إيران والقضية الفلسطينية: بين العقيدة والمنفعة
مصطفى أحمد البكور
ملخّص
ظلّت العلاقات الإيرانية الفلسطينية تحظى بأهمية كبيرة في سياسات الحكومات المتعاقبة في كلٍّ من إيران وفلسطين في العصر الحديث، ولا سيما بعد قيام الكيان الصهيوني في فلسطين. وعلى الرغم من التحوّلات السياسيّة والإيديولوجيّة في كلا البلدين، وتبدّل مواقفهما تجاه دولة الاحتلال منذ قيامه، فإن تلك العلاقات ظلّت محطّ اهتمام صنّاع القرار في كلا الجانبين ولدى شعوب هذين البلدَين المسلمَين طوال تلك الحقبة، وذلك لارتباطها بأشدِّ القضايا الإقليمية والإسلامية حساسيّة وهي الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والسيطرة على عاصمتها القدس والمسجد الأقصى، فضلًا عن وجود مصالح وأثمان ضخمة وراء الارتباط بذلك الكيان المحتل والتصالح معه أو معاداته، لتمتّعه بأقصى درجات الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي من أهم القوى العالمية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
وتبعًا للعلاقة مع إسرائيل منذ تأسيسها سنة 1946، راوحت العلاقات الإيرانية الفلسطينية بين التبايُن والاختلاف، كما في العهد البهلوي، والتضامن الظاهري والائتِلاف، كما في عهد الجمهورية الإسلامية. وبغضّ النظر عن الأسباب والنيَّات الحقيقيّة لهاتين السياسَتين الإيرانيتَين المتفاوتتين تجاه القضية الفلسطينية وكفاحها ضد الاحتلال فقد كانت المحصّلة واحدة تقريبًا، وتتلخّص في السعي أولًا لتحقيق المصالح الإيرانية العليا، على الرغم من تفاوت الأدوات المستخدمة واختلاف المسارات والمآلات. وسوف نرصد في هذه العلاقات مساري العلاقات الإيرانية الفلسطينية والإيرانية الإسرائيلية، ومدى ارتباطهما بعقيدة الإيرانيين ومصالحهم في إبّان حكم رضا شاه البهلوي وحكم الخميني وما تلاه من عصر الجمهورية الإسلامية حتى أيامنا هذه، والأثمان والنتائج المترتّبة على هذين المسارين.
الكلمات المفتاحية: إيران، فلسطين، رضا شاه، الخميني، محور المقاومة، طوفان الأقصى.
تمهيد
لعلّ الكتابة في العلاقات الإيرانية الفلسطينية هي من أصعب الأمور لأنها أمر محفوف بخطر الانزلاق نحو الهوى السياسي والطائفي والقومي، في ظروف إقليمية وعالمية تعجّ بالصراعات والتناقضات، وتغليب لغة المصالح الكبرى وتغييب القيم الإنسانية والأخلاقية. ولعل استمرار الصراع الفلسطيني الصهيوني، وتعاقب موجات ذلك الصراع الوجودي، وعدم انجلاء الأمور عن منتصر أو مهزوم، يجعل من الصعوبة بمكان الخوض في هذا الباب، واتخاذ موقف نهائي تجاه هذه المعركة المتواصلة منذ أكثر من قرن. ولكن مما يمكن قوله هو أن العلاقات الإيرانية الفلسطينيّة في العصر الحديث قد مرّت بجملة من المحطات المهمة يمكن إجمالها في المرحلتين الآتيتين المتفاوتتين:
أولًا: العلاقات الإيرانية الفلسطينية في العصر البهلوي
تعود العلاقات الإيرانية الفلسطينية في العصر الحديث إلى عهد الشاه الإيراني محمد رضا بهلوي[1]، الذي تسلّم العرش الإيراني سنة 1941، أي قبيل خمس سنوات من إعلان قيام الكيان الصهيوني. وقد كان نظام هذا الشاه الإيراني من أوائل المعترفين بقيام دولة الاحتلال على أرض فلسطين، وكانت تربطهما علاقات عسكرية وسياسية واقتصادية عميقة.
ويبدو أن الهدف الذي كان يدفع الإيراني محمد رضا بهلوي لذلك التحالف هو انتماء الطرفين إلى المعسكر الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، وشعور الطرفين الإيراني والإسرائيلي بعداء المحيط العربي لهما الذي كان متحالفًا آنذاك مع الاتحاد السوفيتي ويحظى بدعمه، ولا سيما الدول العربية المحورية وعلى رأسها مصر والعراق المجاورتَين للطرفين الإسرائيلي والإيراني.[2]
ويبدو أن النزاع الإيراني العراقي على الحدود وبشكل خاص شطّ العرب، كان عاملًا مهمًّا أيضاً في التجاء الطرف الإيراني للتحالف مع الكيان الصهيوني والدول الداعمة له[3].
ظلّ هذا التحالف الإيراني الإسرائيلي قائمًا بزخم قوي حتى نكسة حزيران سنة 1967، حيث تمكنت إسرائيل من إلحاق هزيمة كبيرة بالدول العربية، واحتلال أجزاء كبيرة من أراضيها، الأمر الذي خلق نوعًا من الإحساس بالقوة والغطرسة في إسرائيل والشعور بالتعالي على نظام الشاه، والرغبة بالتفرّد بزعامة المنطقة والهيمنة عليها دون أي مشارك أو منافس.
ويبدو أن نظام الشاه استشعر تبدّل المواقف الإسرائيلية، فبدأ يعدّل من سلوكه تجاه الدول العربية ويخفّف من ولائه التام للكيان الصهيوني ودولته الجديدة، فندّد بالعدوان الإسرائيلي في حزيران، ودعا إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلّة. كما صوّت غير مرّةٍ في الأمم المتحدة لصالح قرارات ضد إسرائيل.
وفي حرب السابع من أكتوبر سنة 1973 أبدى نظام الشاه محمد رضا بهلوي تعاطفًا مع الدول العربية، وأرسل بعض المعونات الإنسانية إليها، لكنّ هذا لم يكن كافيًا ومؤثّرًا، حيث رفض الانخراط الحقيقي مع مواقف الدول العربية ضد إسرائيل، ولم يتخذ أية خطوة إستراتيجية من شأنها تغيير مسار الصراع ومآلاته، والوقائع الجديدة في المنطقة، سواء على مستوى الدعم بالسلاح أو إيقاف تصدير النفط للعالم الخارجي أسوة بالدول العربية للضغط على الدول الغربية وأمريكا لوقف دعم إسرائيل ومدّها بالسلاح [4].
