هل السلام ممكن في ظل تعزيز الوعي بالمآسي التاريخية؟

ملخص

يحاول هذا البحث إقامة المقارنة بين تذكّر الجرائم والمآسي التاريخية في وعي الشعوب ومحاولة نسيانها، استنادًا إلى نظرية “الحب التطوري” Evolutionary Love، ورعاية فكرة السلام من خلال التعليم عبر “الفلسفة الصوفية”، ونشر “ثقافة النسيان” بدلًا من تذكر المظالم التاريخية وتضخيم الكراهية في الوعي الجمعي من خلال استعادة ذكرى الظلم والعنف عبر العصور.

يتكون هيكل هذا البحث من ثلاثة أجزاء: الأول، سوف يناقش مثالًا لمذبحة حديثة في أومارسكا Omarska في البوسنة والتي اختيرت للتعلم من محاولات تغيير الوعي لنسيان الإبادة الجماعية بدلاً من تذكرها، وهي تجربة فريدة من نوعها. ويناقش الجزء الثاني النقيض القائم على تعزيز “التذكر” المرتبط بمفهوم “الاغتراب” في ظل ثنائية الجنوب مقابل الشمال، حيث يكون الاغتراب في الجنوب بسبب التنمية غير المتكافئة، فيما يقع الاغتراب في الشمال أيضًا ولكن لظروف مختلفة كإشكاليات الحداثة، وفقًا لتأملات تشارلز تايلور في كتابه Malaise of Modernity.

ومن ثم سوف نناقش نقيض الاغتراب من خلال مفهوم “الحب التطوري” في بعده التاريخي كما طرحه تشارلز ساندرز بيرس عام 1893. ويتضمن الجزء الثالث المقابلة بين تعزيز الوعي أو نسيانه في تطبيقها على الوعي السائد في الثقافتين العربية والصهيونية، ومساعي إحياء الوعي بالكوارث والجرائم التي ألمّت بالقضية الفلسطينية، وآثارها النفسية من خلال أعمال باور وورثنغتون ولوسكين. وفي مقابل ذلك نستعرض مثالًا من موقف حكومة نيوزيلندا عبر خطاب رئيسة الوزراء جاسيندا أرديرن آنذاك ردًا على مذبحة المسلمين في المسجد في 15 مارس 2019، وسوف ننتهي باستخلاص النتائج في الخاتمة.

مقدمة

في التأملات الآتية تحليل لمذبحة أومارسكا، التي أسفرت عن مقتل أطفال ونساء ورجال عزل من جميع الأعمار. خلف هذه المشاهد العنيفة يكمن ما هو أكثر من مجرد الغضب البشري، ربما تكون جينية؛ كما أن هناك محركات غير مرئية، أبرزها مواقف الفصائل السياسية المتنافسة، وتاريخ طويل من الكراهية المتبادلة المخزنة في الذاكرة الجمعية لفصائل المنطقة وأعراقها، بتحريض من القوى الاقتصادية والسياسية التاريخية المتصارعة على الأرض والأموال والثروات، التي تغذي الكراهية من أجل تحقيق الربح والهيمنة والاحتكار والثروة.

ربما لا يستطيع عقلنا المعاصر “المتحضر” أن يستوعب تمامًا كيف يمكن أن تحدث مثل هذه الأعمال الفظيعة من الإبادة الجماعية في القرن العشرين وما بعده، أو كيف يمكن أن يقتل جيران مدى الحياة بعضهم بعضًا بين عشية وضحاها، كما حدث بين الكاثوليك والبروتستانت والسنة والشيعة، أو كيف يمكن تصور محاولات محو جنس كامل من الوجود في العصر الحديث، كما حدث مع الكرد والأرمن والشركس والسكان الأصليين في الأميركتين ونيوزيلندا، وفي فلسطين ورواندا والبوسنة وكمبوديا وغيرها. لقد كانت سيطرة عرق أو أيديولوجيا على آخر ممكنة في أوقات ومواقع جغرافية معينة من تاريخ البشرية، لكنها أصبحت غير مقبولة في عصر الهواتف الذكية والإنترنت والإعلام المفتوح، كما رأينا عبر التعاطف الشعبي العالمي المتزايد ضد حرب 2023 على غزة، إذ غدا من الصعب تصور أن يحدث ذلك في المجتمعات الديمقراطية[1]. ولربما لو كتب هيرش هذه الآراء بعد محاولة الإبادة الجماعية في غزة لغير رأيه حول صعوبة حصول ذلك في عالمنا الديمقراطي المعاصر. لذلك فإن مناقشة الديمقراطية وعلائقها مع الحرب والمجازر، وإحياء الذاكرة الجمعية، وغيرها، هي قضايا مهمة للمناقشة.

وهناك مسألة التصالح مع الماضي الرهيب بوصفها أمرًا حيويًا للنفس البشرية، وربما أفضل عمليًا من محاولة نسيان الماضي العنيف، وإلا فلن نستطيع التغلب على آثاره النفسية والعقلية والجسدية. وعلى الرغم من أنه يمكننا دائمًا إيجاد طريقة موضوعية لفهم سبب حدوث ذلك بالفعل، وذلك لتبرير ذكريات الماضي وأحداثها الفظيعة، وربما للتعلم منها من أجل البقاء، فتظل هناك حجج مضادة تدعو إلى النسيان، بدلًا من التذكر. ولهذا السبب اختير مثال أومارسكا في هذا المقام، لأنها تجربة شبه فريدة من نوعها.

وسوف يتمحور الحديث أيضًا حول أسباب “الاغتراب” في الجنوب المهمش والمعذب بالحروب الدموية والمجاعات التي لا يبدو أن هناك حلًا مستدامًا لها في الأفق، والتي تدفع الناس إلى الهجرة إلى الشمال أو إلى الحروب. كما سوف نسعى للكشف أيضًا عن اغتراب الناس في الشمال، في ما يتعلق بـ “مرض الحداثة”[2] الذي يؤدي إلى مواجهات مع المهاجرين. وربما يفسر هذا سبب وقوع مذبحة كرايستشيرش في مسجد في نيوزيلندا عام 2019. وفي نهاية المطاف، سوف نبحث عن مخرج من هذا الاغتراب من خلال البحث عن حل عبر آفاق أخلاقيات الحب والسلام وفلسفتهما.

