مقدمة
في 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1819، اجتمع سبعة شبان يهود في برلين لمناقشة كيفية تحسين أحوال حياة اليهود في المدن البروسية[1]. حدث ذلك بعد نحو نصف قرن من ظهور حركة التنوير اليهودية “الهاسكالاه”، وتحت تأثير التنوير “المسيحي” الأوروبي. هؤلاء الشبان هم: إسحاق ماركوس جوست، ليوبولد زونز، جوزيف هيلمار، جويل أبراهام ليست، إسحاق ليفين أورباخ، إدوارد غانز وموسى موسر. هذه الأسماء، وخاصة زونز، إلى جانب عدد قليل من المفكرين الآخرين الذين سينضمون لهم لاحقًا، سيساهمون في إنشاء مدرسة علم اليهودية، (باللغة الألمانية: Wissenschaft des Judentums). المدرسة التي سعت لتعزيز دور اليهودية كدين ينتمي إلى الهوية القومية للدول التي يعيش فيها اليهود، لكنها في النهاية حولت اليهودية خلال قرن من الزمن من مجرد أسس دينية تحكم مجتمعات أقلية مغلقة ومهمشة في أوروبا إلى هوية ثقافية وقومية مساوية ومماثلة للهويات القومية الأوروبية الحديثة[2].
تتناول هذه المقالة الأحوال التاريخية والأيديولوجية التي شُكّلت فيها مدرسة علم اليهودية. ومن هنا سألقي الضوء على نشأة مدرسة علم اليهودية في القرن التاسع عشر وتطورها حتى نهايتها في بداية القرن العشرين، وذلك من خلال منهج التحليل التاريخي والأيديولوجي. سأبدأ بتوضيح الفرق بين الدراسة التقليدية لليهودية والدراسة الحديثة لليهودية التي تتبعها مدرسة علم اليهودية. ثم سأنتقل إلى دراسة السياق التاريخي لحركة التنوير اليهودية “الهاسكالاه” التي مهدت الطريق لظهور مدرسة علم اليهودية. وبعد ذلك، سأدرس السياق التاريخي والأيديولوجي لظهور هذه المدرسة. في الجزء الأخير من المقالة، أناقش بداية ونهاية مدرسة علم اليهودية. ومن أجل ذلك، سأعتمد كتاب From Text to Context: The Turn to History In Modern Judaism “من النص إلى السياق: التحول إلى التاريخ في اليهودية الحديثة” كمصدر أساسي إلى جانب مصادر ثانوية أخرى.
لقد كانت مدرسة علم اليهودية محط اهتمام عديدٍ من المؤرخين في الغرب، حيث كتب عنها كثيرٌ من المؤرخين والمفكرين في معرض بحوثهم في التاريخ اليهودي في أوروبا. ومع ذلك، فإن هذه المدرسة لا تزال تستحق إعادة القراءة والتحليل لكونها شكلت منعطفًا كبيرًا في التاريخ اليهودي الحديث. وتأتي أهمية هذه المقالة على نحو خاص لأنها تركز على مدرسة علم اليهودية على نحو منفصل من خلال إجراء مراجعة تاريخية وأيديولوجية لنشأة هذه المدرسة وتطورها خلال القرن التاسع عشر. ومن المهم أن نذكر أن مفكري علم اليهودية اهتموا بالبحث والتحقيق في التاريخ العربي في أبحاثهم وخصوصًا الأدب الحاخامي في ظل الحضارة الإسلامية. وهذا ما يجعل المقالة ذا أهمية خاصة بالنسبة إليّ كباحث عربي، خاصة مع ندرة الأبحاث باللغة العربية التي تهتم بمدرسة علم اليهودية. حيث لم أجد باللغة العربية إلا هامشًا صغيرًا للتعريف بالمدرسة في “موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية” التي ألفها المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري. إضافة إلى محاضرة منشورة على يوتيوب لأستاذ الدراسات اليهودية في تونس الدكتور فوزي البدوي. وهنا يجب التنويه إلى أن ندرة الحديث عن مدرسة علم اليهودية في الفكر العربي، لا يعني بالضرورة أنه لم يكن هناك اهتمام بفكر أبناء هذه المدرسة على نحو فردي بوصفهم مفكرين بحثوا في التاريخ العربي والإسلامي. فعلى سبيل المثال، اهتم الكاتب والمترجم السوري الراحل نبيل فياض بأعمال أبراهام غايغر فترجم إلى العربية كتابه “اليهودية والإسلام”، لكنه أغفل الذكر في مقدمته عن الكاتب أن غايغر كان أحد أبناء مدرسة علم اليهودية.
أولًا: الفرق بين الدراسة التقليدية لليهودية ودراسة مدرسة علم اليهودية
إن الدراسة التقليدية لليهودية هي مهمة دينية مقدسة يقوم بها الحاخامون، وهي دراسة قديمة قدم اليهودية نفسها. ومع ذلك فإن الدراسة النقدية لليهودية لم تبدأ في القرن التاسع عشر في أوروبا الغربية، ولكن قبل ذلك بوقت طويل. على سبيل المثال، بدأت الدراسة العلمية للتلمود منذ القرن العاشر على يد الحاخام حي بن شيريرا في بغداد، الذي تأثر بالمعتزلة[3] وعلق على الشريعة الشفهية، المشناه، مستخدمًا المعرفة التاريخية والأثرية واللغوية للمؤلف. كما بدأ الحاخام سعيد الفيومي في القرن نفسه، في مصر بوضع القواعد العلمية للغة العبرية. وأسس الحاخام يونا بن جناح مؤسسة للتفسير العلمي للكتاب المقدس في القرن الحادي عشر في قرطبة. وطور إبراهيم بن عزرا عدة تقنيات للتفسير في القرن الثاني عشر. وفي القرن السادس عشر نشر المؤرخ اليهودي الإيطالي أزاريا دي روسي أطروحة تاريخية جادل فيها بضرورة فهم التاريخ اليهودي من خلال التاريخ غير اليهودي. في القرن نفسه كتب سيمون لوزاتو عن الأحوال السياسية والاقتصادية للشتات الأوروبي[4]. ومع ذلك، فإن جميع الدراسات العلمية قبل القرن التاسع عشر تصنف على أنها دراسات تقليدية وذلك لأنها كانت تتم لأهداف دينية. ومن هنا لا بدَّ من توضيح بعض الاختلافات بين الدراسة التقليدية والدراسة الحديثة التي اتبعتها مدرسة علم اليهودية:
– الحافز: الالتزام الديني بالتقرب من الله والحفاظ على الشريعة اليهودية هو الحافز الرئيس للدراسة التقليدية. أما بالنسبة إلى مدرسة علم اليهودية، فحافز أبنائها كان أيديولوجيًا. حيث اهتمت بدراسة اليهودية بغرض استكمال تحرير اليهود في الدول التي سبق أن أصدرت مراسيم لتحرير اليهود في أوروبا الغربية، مثل فرنسا وهولندا، وتحرير اليهود في الدول التي لم تبدأ بعد أي إجراء لتحرير اليهود، خاصة في المدن البروسية. كما سعت مدرسة علوم اليهودية أيضًا لمواجهة ظاهرة معاداة السامية المتنامية، إضافةً إلى تطبيع وجود اليهود في أوروبا سياسيًا واجتماعيًا من خلال تحديث اليهودية لتتكيف مع المعايير الجديدة للمجتمعات المسيحية الأوروبية[5]. فعلى سبيل المثال جادل إيمانويل وولف، أحد مؤسسي مدرسة علم اليهودية، بأن جوهر اليهودية روحاني. وهذه الروحانية عند اليهود تظهر المستوى العالي لثقافتهم، وهذا ما يجعلهم مرشحًا رئيسيًا للاندماج في المجتمع الألماني الحديث[6].