لقد كان شاه إيران يضرب بعرض الحائط قيم وحدة الدين والجوار والمصالح الكبيرة مع الدول العربية، وكان لا يبالي بسخطهم عليه بسبب علاقاته الواسعة مع إسرائيل ويعدّه غير مسوّغٍ، ولا سيما أنه لم يكن الوحيد في هذا الاتجاه، وقد سبقته جارتهم تركية (السنّيّة) في اعترافها بذلك الكيان والارتباط معه، وأن تلك العلاقات تنسجم والمصالح الوطنية لبلاده ولا غنى له عنها، وأن العرب أمة غير موثوقة، ولا يعوّل على الشعوب العربية، وأنها قد تتآمر على إيران وتتصالح فجأة مع إسرائيل وتتخلّى عن بلاده.
ظلّت العلاقات الإيرانية الإسرائيلية في عهد الشاه محمد رضا بهلوي، على ما شابها من مشكلات، تتسم بالقوّة والعمق على كافة الصعد العسكرية والسياسية والاقتصادية[5]؛ وقد كان لموقع إيران المهم ومكانتها الكبيرة آنذاك أهمية كبيرة لدى إسرائيل، وكانت ترى أن ثباتها واستمرارها مرهون إلى حدٍّ كبير بثبات نظام الشاه، وذلك لأن إيران كانت حليفتها الوحيدة في المنطقة[6]، ولهذا لم تتردّد إسرائيل في مدّ إيران بأنواع السلاح وتدريب قواتها عليه، وكان هنالك تعاون وثيق بين جهازَي استخبارات البلدين؛ الموساد الإسرائيلي والساواك الإيراني[7]. وفي المقابل كانت إيران تمدّ إسرائيل بنحو ستين بالمئة من المواد النفطية اللازمة جدًّا لنهضتها الناشئة وصناعاتها العسكرية والإستراتيجية في ظل حصار عربي ونقمة إسلامية على ذلك الكيان المحتل للقدس والمسجد الأقصى[8].
وقد حاولت حكومة محمد رضا بهلوي إخفاء بعض بنود اتفاقياتها مع إسرائيل وإبقاءها سرّيّة، لكن ما ظهر من هذه الاتفاقيات والمعاهدات[9] في أوانه أو ما ظهر لاحقًا كان كافيًا لإثارة حفيظة معارضة إيرانية داخلية، ولاسيما من رجال الدين وعلى رأسهم آية الله الكاشاني[10] ومن ثم آية الله الخميني، فضلًا عن عداء عربي وإسلامي كبير للدور التآمري الذي كان يلعبه نظام الشاه تجاه العرب والقضية الفلسطينية ومقدساتها، وهذه الأسباب وغيرها كانت كفيلة بتفجير الثورة الإسلامية في إيران بزعامة آية الله الخميني سنة 1979، والإطاحة بنظام الشاه، وتغيّر مسارات تلك العلاقات بشكل كبير. ولعلّ إحدى أسباب قيام تلك الثورة وانتصارها هو دعم نظام الشاه غير المحدود للكيان الصهيوني[11].
ثانيًا: العلاقات الإيرانية الفلسطينية في عهد الثورة الإسلامية
لم يكن انتصار الثورة الإيرانية الخمينية سنة 1979 محطّة عابرة في تاريخ إيران الحديث وروابطها مع دول المنطقة والعالم العربي، ولا سيما مع القضية الفلسطينية والدول ذلت الصلة، فإيران التي كانت من قبل مرتعًا خصبًا لإسرائيل وميدانًا واسعًا لنشاطاتها العسكرية والسياسية والاقتصادية والاستخباراتية، باتت في غضون مدّة وجيزة من أشد الدول عداء لإسرائيل، وانفضّ ذلك التحالف الإستراتيجي بين الطرفين إثر إعلان الزعيم الإيراني آية الله الخُميني (1900-1989) انتصار هذه الثورة، وما تبعها من قطع العلاقات مع الكيان الصهيوني، واتخاذ خطوات إستراتيجية ورمزية في هذا المسار من قبيل: استبدال السفارة الإسرائيلية بالسفارة الفلسطينية، وتسمية الشارع الذي تقع فيه تلك السفارة الإسرائيلية باسم شارع فلسطين، وتعيين سفير فلسطينيٍّ هنالك مُمثِّلًا لمنظمة التحرير الفلسطينية. كما دعا آية الله الخميني لجعل يوم الجمعة الأخيرة من شهر رمضان في كل عام يومًا عالميًّا للتضامن مع فلسطين، وأسماه “يوم القدس”، ووجّه بخروج مسيرات في جميع المدن الإيرانية مؤيدة لفلسطين ومندِّدة بإسرائيل وداعميها من الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا. هذه الخطوات وغيرها تمّت في وقت كانت تسعى فيه الصهيونية العالمية جاهدة إلى إقناع العالم أن المسألة الفلسطينية والصراع على القدس هي مسألة داخلية عربية، ولا علاقة للمسلمين بها[12].
كان الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات (1929-2004) أكثر من رحّب بتلك الثورة والخطوات الجديدة التي اتخذتها، وكان أول زعيم فلسطيني وعربي وعالمي يصل إلى إيران لتهنئة الخميني بانتصار هذه الثورة ومباركة القرارات التي اتخذتها، حيث وقف هنالك مخاطبًا آية الله الخميني:
“إنهم يقولون إنَّ زلزالًا قد ضرب المنطقة، ونحن نقول بأنه كان انفجارًا للنور، نحن نقول إنَّ عصرَ حرية واستقلال أمتنا ومنطقتنا قد حلَّ. هناك العديد من المشاكل أمامنا، ولكننا في نفس الوقت متفائلون بالمستقبل. إن أمامكم جهاد أكبر؛ فإعادة بناء المجتمع أصعب بكثير من القتال وتحقيق النصر فالشاه قد دمّر هذه البلاد”[13].