مذبحة عام 1992

هناك حالات لا حصر لها من الإبادة الجماعية في تاريخ البشرية. ومع ذلك، فقد اختيرت حالة أومارسكا لأنها تتعلق بنقاشنا حول التسامح والنسيان مقابل التذكر والحقد. فتاريخيًا، برر عديد من الفلاسفة السياسيين الحرب من أجل تحقيق السلام، فعلى سبيل المثال دعوة أرسطو الشهيرة إلى “الحرب من أجل السلام”، أو مخاوف شيشرون بشأن “كيف يجب أن ننهي الحرب”، إلا أن عمل إيمانويل كانط الكلاسيكي عام 1795: “السلام الدائم”، يكشف عن قناعة مفادها أنه بمرور الوقت سوف يتطور العقل نحو مزيد من العقلانية، وسوف تتقدم الأخلاق على نحو عقلاني إلى حد يدين الجميع فيه الحرب ويسود السلام العالمي. وعرّفها بأنها الطبيعة التقدمية للأخلاق في العقل الإنساني العملي. فهل هذا الموقف الفلسفي صحيح بعد أكثر من مئتي عام؟

ومع ذلك، فإن الحرب في العصر الحديث لها ما يبررها، كما يقول جون رولز: إن هدف الحرب هو السلام العادل[3]. لذلك، من المرجح أن تظل الحرب حتمية في نمط الإنتاج الرأسمالي في مرحلته الإمبريالية التي بدأت تتعمق منذ نهاية القرن الثامن عشر، على الأقل في المستقبل المنظور، ومن ثم فإنه لا مناص من رعاية الحب والسلام بحيث يكونان جزءًا أساسيًا من التخطيط الإستراتيجي لتعليم الأجيال المقبلة، وذلك إذا رغبنا أن يستمر الجنس البشري.

وكأن عمليات القتل الجماعي التي تعرض لها البولنديون والروس واليهود وغيرهم لم تكن كافية خلال الحرب العالمية الثانية، فإن معسكر اعتقال أومارسكا كان بمنزلة مذبحة مخزية. لقد حدث ذلك عام 1992 على الأراضي الأوروبية في البوسنة وتحت مراقبة أوروبا والأمم المتحدة والعالم أجمع. حدث ذلك في وقت كان فيه المراسلون على اختلاف انتماءاتهم حاضرين، وكانت وسائل الإعلام تنقل الأخبار بكفاءة إلى العالم أجمع. ذَبح الصرب المسيحيون الأرثوذكس مواطنيهم اليوغسلاف من دون رحمة، واتخذوا إجراءات تمييزية ضد كل من الكروات البوسنيين والمسلمين، بغض النظر عن الدين والمذهب، حيث أن أغلبية الكروات هم من المسيحيين الكاثوليك.

وبعد عقود قليلة من ارتكاب جرائم الحرب في البوسنة، انتهت إجراءات الاتهام والمحاكمات البطيئة، ولكنها كانت في النهاية حاسمة لكبار المسؤولين من خلال المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، فقد انتهت إلى توجيه الاتهام إلى 161 شخصًا والحكم على 90 شخصًا آخرين، الأمر الذي أدى إلى تغيير جوهري في مشهد القانون الإنساني[4].

وتعد تجربة إقامة نصب تذكاري للمشاهير من غير اليوغسلاف في يوغسلافيا السابقة، بدلًا من إعادة إحياء أبطال الحرب، بمنزلة نهج فريد لإعادة بناء هوية عالمية جديدة تسعى لتجنب ذكريات المآسي الضخمة. لقد كان نهجًا مبتكرًا للسعي لإعادة تعريف التراث ووعيه واستيعابه من خلال تجنب تسليط الضوء على نحو مفرط على ذكريات الماضي المؤلمة والحروب والمجازر والأبطال. وفي هذا الصدد، كُشِف عن تمثال برونزي لبروس لي في موستار، الواقعة في البوسنة والهرسك، وذلك في عيد ميلاد بروس لي الخامس والستين[5]، علمًا أنه لا علاقة لبروس لي بتاريخ تلك المنطقة بأي حال من الأحوال. فهل هناك أي فائدة من إلغاء الوعي بمآسي الماضي؟

هل نتذكر أم ننسى؟

إن مسألة تذكر المذابح أو نسيانها مسألة معقدة وذاتية، وغالبًا ما تتأثر بعوامل ثقافية وتاريخية ونفسية وسياسية. قد يختار الناس تبرير محاولة نسيان المجازر بحجة أن ذكراها مؤلمة للأفراد والمجتمعات. ويرى البعض أن نسيان هذه الذكريات أو قمعها يمكن أن يكون آلية تكيف لأولئك المتأثرين على نحو مباشر أو غير مباشر، الامر الذي يسمح لهم بالشفاء والمضي قدمًا في حياتهم. وقد تختار الحكومات التقليل من أهمية بعض الأحداث التاريخية أو نسيانها، لبناء رواية وطنية أكثر إيجابية قائمة على إستراتيجية متعمدة لتشكيل هوية جامعة تؤكد الوحدة والتقدم والسلام بدلًا من الانقسام والصراع.

وفيما قد يؤدي الخوض في ذكرى الفظائع الماضية إلى إعاقة التماسك الاجتماعي والمصالحة، يجادل البعض بأن تعزيز النسيان يمكن أن يكون إستراتيجية ناجعة لتعزيز الوحدة والسلام والتعاون بين المجموعات المختلفة داخل المجتمع، ومنع الانتقام. ففي حالات الصراع التاريخي، قد يساهم تذكر المذابح في دورة من الانتقام والانتقام المعاكس، كما يحدث اليوم في فلسطين. ويعتقد المدافعون عن النسيان أن التركيز على الماضي يمكن أن يؤدي إلى إدامة العداء وإعاقة الجهد نحو السلام والاستقرار.

وبالمقابل، فإن مناقشة مثال المحرقة (الهولوكوست) تنطوي على الاعتراف بتعقيدات الذاكرة والتعليم والوعي التاريخي. فهناك حجج مؤيدة ومعارضة لإحياء محرقة اليهود في الخطاب العالمي. فإحياء المحرقة في السياقات التعليمية يوفر فرصة لتعليم الأجيال المقبلة عواقب الكراهية والتعصب والسلطة المطلقة؛ إنه يعزز فهم أهمية حقوق الإنسان والتسامح وقبول التنوع، كما أن الحفاظ على ذكرى المحرقة حية يساعد في منع فقدان الذاكرة التاريخية. ومن خلال تذكر الفظائع التي ارتكبت خلال هذه الفترة، يمكن أن تعمل المجتمعات على ضمان عدم تكرار مثل هذه الفظائع. فإن تذكر ذلك يمكن أن يلهم الأفراد للوقوف ضد الظلم وتعزيز عالم أكثر تعاطفًا وشمولًا، كما أنه يعترف بألمهم ويعزز الالتزام بضمان عدم نسيان قصصهم. ولكن، هل جعلت ذكرى المحرقة أحفاد الضحايا أقل كراهية للآخرين “الأغيار” Goyim، ومنهم الفلسطينيون؟ لا نعتقد ذلك في ضوء ما يحدث اليوم في فلسطين.

أما الجانب السيء من التذكير بالمحرقة فحجته أنه يثير مخاوف من إمكان استغلال المحرقة لأغراض سياسية واقتصادية، حيث يستخدمها البعض لتحقيق أجنداتهم الخاصة، أو لتبرير سياسات معينة، أو للابتزاز، كما فعل الكيان الصهيوني في ابتزاز ألمانيا ماليًا وعسكريًا. وهذا الاستخدام يمكن أن يشوه السرد التاريخي، حيث أدى التركيز على محرقة اليهود إلى التقليل من هول ضحايا السوفييت الذين تجاوز عددهم عشرين مليونًا، مثلًا.

ولكن، يعتقد البعض الآخر أنه ربما يؤدي التعرض المفرط لصور ومناقشات المحرقة إلى إزالة الحساسية والرهبة منها، خاصة بين الأجيال الشابة. فربما يخفف ذلك من آلام ذاكرة الواقع التاريخي، ومن ثم يقلل من تأثير دروسه. وهذا الاعتقاد ربما يُولد جانبًا ايجابيًا من التذكير بالمجازر التاريخية. ولكن، هل التكرار الذي لم يتوقف لذكرى المحرقة خفف من حساسية اليهود للمحرقة، ومنعهم من تكرار المحرقة على الشعب الفلسطيني؟ لا نعتقد ذلك في ضوء ما حدث في فلسطين منذ الهجرة الأولى 1948.

وعلى الرغم من الموقفين، فقمع الشعور بالانتقام يتضمن تعزيز التفاهم والتعاطف لتعزيز الشفاء. فإن تشجيع الحوار المفتوح، وتوفير منصات للضحايا لتبادل تجاربهم، والتأكيد على أهمية التسامح، يمكن أن يساهم في تجاوز الرغبة في الانتقام. إضافة إلى ذلك، فإن تعزيز العدالة من خلال الوسائل السلمية ودعم جهد حل النزاعات يمكن أن يساعد في معالجة القضايا الأساسية. فإن بناء مجتمع قائم على التعاطف والمصالحة والعدالة والإنصاف والتفاهم يقلل من احتمالات سيطرة مشاعر الانتقام. ولكن للأسف هذا الجهد غير متاح بعد للفلسطينيين واليهود في الصراع الفلسطيني الصهيوني، ربما لأسباب كولونيالية ووجودية.

ومن أمثلة المصالحة القائمة على تحقيق العدالة إقامة لجان للكشف عن الحقيقة والمصالحة، التي تهدف إلى كشف مظالم الماضي والاعتراف بها، مع تعزيز تضميد الجراح والتفاهم. ويُعد تشكيل لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوبي أفريقيا، والتي أُسست بعد نهاية نظام الفصل العنصري، مثالًا بارزًا. ومن الأمثلة الأخرى المحكمة الجنائية الدولية، التي تسعى لتحقيق العدالة لضحايا جرائم الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية. إذ تؤكد هذه المؤسسات المساءلة وقول الحقيقة والتعويضات كعناصر أساسية في عملية المصالحة المادية والروحية.

أُسست لجنة الحقيقة والمصالحة (TRC) في جنوبي أفريقيا في عام 1995، بعد انتهاء نظام الفصل العنصري، برئاسة رئيس الأساقفة ديزموند توتو. كان الغرض الأساسي للجنة الحقيقة والمصالحة هو التحقيق في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي حدثت خلال حقبة الفصل العنصري المؤسسي، وعملت اللجنة على كشف مبادئ الحقيقة والمصالحة والعدالة، فهل يمكن تكرار ذلك لمحاكمة الكيان الصهيوني في ضوء جرائمه ضد الإنسانية في فلسطين، في ظل توازن القوى والتحالفات القائمة حاليًا؟

شملت الملامح الرئيسة للجنة الحقيقة والمصالحة جلسات العفو التي أعادت إحياء الذاكرة بالتجاوزات، حيث كان بإمكان مرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التقدم بطلب للحصول على العفو من خلال الكشف الكامل عن أفعالهم ودوافعهم. وهدفت هذه العملية إلى كشف الحقيقة، ودعت الضحايا والجناة إلى مشاركة قصصهم علنًا. وقد خدم هذا الإجراء غرضًا مزدوجًا يتمثل بالاعتراف بألم ومعاناة الضحايا، والكشف عن مدى الفظائع التي ارتكبت خلال الفصل العنصري. كذلك أوصت اللجنة بتعويضات للضحايا، معترفة بالحاجة إلى تعويض مالي ومعنوي لمساعدة الأفراد والمجتمعات في إعادة بناء حياتهم. وانتهت اللجنة بتجميع تقرير نهائي يوثق النتائج والتوصيات مؤكدًا أهمية بناء مجتمع عادل وشامل.

وفي ما يتعلق بفلسطين، فإن إصرار حماس على تحرير فلسطين “من النهر إلى البحر” يعكس موقفها التاريخي والأيديولوجي. وتعني العبارة ضمنًا السعي لإقامة دولة فلسطينية بحيث تشمل كامل الأراضي الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط. إن هذا التوجه متأصل في رفض وجود إسرائيل ويتوافق مع أيديولوجية المقاومة التي تتبناها حماس. لذلك فإن التركيز على التحرير الكامل، وليس المصالحة، يسلط الضوء على الاختلافات الأيديولوجية المستمرة والمظالم التاريخية في الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، فلدى كل من الإسرائيليين والفلسطينيين مطالبات تاريخية ودينية بأرض فلسطين، حيث تتمتع المنطقة بأهمية تاريخية ودينية عميقة لمختلف المجتمعات العرقية والدينية. ولكن مَن سوف يشرع في التنازل أولًا؟ أليس الأضعف هو المرشح لذلك؟

ويمكن أن يكون للإحياء المستمر للنكبة الفلسطينية ومشاعر الانتقام عواقب إيجابية وسلبية معًا على جهد المصالحة. إذ إن الموازنة بين الحاجة إلى الاعتراف التاريخي بالنكبة وما تلاها من نكبات، والنهج الإنساني الذي يعزز الحوار والتفاهم والتعاون واجتناب الانتقام، أمر بالغ الأهمية لتعزيز المصالحة الدائمة. وعلى الرغم من ذلك فإن الجهد المبذول لمعالجة مظالم المجتمع الفلسطيني المحاصر أمر ضروري لبناء مستقبل مشترك في المنطقة. وهذا ما لم يتحقق منذ النكبة، لذلك فإن ما حصل في 7 تشرين الأول/ أكتوبر كان الهدف منه هو الانتقام والتمرد على الظلم. وكانت مشاعر الانتقام قوية جدًا لدرجة أن إسرائيل شنت هجومًا غير مسبوق على غزة بعد ساعات.

ويتعين علينا أن نتذكر أن مسلسل الانتقام حدث أيضًا في عام 2001، بعد الهجوم المروع في تل أبيب، فكان أوّل ما فعله رئيس الوزراء أرييل شارون هو السماح للعالم برؤية أبعاد الجريمة قبل الشروع في الهجوم الدموي ضد الشعب الفلسطيني والذي حصد دعمًا عالميًا. وإذا عدنا إلى تاريخ الحروب الأخيرة، نجد أن عنصر الانتقام كان له دور مركزي فيها. ففي حرب لبنان الأولى عام 1982، شرعت إسرائيل في الانتقام لمحاولة اغتيال سفير إسرائيل لدى بريطانيا، شلومو أرغوف، الذي أصيب بجروح خطرة في الهجوم. وفي حرب لبنان الثانية عام 2006، ذهبت إسرائيل إلى المعركة بعد اختطاف جنديين. في الحرب الأولى، دفعت إسرائيل أرواح 655 من جنودها؛ وفي الثانية 165 جنديًا ومدنيًا، فضلًا عن القتلى على الجانب الآخر، ولكن في نهاية المطاف، مَن يحسب عدد الفلسطينيين الذين قتلوا؟ من حسب ضحايا مجزرة حماة 1982، الذين تجاوزت أعدادهم من استشهد في غزة في الحرب الإجرامية الأخيرة حتى نهاية عام 2023.

ومن اللافت أنه يمكن أن تقام الاحتفالات بالنصر في عقب المواجهات العسكرية الدموية التي تؤدي في كثير من الأحيان إلى سقوط آلاف الضحايا والمعاقين وتحدث الدمار الهائل، فإن بعض الفلسطينيين قد ينظرون إلى لحظات المقاومة والصمود بوصفها انتصارات رمزية، بغض النظر عن التكلفة البشرية الإجمالية. فقد تغذي الاحتفالات بالنصر الشعور بالتضامن والتحدي والتصميم على النضال، كما يمكن أن تكون بمنزلة شكل من أشكال التمكين النفسي، الأمر الذي يعزز الشعور الجماعي بالهوية والمقاومة. فهل هناك علاقة بين الاحتفال بالنصر الوهمي وإحياء الذاكرة والديمقراطية؟

كتاب “سياسة الذاكرة وإرساء الديمقراطية” من تأليف ألكسندرا باراهونا دي بريتو وكارمن غونزاليس إنريكيز يتعمق في العلاقة المعقدة بين الذاكرة والسياسة وعملية التحول الديمقراطي في مجتمعات ما بعد الاستبداد. ويستكشف الكتاب كيف تتصارع الدول مع الإرث المؤلم لانتهاكات حقوق الإنسان الماضية، بما في ذلك الإبادة الجماعية والعنف السياسي، في أثناء انتقالها إلى الحكم الديمقراطي. ويناقش تحديات معالجة المظالم التاريخية، وإنشاء لجان الحقيقة، وإنشاء آليات للمساءلة. وتوفر قراءة الكتاب فهمًا دقيقًا للتعقيدات المحيطة بتقاطع الذاكرة والسياسة، والسعي لتحقيق العدالة في المجتمعات الانتقالية. فهل المذابح التي ترتكب الآن مشروعة، وخاصة في دولنا التي ما زالت في مرحلة انتقالية حساسة وتعاني الاستبداد، وكيف يمكن أن يكون إعادة إحيائها مفيدًا؟[6].

نعتقد أن تضخيم تذكر المذابح يجب النظر فيه بعناية. إذ لا شك في أنه ينبغي لنا أن نتذكر ما حدث، ولكننا نريد أيضًا أن ننسى الفظائع في الوقت نفسه، لأن المبالغة في تضخيم المأساة قد تُخزَّن في الذاكرة الجماعية ووعي الأجيال المقبلة، ليجري إحياؤها في لحظة الضعف واليأس الملائمة لتكرار المأساة. ولكن نعتقد أن التضخيم الإيجابي ربما يكون ملائمًا، فمثلًا ما يمكننا أن نتذكره في تضخيم تبعات مذبحة كرايستشيرش الإعلامية (على الرغم من تهميش اسم المجرم تمامًا حتى لا يكسب الشهرة) هو خطاب رئيسة الوزراء جاسيندا أرديرن الحزين أمام البرلمان ووصف الضحايا على النحو الآتي:

“…إنهم نيوزيلنديون؛ إنهم نحن… نحن واحد”.

كلمات قليلة لكنها تحمل معاني عظيمة، وتركت انطباعًا عظيمًا لدى كثيرين، لأنها عكست فهمًا عميقًا لمفهوم المواطنة والاندماج الاجتماعي الذي كان يحلم به فلاسفة السياسة منذ عصر النهضة الإنسانية. وفي الوقت نفسه، لا تزال عديد من بلدان العالم المتقدمة تسعى جاهدة لدراسة الكيفية التي قد يكون بها التكامل ممكنًا في المستقبل، خاصة مع الفسيفساء الثقافية الغنية والمتنوعة التي تراكمت عبر آلاف السنين. فهل النضج الاجتماعي والديمقراطية هما السبب؟

إن تكرار خطاب رئيسة الوزراء عدة مرات يرسّخ الوحدة في الأنفس بحيث تحل محل العقيدة التي تفرق بين الناس، وتعزز التكامل في المجتمع. ويجب أن نتذكر أنه ربما تكون أول امرأة جامعية في العالم قد تخرجت بدرجة البكالوريوس في الآداب فيها عام 1877، قبل وقت طويل من قبول النساء رسميًا في جامعة أكسفورد بالمملكة المتحدة، على سبيل المثال، حيث كان عليهم الانتظار حتى تشرين الأول/ أكتوبر 1920. هذا النضج الاجتماعي والديمقراطي له جذوره المتأصلة بعمق في تاريخ نيوزيلندا والتي قادت على نحو غريزي تلك النوعية من ردة الفعل المتحضر الواعي لذاته.

وبالمقابل، هناك اعتبارات سياسية، فخذ مثلا كتاب “مشكلة من الجحيم: أمريكا وعصر الإبادة الجماعية” بقلم سامانثا باور الذي يبحث في الرد التاريخي للولايات المتحدة على الإبادة الجماعية في جميع أنحاء العالم. إذ تقدم باور، التي أصبحت فيما بعد سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، تحليلًا شاملًا للسياسة الخارجية الأميركية في مواجهة الفظائع الجماعية، واستكشاف العوامل التي أثرت في قرارات التدخل أو عدمه. يغطي الكتاب أحداثًا مهمة، مثل الهولوكوست، والإبادة الجماعية في رواندا، وصراعات البلقان. تقيّم باور التحديات الأخلاقية المرتبطة بمنع الإبادة الجماعية والاستجابة لها على نحو نقدي، وتقدم نظرة ثاقبة لتعقيدات العلاقات الدولية ودور الإرادة السياسية في معالجة الأزمات الإنسانية[7].

قدمت ورقة بعنوان: “الحرب الدائمة: هل السلام ممكن؟” في مؤتمر اليونسكو في بانكوك صدرت في كتاب بعنوان: “حوارات فلسفية آسيوية عربية حول الحرب والسلام”[8]. عرضت الورقة التاريخ العنيف للوجود الإنساني، وهو ما عكس قناعتي آنذاك بأن السلام العالمي مستحيل. ومع ذلك، عندما شاهدت السيد أوباما وهو يلقي خطابًا في هيروشيما في 27 أيار/ مايو 2016 في ذكرى تدمير “الصبي الصغير” للمدينة في 6 آب/ أغسطس 1945، لم أصدق أن الناجين من المذبحة سيغفرون للأميركيين ما فعلوه. وعلى الرغم من ذلك صافح المحاربون اليابانيون القدامى أوباما بكل احترام! بذلك أدركت أنه من الممكن أن يسامح الإنسان أخاه الإنسان. فيبدو أن القدرة على المسامحة سمة إنسانية جوهرية عظيمة متأصلة في جيناتنا تاريخيًا، وهذا ما يمكّننا من دعم صحة التنبؤ بأن الأجيال المقبلة يمكنها النجاة من الحروب على هذا الكوكب؛ وبطبيعة الحال، بشرط أن ننجو من تبعات الاحتباس الحراري العالمي أولًا.