– مجال الدراسة: تقتصر الدراسة التقليدية على الكتب والنصوص المقدسة في اليهودية، والتي يشترط كتابتها بأيدي يهودية وباللغة العبرية. أما مدرسة علم اليهودية فيتسع مجال دراستها ليشمل جميع النصوص المتعلقة باليهودية، دينية أكانت هذه النصوص أم غير ذلك مثل الأدب والتاريخ واللغة والفولكلور والفلسفة اللاهوتية. ولا يقتصر مجال الدراسة لدى مدرسة علم اليهودية على المراجع اليهودية، فقد رجع علماؤها إلى المراجع المسيحية والإسلامية واليونانية والفارسية لدراسة التاريخ اليهودي. وقد كانت مقالة ليوبولد زونز الشهيرة عام 1818 بعنوان “ملاحظات حول الأدب الحاخامي”بمنزلة دعوة مهمة لكسر حدود الحاخامات التقليدية وتوسيع أفق اليهودية لتشمل جميع جوانب الفكر الإنساني[7]. وبعد بضعة عقود من ذلك، في عام 1850، اعتمد المؤرخ الألماني اليهودي سيليج كاسال على مصادر غير يهودية لفهم التاريخ السياسي والاجتماعي للشتات اليهودي[8].
– الدراسة الخارجية للنص (السياق الزماني والمكاني): إن مفهوم الزمن كعنصر حيوي يُعدّ مفهومًا غريبًا على الدراسة التقليدية لليهودية التي ترى أن الشريعة اليهودية ثابتة وغير مقيدة بزمان أو مكان. ومن ثم فإن الزمن، الذي تتغير فيه الشرائع والقوانين الأخرى غير الشريعة اليهودية هو فقط للعالم غير اليهودي. ويتعامل حاخامات الدراسة التقليدية مع النصوص المقدسة كنصوص إلهية مطلقة لا تتغير مع مرور الزمن أو حتى مع تغير المكان. ولذلك فهم يرفضون فكرة أن الشريعة اليهودية تتأثر بالأماكن التي نشأت فيها والأماكن التي عاش فيها اليهود مع غير اليهود. وهذا يعني أنه لا يجوز دراسة أي نص من خلال سياقه الخارجي الزماني أو المكاني، بوصفها نصوصًا إلهية خاصة باليهود وحدهم[9]. وهذا ما يمكن أن يجده المرء على سبيل المثال في الموسوعة التاريخية التي نشرها الحاخام والمؤرخ ديفيد غانس عام 1592 في براغ بعنوان “طلقة ديفيد”، والتي عمل من خلالها على عزل التاريخ اليهودي عن التاريخ غير اليهودي. أولًا: بنيويًا، وضع غانس تاريخ اليهود وتاريخ غير اليهود في قسمين مختلفين. ثانيًا: من الناحية المنهجية، فالتاريخ اليهودي كتب بناءً على المصادر العبرية التي كتبها مؤلفون يهود فقط. أما الأعمال التي كتبها اليهود بلغة غير العبرية فقد وضعها في قسم التاريخ غير اليهودي. الأعمال التي كُرّرت بالعبرية وغير العبرية تكررت في كلا القسمين، مرة في التاريخ اليهودي ومرة في التاريخ غير اليهودي. وأخيرًا، لا بد من الإشارة إلى أن غانز اقتصر موسوعته على النصوص المقدسة للتراث اليهودي فقط، أكانت من الكتب المقدسة أم من النصوص التي تركها الحاخامات. وتشكل موسوعة غانز جزءًا من الوعي اليهودي الكلاسيكي بالتاريخ[10]. حيث أصر الحاخام الألماني زيبي هيرش شاجيس (1805-1855) على أن كلا من الشريعة الشفهية والمكتوبة وحي إلهي وأن التطور التاريخي ينطبق فقط على الوضع غير التوراتي[11].
وعلى العكس من ذلك، فإن مدرسة علم اليهودية دافعت عن ضرورة الدراسة الخارجية للنصوص. وأن ذلك يجب أن يتم من خلال وضعها في سياقها الزماني والمكاني. ففي عام 1851 نشر المؤرخ والفيلسوف نحمال كروشمال كتاب بعنوان “دليل إلى أولئك الذين يحيرهم الزمن”. يطرح كروشمال مشكلة السياق الزماني للنص كمشكلة رئيسية في عنوان الكتاب. حيث رأى كروشمال أنه لا يمكن فهم النص إلا من خلال سياقه الخارجي، وأن ذلك لا يتعارض مع الشريعة اليهودية، فالمنهجيات التي جاء بها العلم الحديث والفلسفة موجودة بالفعل في الجانب الخفي من التراث الحاخامي. وفي السياق ذاته جادل المؤرخ الألماني اليهودي إسحاق ماركوس جوست بأن الشريعة الشفهية تأثرت بقوانين أثينا وروما[12].