ولعلّ من العوامل المهمة في تأثير الثورة الإسلامية في القضية الفلسطينية وجذب زعمائها وشعبها تجاه تلك الثورة والتأثّر بأفكارها هو مناداتها بعدم الفصل بين الدين والسياسة (سياستنا هي عين ديننا)، وترفّعها عن الأفكار الطائفية والمذهبية وتركيزها على عزّة الإسلام والمسلمين، ورفع الشعارات الجهادية والثورية ضد الاستعمار والاستكبار والكفاح ضده[14]. ولكن يبدو أن هذه البداية والشعارات والمواقف المعسولة لم تكن لتستمر بين إيران والسلطة الفلسطينية دون مطبّات وحوادث معكِّرة؛ فقد تفجّرت الحرب العراقية الإيرانية، وتعرّضت إيران لحصار اقتصادي وعسكري خانق غير مسبوق، ودفعت أثمانًا باهظة في شتى المجالات، ولمّا كان (بقاء النظام أوجب الواجبات) بحسب عقيدة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فإنها لم تجد حرجًا في استيراد السلاح حتى من إسرائيل ومن أمريكا نفسَيهما، كما أظهرته فضائح صفقة (إيران – كانترا)، فباتت شعارات من قبيل “أمريكا هي الشيطان الأكبر” و”الموت لأمريكا والموت لإسرائيل”، على المحك، وموضع شك وريبة وتهكُّم من قِبَلِ حلفاء الجمهورية الإسلامية قبل أعدائها.
لقد كانت هذه الاتفاقيات والفضائح وغيرها تحدث في السرّ، بينما كان مطلوبًا من الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات ردّ الجميل للثورة الإسلامية، وإعلان موقف صريح مؤيّد لإيران في حربها مع العراق المدعوم آنذاك من الأنظمة العربية ولا سيما الخليجية، وكان مطلوبًا من عرفات أن يحذو حذو الرئيس السوري حافظ الأسد في مناهضة العراق ونظام الرئيس العراقي صدام حسين.
وقد حاول عرفات تحييد فلسطين وإبعادها عن هذا الأمر واتخاذ مسار مستقلٍ ومحايد، لكنه لم يفلح في ذلك أمام الضغوطات الإيرانية، فاضطرّ أن ينحاز في نهاية المطاف للصف القومي العربي المؤيد للعراق في حربها على إيران، الأمر الذي أفقده كثيرًا من الدعم الإيراني، وعرّض منظمة التحرير الفلسطينية لضغوط إيرانية كبيرة في شتى المجالات. ويبدو أن انخراط عرفات في مسار التسوية مع إسرائيل وعقده اتفاقية أوسلو معها سنة 1993، واعترافه بإسرائيل قد أفقده ومنظمة التحرير الفلسطينية أية إمكانية لرأب الصدع مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية[15].
لكن هذا التوجه الذي اختاره عرفات بمحض إرادته والنأي عن الجمهورية الإسلامية لم يُبعد اليد الإيرانية عن فلسطين، فقد بدأت ببناء علاقات مع قوى المقاومة الإسلامية الفلسطينية الناشئة، وعلى رأسها حركة المقاومة الإسلامية حماس التي أسسها الشيخ أحمد ياسين (1936- 2004)، وكثفت من دعمها الاقتصادي والعسكري لهذه الحركات الفلسطينية المقاومة، ودعمت الانتفاضة الفلسطينية ضد الاحتلال وعسكرتها، وعدّت أن هذه الانتفاضة ظاهرة مستلهمة من الثورة الإسلامية الخمينية في قيامها على الشاه وإسقاطه واستعادة حقوق الشعب الإيراني التي كانت مسلوبة، وبالتالي فهي الوسيلة الوحيدة للتحرّر من الاحتلال الصهيوني واسترداد الحقوق الفلسطينية المسلوبة[16].
لكن هذا الدعم الإيراني لحركات المقاومة وعلى رأسها حماس لم يرق لبعض الفرقاء الفلسطينيين، وعلى رأسها حركة فتح التي كان يقودها عرفات نفسه، ولاسيما بعد مسار التسوية الذي سار فيه عرفات، ووقع في نهايته اتفاقية أوسلو بتاريخ 13 سبتمر سنة 1993، فأضحى خائنًا في نظر الجمهورية الإسلامية، التي كانت تشعر أنها الداعم الوحيد والحقيقي للشعب الفلسطيني[17]، فزادت الجفوة كثيرًا بين إيران والسلطة الفلسطينية من جهة، كما ازداد الاختلاف والتباين بين السلطة نفسها وتلك الحركات المقاوِمة، وأسهم في تمزيق الوحدة الفلسطينية، واستغلت إسرائيل هذا التفرّق وصبت النار عليه عبر وسائل مختلفة للحيلولة دون أي تصالح أو اتفاق بين الطرفين الفلسطينيَين.
وفي مرحلة لاحقة وفي ظل تنامي النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط وردًّا على اتفاقيات السلام والتطبيع، شكلت إيران مع تلك الحركات الفلسطينية المقاوِمة وحركات أخرى في المنطقة، وعلى رأسها حزب الله اللبناني محورًا أسمته “محور المقاومة” أو “محور الممانعة”[18]، وكانت تعدّ تلك الحركات المقاومة للظلم والاستعمار والاحتلال امتدادًا للصحوة الإسلامية التي بدأتها ثورة الخميني[19].
لكنّ هذه العلاقات الإيرانية مع حركات المقاومة الفلسطينية ولاسيما حماس، وكما كان حالها مع عرفات، لم تخلُ من اختبارات صعبة ومآزق معقّدة، ولعلّ على رأسها هو قيام الربيع العربي وما أفرز من سقوط بعض الأنظمة العربية ولا سيما في مصر. وقد أيّدت إيران ثورات الربيع العربي، وعدّتها صحوة إسلامية وامتدادًا للثورة الإسلامية الخمينية، ولكن عندما وصل قطار الربيع العربي إلى سورية وبات يهدد النظام السوري بالسقوط سارعت إيران إلى معارضته، وعدّته مؤامرة إرهابية معادية تستهدف محور المقاومة وتحرير فلسطين. وقد صرح كبار المسؤولين في إيران بأن سورية تمثل حلقة السلسلة الذهبية في محور المقاومة، وأن هذه الحرب الإرهابية الشرسة التي شنت عليها كانت بسبب دورها الكبير في محور المقاومة، وأن أمريكا وراء هذه المؤامرة، وسوّغت موقفها بالتدخّل بأن ما يجري في سورية ليس قضية داخلية وإنما هو صراع بين محور المقاومة وبين أعداء هذا المحور في المنطقة والعالم، وأن إيران لن تسمح بكسر محور المقاومة الذي تشكّل سورية ضلعًا أساسيًّا فيه.
وقد كان ذلك حقًّا، حيث حشدت إيران كل طاقاتها العسكرية والاقتصادية لدعم النظام السوري تحت شعارات طائفية والدفاع عن القدس ومحور المقاومة والمقامات الدينية، واستطاعت عبر عشرات من الميليشيات الطائفية وبمؤازرة من الغطاء الجوي الروسي، الحفاظ على نظام الأسد، وأنقذته من السقوط وقد كاد أن يسقط. لكنَّ الثمن كان كبيرًا جدًّا على الشعب السوري؛ قتلًا وتهجيرًا وتدميرًا لا يُعدّ ولا يُحصى.
وعلى منوال عرفات، حاولت حركة حماس في البداية تحييد موقفها مما يجري في سورية، لكنّ الضغوط الإيرانية عليها تزايدت للاصطفاف مع النظام السوري، إلا أنها رفضت وانحازت للثورة السورية، فاضطرّ قادتها للانسحاب من دمشق، والالتجاء إلى دول أخرى، وخسرت كثيرًا من الدعم الذي كانت تتلقّاه[20].
ويبدو أن خروج حركة المقاومة الإسلامية حماس من صف هذا المحور الذي تتزعمه إيران له وقع خاص، تدركه إيران جيدًا، وقد بنت عليه كثيرًا من الأهداف والمصالح الإستراتيجية الكبرى كما سنرى.
الأهداف الإيرانية من دعم حركات المقاومة الفلسطينية
إن الصلات الإيرانية الفلسطينية، ومنذ قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لم تنقطع قطّ على الرغم من وجود بعض المنعطفات الخطِرة بينهما، فقد كان الساسة الإيرانيون حريصين على إبقاء تلك العلاقات والوشائج قائمة في كل الأحوال، ورفع شعارات دعم حقوق الشعب الفلسطيني، وبناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. والمُطالع للمواقف الإيرانية وأدبيات الجمهورية الإسلامية الإيرانية يتوصل إلى جملة من الأهداف والمقاصد والأسباب التي كانت ترمي إليها من إبقاء الصلات قائمة مع الفلسطينيين. ولعله يمكن تصنيف أسبابها ودوافعها في بابين؛ الأولى ظاهرية جليّة، والثانية باطنيّة خفيّة.
أ- الأسباب الظاهرية
لعل أبرز تلك الأسباب والذرائع التي دأبت الجمهورية الإسلامية الإيرانية على إظهارها في دعمها للفلسطينيين هو الدوافع الإنسانية والإسلامية؛ فالقضية الفلسطينية بحسب أدبيات الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي قضية إنسانية عادلة، فضلًا عن كونها قضيّة إسلامية مقدّسة، ولا ينبغي ترك الشعب الفلسطيني المظلوم فريسة للاحتلال الإسرائيلي وداعميه، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية. وقد كان شعار حماية المُستضعفين والتصدي للمستكبرين أبرز مبادئ الثورة الخمينية، وبات أحد المواد الأصلية للدستور الإيراني، حيث جاء في المادة 155 من هذا الدستور أن “الجمهورية الإسلامية الإيرانية تعترف بحق جميع شعوب العالم بالاستقلال والحرية وسيادة القانون والعدالة، وهي تدعم الكفاح المشروع للمستضعفين أمام المستكبرين في أي نقطة من العالم، بعيدًا عن أي شكل من أشكال التدخل في الأمور الداخلية للدول الأخرى”[21].
ولكنه وعلى الرغم من صوابية هذا التوجه الإنساني والأخلاقي، وشرعيته الدينية، يتساءل خصوم الجمهورية الإسلامية الإيرانية عن فتاوى مراجعها الدينية[22] ومواقفها الإنسانية والإسلامية حينما يتعلّق الأمر بمسلمي الأويغور في الصين الذين لا تعترف بهم الحكومة الصينية أقلّية إقليمية داخل دولة متعددة الثقافات، ويتعرضون لشتى أنواع التعذيب والقهر ويفتقدون إلى أدنى مبادئ حقوق الإنسان، بينما تقيم الجمهورية الإسلامية الإيرانية أوثق العلاقات مع الصين في المجالات كافّة، إلى درجة باتت أقرب إلى الشراكة الإستراتيجية، ضاربة بعرض الحائط المبادئ الإسلامية وشعارت حماية المستضعفين كما جاء في دستورها الجديد. والأمرنفسه ينطبق على الشيشان في روسيا وغيرهم من الأقليات السنّيّة المسلمة في كثير من دول العالم.
ب- الأسباب الخفيّة
ثمة أسباب وعوامل عدة وراء التوجه الإيراني نحو فلسطين، والاهتمام بهذه القضيّة ودعم حركات المقاومة الفلسطينية بشكل خاص، يمكن إجمالها في العناوين الآتية:
التنافس الإيراني – السعودي على زعامة العالم الإسلامي
لم ترّحب المملكة العربية السعودية بقيام الثورة الإسلامية الإيرانية سنة 1979، التي بدأت عهدها بشعارات مُخيفة ومُريبة لها من قبيل تصدير الثورة وتبليغ المذهب الشيعي وحماية المستضعفين خارج حدودها. فبعد مرحلة من العلاقات الدافئة والمستقرّة مع نظام الشاه وجدت المملكة العربية السعودية نفسها أمام منافس خطير لها في المنطقة والعالم الإسلامي، يهدّد مصالحها الكبرى ويريد أن يسلبها الزعامة الدينية للعالم الإسلامي، وينافسها سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا في هذه المنطقة المهمة.