ويؤكد ذلك كتاب “قوة المغفرة” لإيفريت ورثينغتون الذي يستكشف مفهوم التسامح وإمكاناته التحويلية وفوائده العظيمة. إذ يعتمد ورثينغتون، عالم النفس الشهير، على الأبحاث الراقية والخبرة الشخصية لمناقشة فوائد التسامح على الصحة العقلية والعاطفية معًا. ويقدم الكتاب إستراتيجيات متكاملة وتمارين عملية لمساعدة الأفراد في اجتياز عملية مسامحة الآخرين، مع التركيز على تأثيرها في تقليل المشاعر السلبية، وتعزيز الشفاء، وتحسين العلاقات بين الناس[9].

كذلك يؤكد كتاب “سامح من أجل الخير” لمؤلفه فريد لوسكين الجوانب النفسية والعاطفية للتسامح. إذ يقدم عالم النفس لوسكين دليلًا عمليًا للتسامح، بالاعتماد على الأبحاث الراقية وخبرته التجريبية في مشروع التسامح في جامعة ستانفورد. ويستكشف الكتاب فوائد التسامح، أكان ذلك بالنسبة إلى رفاهية الفرد أم في تحسين العلاقات بين الأشخاص. ويقدم لوسكين منهجًا واضحًا خطوة بخطوة لمساعدة القراء في فهم التسامح وتطبيقه في حياتهم المعيشة، فمثلًا ينصب التركيز على التخلص من الضغينة والاستياء والغضب لتعزيز الشعور بالسلام الداخلي وتحسين الصحة العقلية عمومًا[10].

الاغتراب ونظرية التطور الغائية

يرتبط مفهوم الاغتراب Alienation في الاقتصاد السياسي بنتيجة استغلال الإنسان عبر نمط الإنتاج الرأسمالي، حيث ينفصل الإنسان عن ذاته وواقعه ليحلم في مكان آخر أفضل، فيقع في فخ تعقيدات التكنولوجيا وطياتها النفسية والاجتماعية والصحية، ومن ثم يصبح المغترب عن واقعه هو نفسه آلة غير قادرة على عيش حياة إنسانية طبيعية وممتعة، ويعجز عن تلبية تطلعاته في التغيير، أو حتى في تحقيق أبسط احتياجاته الإنسانية الأساسية. وفي حالة الشعب المحاصر في فلسطين فإن الاغتراب هو الهروب من الواقع الأليم واللجوء إلى عالم أفضل هو مملكة الله، فليس مستغربًا أن مستوى التدين ازدادت وتيرته منذ هزائم 48 و67 حتى يومنا هذا، فأصبح الأقطاب الرئيسة للمقاومة إسلامية.

وما زاد الأمر سوءًا أنه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، تحولت الصراعات من عداوات بين الدول الرأسمالية المتقدمة إلى حروب دائمة بين الرأسمالية المتمركزة في الشمال والدول المتخلفة في الجنوب، أو في الأطراف. فأصبحت شعوب الجنوب معزولة بسبب التبادل غير المتكافئ بين الشمال والجنوب، ونتيجة التنمية غير المتكافئة بفعل الاستقطاب و”التبادل غير المتكافئ”، فمن الضروري وعي القضايا المتعلقة بالهيمنة على مصادر الطاقة والموارد الطبيعية والتحكم بالعمالة الرخيصة التي تتدفق على نحو غير متوازن من الجنوب إلى الشمال، والتي ترتبط “بالتبادل غير المتكافئ والتنمية غير المتكافئة والظلم البيئي”، وتشكل سببًا رئيسًا للاغتراب في الجنوب.

وهناك مثال حي من فلسطين، حيث تتدفق العمالة الرخيصة إلى الكيان الصهيوني، فيما يهيمن الأخير على الموارد المائية والطبيعية للأول ويتحكم في آبار الغاز في البحر المتوسط ويحكم سيطرته على الأرض. فبناء على سجلات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في كانون الأول/ يناير 2020، فإن الفلسطينيين باتوا يشكلون نحو 50.1 في المئة من عدد السكان المقيمين في فلسطين التاريخية، فيما غدا اليهود يشكلون نحو 49.9 في المئة من مجموع عدد السكان، ولكنهم يستثمرون أكثر من 85 في المئة من المساحة الكلية لفلسطين التاريخية البالغة قرابة 27,000 كم2.

ويمكن القول أيضًا إن التنمية غير المتكافئة تؤدي إلى نتيجة طبيعية للتبادل التجاري غير المتكافئ بين الشمال والجنوب. فمن الناحية النقدية يمكن أن ينعكس ذلك من خلال تبادل المواد الخام من الجنوب بسلع ذات تكنولوجيا عالية من الشمال، فإن طنًا واحدًا من صادرات الاتحاد الأوروبي الخمسة عشر إلى أفريقيا وأميركا اللاتينية، على سبيل المثال، يجسد 10 أضعاف القيمة النقدية مقارنة بالواردات المتساوية في الاتجاه المعاكس[11]. كما أن اقتصاد الأطراف مجبر على التوجه نحو الخدمات المقدمة لقطاعات الإنتاج العاملة في الشمال. فمثلًا، بعد سنوات قليلة من احتلال البريطانيين لمصر عام 1882، وُجّهت معظم الزراعة المصرية لإنتاج القطن لتلبية احتياجات صناعة النسيج البريطانية. ذلك كله يثير عزلة شعوب الجنوب ويجعلها تغتنم أول فرصة للهجرة إلى الشمال بمخاطر كبيرة جدًا، كما حدث مع هجرات السوريين المأسوية إلى أوروبا.

علاوة على ذلك، فإن الانبعاثات غير المتساوية للغازات الدفيئة بين الشمال والجنوب تثير مشاعر الظلم وعدم العدل المناخي. ففيما كانت الولايات المتحدة في عام 2016 مسؤولة عن نحو 16 في المئة من جميع الانبعاثات العالمية، بلغت حصة الصين 28 في المئة ومع ذلك، فإن 136 دولة نامية في الجنوب ساهمت بنسبة 24 في المئة فقط من ظاهرة الاحتباس الحراري[12]. ويعني هذا التفاوت أن الجنوب يدفع ثمنًا باهظًا لعواقب الظلم المناخي الناتج من الجفاف، والفيضانات، والأعاصير، وارتفاع منسوب سطح البحار، وتقلب شدة الأمطار، وتأكل التربة، والتلوث، وما إلى ذلك.

وفي الوقت نفسه فإن كل شيء في البلدان الفقيرة هش، من البنية التحتية (الطرق، الخدمات…الخ) إلى البنية الفوقية (الحوكمة…الخ). فمن الواضح إذًا أن التبادل غير المتكافئ والتنمية غير المتكافئة وتدمير الموائل الطبيعية يدفع الناس إلى التدفق نحو البلدان الأكثر تقدمًا من أجل مستقبل أفضل، ومن لا يستطيع الهروب من واقعه الأليم يدخل في هجرة روحية إلى السماء عبر حالة من الاغتراب. ففي خلال هذا القرن، وفي عام واحد متوسط، أدت الكوارث المناخية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى إلى إصابة وتشريد 7 ملايين شخص، وتسببت بوفاة أكثر من 2600 شخص، وخلّفت خسائر بقيمة 2 مليار دولار[13].

ومن ثم، ونتيجة لحالة الاغتراب عن الواقع الموضوعي في دولنا أصبحت الهوية الدينية متشابكة مع الهوية الوطنية، وباتت تستخدم بعض فصائل المقاومة الخطاب الديني لحشد الدعم الشعبي. إضافة إلى ذلك، تتمتع القدس بأهمية استثنائية عند اليهودية والمسيحية والإسلام، الأمر الذي يعمّق إضفاء البعد الديني على الصراع. وهكذا ساهم التفاعل بين وعي المظالم التاريخية والتطلعات الوطنية والمشاعر الدينية في خلق طبيعة متعددة الأوجه للصراع العربي- الاسرائيلي، وغدت الفصائل الإسلامية هي التي تقود التحرر بوصفها القوى المهيمنة على القرار السياسي في حين فشلت قوى الاستسلام والسلام في تحقيق أي إنجاز لشعوبها.

وبمرور الوقت اكتسبت القضية الفلسطينية أهمية تاريخية وثقافية مركزية لعديد من الدول العربية بحيث غطت على مشكلاتها الداخلية واضطهادها لشعوبها، وبحيث باتت المجازر التي ترتكب في سورية والعراق واليمن وإيران مسائل ثانوية. لذلك بات يُنظر إلى القضية الفلسطينية على أنها رمز للوحدة والتضامن العربي ضد الظلم الداخلي والخارجي، وفي مواجهة الاغتراب، وخاصة في ضوء البشاعة التي رافقت إنشاء دولة الكيان الإسرائيلي وتهجير الفلسطينيين، وفي ظل الدولة العربية المستبدة، وفي إطار تعمق الصراع المستمر بين الشمال والجنوب في جميع أنحاء العالم العربي.

ومن ناحية أخرى، لا يقتصر الاغتراب على الجنوب فحسب، فإن الناس في الشمال أيضًا يشعرون بالغربة عن مجتمعاتهم الحديثة، ولكن لسبب مختلف، حيث تحول الاغتراب بسبب التصنيع إلى “مرض الحداثة” في القرن العشرين، كما يعتقد تشارلز تايلور.، حيث تسجننا الحداثة في غرفنا المدفئة مركزيا والمكتفية ذاتيًا، وتحبسنا مع تطبيقات الهاتف المحمول، ومن ثم يصبح الاغتراب مرضًا منتشرًا، يسميها البعض “ثقافة النرجسية” التي “تجعل من تحقيق الذات ومتعتها القيمة الكبرى في الحياة. ويبدو أنها تعترف بقليل من الالتزامات الأخلاقية الجادة تجاه الآخرين”[14]. وهذا ما نبصره اليوم في طبيعة تعامل الغرب مع المواقف الأخلاقية والالتزامات المادية للشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال والمحاصر من الجنبات كافة، كما يغض الغرب الطرف عن القمع المستدام داخل دول المنطقة العربية نفسها.

وبناء عليه، لدينا الآن وضع خطر: فثمة شخص مغترب من الجنوب يُوضع وجهًا لوجه مع شخص مغترب آخر من الشمال. كل واحد منهما يتصور الآخر كمنافس للآخر في عالم يسيطر عليه “الانتقاء الطبيعي”؛ لكن الإنسانية تستدعي أن يكونا واحدًا في مواجهة الظلم الذي يتعرض له الطرفان، كما يقول الفيلسوف اليهودي مارتن بوبر في كتابه: I & Thou، أي “أنا وأنت”[15]. فإذا لم تتحقق رعاية هذه العلاقات بيني وبين الآخرين، المبنية على “أنا وأنت”، فسوف يكون من المستحيل تطويرها على نحو أكبر للدخول في علاقات مع “الله الأبدي”. فإلى أي مدى تحققت هذه العلاقة بين الشمال والجنوب والتي من المفترض أن تمهد لأي إمكان لعلاقة مع الله؟

كتب ابن عربي، الذي توفي عام 1240 للميلاد، 350 عملًا، قدّم في كثير منها عرضًا عميقًا لـ “وحدة الكائنات”، حيث يُظهر عمله أولئك الذين يكتشفون ذواتهم الحقيقية، وعندها فقط يصبحون قادرين على معرفة الله. ويبدو أن مارتن بوبر قد اتبع نهج ابن عربي في القرن العشرين بعد أن نشر كتابه “أنا وأنت” عام 1923. وحتى قبل أن توجد أعمال ابن عربي، كتب فريد الدين عطار قصيدة “منطق الطير” استخدم فيها 30 طيرًا يقودهم الهدهد، لتمثيل المعلم الصوفي الذي يرشد تلامذته إلى التنوير (قصة رمزية)، واندفعوا من مكان بعيد عبر رحلة طويلة، وحلقوا من فوق وادٍ بعيد إلى آخر، وتنتهي المرحلة الأخيرة باكتشاف “الجمال” و”الحب” الذي هو أعلى مستوىً من الإدراك، وذلك بعد مروره بمراحل مبدئية مثل التعجب والتساؤل وغيرها من مراتب معرفية. فهل وصلنا إلى مرحلة اكتشاف الذات في بلادنا، أم أننا ما زلنا نتخبط في وعي القرن السابع للميلاد؟

هذه المحاولات كلها في التاريخ، وغيرها كثير من الفلسفة الصوفية الشرقية، كانت تحاول إيجاد هدف في الحياة، وسعت لوعي الذات في الزمان والمكان، والمصالحة مع الآخرين، والدعوة إلى “وحدة الوجود”، وأنسنة الخالق والاندماج به، والتي تعكس “أخلاق الحب الكلي”. ويمكن عدّها مشابهة لمنهج وحدة الوجود (عند سبينوزا) حيث الله والعالم وجهان لعملة واحدة، فنصبح نحن والعالم واحدًا؛ عندها فقط يمكننا المغامرة في الوحدة مع الله. فهل هذه مجرد محاولات جديدة للهروب من الواقع المعيش، على نحو ما تسعى له البوذية للوصول الى حالة النيرفانا في مسعى فردي منفصل عن الناس والمجتمع؟