– الدراسة الداخلية للنص: ترفض الدراسة التقليدية الفحص النقدي الداخلي للنص، وتتمسك بفكرة افتراض الانسجام الكامل للنصوص المقدسة. وإن أي تعارض بين نصين مقدسين هو رسالة من الله ويجب أن يفسرها الحاخامات. أما مدرسة علم اليهودية فترى أن النصوص الدينية مبدئيًا هي نصوص بشرية. ومن ثم فإن النص الديني يجب أن يخضع لدراسة داخلية يقوم بها اللغويون لتقويم مدى توافق بعض أجزاء هذا النص مع بعضها الآخر[13].
– التعددية في الشرائع اليهودية: بما أن الدراسة التقليدية ترفض السياق الزماني والمكاني للنصوص المقدسة، وتؤكد فكرة أن الشريعة اليهودية واحدة وثابتة في كل زمان ومكان، فذلك يجعلها ترفض بالضرورة فكرة تعدد الشرائع اليهودية. أما بالنسبة إلى مدرسة علم اليهودية والتي تهدف إلى تطبيع المجتمعات اليهودية في المدن الأوروبية المختلفة التي تعيش فيها، فكان عليها أن تبحث عما يؤكد فكرة التنوع والتعدد ضمن الشرائع اليهودية.
– حرية التفكير النقدي: وذلك من خلال السماح بطرح الأسئلة الجريئة والعثور على إجابات نقدية تختلف عن مسلمات الفكر الحاخامي التقليدي. فلم يكن لمفكري مدرسة علم اليهودية أن يتمكنوا من دراسة النصوص المقدسة والتراث دراسة نقدية ووضعها في سياقاتها اللغوية والزمانية والمكانية من دون أن تكون لهم حرية طرح الأسئلة النقدية والبحث عن إجابات خارج إطار المسلمات التقليدية.
ثانيًا: التنوير اليهودي
ظل التواصل الأكاديمي المسيحي اليهودي في أوروبا حتى منتصف القرن الثامن عشر مقصورًا على الأجندة الدينية؛ أي دراسة نصوص الكتاب المقدس. أما بالنسبة إلى العلوم الأخرى فلم يكن يسمح لليهود بأعداد كبيرة الالتحاق بالجامعات الأوروبية لدراسة العلوم غير الدينية. وكانت دراسة اليهود في الجامعات الأوروبية قبل ذلك ظاهرة فردية، ومعظمهم اتجه لدراسة الطب. لم يبدِ الطلبة اليهود في بداية الأمر اهتمامًا بدراسة العلوم الإنسانية. ولم يكن ذلك بسبب الحظر المسيحي على اليهود من دخول الجامعات بأعداد كبيرة فحسب، بل أيضًا بسبب التحريم الشرعي اليهودي لدراسة العلوم العلمانية من جهة، والأحوال الاقتصادية الصعبة التي كان يعانيها معظم اليهود، خصوصًا في المدن البروسية من جهة أخرى.
وبدأ وضع اليهود يشهد تحسنًا منذ القرن الثامن عشر، كنتيجة لعصر التنوير. في عام 1750، أصدر الملك فريدريك الثاني ملك بروسيا ميثاقًا أشار فيه أن اليهود أصبحوا مجتمعًا أقل غرابةً عن المجتمع الألماني وكأفراد فهم ينتمون إلى الدولة. وفي عام 1781 دعا المفكر المسيحي التنويري كريستيان فيلهلم فون دوم إلى منح اليهود الحقوق نفسها التي تتمتع بها الأقليات الدينية الأخرى شريطة أن يندمجوا في المجتمع الألماني[14]. وبعد سنوات قليلة، ولكن هذه المرة في فرنسا، عدّت قيادة الثورة الفرنسية اليهود مواطنين متساوين، فشهد عام 1791 أول مرسوم رسمي في أوروبا ينص على تحرير اليهود. وفي عام 1796 حذت هولندا حذو فرنسا بإصدار مرسوم رسمي ينص على تحرير اليهود. ونتيجة لفكر الثورة الفرنسية، فقد حرر نابليون بونابرت اليهود في إيطاليا والمدن البروسية التي احتلها[15].
عكست أفكار المساواة، المواطنة والعقلانية التي شهدها عصر التنوير تغييرًا إيجابيًا ملموسًا في حياة اليهود في أوروبا. وهذا ما أثار تفاؤل بعض المفكرين اليهود في ذلك الوقت، الذين تفاعلوا على نحو إيجابي ونشط مع التطورات الفكرية التي كانت تحدث من حولهم بفعل التنوير المسيحي. فظهرت حركة التنوير اليهودية “الهاسكالاه” في منتصف القرن الثامن عشر. وتمامًا كما فعل التنوير المسيحي هاجمت الهاسكالاه المؤسسات السياسية في العصور الوسطى. وجادل مؤسس الهالسكالاه موسى مندلسون، بأن الدين لا ينبغي أن يكون لديه القدرة على إكراه أتباعه. وقال أيضًا إن اليهودية مجرد أدوات تربوية وليس لها سلطة على اليهود[16]. إن الهاسكالاه لم تظهر في دول ديمقراطية مثل فرنسا أو بريطانيا، بل في بروسيا، حيث كان وضع اليهود متأرجحًا بين وعود الحرية الفردية وواقع استمرارية المجتمعات المنغلقة. هذا، إضافة إلى ضعف السلطة الحاخامية التقليدية في بروسيا. ذلك أدى إلى انتشار أفكارها في الأوساط اليهودية على نحو واسع[17]. ويمكن القول إن الهاسكالاه عملت يدًا بيد مع التنوير المسيحي في تحرير اليهود. فكانت الهاسكالاه هي التطور اليهودي الداخلي نحو التحرر، وكان التنوير المسيحي هو التطور الخارجي.
ومع نهاية القرن الثامن عشر، بدأت العلمانية تكتسب زخمًا كبيرًا داخل المجتمعات البرجوازية والمدنية اليهودية، وهي عملية لم يكن مثقفوا الهاسكالاه يقصدونها ولم يستطيعوا السيطرة عليها هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، بدأ زخم الحركات الأرثوذكسية الأصولية يتصاعد ثانية. حيث برزت هذه الحركات كمدافعة عن التراث والدين اليهودي في مواجهة الهاسكالاه التي تركت لدى اليهود شعورًا عميقًا بالغربة عن تراثهم. يُضاف إلى ذلك إحباط مفكري الهاسكالاه الذين لم يتمكنوا من تغيير الوضع القانوني لليهود في بروسيا. وانتهت الحركة في نهاية القرن الثامن عشر، وبذلك أنهت الفصل الأول من التنوير اليهودي[18].
على الجانب الآخر، استمر التسامح المسيحي في بروسيا حتى بداية القرن التاسع عشر. ووصفه إسحاق ماركوس جوست عام 1815 بأنه تطور جديد في حياة بني إسرائيل في أوروبا، وتحول العداء المسيحي لليهود ورفضهم إلى محبة أخوية حقيقية[19]. منذ القرن التاسع عشر، بدأ اليهود يظهرون في الجامعات الأوروبية كظاهرة جماعية، وكان لدخول عدد كبير من الطلاب اليهود إلى الجامعات الأوروبية، بمجالات دراستها المتنوعة ومناهجها النقدية الحديثة، أثر كبير في حياة اليهود أنفسهم وفي الشريعة اليهودية. لكن الطلاب اليهود، وخاصة في المدن البروسية، كانوا يعانون أحوالًا ماليةً صعبة وأوضاعًا اجتماعيةً قاسيةً داخل المجتمعات المسيحية. فعلى الرغم من السماح لليهود بالدراسة في الجامعات الألمانية، إلا أنهم لم يتمكنوا من الحصول على وظائف أكاديمية، والتي ظلت حكرًا على الأكاديميين المسيحيين الذين أصرّوا أن اليهود لم يندمجوا على نحو كامل بعد. وهذا ما دفع الأكاديميين اليهود إلى: إما أن يعتنقوا المسيحية من أجل الحصول على تقدير اجتماعي يعادل درجاتهم الأكاديمية من جهة والعمل في ظل أحوال مالية جيدة من جهة أخرى، أو العمل في المدارس والمعاهد اليهودية الخاصة. لاحقًا قاد ذلك لظهور نخبة جديدة من الحاخامات الحداثيين.
إن التسامح المسيحي تجاه اليهود في بروسيا والذي بدأ مع التنوير تدريجًا حتى بلغ ذروته مع بداية القرن التاسع عشر، بدأ بالتراجع بالتدريج. في عام 1815، سحبت السلطات البروسية مراسيم تحرير اليهود التي أُخذت سابقًا وهو العام نفسه الذي أبدى فيه جوست تفاؤلًا وصل حد تسميته عام المحبة والأخوة. وعلى أثر ذلك ظهر جدل فكري جديد في الأوساط اليهودية بين المفكرين الذين كانوا قد أيدوا فكرة المواطنة ودعوا إلى الاندماج الكامل في المجتمعات الأوروبية الحديثة، وبين المفكرين الذين تأثروا بفكرة القوميات الحديثة ودعوا إلى ضرورة اندماج اليهود في المجتمعات الأوروبية مع الحفاظ على هويتهم التي تتمثل بثقافتهم الفريدة. وفي هذا السياق التاريخي وفي ظل هذه الأحوال الاجتماعية والمادية، ظهرت فكرة تميز المجتمعات اليهودية قوميًا عن غيرها من المجتمعات الأوروبية المسيحية بوساطة مثقفين يهود، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى ظهور مدرسة علم اليهودية.
وكان على أبناء مدرسة علم اليهودية أن يتصدوا منذ البداية لمسألتين مهمتين لتحقيق هذا التمييز: تحديد ماهية الهوية اليهودية، ومكانة الهوية اليهودية داخل المجتمعات الأوروبية. ولتحقيق ذلك كان عليهم أن يعملوا في اتجاهين: خارجي وداخلي. الاتجاه الخارجي في بروسيا، وباللغة الألمانية، بأخذ مجال الدراسات اليهودية من أيدي المسيحيين ثم إعادة شرح دينهم للعالم غير اليهودي بأنفسهم. حيث كان مفكرو مدرسة علم اليهودية على يقين بوجود ازدراء لاهوتي مسيحي لليهودية، وهذا ما دفع اليهود واليهودية إلى هامش الجسم السياسي في بروسيا. فلن تتمكن اليهودية من اختراق الجسم السياسي الألماني والتموضع فيه ما لم يكن هناك تغيير جذري في التقدير المسيحي لليهودية. أما الاتجاه الثاني فكان باللغة العبرية وموجهًا للجمهور اليهودي، بهدف دفع اليهود إلى تحرير أنفسهم داخليًا، أي معرفة أنفسهم من خلال الإضاءة على العمق التاريخي للثقافة اليهودية، واعتناق الديانة اليهودية في السياق الاجتماعي الجديد. حجتهم في ذلك كانت قوة معايير البحث التاريخي[20].
إن مسألة إيجاد مكانة في تاريخ العالم كانت هي الأهم في القرن التاسع عشر، إذ لم تعد المكانة بين الثقافات والأمم تُكتسب بالدين، بل بالموقع التاريخي. بدأت المكانة التاريخية اليهودية تظهر من خلال أعمال ليوبولد زونز، إسحاق ماركوس جوست، أبراهام غايغر، وهاينريش جرايتس[21]. جوست الذي أشار لليهود هذه المرة بمصطلح بني إسرائيل عندما وصف عام 1815 بأنه تطور جديد في حياة بني إسرائيل. كما أطلق جرايتس على التاريخ اليهودي اسم تاريخ إسرائيل عندما رفض التأريخ المسيحي للعالم من دون ذكر تاريخ إسرائيل ما بعد الكتاب المقدس[22]. بدأ مفكرو علم اليهودية باستخدام تسمية “بني إسرائيل” للإشارة إلى اليهود بدلًا من تسمية اليهود والأمم اليهودية، وهي التسمية الاجتماعية والقانونية التي كانت سائدة في أوروبا آنذاك. وذلك لأن تسمية “يهودي” ارتبطت منذ فترة طويلة بالدونية في الفكر الأوروبي، وارتبطت بدلالات سلبية في الوعي الاجتماعي المسيحي. ولم تفلح مراسيم تحرير اليهود في تغيير هذه الدلالات السلبية عن اليهود. ومن ناحية أخرى، فقد ورد اسم “إسرائيل” في العهد القديم، وهذا ما يمنح حامله مكانة ثقافية وفكرية جيدة ترتكز على الشرعية التاريخية والدينية معًا.
ثالثًا: السياق التاريخي والأيديولوجي لظهور مدرسة علم اليهودية
على الرغم من أن حركة تحرير اليهود بدأت في أوروبا الغربية منذ نهاية القرن الثامن عشر، فإن التغييرات التي نتجت منها كانت في البداية عبارة عن مراسيم قانونية نظرية في جزء كبير منها. على سبيل المثال، سُمح لليهود بدخول الجامعات للدراسة، لكنهم لم يحصلوا على وظائف حكومية أو أكاديمية مثل المسيحيين الأوروبيين لعدة عقود بعد ذلك. ونتيجة لذلك، لم يشهد وضع اليهود في أوروبا إلا تغييرات طفيفة على المستويين الاجتماعي والمادي. ففي بروسيا، مركز اليهودية في أوروبا الغربية آنذاك، سُمح لليهود بالتعلم في الجامعات بعد إزالة الشرط الديني من شروط القبول بالجامعات. على الرغم من ذلك، لم يُسمح لليهود الحاصلين على درجة الدكتوراه بالتدريس في الجامعات. في عام 1822، على سبيل المثال، رفض الملك فيلهلم الثالث شخصيًا تعيين إدوارد غانز، وهو طالب لامع لهيغل، كأستاذ مشارك في كلية الحقوق. وفي عام 1826، أبلغت وزارة التعليم جميع الجامعات الألمانية أن قرار الملك ينطبق حتى على أدنى مستويات السلم الأكاديمي التي لم تكن مدفوعة الأجر. وظل الأمر كذلك حتى عام 1847 عندما أعيد فتح النقاش في الجامعات الألمانية حول مسألة تعيين اليهود في المناصب الأكاديمية[23].
ونتيجة لغياب فرص العمل الأكاديمية أو الحكومية لليهود المتعلمين، تحول معظمهم إلى العمل كحاخامات وفي الشؤون الدينية التي تهم المجتمع. وعمل بعض الأكاديميين في معاهد خاصة، وهي معاهد لاهوتية، افتتحت على حساب بعض الأثرياء اليهود وجمعت بين التعليم الديني والعلماني. امتدت ظاهرة المعاهد اللاهوتية على نطاق واسع في المجتمعات اليهودية، خاصة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وأدى ذلك إلى صراع كبير بين الحاخامات التقليديين الذين تلقوا التعليم الديني التقليدي فقط في الكنيس، والحاخامات الجدد القادمين من الجامعات الألمانية. رأى الحاخامات التقليديون أن هؤلاء الحاخامات الجدد يمثلون تهديدًا لسلطتهم التقليدية على المجتمع اليهودي من ناحية، وتهديدًا للتراث المقدس من ناحية أخرى. وذلك لأن الحاخامات الجدد تعاملوا منذ البداية مع التراث بطرق نقدية شبيهة بتلك التي يتعاملون بها مع العلوم العلمانية. وانتهى الصراع بالاستبدال التدريجي للحاخامات التقليديين بحاخامات جدد حتى وصل الاستبدال ذروته في منتصف القرن التاسع عشر، خاصة في المدن التي تسكنها مجتمعات يهودية كبيرة مثل هامبورغ وشتوتغارت وبرلين وهانوفر وفرانكفورت[24]. وقد ساعد في ذلك عاملان مهمان: أولًا، ترحيب الحكومة بظهور طبقة جديدة من الحاخامات الإصلاحيين والنخب الثقافية اليهودية التي تتوافق أفكارها مع السياق الاجتماعي الجديد الذي تعمل فيه بروسيا. ثانيًا: النفور الاجتماعي لدى اليهود البروسيين من الحاخامية التقليدية التي كانت قد واجهت انتقادات عنيفة من مثقفي الهاسكالاه منذ منتصف القرن الثامن عشر[25].
في مؤتمر فيينا 1815، رفضت السلطات البروسية الموافقة على القوانين التي حررت اليهود، بدعوى أنها صدرت عن الاحتلال الفرنسي. وفي صيف عام 1819، اندلعت موجة جديدة من العنف ضد اليهود[26]. واصطدم الطموح اليهودي لمزيد من الحقوق المتساوية بانحدار الفكر الأوروبي من قيم التسامح إلى ما يشبه عقلية القرون الوسطى في أوروبا منذ بداية القرن التاسع عشر. حيث شهدت هذه الفترة تراجع التنوير الأوروبي عن فكرة التسامح الإنساني، وأعيد تفسير الإنسانية في سياقها الديني والمحلي. بدأت القوميات الأوروبية في الظهور والصراع تدريجًا، وعاد المسيحيون الأوروبيون إلى العداء تجاه اليهود حتى بلغت معاداة اليهود ذروتها في أوروبا في نهاية هذا القرن. ونتيجة لذلك سادت حالة من الارتباك الفكري في الأوساط اليهودية[27]. وأصبح المثقفون اليهود أكثر حماسةً لدراسة الثقافة اليهودية بوصفها ثقافة متميزة عن الثقافة المسيحية الأوروبية السائدة. فظهر ميل واسع لدراسة المجتمع اليهودي ككيان قائم وحيوي، ودراسة الديانة اليهودية نفسها باستخدام الأساليب والمقاربات النقدية الحديثة التي يتبعها المسيحيون في دراسة المسيحية. في عام 1816، أسست مجموعة من المثقفين اليهود في برلين جمعية الثقافية (Culturverein). عقدت الجمعية 32 محاضرة بين تشرين الثاني/ نوفمبر 1816 وتموز/ يوليو 1817 لمناقشة معنى اليهودية. كان المسعى الرئيسي لهؤلاء المثقفين إعادة صوغ مفهوم اليهودية ليشمل التوافق الدلالي بين الأسرة والوطن والدين اليهودي وأوروبا[28]. والجدير بالملاحظة أنه في تلك الفترة أدى الصراع بين التيارات المختلفة، وفي مقدمها الحاخامية التقليدية والحاخامية الحديثة، حول حق تمثيل وإعادة تعريف اليهودية إلى تدمير عديد من المفهومات التقليدية في الوعي اليهودي ومن ثم خروج اليهود من زنزانة سجن التاريخ الديني اليهودي. لكن ممثلي الاتجاه الحاخامي الحديث والمفكرين العلمانيين الذين انتصروا في نهاية الأمر في أحقية تمثيل اليهودية لم يتمكنوا من إعادة تعريف اليهودية بعد، ولم يستطيعوا إيجاد بدائل واضحة للهوية الاجتماعية، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، أدى تصاعد اتجاه معاداة اليهود في أوروبا، وفي المدن البروسية خاصةً، إلى تعزيز شعور اليهود بالاغتراب المزدوج. لقد أصبحوا الآن غرباء عن اليهودية نفسها وغرباء عن الثقافة والمجتمع الألماني أيضًا.
رابعًا: مدرسة العلوم اليهودية Wissenschaft des Judentums القرن التاسع عشر
اعترفت حكومة مملكة بروسيا بالوضع القانوني لـ 32 ألف يهودي كمواطنين عام 1813، وذلك بعد مشاركة 1300 يهودي في حرب التحرير ضد الاحتلال الفرنسي بقيادة نابليون بونابرت. لكن في مؤتمر فيينا عام 1815، كما أشرنا سابقًا، رفضت السلطات البروسية الموافقة على القوانين التي حررت اليهود، بدعوى أنها صادرة عن الاحتلال الفرنسي. وفي صيف عام 1819، اندلعت أعمال عنف ضد اليهود مجددًا. وكردة فعل على ذلك التقى سبعة شبان يهود في برلين في 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1819 لمناقشة كيفية تحسين أحوال اليهود في ألمانيا وعموم المدن البروسية. هؤلاء الشبان هم: إسحاق ماركوس جوست، ليوبولد زونز، جوزيف هيلمار، جويل أبراهام ليست، إسحاق ليفين أورباخ، إدوارد غانز وموسى موسر. هذه الأسماء، وأسماء أخرى انضمت إليها لاحقًا، ستساهم فيما بعد ليس فقط في تأسيس مدرسة علم اليهودية، بل في تحويل اليهودية إلى هوية قومية. كان معظم هؤلاء الشبان قد شاركوا سابقًا في اجتماعات جمعية الثقافة “Culturverein”، التي استمرت من تشرين الثاني/ نوفمبر 1816 حتى تموز/ يوليو 1817. واصل الرجال السبعة الاجتماع صباح كل يوم أحد حتى عام 1821، وأسفرت اجتماعاتهم عن تأسيس جمعية الثقافة والعلوم اليهودية “Der Verein für Wissenschaft der Juden”. لم تحظ الجمعية بدعم الطبقة الأرستقراطية البرلينية التي كانت تحكم المجتمع اليهودي في برلين، لأنها لم تتمكن من إقناعهم بإمكانية تنفيذ برامجها. ونتيجة لذلك، تحول أعضاء الجمعية إلى إستراتيجية خلايا التفكير Think-Tank لتوسيع نشاطها، لتشمل مثقفين يهود في مدن بروسية أخرى. فتوسعت خلية برلين لتشمل خمسة وعشرين عضوًا منذ الإعلان عن تأسيسها عام 1821، وبدأت خلية هامبورغ بثلاثة وعشرين عضوًا[29].
تولى إدوارد غانز، الحائز على شهادة الدكتوراه في تاريخ القانون، رئاسة الجمعية. على الرغم من أن غانز كان أحد أكثر طلاب هيجل ذكاءً، إلا أن طلبه لوظيفة تدريس في الجامعات الألمانية رُفض كما ذكرنا سابقًا. وبهذا فقد وجد غانز مكانة له في الجمعية وأدارها بحماسة لا مثيل لها خلال فترة رئاسته التي استمرت ثلاثين شهرًا. عقدت الجمعية خلال الأشهر السبعة الأولى سبعة عشر اجتماعا، وعقد المعهد العلمي الذي أنشأته الجمعية اثني عشر اجتماعًا علميًا. في الأشهر الستة الأولى، دُرِّس اثني عشر طالبًا على يد تسعة معلمين كانوا أعضاء في الجمعية. كما وضعت خطة لتعليم الطلاب اليهود القادمين من بولندا إلى برلين[30]. أطلقت الجمعية مجلة بعنوان مجلة العلوم اليهودية “Zeitschrift für die Wissenschaft des Judentums”. وضعت المجلة أجندة بحثية واضحة تتفق مع أيديولوجيتها: فقه اللغة، اللغة العبرية، التاريخ، الفلسفة واليهودية المعاصرة. افتتحت العدد الأول لها بستّ عشرة أطروحة، خمس منها كتبها رئيس الجمعية غانز، وثلاث كتبها رئيس تحرير المجلة ليوبولد زونز. وناقشت المقالات أهمية البحث التاريخي في مواجهة العداء لليهود في أوروبا[31].
حمل الاجتماع التأسيسي الرسمي في عام 1819 عنوان: “كيف يمكن تحسين التصور عن اليهود”. وكان الهدف من ذلك خلق مفهومات جديدة عن اليهود، ورفع المستوى الاجتماعي للمجتمعات اليهودية لتتلاءم مع المستوى الاجتماعي الطبيعي في بروسيا. وبما أن الجمعية نشأت في نهاية عصر التنوير، أي حقبة ظهور القوميات وتصارعها في أوروبا، لم يكن لدى أعضائها الرغبة في تنوير اليهود فحسب، إنما إعادة تعريفهم كقومية أيضًا. جويل أبراهام ليست افترض وجود القومية اليهودية مسبقًا عندما دعا إلى استعادة القومية اليهودية وإزالة الحاخامية التقليدية تمامًا. ورفضت الجمعية عرضًا قدمه أحد أعضائها، لتعليم الديانة اليهودية. حيث أصر الهيغليون الثلاثة في الجمعية؛ غانز، وموزر، وإيمانويل فولفل، على تدريس الهوية القومية اليهودية فقط. وكانت الهوية القومية في هذا السياق تهدف إلى تسليط الضوء على مساهمات اليهود الثقافية والأدبية والعلمية في المجتمعات التي يعيشون فيها. إلا أن إطار عمل الجمعية لم يكن القومية نفسها فحسب، بل التاريخ أيضًا. ونتيجة لذلك لم تكن تعمل الجمعية على تطوير اليهودية، بل كانت على نحو لا واعٍ تعمل على تغيير اليهود بما يتوافق مع قيم وأفكار الأمم التي يعيشون معها والشعور بالتعاطف القومي مع المحيط الذي يعيشون فيه، من دون أن يتعارض ذلك مع الحفاظ على حقوقهم الدينية اليهودية. وأكد غانز ضرورة تغيير التصور اليهودي أيضًا عن العالم غير اليهودي، فلا يجوز للعقل اليهودي أن يستمر بالشك أو الشعور بالتهديد عند لقاء أو ذكر كل ما هو غير يهودي[32].
وفي الاجتماع الثاني للجمعية، كرّس غانز جهده لتحليل الحاضر اليهودي بناءً على أفكار أستاذه هيغل حول التطور التاريخي. وتمامًا كهيغل، اعتقد غانز أن التاريخ ليس مجموعة من المصادفات، بل سلسلة من الأحداث العقلانية، تشكل جميعها معًا وحدة متكاملة توجه العالم من عصر إلى آخر. ومن ثم فإن العصر الحالي بالنسبة إلى غانز لم يكن إلا اتحادًا لمجموعة من العناصر التاريخية. هذه العناصر هي التوحيد في الشرق، الجمال والحرية في اليونان القديمة، المفهوم الروماني للدولة، المفهوم المسيحي للإنسانية، الإقطاع في العصور الوسطى، وأخيرًا الفلسفة الحديثة. واختتم غانز كلامه بأن الحاضر يقدم فرصة لليهود للهروب من حالة الحجر والعزلة والعودة إلى العالم المتحضر. وهذا يتطلب التخلي عن مفهومات التفرد والتميز وفكرة الآخر الدنيوي. ومن ثم يمكن أن تكون اليهودية هوية قومية مختلفة في هذا العالم المتنوع. ومن أجل وضع العالم اليهودي في سياقه الزمني الحالي، يجب أن يصبح موضوع بحث علمي ونقدي[33].
كان ليوبولد زونز أكثر إبداعًا من جوست وغانز حينما وظف الماضي والحاضر معًا لخدمة فكرة الهوية القومية اليهودية. فقال زونز إن اليهودي هو روح التنوير الأوروبي وذلك قبل قرون طويلة من العصر الحديث. إلا أن انغلاق اليهود على أنفسهم في العصور الوسطى لم يكن إلا ردة فعل دفاعية ضد الاضطهاد الذي عانوه، والذي أجبر اليهود على أن يعزلوا أنفسهم من أجل إنقاذ تراثهم. ولكن بالنظر إلى تاريخ الأدب الإسرائيلي عبر القرون القديمة، سنجد أن اليهودية تنتمي إلى هذه البنية التاريخية الحديثة، التي تشكل أوروبا اليوم. كما اتخذ زونز من ثراء التجربة الفكرية للمفكرين اليهود في ظل الحضارة الإسلامية دليلًا على عالمية اليهودي الذي هو فوق القومية وفوق التدين[34].
وعلى الرغم من الجهد الذي بذله أفراد الجمعية، إلا أنها أخفقت في نهاية المطاف في تحقيق هدفها المتمثل بكسر عزلة المجتمع اليهودي. ولم تتمكن المجلة من نشر أيديولوجيتها بين اليهود المختبئين وراء الطبقة الأرستقراطية في المدن. كما أن الجمعية لم تتواصل مع النخبة الاجتماعية اليهودية، ورفضت التخلي عن رؤيتها ولغتها النخبوية. فقد أعضاء الجمعية حماستهم وعقدت اجتماعها الأخير في فبراير 1824 بحضور خمسة أعضاء فقط. وفي عام 1825، قرر غانز السفر إلى باريس بحثًا عن عمل هناك ثم تحول لاحقًا إلى المسيحية في فرنسا. وقبل رحيله نقل جميع الأوراق الرسمية إلى اسم ليوبولد زونز وفوض إليه حل الجمعية، وهذا ما حدث في نهاية العام نفسه. احتفظ زونز بجميع محاضر الجلسات، بما في ذلك محاضر تأسيسها واجتماعاتها، فضلاً عن الأوراق العلمية، والمنشورات الأخرى التي أنتجتها الجمعية ما مكن المؤرخين في العقود اللاحقة من إعادة بناء أيديولوجيتها. بعد ثلاثة عشر عامًا من إغلاق الجمعية، التقى زونز بالمؤرخ اليهودي أدولف سترودتمان وطلب منه تأريخ السيرة الذاتية للجمعية. لاحظ سترودتمان أن كل تقدم أحرزه أي يهودي في المجالات العلمية والسياسية والمدنية في السنوات الأخيرة كان له أصل مباشر أو غير مباشر في أفكار الجمعية. وحتى جدل الحركة الإصلاحية ضد الحاخامية التقليدية كان نتيجة لأفكار أعضائها. عنون سترودتمان الفصل الخاص بالجمعية ب “فلسطين الفتية”، على غرار جمعية “ألمانيا الفتية” وهي الحركة التي جمعت مجموعة من الكتاب السياسيين المتطرفين الذين يحملون أفكار القومية الألمانية[35].
في عام 1829، بدأ زونز في تنفيذ خطة عمل لعلم اليهودية التي صاغها قبل أربع سنوات. ركز زونز على دراسة تاريخ الأدب الحاخامي. وألف سولومون رابوبورت كتاب “تاريخ شعب الله” وكتاب “قيمة الكلمات”. أما أبراهام غايغر فقد اهتم بتاريخ اليهودية في الفترة التوراتية والتلمودية. درس زاخاريا فرانكل تاريخ الشريعة اليهودية، كما ساهم هاينريش جريتز أيضًا بالتعليق على عديد من أسفار الكتاب المقدس، خاصة الأسفار اللاحقة على أسفار موسى الخمسة. وقد ضم صموئيل ديفيد لوزاتو أسفار موسى الخمسة إلى الفترة الإنجيلية وعلق على كل منها[36]. في عام 1848، تقدم زونز بطلب إلى كلية الفلسفة بجامعة برلين لإنشاء كرسي في التاريخ والأدب اليهودي، لكن طلبه رُفض، وفسرت الجامعة قرارها في ذلك الوقت بالقول إنه ليس من مهمتها تدريب الحاخامات. في عام 1854، أنشأ أحد المتبرعين اليهود الأثرياء معهدًا لاهوتيًا في مدينة بريسلاو (مدينة فروتسواف البولندية حاليًا). كان هذا المعهد أول قاعدة مؤسسية لتدريس اليهودية باستخدام منهج مدرسة علم اليهودية. ثم أصبحت نموذجاً للمعاهد اللاهوتية الحاخامية الحديثة التي أنشئت فيما بعد في أوروبا الوسطى والغربية وفي أميركا. نظر زونز وكذلك موريتز شتاينشنايدر بعين الشك إلى هذه المعاهد. ورفض شتاينشنايدر عدة عروض للتدريس في أحد هذه المعاهد لأنه رأى أنها تحاول الحفاظ على الحاخامية التقليدية تحت غطاء علمي، وأن التمويل يؤدي دورًا كبيرًا في ذلك[37].
بدأت أفكار مدرسة علم اليهودية تنتشر عمليًا في الأوساط الاجتماعية اليهودية خارج بروسيا في نهاية القرن التاسع عشر. في عام 1880، أُسست جمعية الدراسات اليهودية في باريس، تحت تأثير الحرب الفرنسية البروسية، وذلك لكسر احتكار السيادة الألمانية للدراسات اليهودية. في عام 1888، ظهرت المجلة اليهودية الفصلية في بريطانيا، وبعد ذلك أُسست الجمعية التاريخية عام 1893 في محاولة لمواجهة معاداة السامية وتطبيع انتماء المجتمعات اليهودية في بريطانيا إلى الهوية القومية الإنكليزية من خلال تسليط الضوء على المساهمات التاريخية لليهود في البلاد. أُسست الجمعية التاريخية اليهودية الأميركية في الولايات المتحدة الأميركية على يد اليهود الأميركيين عام 1892 بمناسبة الذكرى الأربعمئة لاكتشاف كولومبوس لأميركا. وكان السبب المباشر وراء إنشاء هذه الجمعية هو مواجهة أفكار معاداة السامية المتنامية نتيجة تدفق الهجرة الأوروبية إلى أميركا بدءًا من نهاية القرن التاسع عشر. كرست الجمعية جهدها لدراسة دور اليهود في اكتشاف أميركا والمساهمة في تنميتها. ترأس الجمعية أوسكار س. شتراوس، الذي شغل سابقًا منصب السفير الأميركي لدى الإمبراطورية العثمانية. في عام 1894، نشر شتراوس كتاب “كريستوفر كولومبوس والمشاركة اليهودية في الاكتشافات الإسبانية والبرتغالية”. وكان هذا الكتاب نتيجة تعاونه مع المؤرخ اليهودي الشهير ماير كيسرلينج[38].
في عام 1897، اكتشف عالم التلمود اليهودي سولومون شيشتر جنيزة القاهرة وعاد من مصر إلى جامعة كامبريدج ومعه ما يقرب من 100.000 وثيقة تؤرخ لما يقرب من 1500 عام من التاريخ اليهودي الشرقي. مثلت هذه الوثائق قفزة مهمة في الاهتمام المتزايد بالدراسات اليهودية ليس فقط من جانب اليهود، ولكن أيضًا من جانب المسيحيين في أوروبا[39]. وهذا الاكتشاف سيمهد الطريق لمرحلة جديدة في دراسة اليهودية. ففي عام 1919، انتقلت مدرسة العلوم اليهودية في برلين إلى مرحلة جديدة على يد المؤرخ اليهودي الألماني يوجين توبلر، الذي أسس مع مجموعة من الباحثين اليهود أكاديمية علم اليهودية. وأعلن توبلر أن مهمة الأكاديمية تتمثل بإنهاء هوس مدرسة علم اليهودية بمعاداة السامية والهوس اليهودي بالاعتماد على الممارسات الحاخامية، والارتقاء باليهودية إلى أعلى معايير العلم الحديث. وفي عام 1924 أُسست الجامعة العبرية في برلين واعتمدت الرؤى والمفهومات والأدوات التي عمل عليها توبلر[40].
خاتمة
إن ظهور مدرسة علم اليهودية كان بمنزلة تطور تاريخي مهم في الحياة اليهودية في بروسيا في القرن التاسع عشر. في البداية، كان ذلك ردة فعل على إخفاق حركة التنوير اليهودية، الهاسكالاه، التي ظهرت في منتصف القرن الثامن عشر تحت تأثير التنوير المسيحي الأوروبي. لم تتمكن الهاسكالاه من تحقيق أهدافها في تحرير اليهود في بروسيا من جهة، ومواجهة معاداة اليهود من جهة أخرى. وهكذا ظهرت مدرسة علم اليهودية في القرن التاسع عشر لمعالجة هذه القضايا. كانت مدرسة علم اليهودية بمنزلة ردة فعل على الأوضاع التاريخية والسياسية والاجتماعية التي واجهها اليهود في بروسيا على نحو رئيسي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. في البداية، خلقت أفكار التنوير المسيحي في أوروبا أحوالًا أفضل لليهود. ثم كان التحاق عدد كبير من الطلاب اليهود في الجامعات الألمانية بمنزلة ردة فعل إنسانية على مراسيم التحرير من ناحية، ورغبة في تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي كان يعانيها معظم اليهود في ذلك الوقت. والتحق خريجو الجامعات فيما بعد بالوظائف الدينية اليهودية نتيجة عدم حصولهم على وظائف أكاديمية أو حكومية. وهذا ما ساهم، ليس فقط في إصلاح اليهودية، بل في تحويلها إلى هوية قومية. وكانت الرغبة في تحويل اليهودية إلى هوية قومية بمنزلة ردة فعل على التهميش الاجتماعي لليهود واستبعادهم من الجسم السياسي. وأخيرًا، أصبحت اليهودية هوية قومية نسبيًا وجزءًا من الجسم السياسي في بروسيا في بداية القرن العشرين.