إن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تدرك تمامًا أن القضية الفلسطينية والدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني هي أهم معيار لدى المسلمين لقياس مدى الالتزام بقضايا المسلمين، والدفاع عن حقوقهم وادّعاء زعامتهم، ولذا فقد دأبت، ومنذ قيامها، على التمسّك بهذه الورقة الإستراتيجية المهمة، على اختلاف الظروف التي مرّت على المنطقة والأطراف وتغيّر المواقف، وحاولت المزاودة على الأنظمة العربية، ولا سيما السعودية، لبيان تقصيرها وتقاعسها عن نصرة القضية الفلسطينية بهدف إحراجها أمام الرأي العام الفلسطيني والعربي والإسلامي[23]. ولعلّ آخر تلك المنافسة ما يُشاع عن دعم إيران لحركة المقاومة الإسلامية حماس ودفعها لهجوم طوفان الأقصى، وعلى الرغم من تبرئة إيران لنفسها من تلك الهجمة لكن هنالك من يرى أن إيران ضالعة فيها، وأن من الأسباب الكبيرة التي تنشدها في ذلك هو ثني المملكة لعربية السعودية عن التطبيع مع الكيان الصهيوني والحيلولة دون انضمامها إلى “اتفاقيات إبراهيم” مع أخواتها الخليجيات الإمارات والبحرين، الأمر الذي رأت فيه الجمهورية الإٍسلامية في حال حصوله تهديدًا خطِرًا لها سيمنح إسرائيل منصة للعمل العسكري ضدها، كما يصرّح بذلك المسؤولون الإسرائيليون أنفسهم[24]، وبالتالي كان لا بدّ من خطوة استباقة كبيرة كطوفان الأقصى ليعطّل مسارات الصلح والتطبيع بين المملكة وإسرائيل.[25]
إن فصول هذا التنافس الإيراني السعودي، بل والصراع المسلّح المباشر وغير المباشر بين الطرفين، كان واضحًا وجليًّا منذ قيام الثورة الإسلامية الإيرانية، وقد جرّ ويلات كبيرة وكثيرة على دول المنطقة والعالم الإسلامي برمّته، وهدر طاقات اقتصادية وبشرية هائلة، لم يستفد منه في النهاية الفلسطينيون أبدًا، بل كان المستفيد الأكبر هو عدوّهم الإسرائيلي، والذي كان في أغلب الأحيان ينفخ في نار العداوة بين الطرفين، ويستثمر في أوجه نزاعهما ولاسيما المذهبي لإحكام احتلاله لفلسطين وترسيخ سيطرته زعيمًا وحيدًا لدول المنطقة ووجهة للدول العربية والإسلامية المتوجّسة من مشاريع إيران وسياستها.
دوافع مذهبيّة
سعت الجمهورية الإسلامية الإيرانية طوال سنوات حكمها إلى إظهار صبغتها الإنسانية والإسلامية، ومساندتها للمظلومين في شتى أنحاء العالم، وأظهرت دعمًا لهم بغضّ النظر عن دينهم أو مذهبهم، وأعلنت أن موقفها الإنساني هذا يقوم على مبادئ مستمدة من القرآن والسنّة والتعاليم الإسلامية[26].
وعلى الرغم من تلك المساعي والشعارات فإنّ المعايير المذهبية والطائفية ظلّت المحرّك الأصلي في علاقات الجمهورية الإسلامية الإيرانية وسياستها وسلوكها تجاه الآخرين؛ ولم تقتصر شعاراتها من قبيل تصدير الانقلاب أو الثورة أو المذهب الشيعي التي بدأت بها عهدها على بعدها النظري، فقد سعت منذ انتصارها إلى نقلها خارج حدودها، والسعي إلى استنساخ تجربتها في دول أخرى، مسخِّرة لذلك أمكانياتها الخشنة والناعمة الضخمة والاستثمار في الأقليات الشيعية المنتشرة في العالم العربي.
وقد كان نظام الرئيس العراقي صدام حسين أهم سدّ في وجه تمدّدها في البلدان العربية، ولكن بعد سقوطه سنة 2003 انتشر نفوذها بسرعة واستطاعت في سنوات قليلة بناء خط من التحالفات والولاءات في الدول العربية يمتد من طهران إلى بيروت، مرورًا ببغداد ودمشق، ثم ما لبث أن توسّع ليضم صنعاء. ووصل هذا المدّ الفارسي – الشيعي في سنوات قليلة إلى شواطئ المتوسط والبحر الأحمر وبحر العرب، مستفيدًا من الظروف التي مرّت على المنطقة، وأبرزها إخفاق ثورات الربيع العربي التي انتهت باشتعال حروب أهليـة فــي بعض الدول العربية، وعودة الاستبداد بأقسى مما كان عليه في بعضها الآخر، وبتعميق الانقسامات بين المحاور العربية المتصارعة واشتعال الحروب البينية، وبفتح الباب واسعاً أمام الاختراق الخارجي للعالم العـربي من مختلف الجبهات[27]. وخلال سنوات باتت الجمهورية الإسلامية الإيرانية رقمًا صعبًا لا يمكن تجاوزه، تتحدّى النفوذ الغربي والأنظمة العربية والقوى السنّية[28].
إن النجاح السياسي الذي أحرزته إيران في ملفات المنطقة ولاسيما في علاقتها مع القضية الفلسطينية ومقاومتها المسلَّحة تمّ عبر قوى وأدوات ناعمة وخشنة استخدمتها بدهاء وحكمة منذ قيامها، وحققت بها كثيرًا من مصالحها القومية وأهداف مشروعها المرسوم بعناية. وطوال عقود ضحّت الجمهورية الإسلامية الإيرانية كثيرًا للوصول إلى تلك الأهداف الإستراتيجية، ولم تكن تتردد في التدخل بكل جوانب قوتها حينما كان يتعلق الموضوع بمصلحة ذلك المشروع وإنقاذ حلفائها، والحفاظ عليهم تحت مظلّة سياسية أو عسكرية أو طائفية، وربطهم وجوديًّا بمشروعها.
إلا أن هذا المشروع الذي سعت الجمهورية الإسلامية الإيرانية لإخفائه تحت تسميات وشعارات برّاقة وعلى رأسها ما يُسمّى محور المقاومة والممانعة لم يكن من مصلحتها أن تظهره محورًا فارسيًّا – شيعيًّا، فسعت إلى ضمّ بعض القوى العربية السنّيّة له، وكانت الوجهة الأفضل هي المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حركة المقاومة الإسلامية حماس وكتائبها المقاتلة داخل غزّة، التي عبّر قادتها الكبار وفي مناسبات عدّة عن الدعم الإيراني لهم، على الرغم من تصريحهم باستقلالية قرار الحركة وعمق انتمائها للأمة العربية، ورفض أي شكل من العلاقات المرتبطة بأجندات تتعارض مع مبادئها أو مع مصالح الأمة[29].
إن دعم الجمهورية الإسلامية الإيرانية لحركة حماس ومدّها بالمال والسلاح وتقنيات تصنيعه هو أمر واقع، لا يمكن لأحد إنكاره، وقد بدت ملامح ذلك جليًّا في هجوم طوفان الأقصى، ولذا فقد باتت تتخذه ذريعة ومهمازًا تدافع به عن نفسها أمام من يتهمونها بالطائفية والمذهبية في سلوكها وسياستها، وكما تطلب به تعاطف الشارع الإسلامي والخروج من عزلتها في العالم العربي والإسلامي، وتغطّي به مشروعها التوسعي السياسي المرفوع على شعاراتتحرير فلسطين ومقاومة المشاريع الإمبريالية والاستعمارية الغربية في المنطقة والدفاع عن مقدّراتها[30].
والواقع أن معركة طوفان الأقصى متواصلة الفصول ومنفتحة المآلات كانت إحدى أهم الأوراق الرابحة حتى الآن لإيران؛ فقد حققت من ورائها تعاطفًا في العالم الإسلامي، في ظل تخاذل أنظمة العالم الإسلامي برمتها، ولاسيما دول الجوار العربية، عن نصرة غزّة وإمدادها بمقومات الحياة والصمود.
وفي ظل انتظار جلاء الحقائق على الأرض وتكشّف نتائج هذه المعركة المصيرية فإن صورة إيران في وعي الشعوب العربية ليس من السهولة ترميمها بعد ذلك الدور الذي لعبته في سورية وسواها من الدول العربية، وبعد تكشّف كثير من زيف شعاراتها الإسلامية والإنسانية التي كانت تنادي بها طوال عقود عمرها [31].
دوافع سياسية وقومية
تدرك الجمهورية الإسلامية الإيرانية أن الكيان الإسرائيلي كيان عدواني تمدّدي، يهدّد وجودها ومصالحها الإستراتيجية الكبرى، على بعده عن حدودها، ولا يمكن التعامل معه سوى بهذين الخيارين؛ السلام أو الحرب:
أمّا الخيار الأول أي السلام فترى إيران أنه قد جُرِّب من قِبل بعض الأنظمة العربية كمصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية، وغيرها من الدول العربية التي وقّعت على اتفاقيات مصالحة وتطبيع مع إسرائيل في الآونة الأخيرة المسماة (إتفاقية إبراهيم)[32]، وأن نتائجها كانت مزيدًا من العدوان الإسرائيلي والاستيطان والحصار، ولذا فإنّ هذا الخيار مُستبعد تمامًا في أدبيات الجمهورية الإسلامية وسياستها ولا يعوّل عليه، ولا سيما أن مفهوم التسوية لدى إسرائيل يُقصد به أن التسوية يجب أن تتم وفق شروط إسرائيل، عبر بناء دولة إقليمية عظمى في المنطقة بهدف الهيمنة عليها[33].
وأما الخيار الثاني أمام إيران فهو الحرب، وهذه الحرب إذا كانت مباشرة فإنها ستكون حينئذ غير مضمونة النتائج، ومُكلفة اقتصاديًّا وبشريًّا، في ظل الدعم الغربي للكيان وضعف المواقف الإسلامية في الوقت الراهن، وقد خاضته من قبل مع العراق، و”تجرّعت في نهايته السمّ”، على الرغم من اختلاف مستوى القوة والدعم بين العراق وإسرائيل.
وفي ظل استبعاد إيران خيارَي الصلح والحرب المباشرة مع إسرائيل فقد لجأت لخيار ثالث وسط بينهما، تجلّى في تشكيل حركات مقاومة ومدّها بما تحتاجه من السلاح والخبرة لاستنزاف إسرائيل، وجعلها سدًّا أمام تمدّدها، والحفاظ على أمنها القومي بأقل التكاليف، مصداقًا للحكمة الفارسية القديمة: “اِسحقْ رأس الأفعى بقدم غيركَ”. ويبدو أن المقاومة الفلسطينية في غزة كانت من أهم تلك القوى التي حرصت إيران على دعمها نظرًا لوجودها في قلب الكيان وتأثيرها المباشر فيه والموقع الإستراتيجي لغزة على شواطئ المتوسط.
وتقدم إيران نفسها حارسة للمقاومة وصاحبة المشروع الحقيقي في التصدي للنفوذ الإسرائيلي، لكنها مع ذلك تتجنب الصدام المباشر معها، وتفضل محاصرة توسعها ومشاغلتها من خلال دعم الفصائل الفلسطينية[34].
إن دعم إيران للمقاومة الفلسطينية وتنصيب نفسها داعمًا أساسيًا ومهمًّا لها، يُسهم في إخراجها من عزلتها، ويجعلها قائدًا للعالم الإسلامي أو طرفًا مهمًّا ومنافسًا لا يمكن لأي تكتل عربي أو سنّي أن يتجاوزه، في ظل حالة الضعف الإسلامي والخنوع والتآمر العربي على المقاومة الفلسطينية في غزّة، وهي تستطيع من خلال هذه القضية المهمة مساومة القوى العالمية على ملفاتها ومشاريعها في الداخل وفي المنطقة، وعلى رأسها مشروعها النوويوالصاروخي وأماكن نفوذها وتمددها.
معارضو سياسة الجمهورية الإسلامية الإيرانية تجاه فلسطين
إن التحالفات التي أقامتها إيران مع بعض القوى الفلسطينية في ظل وضع دولي إقليمي معقّد، لم تحظَ بتوافق فلسطيني وعربي، وزادت من الانقسام والفجوة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والدول العربية، كما أن هذه السياسة الإيرانية لم تحظَ بتوافق القوى الإيرانية نفسها في داخل إيران، فضلًا عن الإيرانيين في الخارج من معارِضي الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فبدأت تعلو أصوات إيرانية داخلية لإيقاف هذه السياسة، داعية إلى التركيز على الوضع الداخلي والحياة الاقتصادية والمعيشية المُتردّية في إيران، في ظل انهيارالعملة الوطنية وارتفاع نسبة الفقر والبطالة، وازدياد مستويات الجريمة والمخدّرات، وتزايد معدلات هجرة النُّخب العلمية والفكرية إلى الخارج.
ويرى معارضو الجمهورية الإسلامية الإيرانية أن حكومتهم تتخذ قضية فلسطين وشعارات المقاومة شمّاعة لإحكام السيطرة على الوضع الداخلي، وتقييد الحريات الفردية، وترسيخ الاستبداد والاضطهاد.
والواقع أن الإيرانيين المعارضين لتلك السياسة كثيرون جدًّا، سواء على المستوى الشعبي أو على مستوى النُّخب السياسية والفكرية، وسواء في الداخل الإيراني أو في الخارج، فهم يستغلون أية فرصة للتعبير عن معارضتهم لتلك السياسة وانتقادهم الحاد لها[35]، وقد باتت شعارات من قبيل “لا لغزّةَ ولا للبنان” من أهم الشعارت التي تُرفع في كل مظاهرة مناوئة للجمهورية الإسلامية الإيرانية في الداخل، ولا سيما بين صفوف الطلبة الجامعيين، ولعل هذا الشعار بات مواجهًا لشعار “الموت لأمريكا والموت لإسرائيل” الذي يرفعه أنصارالجمهورية الإسلامية في الداخل وحلفاؤهم في محور المقاومة في الخارج.
وقد تعرّض النظام الإيراني لهزّات كبيرة كادت تودي به، ولا سيما في إبان انتفاضة الحركة الخضراء سنة 2009، والانتفاضة التي أعقبت مقتل الشابة مهسا أميني سنة 2022، وفي غيرهما من المناسبات، ولكن الجمهورية الإسلامية أصرّت على نهجها هذا تجاه القضية الفلسطينية ومحورها طوال أكثر من أربعة عقود على ضخامة التحديات التي واجهتها. وقد وصل أكثر من زعيم إصلاحي إلى رئاسة إيران ومواضع القرار العليا من أمثال الرئيس محمد خاتمي وحسن روحاني، لكنّ أحدًا لم يفلح أبدًا في تغيير هذا المسار لأن القرار الأول والأخير هو بيد المرشد الأعلى علي خامنئي، المتسلّح بأذرع مسلحة خاصة يتزّعمها الحرس الثوري؛ “ذراع ولاية الفقيه، وحافظ النظام الإلهي”[36]، وقوّته الضاربة في الخارج المسمّاة “فيلق القدس” علاوة على قوات التعبئة “الباسيج”[37] في الداخل.
الجمهورية الإسلامية الإيرانية وإسرائيل، سنوات الصراع والمآلات
مرت سنوات طويلة على العداء والصراع الظاهري بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والكيان الصهيوني، لكن الأمور انجلت عن نجاح إستراتيجي للطرفين وربحهما من ملفات المنطقة العادلة، وفشل ذريع للأنظمة العربية وخاصة التي صالحت وطبّعت؛ فقد نجحت إيران بعد سقوط العراق بالهيمنة شبه التامة على أربعة من البلدان العربية الإستراتيجية والمفتاحية هي العراق واليمن ولبنان وسورية، وباتت تتوغل وتتغول فيها أكثر، ولا سيما في سورية، وخاصة بعد انشغال روسية بأوكرانيا، وبات ذلك الحلم أو الوهم الإمبراطوري الفارسي أقرب إلى الحقيقة والواقع.
وعلى الرغم من وجود تضاد ومواجهة بين إيران وإسرائيل، وتعرّض المصالح الإيرانية لضربات إسرائيلة، إلا أنها كانت ولا تزال تفضّل في الغالب عدم الرد العسكري المباشر مؤثرة الرد عبر الوكلاء أو تغليب ما باتت تسميه “الصبر الإستراتيجي”[38]، وعدم التسرّع في ردّ الفعل والانجرار إلى مواجهة عسكرية مفتوحة تُعرّض المنجز الإستراتيجي الذي حققته عبر سنوات طويلة إلى مغامرة غير محسوبة وغير مضمونة النتائج[39]، فظل هذا الصراع يُدار من دون أن يتسع أو ينفلت كلّيَّا.
ومن جهة ثانية نجحت إسرائيل في بسط هيمنتها على فلسطين وزادت من تهويدها للأراضي الفلسطينية ولاسيما القدس، وسارعت من معدلات الاستيطان وجذب المهاجرين اليهود إليها من شتى بلدان العالم، ومحاصرة ما تبقى من المدن والبلدات الفلسطينية ونزع سلاح الفلسطينيين منها.
ولعلّ النجاح الأكبر الذي حققته إسرائيل هو اختراق وحدة الصفّ والمواقف العربية المناوئة لها، فعقدت صفقات (سلام) وتنسيق أمني وتطبيع ثنائية مع الأنظمة العربية وعلى رأسها السلطة الفلسطينية في رام الله، وهي ماضية في قطار التطبيع مع ما تبقى من دول العرب، سواء في السر أو في العلن، وعينها على المملكة العربية السعودية، سعيًا وراء تحقيق حلم إسرائيل الكبرى. وعلى الرغم من وجود مسافة كبيرة بين قبول الشعوب العربية لفكرة التطبيع مع إسرائيل وأفكار وتوجُّهات الحكومات التي تتحرك وفق خطوات سياسية مختلفة[40]، فإن المجال الحيوي الإسرائيلي بات يمتد من باكستان إلى المغرب، ويهدف إلى ضرب أية قوة وأية إمكانية لخلق قوة في المجال النووي، والاستمرار في تفتيت الجبهة العربية، أي التفتيت داخل كل دولة عربية وفيما بين الدول العربية[41].
الجمهورية الإسلامية الإيرانية وطوفان الأقصى
في فجر يوم السبت 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، شنّت المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة هجومًا برّيًّا وبحريًّا وجوّيًّا على عدة مستوطنات في غلاف غزة، وأسفرت العملية خلال ساعاتها الأولى عن مقتل مئات الإسرائيليين بين جنود ومستوطنين، وأسر وفقدان المئات[42].
وعلى الرغم من اعتراف قادة المقاومة الفلسطينية بالدعم العسكري والتسليحاتي والتقني من إيران، والذي أفادته كتائبهم المقاتلة في هجومها، إلا أنها كانت تصرّ على أنهم وحدهم من اتخذوا القرار وأن لا دخل لإيران في ذلك الهجوم الكبير.
وبعد مرور أكثر من سبعة شهور راح ضحيتها عشرات آلاف الشهداء في غزة ودمار أكثر أحيائها، تبدو إيران المتزِّعمة لما تسمّيه محور المقاومة ووحدة الساحات المقاومة شبه غائبة عن المشهد الفلسطيني، على الرغم من محاولة حلفائها؛ ولا سيَّما حزب الله اللبناني وأنصار الله الحوثيين، إلهاء العدو الإسرائيلي ببعض العمليات العسكرية، وتشتيت تركيز جيشه على حرب غزة.
ويبدو أن إسرائيل وفي ظل تعثّر عملياتها أمام المقاومة الفلسطينية وتأخّر الحسم فيها وتحقيق أهدافها بالقضاء على المقاومة واستعادة الأسرى، تحاول إدخال إيران هذه الحرب وتوسيعها بغية جلب تدخل دولي لنصرتها والتخفيف من خسارتها الكبيرة في ذلك المستنقع الخطر، لكن يبدو أنها لم تفلح حتى الآن في تحقيق ذلك على الرغم من استفزازاتها الكبيرة وضرباتها الموجعة للوجود الإيراني في سورية ولبنان.
وقد كان الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق ومقتل مجموعة من أهم قادة الحرس الثوري في سورية القشّة التي قصمت ظهر “الصبر الإستراتيجي” الإيراني، ودفعت إيران مُكرهة أمام ضغوط كثيرة للردّ المباشر على إسرائيل. ولكنه كان ردًّا مخيّبًا لآمال معظم من انتظره ردًّا مزلزلًا، كما هو ديدن هجماتها في سورية أو السعودية أو العراق، فكانت نتائجه معدومة التأثير، فقد أخفقت مئات من مسيّراتها وصواريخها التي ادّعت إطلاقها من داخل إيران من الوصول إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، وما وصل كان عديم التأثير، ولم يتمخّض سوى عن جرح طفلة واحدة!
ونشر كثيرٌ من المواقع أن إيران قد أبلغت غير طرف بموعد الهجوم ونوع السلاح الذي ستستخدمه، والوجهة التي ترغب بضربها، فتأهبت إسرائيل ومعها حلفاؤها وتصدّت له بكل سهولة، وكانت النتيجة الإستراتيجية الوحيدة لهذا الهجوم هو صرف الأنظار العالمية عما كان يجري من مجازر في غزة في وقت كان فيه الرأي العام العالمي بل والإسرائيلي نفسه في ذروة تعاطفه مع مأساة غزة، وكانت النقمة على نتنياهو وحكومته في أوجها، والمظاهرات الإسرائيلية تجتاح المدن كلها مهددة بإسقاط نتنياهو وإنهاء الحرب، فكان الهجوم الإيراني (الخطر!) سببًا في التفاف العالم حول حكومة الحرب الإسرائيلية والإسراع لنجدة نتنياهو.
وقد اكتملت هذه (المسرحية) بتهديد نتنياهو بالرد المزلزل على الهجوم الإيراني غير المسبوق، وتقاطر زعماء العالم لترضيته والتنديد بإيران والتهويل من مخاطر هجومها، ووصلت الأمور إلى تلويح الطرفين بضرب المراكز النووية في كلا البلدين. وحبسَ العالم أنفاسه، لكن المآلات تمخّضت عن ضربة ببضع مسيرات لأطراف أصفهان، وقد أنكرت إيران حصولها أصلًا، لتتجنّب الرد الذي هدّدت به.
وتشير جميع الدلائل والتصريحات من الجانبين إلى توقف فصول هذه المواجهة التي لطالما انتظرها الفلسطينيون وحلموا بها لتخفيف الضغط عنهم. ويبدو أن الطرفين الإيراني والإسرائيلي قد قنعا بما أنجزاه في المنطقة، وحازا جوائز ترضية على قبولهما التهدئة وإيقاف التهديدات؛ فقد تُخفَّف الضغوط عن إيران في الملف النووي ورفع بعض العقوبات والحظر على أرصدتها المالية المُجمّدة في البنوك العالمية، ومن جهة ثانية قد يُسمح لإسرائيل باجتياح رفح وتدمير ما بقي من قطاع غزة وتهجير الفلسطيين فيها نحو المجهول.
هذه هي النتيجة باختصار… وعلى الرغم من مرارتها فلعلّها فضحت حقيقة الموقف الإيراني وأظهرت حقيقته التي خُدع بها كثيرٌ من الشعوب طوال عقود من عمر الثورة الإسلامية، وكشفت أن شعارات نصرة المظلومين ووحدة ساحات المقاوِمة والمُمانعة لم تكن سوى ضرب من النفاق الرخيص والتزييف الخسيس الذي استثمرت فيه إيران طويلًا وخدعت به شعبها والشعوب العربية والإسلامية لإنجاز مشروعها الإمبراطوري الطائفي في البلاد العربية. وما لم تفلح بكشفه ثورات الربيع العربي ولا سيما في سورية، كشفته عملية طوفان الأقصى، فأظهرت أن إيران لا يُعوّل عليها فعليًّا في نصرة الشعوب العربية والإسلامية المُضطهدة، وأن تدخّلها ودعمها لا يمكن أن يكون سوى لمصلحة قومية أو تغطية لمشروع طائفي، وأنّها وإسرائيل رأسا حربة لمشروع استعماريّ واحد، تقاسمَ تدمير العالم العربي طوال عقود، وهما تعملان، وبدعم من القوى الغربية وبتواطؤ من بعض الأنظمة العربية الاستبدادية، على وأد أية محاولة حقيقية لتحرّر شعوب هذه المنطقة وتطوير بلادها واستثمار ثرواتها، مهما بلغت التضحيات والأثمان.