في مثل هذه الظروف، وفي غياب الرعاية المعرفية والوعي المادي، يصبح الإنسان في الشمال، وهو الذي غربته الحداثة أيضًا عن مجتمعه وعن العالم الأوسع، ذا توجه أناني، ويغدو مفتقرًا إلى المعنى والقيمة في الحياة. وربما أدى هذا الاغتراب في الغرب المتقدم إلى ظهور شخصيات إجرامية ذات بُعد واحد، على رأي هربرت ماركوزه، والتي تعكس مواقف رؤساء الدول الذين ساندوا الكيان الصهيوني في إجرامه بغزة. فكيف الخروج من هذا المأزق إذًا؟

يقترح تشارلز تايلور في كتابه The Malaise of Modernity طريقة للخروج من هذا المأزق من خلال استرجاع بعض التقاليد الأخلاقية القوية الفريدة من الماضي، والتي تُقدر التنوع البشري وتدافع عن المسؤولية الشخصية، بحيث تُحقَّق حياة ذات معنى عبر السمو الذاتي. ويمكن أن يكون طريق السمو الذاتي هذا بمنزلة الله بالنسبة إلى البعض، ويمكن أن يكون أيضًا سببًا سياسيًا، كما يقول تايلور، ويمكن أن يكون أيضًا عملًا جماعيًا، كالعمل المشترك بين الشعوب المتنوعة للحفاظ على البيئة، والاكتشاف العلمي، ومساعدة الضعفاء وتخفيف المعاناة عنهم، والعناية بالمرضى والمسنين والمضطهدين، وغير ذلك الكثير.

وهناك فكرة “الحب التطوري” التي تُعد من أروع كتابات تشارلز بيرس الفلسفية. فهو يصف وجود مبدأ كوني للحب في جميع أنحاء الكون يدعّم على نحو خلاق تأليف أشكال تطورية جديدة. فهذا الحب هو شكل من أشكال الحب البشري الطاهر الذي يعترف بكل ما هو جميل في كائن آخر، ويدعم وجوده، ويتعاطف معه. ويطلق بيرس على ما يقابل عكس نظريته الجديدة اسم “المغاضبة”، ويقارنها بالنظريات التطورية التي تقوم على شكل أناني من الحب والمنافسة؛ فهؤلاء يبشرون “بإنجيل الجشع”.

ويشير بيرس إلى وجود مثل هذا التفكير الأناني القائم على الجشع في الهياكل السياسية والاقتصادية للحوكمة الحديثة، وفي مبدأ داروين البيولوجي المتمثل بالانتقاء الطبيعي القائم على التنافس بين المصالح الخاصة وأن البقاء للأفضل، ومن ثم لا توجد فرصة للضعيف ولسنا بحاجة إليه في المجتمع. ومن ناحية أخرى، تشجع نظرته اللاغائية في فهم الحياة على التفاني في مساعدة الآخرين بدلًا من وضع الخلاص الفردي في المرتبة الأولى، وهي عقيدة في نتائجها العملية تعكس الأخلاق المسيحية والإسلامية.

خاتمة

نستدل من هذا البحث أن الديمقراطية الناضجة والعدالة الاجتماعية يمكنها أن تجمع الناس وتوحدهم وتقرب فيما بينهم بغض النظر عن اختلافاتهم، وبغض النظر عن إحياء الذاكرة للمآسي التاريخية من عدمه، وفي الوقت نفسه تلقي الضوء على حقيقة أنه في غياب الديمقراطية يصبح الجميع مهددين بالاستغلال والاضطهاد الذي قد يصل إلى مستوى المجازر المنظمة والانتهاكات البشعة والإبادة الجماعية عبر عدو داخليًا أكان أم خارجيًا. وتتجلى الأمثلة اليوم في الشرق الأوسط وأجزاء كثيرة من أفريقيا وآسيا، وهي من دول الجنوب عامة التي تعيش في حالة من الاغتراب والاستبداد في مراحلها الانتقالية وفي ظل علاقات غير متكافئة مع المراكز الرأسمالية في الشمال، حيث نشهد كيف تقود الأنظمة الشمولية والثيوقراطية البلاد إلى الفوضى والتحريض على الحروب الدينية والمذهبية والعرقية، وذلك بإشراف ممنهج من الحكومات التي اغتربت عن واقعها الإنساني وتراثها العقلاني عبر الحداثة في الشمال.

إن العلاقة بين الديمقراطية والاحتلال ورفض السلام وإحياء الذاكرة بالأحقاد والمجازر، أكان ذلك من خلال تقزيمها أو تضخيمها، هي قضايا إشكالية معقدة ويمكن أن تختلف تبعًا للأحوال المحددة في المكان والزمان. ففي الأنظمة الديمقراطية، غالبًا ما يكون لدى الناس سبل للتعبير عن مظالمهم، والدعوة إلى التغيير، والتأثير في سياسات الحكومة عبر قنوات مختلفة، مثل الاحتجاجات ووسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني. وهذا يسمح بالمطالبة السلمية بتغييرات في السياسات العامة أو فرض عقوبات ضد الدول المشاركة في الاحتلال والمجازر. أما في دول الجنوب فالتعبير يكون ثوريًا ويتم عبر السلاح ما دامت الأدوات الديمقراطية غير متاحة.

وإجابة عن السؤال المطروح منذ البداية: هل تربية أخلاق السلام والمحبة ممكنة؟ وهل الفلسفة الصوفية أو فلسفة الحب ونبذ الكراهية قادرة على تجاوز اغتراب الشمال والجنوب معًا؟

نخلص بالقول إنه يجب تربية الأجيال المقبلة على كيفية نسيان الذكريات العنيفة ووعي اللحظة في تغيراتها الزمكانية، كما رأينا في كتابات عديد من فلاسفة الأخلاق والعقلانية وعلماء النفس وفلاسفة التصوف، ووجدنا أنها مجرد محاولات للهروب من الواقع المعيش، ولكن يبدو لنا أن ذلك كله صعب التحقق إلا بإضفاء معنى وهدف لحياة كريمة نابعة من عمق الواقع المعيش بفهم ذواتنا للخروج من حالة الاغتراب. فلا يمكننا تشجيع الأجيال المقبلة على أن يكونوا انتقائيين عبر نسيان أهوال الماضي وتذكيرهم فقط بما نريد لهم تذكره من أجل تعزيز المحبة والسلام، فالمشكلة لن نستطيع تذليلها إلا بإيجاد حلول لمشكلة الأنظمة الاستبدادية في الجنوب، فضلًا عن البحث عن حلول لمشكلة الاغتراب القائمة في الشمال والجنوب معًا، والتي تستدعي تفكيك علاقة الاستقطاب والتبعية القائمة بينهما عبر البحث عن نمط إنتاج عالمي جديد أو ربما هجين يجمعهما.

وهذا الحل يستدعي الإجابة عن بضعة تساؤلات نطرحها كدراسات مستقبلية: هل كانت القضية الفلسطينية، وما زالت، الشماعة التي علقت عليها الدول الاستبدادية لواء التحرير، بينما شعوبها ما زالت ترزح تحت نير احتلالها منذ غادرنا الاستعمار؟ وما هو دور المثقف العضوي ومؤسسات المجتمع المدني في التغيير؟ وهل يمكن أن يكون نمط الإنتاج الحالي في الرأسمالية المركزية المعاصرة أكثر إنسانية وأكثر إنصافًا من حيث التبادل مع الجنوب، وكيف؟ وما هو نوع التدابير اللازمة، على المستوى العالمي، لمساعدة الناس المنعزلين في الشمال والجنوب ليتقرب بعضهم من بعض، ثقافيًا واقتصاديًا وسياسيًا وإنسانيًا، لجعلهم يعودون إلى وعي أنفسهم من أجل المصالحة معها أولًا، وذلك قبل أن ندعوهم إلى وعي الآخر عبر واقع الاستقطاب والتنمية غير المتكافئة، كمقدمة لمشروع سلام عالمي قد يبدو لنا بعيد المنال؟

المراجع / المصادر:

Abu Dayyeh, Ayoub, et al, “Asian-Arab Philosophical Dialogues on War and Peace”, UNESCO, Bangkok, 2010 (https://independent.academia.edu/AAbuDayyeh).

Barahona, Alexandra, et.al, The Politics of Memory and Democratization , Oxford Academic Books, 2001.

De Mesa, Juliana, “Peirce’s Philosophical Project from Chance to Evolutionary Love,” Discusiones filosofica 15, no. 25 (2014).

Dumas, Martin, The Malaise of Modernity under Consumocratic Order, Economics & Sociology, Vol. 5, No 2, 2012, pp. 75-92.

Flanagan, Owen, ” Charles, Taylor: The Malaise of Modernity”, Book Review, published in “Ethics” 104(1) October 1993, pp. 192-194.

Hursh, David W., The End of Public Schools: The Corporate Reform Agenda to Privatize Education (London: Routledge, 2016), see especially, chapter.2.

Ide, Kanako, “Rethinking the Concept of Sustainability: Hiroshima as a subject of peace education”, Educational Philosophy and Theory, Vol, 49, No. 5,521-530, 2017.

IMF report 2022 (https://www.thenationalnews.com/uae/2022/03/30/imf-issues-stark-warning-over-climate-change-impact-on-middle-east).

Kushinsk, Alysse, University of Bucharest Review, Vol. 111/2013, no 1.

Luskin, Feredric, Forgive for Good: A Proven Prescription for Health and Happiness, Goodreads, 2001.

Macer, Darryl (Editor), Legacies of Love, Peace and Hope, Eubios Ethics Institute, Christchurch, 2019.

(https://www.eubios.info/assets/docs/LegaciesbookSept2020.43172336.pdf)

Morgan W. John, et al, “I and Thou: The educational lessons of Martin Buber’s dialogue with the conflicts of his times” in Educational Philosophy and Theory 44(9) · November 2010.

Parks, Bradley C. and Roberts, J. Timmons, Theory Culture Society 2010 27: 134, Climate Change, Social Theory and Justice.

(https://www.bu.edu/sph/files/2012/12/Parks_and_Roberts_2010_Climate_Change).

Peirce, Charles, “Evolutionary love”, in Monist, volume3, published 01-01-1893, (Entered May 5th 2019).

Power, Samantha, 2002, Amazon,  Pulitzer Prize for General Nonfiction.

Rawls, John, “A Theory of Justice”, Harvard University Press, 1977.

UN News; ICTY, UN International Criminal Tribunal for the former Yugoslavia, 2017 (www.icty.org) (Entered May 6th 2019).

The Power of Forgiveness, Amazon, 2005. Everett L. Worthington Jr.

 

1-, David W. Hursh, The End of Public Schools: The Corporate Reform Agenda to Privatize Education (London: Routledge, 2016), see especially, chapter 2.

2– Owen Flanagan, ” Charles, Taylor: The Malaise of Modernity”, Book Review, published in “Ethics” 104(1) October 1993, pp. 192-194.

3– John Rawls, “A Theory of Justice”, Harvard University Press, 1977.

4– (أخبار الأمم المتحدة، المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، 2017).

5– Alysse Kushinsk, University of Bucharest Review, Vol. 111/2013, no 1.

6– Alexandra Barahona, et.al, The Politics of Memory and Democratization, Oxford Academic Books, 2001.

7– Samantha Power, 2002, Amazon, Pulitzer Prize for General Nonfiction.

8– Ayoub Abu Dayyeh, et al, “Asian-Arab Philosophical Dialogues on War and Peace”, UNESCO, Bangkok, 2010 (https://independent.academia.edu/AAbuDayyeh).

9– The Power of Forgiveness, Amazon, 2005, Everett L. Worthington Jr.

10– Feredric Luskin, Forgive for Good: A Proven Prescription for Health and Happiness, Goodreads, 2001.

11– Bradley C Parks,. and, J. Timmons Roberts, Theory Culture Society 2010 27: 134, Climate Change, Social Theory and Justice.

12– Ibid.

13– IMF report 2022 (https://www.thenationalnews.com/uae/2022/03/30/imf-issues-stark-warning-over-climate-change-impact-on-middle-east).

14– Martin Dumas, The Malaise of Modernity under Consumocratic Order, Economics & Sociology, Vol. 5, No 2, 2012, pp. 75-92.

15– John W Morgan. et al, “I and Thou: The educational lessons of Martin Buber’s dialogue with the conflicts of his times” in Educational Philosophy and Theory 44(9), November 2010.

  • أيوب أبو دية

    كاتب وباحث أردني، مهندس مدني ودكتور في الفلسفة، رئيس جمعية حفظ الطاقة واستدامة البيئة – الأردن، رئيس مكتب هندسي استشاري، مستشار في الأبنية الموفرة للطاقة، كاتب في شؤون البيئة العالمية، محاضر جامعي غير متفرغ لمادة البيئة، عضو لجنة الحوار الفلسفي العربي الآسيوي – اليونسكو، صاحب براءَة اختراع مشتركة في العزل الحراري، عضو رابطة الكتاب الأردنيين والجمعية الفلسفية الأردنية، حصل على جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الهندسية لعام 1992، اختير كتابان من مؤلفاته لمكتبة الأسرة الأردنية (دليل الأسرة في توفير الطاقة، والطاقة المتجددة في حياتنا)، حصل على الجائزة الذهبية البريطانية للبيئة المبنية عن الشرق الأوسط 2010، حصل على جائزة البطل الأخضر في مجلس العموم البريطاني 2010، له كتب علمية عديدة، منها: (العلم والفلسفة الأوروبية الحديثة-دار الفارابي، 2009)، (موسوعة أعلام الفكر العربي الحديث والمعاصر 2008)، (سلامة موسى: من رواد الفكر العلمي العربي المعاصر 2006)، (عباس محمود العقاد: من العلم إلى الدين، 2003).

مشاركة: