهر للعلن بعد نجاحه في الانتخابات، وارتبط بما عرف بالسلام الإبراهيمي أو الاتفاقيات الإبراهيمية بين “إسرائيل” وبعض الدول العربية على رأسها دولة الإمارات، ونشر مشروع الصفقة في وثيقة أميركية بعنوان: ”السلام من أجل الازدهار – رؤية جديدة لتحسين حياة الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي”، وكانت تقوم الصفقة على عديد من الحوافز الاقتصادية لكن مع الانتقاص كثيرًا من الحقوق الفلسطينية فيما قبل حرب عام 1967 وما ورد في المبادرة العربية عام 2002.

3– الاتفاقيات الإبراهيمية: هي الشكل الرابع أو المرحلة الرابعة من اتفاقيات السلام الموقعة بين “إسرائيل” والدول العربية، حيث سبقتها اتفاقية كامب ديفيد، مع مصر، ووادي عربة مع الأردن، وأوسلو مع الفلسطينيين، وارتبطت الاتفاقيات الإبراهيمية بما عرف بصفقة القرن، واستندت الاتفاقيات الإبراهيمية إلى مستوى ثقافي يقوم على فكرة المشترك الإبراهيمي -نسبة إلى نبي الله إبراهيم عليه السلام- بين الأديان الثلاثة الإسلام (العرب) واليهودية (إسرائيل) والمسيحية (أميركا)، ووقعت على الاتفاقيات كل من الإمارات والبحرين، وكذلك المغرب ومن بعدها السودان.

4– موقع الحدث الإخباري التابع لقناة العربية، 26 كانون الأول/ ديسمبر 2023.https://www.alhadath.net/2023/12/26

5– “المسجد الأقصى.. مخطط اليهود لتقسيمه زمانيا ومكانيا”، الموسوعة، موقع الجزيرة نت، 19 نيسان/ أبريل 2022.https://www.ajnet.me/encyclopedia/2015/9/30

6– موقع فرانس 24 الإخباري، 22 كانون الثاني/ يناير 2024.https://www.france24.com/ar

7– للمزيد انظر: حاتم الجوهري، كتاب: (دفاعًا عن القدس وهوية الذات العربية: نقد خطاب الاستلاب العربي للصهيونية في ظل “الاتفاقيات الإبراهيمية” و”صفقة القرن” والمروجين العرب لهما)، ط1 (القاهرة: دار إضاءات، 2023). حيث ذكر الكتاب أمثلة لخطاب الاستلاب العربي والترويج لصفقة القرن من خلال نماذج بخلفية دينية وعلمانية على السواء، فمن أصحاب الخلفيات العلمانية تناولت الدراسة تصريحات ومواقف كل من: مراد وهبة (مصر)- سليمان الطراونة (الأردن)- نبيل فياض (سورية)- فرحات عثمان (تونس)، ومن أصحاب الخلفيات الدينية: أحمد صبحي (قرآني/ مصر) – سامح عسكر (إخواني سابق/ مصر) – مصطفى راشد (أزهري سابق/ مصر)، زكريا بطرس (قس مسيحي سابق/ مصر).

8– موقع يورونيوز الإخباري، 11 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.https://arabic.euronews.com/2023/10/11/israel-pm-netanyahu-calls-us-president-biden-to-thank-him-for-his-support-after-hamas-atta

9– المرجع نفسه.

10– موقع سكاي نيوز الإخباري الإماراتي، 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023.https://www.skynewsarabia.com/world/1667911

11– جريدة اليوم السابع المصرية، 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023.https://www.youm7.com/story/2023/11/5

12– موقع مونت كارلو الإخباري الدولي، 6 نيسان/ أبريل 2024.https://www.mc-doualiya.com

13– المرجع نفسه.

14– موقع البي بي سي عربي نيوز، 24 نيسان/ أبريل 2024.https://www.bbc.com/arabic/articles/c2e0vyqdy5go

15– جريدة اليوم السابع المصرية، 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.https://www.youm7.com/story/2023/10/31

16– جريدة الشرق الأوسط، 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023.https://aawsat.com

17– موقع روسيا توداي الإخباري الروسي، 10 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.https://arabic.rt.com/middle_east/1502221

18– وسائل الإعلام ووكالات الأنباء الدولية المتعددة لشهر كانون الثاني/ يناير وشباط/ فبراير 2024.

19– جريدة الشرق الأوسط، 22 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.https://aawsat.com

20– موقع البي بي سي العربي، 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023.https://www.bbc.com/arabic/live/67293192

21– موقع فرانس 24 الإخباري بتاريخ، 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023.https://www.france24.com/ar

22– وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية (الإيرانية)، 15 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.https://ar.irna.ir/news/85258613

23– لمزيد حول “الصهيونية الماركسية” انظر: حاتم الجوهري: “خرافة التقدمية في الأدب الإسرائيلي: نقد أسطورة الاحتلال التقدمي” (مصر: الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2013)، (رسالة ماجستير منشورة)، وانظر مؤلفات بيير دوف بيرخوف الصهيوني الروسي مؤسس أيديولوجيا “الصهيونية الماركسية”، وانظر وثائق الحزب الشيوعي “الإسرائيلي” المتاحة على الإنترنت، وعشرات الكتب والدراسات الأجنبية والعربية التي تناولت اليسار الصهيوني. وحول “الصهيونية الوجودية”: جان بول سارتر، تأملات في المسألة اليهودية، حاتم الجوهري (مترجم)، (القاهرة: دار روافد، 2015)، والدراسة النقدية المصاحبة للكتاب بعنوان: “سارتر بين الصهيونية وسلب الحق الوجودي للفلسطينيين”، وانظر مواقف سارتر الفلسفية والسياسية الداعمة لإسرائيل والمذكورة توثيقًا في كتابات إدوارد سعيد، والمستقرة في الأدبيات السياسية الأوروبية والعربية.

24– ماهر الشريف، الأممية الشيوعية وفلسطين، ط1 (بيروت: دار ابن خلدون، 1980)، ص 73، 76، 78، 84، 85، 114، 115، 122.

25– حسني عايش، أمريكا الإسرائيلية وإسرائيل الأمريكية، ط1 (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2006)، ص150.

26– مروان مشرقي، “مقدمات وخصوصيات نشوء الحركة الشيوعية في فلسطين”، صحيفة صوت اليسار العراقي.http://saotaliassar.org/Frei%20Kitabat/Palastina01.htm

27– سارتر، مرجع سابق.

28– حول “الصهيونية الليبرالية” انظر الكتب التي ربطت بين الصهيونية والمسيحية الأنجلوساكسونية/ البروتستانتية، مثل ستيفن سابزر، الصهيونية.. المسيحية: إنجيليون توراتيون متطرفون، نبيل صبحي (مترجم) (مؤسسة الرسالة العالمية، 2010). وعشرات الدراسات الأجنبية والعربية التي تناولت العلاقة بين الصهيونية والليبرالية ببعدهما الديني (المسيحية الصهيونية) وخلفيتهما المشتركة.

29– سوزان حرفي، حوارات عبد الوهاب المسيري، الصهيونية واليهودية، ط1 (مصر: دار دون، 2024)، ص 211.

30– سعاد إبراهيم السلموني، السياسة الخارجية تجاه الشرق الأوسط، ط1 (الأردن: دار غيداء للنشر والتوزيع، 2020)، ص257.

31– موقع الحرة الإخباري ووكالة أسوشيتد برس، 14 كانون الثاني/ يناير 2024.https://www.alhurra.com/arabic-and-international/2024/01/14

32– سارتر، مرجع سابق.

33– Ber Borochov, Class Struggle and the Jewish Nation: Selected Essays in Marxist Zionism, editor Mitchell Cohen, Routledge, UK, 1st Edition, 1983.

34– موقع الشرق نيوز الإخباري، 18 تشرين الثاني نوفمبر 2023.https://asharq.com/politics/

35– المرجع نفسه.

36– ينظر كمثال أعمال كل من: عبد الوهاب المسيري، ورشاد الشامي، وحامد ربيع، إضافة إلى جهد الباحث نفسه في رصد الأطر العامة للصهيونية من خلال المسألة الأوروبية ومتلازماتها الثقافية، المتمثلة بالحوامل الرئيسية الثلاثة للصهيونية المتمثلة بالصهيونية الماركسية، والصهيونية الليبرالية، والصهيونية الوجودية (ردة الفعل للتطرف النازي).

  • حاتم الجوهري

    حاتم الجوهري أستاذ الدراسات الثقافية المنتدب بالجامعات المصرية ومحاضر في اللغة العبرية ودراساتها المقارنة، ومؤسس مشروع المشترك الثقافي العربي، نشر العديد من الكتب والترجمات في مجال الدرس الثقافي للمسألة الصهيونية- العربية، حاصل على جائزة الدولة في العلوم الاجتماعية، وجائزة ساويرس في النقد الأدبي، ووصل للقائمة القصيرة لجائزة المركز القومي للترجمة.

مشاركة: