مقدمة
يدأب الصهاينة على تصنيع وعي محرّف بالقضية الفلسطينية في أفهام الأجيال العربية الصاعدة. وهم يتّبعون في هذا المسعى الإستراتيجي والممنهج وطويل الأمد، آليات عديدة لطمس الوعي وتجهيله واجتثاثه من سياق تاريخي يُغيَّب أو يُزيَّف، تارة عبر ممرات التطبيع الهادف إلى تلطيف صورة العدو الصهيوني ليسهل تحويل وجوده في المنطقة إلى حالة طبيعية وعادية تبدّد الحواجز النفسية الرافضة والمتوجسة من فكرة استمرار وجود الكيان الإسرائيلي، وتارة عبر التدخّل في صوغ المناهج التربوية العربية والتحكّم في مضامينها ومحتوياتها لتأتي منسجمة مع هدف هندسة الوعي العربي المستقبلي، بحيث تُوارى جميع الموضوعات والمفاهيم والمعارف المتعلّقة بالقضية الفلسطينية ومتفرّعاتها، والصراع العربي- الإسرائيلي الذي على ما يبدو أنه يعبّر عن مرحلة أفلت، لتبدأ مرحلة جديدة عنوانها التطبيع، الذي مُهّد له بمجموعة من الاتفاقيات بين بعض الدول العربية والكيان المحتل.
من جانب آخر، لا يُحدَّث الوعي العربي بتفاعلات هذه القضية المستمرة الحضور، بل تُذكر مرتبطة بما يُسمّى “الوجدان العربي”، “الضمير العربي”، ما يبقيها حالة رغبوية انفعالية ووجدانية، تبرز وتجيش وتهيج وتهبّ في مناسبات متقطّعة، وتخبو في أوقات أخرى. والتعاطف الوجداني على أهميته، إلا أنه لا يفيد في تغذية القضية الفلسطينية وإمدادها بعوامل الصمود والدوام. فالاستقبال الانفعالي لقضية ما يحوّلها إلى شعار للترداد والهتاف، وهذا الأخير يحوطه الجمود الذي يبقيه عند المرحلة التاريخية التي أطلقته، فلا تُلحظ التحوّلات والتغيرات التي إما أن تعزّز هذا الشعار- القضية وتكرّسه، وإما أن تصيّره باهتًا متصلّبًا، وإما أن تتطلب إعادة فحصه نقديًا والنظر فيه انطلاقًا من ضرورات اقتضت ذلك. فإذا راجعنا شعارات مرتبطة بفلسطين مثل: فلسطين عربية؛ فهل فعلًا لمّا تزل القضية الفلسطينية جامعة للعرب؟ وهل لا يزال العرب على المستويين الشعبي والرسمي يلتفون ويلتقون حول عروبة فلسطين؟! والشعار الآخر: “تحرير فلسطين من النهر إلى البحر أو تحرير كامل التراب الفلسطيني” الذي عُدّ ثابتًا من ثوابت القضية، وهدفًا رئيسًا لرؤية التحرير وفعله. فهل ما زال من الممكن أن نطمح إلى تحرير “كل شبر”، في وقت يجري التفاوض فيه على 22 في المئة من أرض فلسطين التاريخية، لإقامة دولة فلسطينية متفسّخة سياسيًا، ومقطّعة الأوصال جغرافيًا، وجزء منها هو بمنزلة سجن كبير مهدّد هو الآخر بمشاريع التهجير والترانسفير والاستيطان؟!
ولكن تهافت الشعار لا يعني أن القضية آلت إلى التقويض، ولا يقودنا حتمًا إلى “الواقعية” المطلوبة حكمًا، ولكن من دون أن ننزلق إلى الانهزامية والتسليم والقبول. نعم فلسطين عربية، وتحريرها يجب أن يكون من النهر إلى البحر، فالثوابت بوصلة تتطلب تنويع السبل لا قطعها وتضييع الوجهة. المطلوب ترميم الوعي وتصويبه، وتخليصه من شوائب الشعاراتية الصماء، وتأهيله بالمعرفة اللازمة ليبني عليها مواقفه، ويصوغ وفقها شعاراته.
ويجتاح طوفان الأقصى وعينا بالقضية الفلسطينية ملحًا علينا باستحداث مقاربات جديدة ملمّة بالمتغيرات العميقة المتعلّقة بها، كما أنه يستدعي تغيير المنظورات التقليدية والنمطية المشكّلة لطبيعة فهمنا لها، بفعل سقوط أو تهاوي أو شحوب بعض المسائل الفرعية المتصلة بها.
وللخروج من العموم إلى التخصيص، يجب علينا تفريع هذه القضية وتحديد الموضوعات والإشكاليات والمشكلات المتشعّبة منها. هذا التشعيب والتفريع ضروري معرفيًا ومنهجيًا، كما أنه يساعد في استجلاء سوء الفهم أو الجهل أو عدم الإلمام بالتفاصيل، التي يؤدي مجموع تراكمها إلى تشكيل تصور واضح وصائب قدر الإمكان عن القضية ككل.
وربّما يختار البعض في حضرة الصخب الدامي لطوفان الأقصى أن يبدأ من موضوع المقاومة والنضال بوصفه العنوان الأبرز والحدث الطاغي على المجالات الأخرى، في السياسة وما أفرزته من طرح حلول(الدولتين)، والاتفاقيات وما نجم عنها من التزامات، والتسوية والمفاوضات، أو الانقسامات السياسية التي استتبعت انقسامًا جغرافيًا بين الضفة والقطاع. وبالتأكيد فإن النضال والصراع المستعر منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، يتغلّب على الإشكالية المتقادمة لحق العودة، وهل لمّا يزل حقًّا أم أنه فقد شرعيته، ومن ثم ضاع أمل فلسطينيي الشتات باسترجاع أرضهم ووطنهم المسلوب؟ ولا نُسقط قضية الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، والوضعية المعقّدة لفلسطينيي الداخل في أراضي 1948. كما أنّ ملامح أزمة جديدة تلوح في الأفق، وتتعلّق باليوم التالي لطوفان الأقصى. ماذا بعد الطوفان؟ ما هو مصير غزّة والغزاويين النازحين في أرضهم، الهاربين من الموت إليه، المستعيدين سيرة الخيمة نفسها التي عدّ أجدادهم وآباؤهم أن لجوءهم إلى كنفها البارد سيكون موقتًا، على أمل العودة القريبة، وإذا بانتظارهم يهرم ليبلغ من العمر خمسة وسبعين عامًا. فهل يعود من نجا من أهل غزّة، أم أنّ التاريخ سيختار أن يعيد نفسه بتشريدهم وبتغريبة فلسطينية جديدة؟ وما هو مصير المقاومة المسلحة بعد الطوفان الذي يصرّ الصهاينة ومن يؤازرهم من دول الغرب على بتره عما قبله، مستخدمين آلية التضخيم والتركيز عليه كحدث جلل، يتيم، منتزع من سياقه التاريخي منذ 1948. يواري هذا التضخيم المهول وظيفة ذرائعية مزدوجة الأهداف؛ الأول يطلق يد الصهاينة التي لا تردعها أي ضوابط أو قوانين أو التزامات دولية وحقوقية بحجة “الدفاع عن النفس”، بينما هي في الحقيقة تستثمر ما حصل كفرصة سانحة ومواتية لتنفيذ مخططها في توسيع الاستيطان وقضم مزيد من الأراضي الفلسطينية، حتى تلك التي تصنّفها الاتفاقيات الدولية حقًّا فلسطينيًا. والهدف الثاني هو تثبيت التصوّر الذي يحاول الصهاينة والغرب إشاعته عن حماس، كونها فصيلًا إسلاميًا إرهابيًا نفذّت اعتداء (وليس مقاومة)، يستوجب الرد، الأمر الذي يزيد عزلة حماس، ومن ورائها الترويج لعدّ فعل المقاومة مرادفًا لفعل الإرهاب.
لا جدال حول أهمية مسألة المقاومة التي تدير حماس دفّتها في معركة طوفان الأقصى. وعلى الرغم من اقتناعنا الحاسم بأن المقاومة جدوى مستمرة، وأنها شكّلت لفترة طويلة من تاريخ القضية الفلسطينية أساسها ومركز الثقل فيها، وأعطتها بعدها التحرري والنضالي القومي والعالمي، إلا أنها فقدت هذه المنزلة وخفّ بريقها، حين هُمّشت المقاومة واستُبدلت بالحل السياسي وحقله المفاهيمي من مفاوضات وتسوية وتنسيق وحكم ذاتي وغيرها. ولا نبالغ حين نقول إن القضية الفلسطينية استمدّت وهجها وتصدّرت أولى قضايا التحرر العالمي حين كانت مقاومتها الوطنية تسطّر ملاحمها البطولية مظهرةً تحرير فلسطين كقضية وطنية محقة وإنسانية. لا شكّ أن التحوّل في مسار القضية، وأفول بريق المقاومة بعد أوسلو، وتحوّلها إلى مثار خلاف بعد أن كانت محط إجماع وطني، وإحدى أهم المرتكزات والثوابت الوطنية الجامعة والعابرة للاختلافات بين الفصائل الفلسطينية، أدّى إلى تراجع حضور القضية الفلسطينية، على الرغم من استمرار الهبّات متمثّلة بالمقاومة الشعبية وبالانتفاضات المتتالية والتي كان أيضًا لحماس اليد الطولى في إطلاق شراراتها.
إنّ انتكاس حراك منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف)، واعتزالها خيار المقاومة وافتراقها عنه، أدّى إلى تضييع الفلسطينيين المظلة الوطنية التي كانوا يفيئون إليها، مؤمنة لهم نوعًا من الانتماء إلى هوية وطنية جامعة أهم ملمح فيها هو المقاومة. الأمر الآخر، إن إخلاء ساحة النضال المسلّح، من دون الحصول في المقابل على أبسط الحقوق، نجم عنه فراغ مواتٍ للحركات الإسلامية الصاعدة كي تخوض غماره وتقتحم معتركه، وصولًا إلى تصدّر واجهته كما يحصل اليوم في طوفان الأقصى. يطرح هذا المآل التساؤلات الآتية:
–هل تصدّر حماس كتنظيم عقائدي إسلامي، مشهد المقاومة في فلسطين، ينزع عن هذه المقاومة طابعها الوطني؟
–هل أسلمة المقاومة في فلسطين تؤسس لتهزيل الهويّة الفلسطينية، التي على الرغم من تشتيت الفلسطينيين وبعثرتهم خارج أرضهم، وتقسيمهم وتفتيتهم وانقسامهم، استطاعوا أن يحافظوا على قوامها من خلال تمسكهم بالمقاومة والتفافهم حولها؟
–هل انفض إجماع الفلسطينيين حول خيار المقاومة كحق مشروع وضروري لمواجهة المشروع الاحتلالي واسترجاع الأرض؟
–هل تستطيع حماس كحركة دينية أن تمضي بخيار المقاومة منفردة؟ وما هي انعكاسات ذلك على هوية المقاومة ومن ثم على هوية القضية الفلسطينية؟
–هل يتناقض الانتماء الأوسع القومي العربي والوطني الفلسطيني مع الانتماء الفصائلي والديني العقائدي لدى حركة المقاومة الإسلامية- حماس؟
–هل حماس طارئة على المجتمع الفلسطيني أم أنها عنصر أصيل من نسيجه؟
–هل تستطيع حركة تلتزم العقيدة الدينية الإسلامية دينًا ودنيا وتحدّ تصوراتها وسلوكها بسقف الشريعة، أن تقود دفة تحرير أرض ووطن؟
وانطلاقًا من هذه الأسئلة ستذهب الدراسة إلى البحث في الفرضيات الآتية:
–إننا نفترض أنّ حركة المقاومة الإسلامية هي حركة وطنية أصيلة، بمعنى أنها منبثقة من صميم المجتمع الفلسطيني وليست طارئة عليه، كما أنّ العمل المقاوم بالنسبة إلى هذه الحركة هو جزء من تراثها منذ ما قبل 1948.
–إننا نفترض أن حماس كحركة دينية تكبّل الإنسان والمجتمع إلى مجموعة من التصوّرات العقدية المنجزة والنهائية باسم المقدّس، ولكنها بالمقابل وبدافع من هذا المقدّس نفسه تشحذ المخيال المقاوم وتقوّي القناعة والاقتناع والتمسّك بالمقاومة، كطريق خلاصي تحريري وتحرري ومنقذ وموصل إلى النجاة والفوز الأبدي المطلق.
–إنّ حماس وإن كانت حركة دينية، إلا أنها لم تنجر إلى مستنقع المساومات الخانعة والمنبطحة التي انحطت إليها السلطة الفلسطينية- فتح، بل تمسّكت حماس بثوابت القضية الفلسطينية في متطلّباتها القصوى.
–الديني والوطني لا يتناقضان أو يتعارضان أو يتزاحمان في رؤية حماس الفكرية لتحرير فلسطين، بل استطاعت هذه الحركة الإسلامية أن تصوغ من خلال وثيقتها (2017) تصورًا متكاملًا ومنسجمًا يجمع الديني إلى الوطني.
سنعتمد لتحليل هذه الفرضيات، على ميثاق حماس 1988 ووثيقتها المحدّثة عام 2017، لنقرأ حماس في منطلقاتها النظرية، وعلى بعض المقابلات مع قياديين في الحركة لنطلع على مواقفهم في السياسة وفي المقاومة، وعلى مصادر أخرى تتضمن آراء أشخاص محايدين مقيّمين لأداء الحركة.
حماس وواقع الانقسام الداخلي الفلسطيني
عرف تنامي وجود حماس في فلسطين محطات عديدة هي بمنزلة مسار تراكمي، بدأ بالتركيز على تكريس التوطّن الاجتماعي، والعمل المنظّم والممنهج على التآلف في نسيج المجتمع الفلسطيني، من خلال تجذير نفسها في بنية تحتية راسخة للأعمال الخيرية والاجتماعية تشمل نطاقًا واسعًا من الأراضي الفلسطينية. وما إن صارت حماس حالة متجانسة ومستقرة بين الفلسطينيين، حتى انتقلت إلى المجال النضالي المسلّح، وبخاصة مع الانتفاضة الثانية (2000) التي ثبّتت حماس حركة مقاومة ذات دور لا يمكن تجاهله وإنكاره. وصولًا إلى استغراقها في التجاذبات السياسية بخاصة بعد فوزها في الانتخابات عام 2006، ودخولها رسميًا في الهيئات الحكومية، وما استتبعه من مناكفات على السلطة مع حركة فتح ممثلة بمحمود عباس.
أدّى هذا الوجود المتعدد الأبعاد إلى بروز حركة حماس كند سياسي، اجتماعي، للسلطة الرسمية الحائزة على شرعية المجتمع الدولي والأنظمة العربية، عدا عن كونها تجاوزت الندّية إلى درجة التمرّد على الأبوية الفتحاوية المحتكرة للسلطة ولمنظمة التحرير الفلسطينية ولتمثيل الشعب الفلسطيني في آن معًا. ومن ثم لم يمر ازدياد الحضور الحمساوي على الساحة الفلسطينية، وبزوغ نجمها لا سيّما عند المحك الأساس أي المقاومة، واقتحامها المشهد السياسي الفلسطيني بانتخابات ديمقراطية (2006) استجابت لرغبة الشعب الفلسطيني مترجمة إرادته، مرور الكرام لدى السلطة الفلسطينية التي لم ترق لها وعدّتها مزاحمة لوجودها الذي بات يتعرض للزعزعة. أسباب كثيرة دفعت سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية إلى إشهار عداوتها ضد حماس، منها أسباب ذاتية تتعلّق بالكيانية ذات الحيثية الخاصة لحركة فتح كفصيل فلسطيني تسنّم أدوارًا نضالية رائدة وسياسية مفصلية في مراحل مهمة ومصيرية من تاريخ القضية الفلسطينية، قبل اتفاقات (أوسلو) على مستوى النضال المسلّح، وبعدها على المستوى السياسي. فلقد شعرت فتح أنّ إمساكها بزمام الأمور وتفرّدها في تحريك مفاتيح وخيوط الأحداث في فلسطين، ولا سيّما في الداخل، بدأ يفلت من يدها. لم تشكّل الأحزاب الأخرى ولا سيّما اليسارية منها (الجبهة الشعبية) و(الجبهة الديمقراطية) مصدر قلق وإزعاج كبيرين بالنسبة إلى السلطة الفلسطينية، لأنها أدارت دفة العلاقة معها من موقع المموّل الذي يمنح ويمنع، ولأنها تتوافق جميعها إشهارًا أو استتارًا، في المنطلقات اللادينية المتحفّظة تجاه تيارات التديّن الإسلامي الصاعدة بقوّة. وربّما لأن الأحزاب التي انتسبت إلى منظمة التحرير الفلسطينية، قد اعترى هياكلها الترهل بعد انصرام مرحلة عطائها، المتّصلة بأحوال عربية وعالمية ساهمت في حركتها وفاعليتها المقاومة حينذاك، فاستشعرت هذه الفصائل ذبولها وشحوبها أمام مجموعات دينية فتية نجحت في منافستها في الأدوار كلها التي كانت تؤديها، وهذا ما يفسّر تحول الاختلاف بين السلطة الفلسطينية وحماس من التنافس السياسي إلى معركة وجود.
إضافة إلى هذه الظروف الذاتية التي تتعلّق بخروج حماس من فيء عباءة الأخ الأكبر(فتح) التي تماهت مع منظمة التحرير الفلسطينية وصادرتها، وزجّتها ضمن سلسلة محطات أسست لاتفاق أوسلو (1993)، بدءًا بتعديل الميثاق الوطني (نتيجة قبول ياسر عرفات الناطق باسم م.ت.ف. بقراري مجلس الأمن 242 و338)، والمشاركة في مؤتمر مدريد (1991)[1]، ومن ثمّ قبولها بعد أوسلو بإدارة سلطة حكم ذاتي بسيادة منقوصة وممسوخة، توافرت أيضًا أسباب موضوعية تتمثّل بالوظائف الجديدة الموكلة إلى السلطة الفلسطينية، وأهمها إنزال البندقية والترجل عن صهوة حصان المقاومة المسلّحة، وابتدار مرحلة جديدة تستبدل لغة السلاح بلغة التفاوض والتنسيق[2]، عبّر عنها ياسر عرفات عام 1988 بفكرة “نبذ العنف” في مقابل “حل الدولتين”[3]. كما أن محمود عباس رفض “عسكرة الانتفاضة والعمل المقاوم”، و”لطالما سعى لسحب سلاح الفصائل ووقف المقاومة”، ووصفها بأنها “عبثية وحقيرة” وعدّ أنّ سلاحها هو “سلاح فوضى”، داعيًا إلى مصادرته تحت شعار “سلطة واحدة، سلاح واحد”[4]. هذا التراجع أو الانزياح الفاضح عن خط المواجهة المقاوِمة للعدو المحتل للأرض، عكس استئثارًا باتخاذ قرار يرتبط بمسألة تعدّ من الثوابت في القضية الفلسطينية، وهذا القرار أحادي الجانب غير المتبني لرغبة أطياف الشعب الفلسطيني وشرائحه كافة، أسفر عن شرخ أو افتراق بين فتح المتخلية عن المقاومة وحماس التي حرصت حكومتها في “الاتفاقات والمصالحات كافة… على حماية سلاح المقاومة وضمان عدم نزعه أو المساس به”[5]. ويحسم ميثاق حماس[6]، في كون الحركة لن تتنازل عن طريق الجهاد بحسب المادة 13 من الميثاق، إذ “لا يوجد حل للقضية الفلسطينية إلا من خلال الجهاد، والمبادرات والمقترحات والمؤتمرات الدولية كلها مضيعة للوقت ومساعي عبثية”[7].
وإن كنا نكثّف ونعمم في الإشارة إلى الأحداث والتحوّلات الحاصلة في الداخل الفلسطيني، لا سيّما في غزة (مكان تمركز حماس) والضفة الغربية، فلكي نوجز في الإشارة إلى مراحل تاريخية معروفة، فنتجنّب الوقوع في تكرار ما تناولته كتابات كثيرة. ولكن إيجازنا في الحديث عن مجمل التحوّلات يختصر لنا أسباب ما آل إليه الواقع الفلسطيني بخاصة الداخلي منه من تفرّق وانشقاق بدأ سياسيًا وانسحب من ثمّ على المجالات الأخرى؛ الجغرافية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ولقد أنذر البعض من أن إطالة أمد هذه الوضعية الانقسامية سوف تولّد شرخًا في الانتماء الموحّد، وافتراقًا هوياتيًا يبعد الفلسطينيين عن ارتباطهم بهوية وطنية جامعة. إن تحميل حماس مسؤولية المراوحة في مستنقع بعثرة أبناء الوطن الواحد، ناجم عن أمور كثيرة تُدان بها، ونوجزها في المآخذ الآتية:
–هناك من يرى في خطاب حماس ووجودها عاملًا تفتيتيًا، يزج الفلسطينيين في فئوية تحت وطنية ذات طابع ديني، يعزّز الهوية الدينية ويوسّعها لتقضم الهوية الوطنية الفلسطينية. ومن ثم فإن هذا التوجس يصوّر حماس فصيلًا دينيًا مهدّدًا للوحدة الوطنية، ومعيقًا لاستنهاض مشروع فلسطيني يعيد لمّ شمل الفلسطينيين.
–يؤخذ على حماس تخلّيها عن الثوابت المركزية في القضية الفلسطينية، والتي صرّحت بها في ميثاقها، وهو تحرير الأرض من النهر إلى البحر. والدليل على ذلك هو دخولها معترك الحياة السياسية وانشغالها بالمناكفة السياسية مع فتح، والمشاحنة بينهما حول السلطة والحكم المحصورين في ما تبقى من الأراضي الفلسطينية (ما يعني الانجرار إلى منزلق أوسلو)، ومن ثم تقلّصت الرؤية التحررية لحماس من الأرض التاريخية بكاملها إلى جزء منها، فانتهى بها الأمر إلى بسط سلطتها على غزّة فحسب، مسبّبة بزيادة الشروخ والانقسامات السياسية والجغرافية بين الفلسطينيين، ما يصدّع أيضًا وحدة الهوية الفلسطينية، أي أنّ حماس أبدلت مشروعها التحرري بمشروع حيازة السلطة.
–يؤخذ على حماس سلوكها الاجتماعي المتشدد وهو ما يعدّه البعض محاولة فرض “نظام قيمي ثقافي جديد”، يستجلب “نماذج قاتمة” ظلامية تنعكس في ممارسات اجتماعية “في ما يتعلق بالتعامل مع المرأة وسلوك المواطن اليومي”[8]. وعملية النمذجة الاجتماعية والثقافية هذه تؤول أيضًا إلى سلخ الفلسطيني عن مناخه الثقافي التقليدي أو موروثه البعيد عما تستورده حماس من أفكار ومعتقدات ومنظومة قيم تحاول إرساءها لتصير نمط تفكير وعيش وأداء، ما يصبّ بدوره عند “تصنيع قسري” لهوية جديدة خاصة في قطاع غزّة، غريبة وبعيدة عمّا يعيشه الفلسطينيون في مختلف مناطق تواجدهم.
–إنّ حماس اقتلعت القضية الفلسطينية من ارتباطها بمسار طويل من الصراع العربي- الإسرائيلي، لترمي بها في صراع المحاور الدولية، ولتصيّرها عرضة لمصالح تجاذبات أقطاب متعادية في ما بينها. فلجوء حماس إلى إيران وتخندقها في المحور الإيراني يخلع عن الصراع الفلسطيني بعديه العربي والوطني ويسبب انزياحًا صارخًا لهوية المقاومة الفلسطينية، ما يؤدي إلى اغترابها وضياعها في خضم عداء الآخرين وتنازعهم ومعاركهم.
هذه المآخذ كلها يضبطها عنوان واحد بأوجه متعددة تلتقي عند التوجس والخوف من تغيير معالم هوية القضية الفلسطينية. وهذا المحو أو الإبدال أو المس بالثوابت والأصول يُرمى على عاتق حماس الخارجة عن طاعة السلطة، ومن ورائها مسؤولية القيام به لتحقيق مآربها الخاصة. فهل فعلًا تُحمل حماس وحدها مسؤولية التحولات التي حرفت مسار القضية الفلسطينية عن خطها الوطني والعربي؟ وهل حماس هي حالة هجينة طارئة على البيئة الفلسطينية تحاول استنبات نفسها قسريًا، من خلال الدأب على استحداث مناخ لاوطني في غزّة؟
العروبة والوطن في ميثاق حماس
يتزاحم كلّ من العروبة والإسلام في ميثاق حماس، ويظهران كمتنافرين وكهويتين منفصلتين. هذا الفصل دليل على تأكيد استقلالية الإسلام كهوية وعقيدة ودين عن العروبة التي لا تحوز الخصائص نفسها التي للإسلام لتستحق أن تتفرّد وتتمايز، فتصير جديرة بأن تشكل مصدر انتماء تاريخي وعقائدي؛ ديني ودنيوي. واحتراس حماس من العروبة يمكن عزوه إلى أسباب شتّى، أشار إليها عبدالله عزام في ميثاق حماس الأول الذي أرفقه بما سمّاه “جذور تاريخية”. فالخلافة التي جعلت للأمة حكمًا ممتدًا في التاريخ لم تكن عربية، بل إسلامية وهي استمرت كذلك حتى لحظة التآمر ومن ثم انقضاض الغرب (الصليبيين) عليها حين كان العثمانيون ولاتها. والقومية أكانت العربية أم التركية هي واحدة من الأدوات والبدع التي دسّها الغرب الاستعماري في عقول أبناء الخلافة الإسلامية العثمانية العرب، فساعدوا في الانقلاب عليها واستبدالها بدويلات عربية قلوبها شتّى متفرّقة، في حين كانت سابقًا مضمومة كحزمة واحدة برباط الدين والعقيدة. وفلسطين هي جزء من هذه البقاع الإسلامية التي نعمت بالرعاية والعزة عندما كانت بحمى الإسلام وكنفه، وهو لطالما درأ عنها أخطار الطامعين، وصانها من محاولات تدنيسهم لها. وبما أنّ حماس سلفية التوجه، ماضوية في أنموذجها الفكري والاعتقادي، بمعنى أنها ترى في السلف الإسلامي الصالح قدوة ومثالًا، فإنّ الشيخ عبدلله عزام يستقي من الماضي أمثلته وشواهده فيقول:”فلسطين الأرض المباركة قد فتحها الإسلام، وعاشت بالإسلام طيلة العهود التاريخية، وكلما تعرضت للغزو وسقطت بين براثن صائل كافر أو طاغوت ملحد، تقدم الإسلام لينقذها من وهدة الموت ومن ظلام الجاهلية، فقد سقطت القدس بيد الصليبيين سنة (294هـ )، فتقدم الإسلام يزحف بقيادة عماد الدين زنكي من الموصل، على الرغم من أن عماد الدين ينتسب إلى العراق التركي، ولم ينحدر من سلالة عدنان ولم ينسل من ظهر قحطان بل نبت من دوحة الإسلام”[9]. تظهر الجملة الأخيرة أن عزّام يدلّل وبإشارة مقصودة على أنّ فلسطين هي تاريخيًا أرض إسلامية، وأنّ من ذاد عن حياضها ليس قحطان العربي، بل المعني بإجارتها والغيّور على حمايتها، إسلامي الهوية وإن كانت قوميته ليست عربية. ويشدّد الميثاق، على الموقف نفسه، “وقد طمع الطامعون بفلسطين أكثر من مرّة…ولم يسترجعها المسلمون، إلا عندما استظلوا برايتهم الدينية…”[10].
ويشبّه الشيخ المؤسس عزّام القومية بـ “الخنجر المسموم” الذي طعن “تركيا المسلمة”، ما “أودى بالإسلام وأقصاه عن الوجود وغيّبه عن الشهود، والذي سارت على هدى منارته الأجيال مصونة من الانحراف والضلال عبر الحقبات الزمنية المتعاقبة”[11]. ومن البيّن أن الشيخ السلفي يذهب في الوجهة الفكرية نفسها التي تتبناها التيارات الإسلامية المعتدلة أو المتزمتّة، والتي تفسّر انحطاط “الأمة”، بأسباب ابتعادها عن الإسلام، بداية بالتنكّر لأصوله والجهل بصفاء روحه، ومن ثم من جراء انجرارها وراء البدع والضلالات أو سموم العقل والفكر والتي تسللت إلى بلادنا، واعتُنقت؛ كالقومية والشيوعية والعلمانية والليبرالية. هذه البضائع المستوردة أضعفت من حضور الدين الإسلامي، فجافاه العرب، وكانت نتيجة ذلك تهاوي الأمة نحو السقوط والانحدار، “…في زمن غاب فيه الإسلام عن واقع الحياة، لذلك اختلت الموازين واضطربت المفهومات، وتبدّلت القيم…واغتُصبت الأوطان…وغابت دولة الحق وقامت دولة الباطل…وهكذا عندما يغيب الإسلام عن الساحة، يتغير كل شيء”[12].
وإن كان الدافع الأوّل وراء الحذر من “تعرُّب فلسطين” عقائديًا وفكريًا، فإن الباعث الثاني سياسي يتمثّل بتاريخ تعاطي الأنظمة العربية مع مسألة تحرير فلسطين والذي كان على الدوام مخزيًا. ويفصّل الشيخ عزّام ساردًا الأحداث التي تتالت على فلسطين منذ نكبتها، وكيفية تعاطي العرب معها، ساخرًا من مرحلة عبد الناصر، ودور الحكومة السورية الموارب في الدفاع عن فلسطين، ومشيرًا إلى الدور المريب والمتآمر للجيوش العربية التي كان من المفترض أنها دخلت الأرض المحتلّة كمشاركة في تحريرها، لكن النيات المستترة أسفرت عن هدف آخر هو “تسليم الأراضي لليهود”، فهو يكتب:”…وليت الدول العربية ما دخلت فلسطين، لأنها دخلت لتسلّم الأرض لليهود، ولصيانة نبتتها الناشئة من أعاصير الرياح الإسلامية التي يمكن أن تعصف بها.” “فالقضية لا يختلف عليها عاقلان، إن معظم التغيرات السياسية والانقلابات التي حصلت في أنظمة المنطقة العربية، كانت لأجل سلامة “إسرائيل”[13]. ولا ينفك السبب الفكري الأول عن الثاني ذي الخبايا السياسية، فالدول المستعمرة، فكّكت الخلافة الإسلامية وفرّقتها دولًا بحكومات عديدة، محاولة استئصال شأفة الدين الإسلامي، فعرّتها من لبوسه، وفصّلت لها ثوبًا هجينًا، ففترت العلاقة بين هذه الأجزاء بعد تفريقها بسبب إضعاف الوشيجة الأصلية التي هي الإسلام، بينما بقي اليهود يخوضون حروبهم، ويتمادون في ترسيخ وجودهم، ويشدون أزر بعضهم بسبب تمسكهم بالعقيدة اليهودية.
وفي تحديده للإطارين الزماني والمكاني، يعود الميثاق إلى بُعد الحركة الزماني ليؤصّلها تاريخيًا، ويربطها بلحظة “مولد الرسالة الإسلامية والسلف الصالح”. وهكذا يقطع الميثاق الذي هو بمنزلة بطاقة تعريف بالحركة، وموجه فكري للمنتسبين إليها، مع تاريخ العرب السابق على الدعوة الإسلامية، ويعلن أن جذور الحركة تمتد إلى زمن محدد في الماضي حيث “الرسول قدوتها والقرآن دستورها”. وفي حين يضيق زمن الحركة لينطلق مع ظهور الإسلام، قاصدًا القطيعة مع ما قبله، ترحب الأمكنة ويتسع البعد المكاني ليطال بقاع الإسلام كافة،” حيثما وُجد المسلمون الذين يتخذون الإسلام منهج حياة لهم، في أي بقعة من بقاع الأرض، فهي بذلك تضرب في أعماق الأرض، وتمتد لتعانق السماء”[14]. وإذ ينبسط المجال المكاني في الوثيقة، فإنّه يطال أرض الإسلام كلها ليصير مسلموها كلهم معنيين بالانخراط في الجهاد من أجل تحرير فلسطين، “الجهاد لتحرير فلسطين فرض عين على كل مسلم”، وهذا الحكم القاطع هو استمرار لما أرساه حسن البنا، الملهم الروحي لحركة حماس ذات المشارب الإخوانية، إذ يقول البنا: “قضية فلسطين هي قضية كل مسلم”[15]. ولأن المسلمين هم جنود فلسطين وحماتها “فلا بدّ من ربط قضية فلسطين في أذهان الأجيال المسلمة على أنها قضية دينية”[16].
وهكذا تحدّد حماس في ميثاقها الذي يركّز ثوابتها ويؤسس لنظرتها ويبرز معالم طريقها، أن فلسطين هي شأن إسلامي، لذلك فهي “أرض مقدسة، وقبلة المسلمين الأولى ومسرى رسول الله ومعراجه إلى السماء”، كما أنها “أرض وقف إسلامي”[17]. إن إسلامية فلسطين وعودتها إلى كنف هويتها الدينية الأصلية، هو جسر عبور إلزامي نحو تحريرها، وهذا الأخير مزدوج؛ تحرير الفلسطينيين وغيرهم من المسلمين الذين ضلّوا سواء السبيل، فسلكوا طريق الزيغ في الانتماء الفكري والعقائدي حين انساقوا وراء أباطيل التيارات المكتسحة لبلادنا، كالقومية والشيوعية واليسارية، ومن ثم وبعد الأوب والعودة إلى جادة الإسلام، تصير الدروب سانحة لتحرير الأرض واستعادة الحق. ولقد أثبتت الهزائم المتتالية التي منيت بها الأمة بخاصة بعد 1967 عجز الأنظمة السياسية العربية التي حكمت باسم هذه البضائع الفكرية المستوفدة، وتهافت الأحزاب والجبهات التي عاشت انفصامًا بين ولائها لسيدها الغربي وتبعيتها له، وبين تنطحها لتحرير فلسطين. فالغرب بتلوّناته وتفرّعاته وتمايزاته كافة، يبقى غربًا يشترك في ملامح ثابتة أوّلها نزوعاته الفوقية وتصميمه الثابت والدؤوب على أن يبسط نفوذه في بلادنا عبر الاستعمار، لذا فجميع دول الغرب الشيوعية منها والليبرالية، دعمت نشوء الكيان الصهيوني وتوافقت على زرعه في منطقتنا[18]. ولقد تنبّه من انضوى في أحزاب التيارات القومية والشيوعية أنّ معتقداتها وأفكارها ليست إلا أصنامًا وأوهامًا، فاهتدوا إلى الإسلام: “بعد هزيمة عام 1967، نفض الشباب في فلسطين المحتلّة أيديهم من الأصنام التي تعلّقت بها الأوهام، ويئسَ الجيل من الطواغيت التي عبدوها ردحًا من الزمن، وبدؤوا يبحثون عن مخرج ويتلمسون عقيدة يعتنقونها، بعد أن سقطت جميع الشعارات وتهاوت جميع المنارات، فهداهم الله عز وجل إلى الإسلام…فخلعوا ثياب الشيوعية والقومية والناصرية والاشتراكية، وعادوا إلى الله يقولون:” آيبون، تائبون، لربنا حامدون”[19].
هذه الخطوة الأولى نحو التحرير الكامل، هي اليقظة الإسلامية من خطر الغزو الفكري لاسيّما ما روّجت له الشيوعية من “تمرّد على الأديان”، و”رفع شعار العلمانية”. أما استكمال المسير فيكون بأن يسود الإسلام ليملأ الشاغر الفكري والسياسي والجهادي الذي انحدرت إليه الحياة السياسية في فلسطين بعد نضوب المعين الفكري والنضالي للأحزاب الأخرى، ولإحياء العمل الجهادي المقاوم المقارع للمحتل الذي أعرضت عنه الدول المسماة عربية: “وما تقوله الروايات الحمساوية يموضع نشأتها في سياق ما شهدته فلسطين منذ منتصف الثمانينيات من تطور واضح وملحوظ في نمو وانتشار الصحوة الإسلامية…وعودة الناس إلى الإسلام بعد عقود النكسات والنكبات والضياع. ففي ظل تراجع القضية الفلسطينية إلى أدنى سلّم أولويات الدول العربية وتراجع مشروع الثورة الفلسطينية…ومع نهايات عام 1987، كانت الظروف قد نضجت بما فيه الكفاية لبروز مشروع جديد يواجه المشروع الصهيوني وامتداداته… فكانت حركة المقاومة الإسلامية حماس…”[20].
لا يبتغي هذا العرض فقط، القيام بما يمكن أن نسميه تنسيبًا عامًا لنشوء كيانية حركة المقاومة الإسلامية ونموها وتكوّنها في العقيدة والزمان (البعيد والقريب) والمكان والأحوال المؤثرة في تخصيبها ورفدها بعناصر الحضور على الساحة الفلسطينية، بل نقصد إلى تحليل عميق يفحص العلاقة المباشرة المصرّح عنها بين العروبة والإسلام في فكر حماس وعقيدتها، أو ذلك الموقف الدفين منها، الذي يطفو أحيانًا جهارًا، ويحتجب أحيانًا وراء براغماتية تبرع فيها الأحزاب الدينية عامة، فكيف بفصيل سياسي مأزوم بالحصار الداخلي والخارجي؟ ينفضّ عنه الأخ في الوطن والدين، بعد أن خذله العرب مرات ومرات في ساحات الوغى، وسلبوه جميع أشكال الدعم متحاملين متواطئين، فبات يتوسّل التصريحات كرسائل يحمّلها مدلولات تخفّف من موقفه المجافي للعرب والعروبة، فيلتجئ إليها ليلتمس الركون إلى قنوات سياسية تخفف من الانسداد الذي يخنق القضية الفلسطينية، ويعوقها من تحقيق أي مكاسب في ما يتعلّق بالوصول إلى الحقوق حتى بالحد الأدنى منها.
تبدي وثيقة المبادئ والسياسات العامة[21] التي تعتمد “لغة سياسية في جميع بنودها وليست لغة عاطفية أو لغة تعتمد بالأساس على تقديم النص الديني” مرونة تفسح لها “بأن تتنفس قليلًا بعيدًا من أجواء ميثاقها الأول”[22]. “فوثيقة حماس تقوم على الانفتاح والتطور، من دون الإخلال بالثوابت”. “والتعامل الواعي مع الواقع” المتغير والحامل لكثير من التحولات، ينحي جانبًا الاعتبارات العقائدية، يتطلّب من حماس أن تكون “حركة حيوية متجددة تتطور في وعيها وفكرها وأدائها السياسي…”. هذا التعديل المبني على مراجعة للواقع وتقويم له، يعيد فلسطين “أرض الشعب الفلسطيني العربي”، وهي “أرض عربية إسلامية مباركة مقدّسة، لها مكانتها الخاصة في قلب كل عربي ومسلم”، إنها “أرض لشعب ذي هوية متأصّلة في قوميتها العربية، وتاريخها المكاني، وهذه صفات ثابتة وأصيلة لا تزول…”، هذه المؤشرات نابعة من إيمان “حماس بأن قضية فلسطين هي القضية المركزية للأمة العربية والإسلامية”[23].
تعيد الوثيقة المندرجة في سياقها التاريخي الخاص، القضية الفلسطينية إلى قلب “الأمة العربية”، “فلسطين في موقع القلب من الأمة العربية والإسلامية”[24]. فهل وعت حماس واقتنعت أنه لا يمكن اقتلاع فلسطين من واقعها الجغرافي والتاريخي والثقافي المزدوج؛ العربي والإسلامي؟ وهل مراجعات حماس سياسية مصلحية مؤقتة مرحلية قابلة للارتداد إلى جذورها ومنطلقاتها، بما هي حركة بطبيعتها ودينامية فكرها سلفية، بمعنى أنها تصلّب نفسها كنشأة وكأهداف من خلال البحث عن أصولها في الماضي؟ وما الذي يمنع هذه العودة الارتدادية عندما تتغير الأحوال؟ وهل ميزت إنتلجنسيا حماس بين العروبة كفكرة قابلة للبلورة وذات مقومات هوياتية تغور عميقًا في التاريخ (اللغة، الثقافة المشتركة والمتداخلة حد التماهي مع الموروث الثقافي الإسلامي) والتي يمكن انطلاقًا منها أن نتحدّث عن “شعب عربي”، وبين “القومية العربية” كتيار برز في القرن التاسع عشر والقرن العشرين متأثرًا بالقوميات الأوروبية، والذي لم يستطع أن يتجذر كمشروع وكقومية مكتملة المعالم، وبين الأنظمة العربية التي أساءت فعلًا ولما تزل للقضية الفلسطينية؟ وهل تعتقد حماس بوجود هوّة كما الهوات الكثيرة الأخرى بين الشعوب العربية وأنظمتها الحاكمة؟ هل يوجد شعب عربي أم شعوب عربية؟ يبدو أن إشكالية الهوية العربية أشد تعقيدًا من تلك الموصولة بالقضية الفلسطينية.
الوطنية والمواطنة في فكر حماس النظري
لا تتضمّن وثائق حماس التأسيسية فصلًا نظريًا ومفاهيميًا واضحًا يبيّن فهمها لكلّ من الوطنية والمواطنة. وهي تأتي على ذكر الوطنية، بينما تسقط المواطنة، ربّما لأن هذه الأخيرة هي كغيرها من الاستعارات الغربية المستوفدة، كالعلمانية والاشتراكية والتي تمتعض منها حماس لأنها دخيلة على التراث الفكري الإسلامي خاصة. أو لأن واقع الأمر الفلسطيني يسمح بالتوسيع في فكرة الوطنية القائمة على ارتباط وجداني طبيعي نابع من حاجة فطرية إلى الانتماء؛ الجغرافي المرتبط بمقومات الوجود الأساسية، والثقافي الجمعي المؤمّن لمستلزمات الحماية والأمن والاستقرار. بينما ترتفع المواطنة عن هذا الحد الأدنى وتتطلّب كمفهوم وممارسة، وجود دولة أو كيان مؤسساتي، وما يستلزمه من حياة مدنية سياسية واجتماعية وإدارية، وأنظمة وقوانين ونظام الحقوق والواجبات… وهذا الإطار لما يزل محط إشكال وصراع بين الفلسطينيين والاحتلال وبين الفلسطينيين أنفسهم، لأن مشروع الدولة الفلسطينية هو بدوره إشكالية كبيرة لها حيثياتها وتعقيداتها.
كما أنه في الحالة الفلسطينية تتعارض الدولة المواطنية مع فكرة الوطنية، بوصف الثانية أوسع من الأولى، كما أنّ المواطنة المرتبطة بإنشاء الدولة تتنكّر لإحدى الماهيات الأساسية للوطنية الفلسطينية والتي هي الأرض، لأن صيغة الدولة المطروحة، تقلّص فلسطين التاريخية إلى حدود عام 1967. كما أن هذه الدويلة عدا عن كونها منقوصة السيادة، فهي لن تكون دولة لمواطنيها كافة، بل فقط لمن يعيش منهم في الضفة والقطاع، ومن ثم تسقط صفة المواطنية عن فلسطينيي الشتات، وفلسطينيي 1948 في الداخل الإسرائيلي، ومن ثم فإنّ الوطنية بمدلولاتها الرمزية وكفايات عناصر الهوية التي تحتويها، أكثر حضورًا في الحالة الفلسطينية. كما أن الحلول والمساعي السياسية التي تقوم على التفاوض بهدف تغليب مبدأ الدولة الملازم والضروري لاستواء شروط المواطنة وتمظهراتها العملية، تشترط وتقتضي التخلي عن خيار المقاومة المسلّحة، ما يعني التخلّي عن الحقوق الوطنية الجوهرية والأساسية وهي حق العودة، وحق استرجاع الأرض، واستعادتها من خلال فعل التضحية من أجلها أي الاستشهاد.
ربّما لهذه الأسباب لم يتم التطرق إلى المواطنة لا في ميثاق 1988، ولا في وثيقة 2017، بينما تُذكر الوطنية في سياق التعريف بحماس على أنها “حركة تحرر ومقاومة وطنية فلسطينية، هدفها التحرير ومرجعيتها الإسلام؛ منطلقًا وهدفًا ووسيلة”[25]. فالوطنية مفضّلة لدى الفكر الحمساوي على المواطنة لأنها بطبيعتها الرمزية ومنطوياتها الروحية قريبة من المنحى الإسلامي الإيماني، أي أن الشعورين الديني والوطني متساويان في القداسة. وما يؤكّد هذا التحليل التضمين الذي أشارت إليه المادة الثانية عشرة من الميثاق المتفرعة من عنوان أشمل هو: الوطن والوطنية من وجهة نظر حركة المقاومة الإسلامية بفلسطين، حيث نص المادة كالآتي: “الوطنية من وجهة نظر حركة المقاومة الإسلامية، جزء من العقيدة الدينية”. تغلب العقيدة الدينية المسألة الوطنية إذًا، وتصير هذه الأخيرة جزءًا من العقيدة الأوسع والأشمل والأعلى، وهذا التوظيف للوطني في العقائدي الديني هو تدليل على أنّ الدين يحتل الدائرة المركزية التي تتفرع إلى دوائر أصغر تستظل بالدين وتتبع له وتلتقي جميعها عند تحقيق أهدافه. يؤدي هذا الإدماج للوطني في البناء الفكري الديني واستثماره داخله، إلى تكثيف الوطني وتحميله أبعادًا تختلف عما عرفته الوطنيات الأخرى، لأنه يُستعمل في تحقيق أهداف غيبية ماورائية تصل الإنسان بالله، وتحدد مصيره الأخروي، وهكذا تصير الوطنية طريقة أخرى لتجسير علاقة الأرض بالسماء،:”…وإذا كانت الوطنيات المختلفة ترتبط بأسباب مادية وبشرية وإقليمية، فوطنية حركة المقاومة الإسلامية لها ذلك كله، ولها فوق ذلك -وهو الأهم- أسباب ربانية تعطيها روحًا وحياة، حيث تتصل بمصدر الروح وواهب الحياة، رافعة في سماء الوطن الراية الإلهية لتربط الأرض بالسماء برباط وثيق”[26]. تؤدي الوطنية إذا دورًا دينيًا يصبّ عند غاية عملية، وهي تحويل الفعل الجهادي المدافع عن الوطن- الأرض ذات الثقل في مفهوم الوطنية- إلى فعل جليل يرتقي إلى مصاف المقدس الإلهي وهو أحد السبل الواجبة والمفروضة على المسلم.
الديني إذا يعلو ولا يعلى عليه، ومن ثم فهو أساس البناء النظري والسلوكي، وهو الذي يرسم المسار ويحدّد الأهداف، وكل ما يدخل في هذه السلسلة يُطوَّع بحيث يستجيب للمبدأ والغاية. حتى العروبة هي أيضًا “على منهج الله. وهذه نقطة جديرة بالاهتمام إذ هي تحدد السمات الأيديولوجية لمفهوم التحرر الوطني، والانتماء العربي وممارسته من جانب حماس”[27].
بعد هذه القراءة السريعة التي ابتغت رصد تقاطع القومي والوطني مع الديني أو تنافرهما في الفكر العقدي للحركة ذات المنابت الإسلامية، سننتقل لنتقصّى وجود حماس المعيش والممارس في الميادين الآتية: المجتمع، السياسة والمقاومة. وهذا التتبع يرتبط بالأسئلة الأساسية موضوع الدراسة، والتي قصدت التعرّف إلى حالة حماس الاجتماعية والشعبية: هل هي دخيلة أم متآلفة مع الكل المجتمعي الفلسطيني. وهل صدّعت حماس في الممارسة السياسية الهوية الوطنية الأوسع بما هي حركة إسلامية تغلب الديني على الوطني كما رأينا؟ وهل استمرارها في الفعل المقاوم هو إيصال للقضية الفلسطينية إلى مزيد من الانسداد والتعطيل؟ أم أنه أعادها إلى واجهة أهم قضايا العالم بعد أن كاد درب المفاوضات أن يفتتها من الداخل؟
حماس في الميدان: بين المجتمع والسياسة والمقاومة
بعد انحسار المد اليساري والاشتراكي في العالم العربي، وبعد النكسات المتتابعة وانهزام المشاريع القومية وهزال النماذج الاشتراكية في الحكم، عادت تيارات الصحوة الإسلامية لتشق دروبها إلى مجتمعات تدين أصلًا بالإسلام، عقيدة وثقافة، “بدت هزيمة حزيران كما لو أنها حسمت الجدل الفكري السياسي المتعلق بصلاحية الأفكار والتصورات والمفهومات القومية واليسارية التي كانت مطروحة على الساحة العربية، وتبلور في مقابل ذلك خطاب البدايات الإخوانية الذي صار يطرح شعار: الإسلام هو الحل”[28]. وفلسطين كمثيلاتها في العالم العربي عرفت انتعاشًا للاتجاهات الإسلامية بخاصة بعد تصاعد التطرف اليميني الصهيوني والتمادي في ممارساته المحرّضة على الفلسطينيين. وقبل خوض الحياة السياسية واقتحام معترك المقاومة، صوّبت حماس عملها نحو إيجاد ممارّ لها إلى الناس من خلال العمل الاجتماعي، والدعوي والتربوي، فراكمت ممارستها عبر خطط ممنهجة وبرامج مرحلية موجّهة برؤية هادفة لملء الفراغ الذي شغرته الأحزاب. في البداية، لم تحبّذ حماس الإخوانية دخول المجتمع الفلسطيني من باب السياسة وذلك للأسباب الآتية:
–فقدت الناس ثقتها بالبضاعة السياسية منتهية الصلاحية بخاصة بعد النكسات المتتالية، لذلك فضّلت حماس طرق باب آخر هو العمل الاجتماعي.
–إن تنحية حماس الانشغالات السياسية جانبًا، جنّبها تصنيفها كإسلام سياسي ذي مشروع يهدف للوصول إلى نفوذ ما، بخاصة أنّ م.ت.ف. كانت لمّا تزل تمثّل بالنسبة إلى لكثير من الفلسطينيين إطارًا وطنيًا جامعًا، ومظلة انتماء لهم. لذلك فإنّ مزاحمة المنظمة في الوجود السياسي بخاصة في تلك المرحلة لم يكن في صالح حماس.
–كان الفلسطينيون بحاجة بعد فترة صراع طويلة وصاخبة مع العدو، إلى من ينتبه لحاجاتهم ومتطلباتهم الأخرى غير تلك السياسية أو المتعلقة بحمل السلاح والمقاومة، فالفلسطيني يتعطش لوجود اجتماعي طبيعي، حيث العمل والتعليم والأسرة والنشاطات الجماعية أو الحياة الاجتماعية الاعتيادية التي يأنس إليها الناس في أي مجتمع بشري.
–إن اقتحام الميدان السياسي سيقود حتمًا إلى ميدان المقاومة، وحماس لم تكن جاهزة لخوض هذا الغمار، لا على مستوى القرار في القيادات الإخوانية، ولا من حيث التجهيزات والتنظيم وحيازة السلاح.
–من الواضح أن التخطيط المرحلي وإستراتيجية حماس ورؤيتها التراتبية، رمت إلى تأجيل التعاطي السياسي ريثما يجري العمل على التمهيد له من خلال توطيد الحضور الاجتماعي وتمتينه، فتدخل بذلك حماس مجال السياسة عبر قبول الناس بها، وبالطرق الشرعية والمشروعة والديمقراطية، تمامًا كما حصل في انتخابات عام 2006، حيث انبثقت حماس السياسية من قلب الشارع الفلسطيني، وتلبية لحاجاته ومترجمة لرؤاه وتطلعاته.
–ليست حماس المسلمة بغريبة أو دخيلة على المناخ الثقافي العام للمجتمع الفلسطيني المسلم بدوره في الأساس، حيث الإسلام بمنظومته القيمية والعقدية المألوفة جدا والمتمفصلة في بنية الكل الاجتماعي الفلسطيني، كما في المجتمعات العربية الأخرى. وأما التشدد والابتعاد من الاعتدال في عيش التصورات الإسلامية وممارستها، فهو وليد التشنج الهوياتي وانعكاس لرغبة في تثبيت هوية داخلية متمايزة عن فتح “العلمانية”، وهو أيضًا ردة فعل على التطرف اليميني الصهيوني، كما أنّ هذا النزوع نحو ممارسة إسلامية ضيقة وذات صبغة مختلفة عن أطياف المجتمع الفلسطيني بتسمياتهم كافة، هو تصليب لنفوذ حماس في حدود مناطق حكمها.
لن نستفيض في الحديث عن كيفية توغّل حماس في نسيج المجتمع الفلسطيني منذ ما قبل الثمانينيات (مع الإخوان المسلمين) تفاديًا لتكرار ما أتت على ذكره كتابات عدّة[29](بناء مساجد وتأدية دور تعبوي وتوجيهي، الانتقال إلى إقامة مؤسسات تربوية وصحية وتأهيلية، وتنظيم لجان، تنشئة كوادر شابة، وصولًا إلى الجامعة الإسلامية في غزّة…) وباختصار كان مؤدّى هذا التراكم من الجهد المركّز فوز حماس في انتخابات عام 2006. هذا الاستحقاق كان مفصليًا في المسار السياسي لحركة حماس وللقضية الفلسطينية عمومًا، إذ إنه آذن بمرحلة الانقسام والانفضاض عن الوحدة الوطنية، وإيصال مآل هذه القضية إلى مشكلة عالقة وجذرية، تتمثل بالخلاف بين فتح وحماس. كيف كان أداء حماس السياسي في الانتخابات وما بعدها؟ وعلى نحو أكثر تعيينًا هل أخلّت بالثوابت الوطنية؟ هل مارست مبدأ المشاركة السياسية التزامًا بالديمقراطية؟ أم أن هذه الأخيرة تتنافى بماهيتها وطبيعتها مع فصيل ديني إسلامي من المفترض أنه دوغمائي فئوي لا يبدي مرونة وقبولًا للأطراف الآخرين؟ هل حماس هي التي سببت بتفريق طريق الأخوة وتحوّلهم إلى أكثر من خصوم أي إلى أعداء؟
بالاستناد إلى ميثاق حماس وفي الباب الرابع المعنون “بموقفنا من”، تتضمّن المادتان الخامسة والعشرون والسادسة والعشرون نظرة حماس إلى “الحركات الوطنية على الساحة الفلسطينية”. والموقف يظهر انفتاحًا وقبولًا بالشريك الوطني شرط ألا يكون تابعًا للشيوعية أو للغرب الصليبي. وهو يشدّ من أزر كل جماعة تنشط في الساحة الفلسطينية بخاصة من أجل تحرير فلسطين، مقدمًا لها الدعم والعون كله في هذا المسعى، ويشدد الموقف صراحة على أنّ حماس “تجمع ولا تفرق، تصون ولا تبدد، توحد ولا تجزّئ…وتغلق الباب في وجه الخلافات الجانبية”[30].
وفي حين تنفر حماس من التيارات الشيوعية وتحظر التعامل معها، إلا أنها لا تخاصم منظمة التحرير الفلسطينية على الرغم من أن هذه الأخيرة “تبنت فكرة العلمانية” “المناقضة للفكرة الدينية مناقضة تامة” وهي واحدة من بقايا الغزو الفكري والاستعمار والتبشير، فالمنظمة أقرب المقربين إلى حركة المقاومة الإسلامية، ففيها الأب والأخ أو القريب أو الصديق…فوطننا واحد ومصيرنا واحد وعدونا مشترك… (والموقف من م.ت.ف.) هو موقف الابن من أبيه والأخ من أخيه…”[31]. طبعًا يظهر التناقض واللانسجام في موقف حماس المسايرة للمنظمة الأم ذات الصبغة العلمانية، مع أن هذه الأخيرة صنيعة غربية بحت!
ولا تبتعد الوثيقة المُجدّدة لهوية حماس عن وجهة الانفتاح التي ينهجها الميثاق التأسيسي. وفي الوثيقة مصطلحات ومفهومات تدل على “تجدد الوعي وتطوره في الفكر والأداء”. فنقع مثلًا على مفهوم “الشراكة الحقيقية بين الفلسطينيين بجميع انتماءاتهم”، وإدارة العلاقة معهم وفقًا “لقاعدة التعددية والخيار الديمقراطي والشراكة الوطنية وقبول الآخر واعتماد الحوار”، والإقرار بيّن بضرورة المحافظة على “الإطار الوطني للشعب الفلسطيني (أي م.ت.ف.)، و”إعادة بنائه على أسس ديمقراطية”. وتدل الوثيقة أيضًا على أهمية “المؤسسات والمرجعيات الوطنية على أسس ديمقراطية، وانتخابات نزيهة وحرة…”[32]. تتكرر كما هو ملاحظ مفردة ديمقراطية، ولافتة كثرة المفهومات التي تلمّح لنضوج في الفهم السياسي، وارتقاء به من مستوى الوطنية إلى المواطنة، التي تتقوّم بمبدأ المشاركة السياسية” و”احترام التعددية”.
فهل نقلت حماس ما خطّته في مواثيقها النظرية إلى الحياة السياسية العملية؟ وهل استطاعت أن توفق بين مرجعيتها الإسلامية والعمل في المؤسسات الديمقراطية؟
عبّدت حماس طريقها إلى السياسة عبر العطاء داخل المجتمع والالتحام مع ناسه، الأمر الذي منحها نوعًا من الاحتواء الاجتماعي الشعبي، أهلها لولوج الحقل السياسي. وليس بعيدًا من إصغائها لصوت الناس واستيعابها لحاجاتهم، فلقد شاركت حماس في انتخابات عام 2006 وفق عناوين شعبوية، ولكنها في الوقت نفسه تعكس رغبة المجتمع الفلسطيني في التغيير. ويذكر محمد نزال عضو المكتب السياسي أن حركته اتخذت قرارها لخوض الاستحقاق الانتخابي وفقًا للغايات الآتية: أولًا: “الإصلاح الوطني الشامل والحقيقي ومعالجة جوانب الفساد والخلل كافة. وثانيًا: استجابة لنبض شعبنا ورغبته وحرصه على مشاركة جميع القوى والفصائل في الحياة السياسية في الأراضي الفلسطينية”[33]. “فحماس شاركت في الانتخابات التشريعية 2005-2006، بشعار خدمة لقضايا الشعب الفلسطيني”[34]. أكانت هذه الدوافع إلى جعل الانتخابات واحة للعمل السياسي الوطني يساهم فيه جميع الفلسطينيين، خاصة بحماس وحدها أم أنها مطلب شعبي عام، فإن القصد هو الحد من تفرّد حركة فتح بالحكم واستئثارها به وبمفاصله. أوصل هذا الاحتكار ثلاثي الأبعاد؛ سلطة/منظمة التحرير الفلسطينية /تمثيل الشعب الفلسطيني إلى تكثيف استيلاء فتح على ما سمّي الشرعية الفلسطينية. هذه الشرعية الحائزة قبول الأطراف العربية بداية مع منظمة التحرير بعد تجميدها وتحويلها إلى هيكل محنّط، وتاليًا “سلطة الحكم الذاتي”، التي كانت بمنزلة البديل عن المنظمة ولكن بسيادة مشروطة ومراقبة ومقننة من “إسرائيل” والغرب. إن إطلاق يد فتح بعد التنازلات الجسيمة والمنقلبة على ماضي المنظمة والمتنكرة للحقوق الأساسية في القضية الفلسطينية، سوف يرسم المشهد السياسي الفلسطيني، لأن سلطة عرفات ومن بعده محمود عباس سوف تتحول إلى سلطة زبائنية وليس إلى سلطة تمارس فعلًا سياسيًا،”… جرت تصفية عنوان النظام السياسي السابق، ولم يبن بالمقابل نظامًا سياسيًا وطنيًا جديدًا بل زبائنيًا مثقلًا بالاتفاقيات ومعدوم السيادة يستمد شرعيته السياسية من المجتمع الدولي”[35].
سوف يؤثر هذا التحول في المشهد السياسي الفلسطيني برمّته، وفي الأداء السياسي للفرقاء السياسيين وبخاصة حماس. حمت هذه الأخيرة نفسها من سلوكات الاستئثار والتفرّد التي نهجتها السلطة، بكونها التزمت أصول العمل الديمقراطي، في طريقة ممارستها للانتخابات وفي تمسّكها بالدعوة إلى الانفتاح والشراكة ورفض المنهج الفئوي والعقلية المتنفذّة للسلطة. من هنا كانت مطالبتها الدائمة بإعادة ضخ الحياة داخل شرايين منظمة التحرير الفلسطينية لتستعيد دورها الوطني الحاوي للجميع. وفي هذا السياق يصرّح أسامة حمدان قائلًا: “إن حركة حماس ليست سلطة داخل السلطة، ولا هي في مواجهتها ولا هي فوق القانون، ولا تنازع أحدًا في ذلك. ولكن وفي الوقت نفسه، لا بد من مرجعية وطنية للقرار الفلسطيني يشارك فيها الجميع، ومن هنا أكّدنا ضرورة إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية وتفعيلها على أسس سياسية تنظيمية”[36]. بالمقابل انقلب محمود عباس على الاتفاقيات كافة و”سعى لتعطيل وتهميش وتفكيك مؤسسات منظمة التحرير، كتعطيله مثلًا لقرار مؤتمر الحوار الفلسطيني الذي عقد في القاهرة في آذار مارس 2005، والذي قضى بدعوة اللجان الوطنية العليا للاجتماع لوضع الإجراءات الضرورية لتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها” كما أنه “أخل بمبدأ فصل السلطات عندما دعا إلى انتخابات تشريعية مبكرة”[37]. لقد سعى عرفات ومن بعده عباس للتضييق على حماس المتبنية موقف الرافض قطعًا لأوسلو ومفرزاتها، وعدّت السلطة أن مشاركة حماس في الانتخابات هو تقليص وتحجيم لأنصار أوسلو.
وبحسب المنطق السلطوي المستفرد بالقرار، كان يجب على المعارضين أن يدفعوا أثمان تموضعهم المناوئ لما يصدر عنها من قرارات، وهذه الأثمان الكيدية والتعسفية دفعت فتح إلى “نكوص عن التسليم بنتائج الديمقراطية وتطبيق مبدأ التداول السلمي للسلطة، إذ إن موقف فتح وقيادة السلطة الفلسطينية المتماهي مع الموقف الدولي والمعطل لسير عمل الحكومة الفلسطينية العاشرة والحادية عشرة بقيادة حماس، كان تعديًا على حق المشاركة السياسية وإلغاء للمنافسة الديمقراطية، ما يعني تحول العلاقة بين الحركات والأحزاب من علاقة تنافسية بأدوات مشروعة إلى معركة وجود، الأمر الذي يترتب عنه استخدام القوة كما حصل مع حركة حماس التي وجدت نفسها مضطرة إلى استخدام القوة في قطاع غزة في ظل محاولة استئصال وجودها…”[38].
يختصر هذا الاقتباس مدى تمادي أداء فتح بقيادة عباس بمنطق الهيمنة، وبطعنها لمفهوم الديمقراطية وعدم قبولها لوجود منافس سياسي يعارض قرارات تمس قضية الشعب الفلسطيني برمّته. ولم يكتف عباس بالدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة للتخلص من وجود حماس في الحكم، بل طالب بنشر قوات دولية في قطاع غزة حصرًا وليس الأمر نفسه في الضفة، وأقال عباس هنية من منصبه في الحكومة ودعا إلى إعلان تشكيل حكومة طوارئ، بل إنّ معاريف نقلت عنه قوله: “لن أسمح لحماس بموطئ قدم في العالم من خلال إنجازات مجلس الأمن” ولم يتوانَ عن دفع قطاع غزة إلى أزمة إنسانية حقيقة لإلقاء الذنب على حماس. هذا النهج الإقصائي والذي لم يجد حرجًا بالتحامل على فصيل فلسطيني آخر، مستعينًا بالصهيوني وبغيره لمحاصرته كما فعل مع مقاومي حماس، هو الذي دفع الوضع السياسي الفلسطيني نحو التفسّخ والشرذمة والعرقلة. لم تكن أوسلو فقط هي محط افتراق فتح وحماس، حتى عند دخول هذه الأخيرة المجلس التشريعي إلا أنها لم تُعدّ أنها معنية بما نتج من أوسلو من تسويات، وبخاصة بعد انتفاضة الأقصى وإصرارها على التمسك بخيار المقاومة. فتح كانت قد دخلت بما هو أكثر من تسوية، إنه قطعًا الإجهاز وإزهاق جميع القضايا التي تحدد هوية الشعب الفلسطيني وتحافظ على دعائم قضيته. ولا يقتصر الأمر فقط على إعدام ثقافة المقاومة ومسحها تمامًا من تاريخ الفلسطينيين ومستقبلهم، وإنما أيضًا ممارسة السلطة التفتيتية والاستنسابية والفئوية والإقصائية. هذا التخطيط المقصود والمدروس والممنهج بدأ منذ شل المنظمة ذات الرمزية الوطنية الجامعة، والتي مثّلت هوية انتماء وارتباطًا بالوطن والأرض. إن تهشيم المكانة المعنوية للمنظمة، وإفساد دورها على المدى البعيد، سمح بتكوّن هويات بديلة تحت وطنية، عمل عباس وقبله عرفات على إنعاشها بهدف جعلها مستتبعة للسلطة التي لم تكرس إلا الإلحاق والتبعية والمحاصصة والعشائرية؛ تكوين هويات مناطقية ودينية وتغييب معيار “الكفاءة والتوجه الوطني، الأمر الذي غيّب النزعة الوطنية وغلّب الفئوية”[39].
ولكنّ حماس تتمتع بحصانة ضد التمييع الهوياتي لأنها تتوسل التربية الدينية والتحشيد العقائدي المتملك من عقول أبنائها ونفوس المنتمين إليها، ما جعلهم يمتلكون هويّة خاصة تمايزوا بها “عن غيرهم من أبناء الحركات الأخرى، ولكن تلك الهوية حُملت طوعًا لا كرهًا، والأهم أنها لم تتناقض مع الهوية الوطنية، بل بقيت القواسم المشتركة موجودة”…وأكثر من ذلك، فإن رفض سقوف أوسلو قولًا وفعلًا من خلال الاستمرار بالمقاومة، وضع حماس في موقع المواجهة الأول التي حجّمت “قدرة السلطة على الاستمرار بالنهج نفسه، ومثّلت خطًا دفاعيًا عن مكونات الهوية الفلسطينية…على الرغم من اعتزازها بهويتها الإسلامية”[40]. إذًا فليس بالضرورة أن تصير الهوية الدينية عاملًا تفتيتيًا، فهي تحمّل هذه الوظيفة بحسب الاستخدام السياسي لها، وحماس لم تستثمر الدين لتفرّق ناسها الحمساويين عن إخوتهم الفلسطينيين، فخطابها بقي يلتزم مبدأ التراص الوطني، بل تراجعت المدلولات الدينية فيه، إفساحًا في المجال للمفردات والمصطلحات الجامعة والمصلحة بخاصة في الوثيقة الجديدة، “يمكن ببساطة ملاحظة حجم المسافة التي قطعتها حركة حماس في تبنيها لخطاب سياسي يتراجع فيه أكثر فأكثر المضمون الديني، فببساطة هناك فرق يمكن ملاحظته بين الخطاب المعلن الحالي، والخطاب الذي أثبته الميثاق الحمساوي وما زال قائمًا”[41].
قصد هذا العرض التحليلي السريع إلى لحظ التحولات السياسية المؤثرة سلبًا في الوحدة الوطنية، وإرساء حالة الانقسام الكبير الذي طال جوهر القضية الفلسطينية لأنه مسّ الصميم فيها، وهي الهوية فضعضع ثوابتها. كما أنه أوصل الحياة السياسية الفلسطينية التي هي بحاجة إلى الالتقاء والاتفاق والاتحاد إلى ضحالة عقيمة وانسداد لا أفق له. ولكن ليست حماس التي أُحرجت فأخرجت هي التي تنكّرت للديمقراطية أو أنها حالت دون جعل المجال السياسي الفلسطيني يمتد ليتسع للأفرقاء الفلسطينيين كافة، بل إنّ حماس كانت بأمس الحاجة لامتطاء السبل الديمقراطية تحقيقًا لغاية وصولها إلى الحكم. وكذلك فإنّ حماس لم تُبدِ في خطابها ولا في سلوكها عدم وعي بأهمية الحفاظ على الهوية الفلسطينية متراصة ومتماسكة وملتفة حول ثوابتها وأهمها الوحدة الوطنية، لكن فتح كسلطة طعنت فأصمت قلب الهوية الفلسطينية وعاثت فيها تفريقًا وتشتيتًا وتشويهًا، فبعد أن عدّت أنها قوّضت الثوابت وقضت على المقاومة ونكّلت بمجموعاتها وأفرادها وتآمرت مع الصهيوني ضدهم، وأغلقت إلى الأبد ملف حق العودة وحقوق الأسرى في السجون، انكفأت إلى الداخل إلى نسيج المجتمع الفلسطيني تفككه خيطًا خيطًا، لتحول القضية من مستوى الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، بعد أن كان عربيًا- إسرائيليًا، إلى اقتتال فلسطيني- فلسطيني. فليس بروز حماس الإسلامية في المشهد الفلسطيني عمومًا هو من مهد لتفريع الهويات الدينية وتفريخها. وبحسب إحدى الدراسات تبيّن أن “مرحلة ما بعد تأسيس السلطة الفلسطينية كانت بيئة خصبة لتراجع الانتماء إلى الهوية الوطنية، وتنامي الانتماء إلى الهوية الدينية، ففي عام 2006 اتضح أن 43 في المئة من عينة الدراسة عدّوا هويتهم الرئيسة هي الهوية الدينية؛ مسيحيين أكانوا أم مسلمين، في حين لم تتجاوز هذه النسبة 16.5 في المئة عام 1994”[42]. فما فكك الوحدة الوطنية هو اتفاق أوسلو الذي نسف أهم نقطة إجماع لدى الفلسطينيين، لتكر بعده سبحة التفكيك بسبب أداء السلطة الذي تقصّد أن يباعد بين الفلسطينيين عملًا بمقولة فرّق تسد.
وإنّ كانت مسألة عدم انجرار حماس إلى التخندق في هوية تحت وطنية دينية فصائلية تضعف الهوية الوطنية غير مقنعة للبعض، أضف إلى عدّ آخرين أن حركة المقاومة الإسلامية وقعت في فخ أوسلو، فإنّ الكلمة الفصل في هذه الآراء هي الوقائع التي تدحضها أو تثبتها. والوقائع هنا صارخة بيّنة بنفسها تنجلي في ميدان المقاومة منذ انتفاضة الأقصى إلى طوفان الأقصى. وقبل أن نشير سريعًا إلى موقف حماس الملتزم في خطب سياسييها والأفعال البطولية في الميدان، لا بدّ من طرح السؤال: هل المقاومة ومواجهة العدو الصهيوني هما من أصول الهوية الفلسطينية وأحد أهم أعمدتها؟
حتى قبيل اتفاق أوسلو الانقلابي على تاريخ القضية الفلسطينية، كانت هذه الأخيرة تتغذّى على المقاومة وتستمر بها. ولقد انخرطت جميع الفصائل الفلسطينية في الفعل المقاوم الذي باركته منظمة التحرير وحمته وحصنته بالشرعية والإجماع الوطني حوله، وفق شعار “التحرير طريق الوحدة”. ولا شك أن القضية استمدت وهجها من عمليات المقاومة البطولية، حيث انتزعت تعاطف العرب معها فالتفوا حولها، كما أنها حازت اعتراف العالم بشرعية حقوقها الأساسية. واستطاعت م.ت.ف. التعويض عن غياب الوطن الجغرافي بقرار ملتزم بالكفاح المسلح، فظفرت بامتياز وجدارة بالصفة التمثيلية للشرائح الفلسطينية وعززت بذلك الهوية الفلسطينية الوطنية، “كان الكفاح المسلح من أهم العناصر التي ساهمت…في تأكيد الهوية الفلسطينية…وأصبحت ممارسة الكفاح المسلح في عام 1965 تعبيرًا عن إعادة تأكيد الوجود الفلسطيني وإرادته الذاتية (وأصبح) الفلسطيني ذلك الفدائي المقاوم والمبدع، الرافض واقع اللجوء والهزيمة…وبذلك تكاملت هوية الفلسطيني النابعة من تجربته في اللجوء والمنفى، مع هويته التابعة من تجربته النضالية المقاومة…وبذلك ما عاد الفلسطيني ينتمي إلى أرض وشعب وتاريخ فحسب، بل أيضًا إلى تجربة مميزة لم يعشها غيره من الشعوب”[43]. فالمقاومة تثبت وجود الأرض وضرورة استعادتها، وهي أيضًا فعل تحرري متمرد على قسريات الحصار وذله، وهي استماتة واستشهاد للانغماس في الهوية والانتماء للوطن. والتخلي عن المقاومة يعني التنكر للتاريخ والجغرافيا والثقافة والدين ومن ثم للذات الفردية والجمعية. والارتداد عن هذه المقومات لماهية الوطن والهوية، هو المؤدي إلى التقهقر في الهزيمة والانكسار والخسارة. وحماس وعت أن استرداد الأرض لا يكون إلا بقوة السلاح، ويصرّح محمد نزال عضو المكتب السياسي قائلًا:” إن المقاومة بأشكالها كافة وعلى رأسها المقاومة المسلحة ستبقى مستمرة”[44]، ليس لأن حماس فقط تريد ذلك، بل لأن الفلسطينيين لن يتخلوا عن المقاومة كوسيلة لتحرير وطنهم، ارتكازًا على هذه القناعة، التف الشعب حول حماس. وفي هذا السياق يقول خالد مشعل في صحيفة البيان: “الشعب الفلسطيني يختار حماس لأن مشروعها هو مشروع المقاومة، ولأن الحركة أعطت المقاومة بعدًا حقيقيًا… فالمقاومة إضافة للمقاومة المسلحة هي عمل إنساني واجتماعي وإغاثة وبناء وعطاء وتضحية وتنمية، فأعطت وجوه الحياة كلها بعدًا مقاومًا ضد المشروع الصهيوني”[45].
تُرجمت هذه الأقوال إلى أعمال بخاصة في الانتفاضة الثانية أو انتفاضة الأقصى في 2000، حيث حسمت حماس قرارها في إعادة دفع خيار المقاومة إلى الواجهة ليكون مقترنًا مع المشروع السياسي. ولقد قدّمت هذه الانتفاضة التي نوّعت فيها حماس من عملياتها وبخاصة الاستشهادية منها، إنجازات كبيرة أهمها إرواء رغبة الشارع الفلسطيني الذي صار أكثر قربًا من حماس. إضافة إلى هذا المكسب الشعبي، ضخت الانتفاضة مياهًا حركت سكون القضية الفلسطينية التي كانت قد بدأت تتلوث في مستنقع المفاوضات والتسوية الذي انحدر إليه فتحاويو السلطة. لا بل إن الانتفاضة أثبتت هزال هذا الموقع المنهزم الذي جرّت سلطة الحكم الذاتي الشعب الفلسطيني إليه، فأعادت مقاومة حماس في الانتفاضة الثانية إقامة الجدار النفسي وبناءه بين الكيان المحتل والفلسطينيين الذين نفضوا عنهم غبار الاستكانة والاستسلام. و”مع تصاعد مشاركة حماس في حوادث الانتفاضة، ومع تقديم أبنائها وقادتها شهداء، ارتفعت شعبية الحركة على نحو كبير، وزادت العضوية فيها، الأمر الذي انعكس في نتائج انتخابات 2005- 2006″[46]. في المقابل أنهت فتح بالتعاون مع الإسرائيلي وجود حماس المقاوم في الضفة بعد أن ضيّقت على المقاومين وطاردتهم واعتقلتهم وملأت بهم السجون أو سلّمتهم للاحتلال. ومع نهاية عام 2002 نجحت سلطة محمود عباس بتشظية الجهاز المركزي لمقاومة حماس التي حوّلت عملها إلى مجموعات محلية عسكرية أبقت جذوة الصراع متقدة أكان ذلك بمبادرة ذاتية أم بقرار مركزي.
وصولًا إلى طوفان الأقصى حيث حماس وحدها تواجه شراسة العدو وآلته الحربية المتطورة، فتتصدى له من نقطة صفر، في حين أنّ هذا الصفر هو علامة تستحقها سلطة العار الفلسطينية التي تنتظر بالتأكيد مسح إسرائيل لحماس من الوجود. ومهما يكن من إجرام يتخطى العقل والطبيعة ويندى له جبين الإنسانية، ومهما يكن التشكيك الانهزامي بجدوى المقاومة، ومهما يكن ما سيأتي بعد الطوفان، لكن الأكيد أن 7 تشرين الثاني/ أكتوبر أعاد إحياء القضية الفلسطينية في قلب العالم الذي لن ينجح في إدارة ظهره لها.
خلاصة
نعم بالتأكيد يتسم خطاب حماس بالتناقض، وبالبراغماتية أو بالازدواجية، فهي تارة تتمسك بتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وتارة تقبل بمشروع الدولة الفلسطينية بحدود 1967. وهي تارة ترفض أوسلو رفضًا قاطعًا وتارة تساير وتهادن. ولكنّ المواربة هي نتيجة الضرورات والقيود والحصار الكاتم للحياة، والتضييق السياسي وغيرها من حيثيات معقدة تدفع حماس لإيجاد أسلوب للمشي بين الألغام، ألغام الأخوة في الوطن وفي العروبة، وألغام العدو.
مهما كان موقفنا من حماس، فإن تقويمها كحركة فلسطينية منبثة في المجتمع الفلسطيني، وفاعلة في ميدان المقاومة، حيث تقول كلمتها بالدم والسلاح، يقتضي منا تقديم محاكمة عقلية موضوعية تنجّينا من الأفكار والمواقف المسبقة المتسللة إلينا من انتماءاتنا الفكرية أو الحزبية. فالتعميمات في إطلاق الأحكام حول حماس أو حول الوضع الفلسطيني برمّته يجب أن يعاد إخضاعها للنقد، للاسترشاد بالتحليل العقلاني المستند إلى محاولة معرفة الواقع الفلسطيني شديد التعقيد. وليس بالضرورة أن تخرجنا عملية التنقية الأيديولوجية من قناعاتنا، لكنها تحول دون تحويل ما نعتقده إلى خنادق وجبهات ومتاريس تمامًا كما هو حال الفصائل الفلسطينية. وأول ما يجب إعادة مراجعته هو المصطلحات والمفردات ونفض المفهومات، هل حماس “إرهابية”؟ هل هي حركة دينية سلفية متشددة؟ ما هو الحد الفاصل بين الإرهاب والمقاومة؟ من يعرّف الواقع ويوصّفه ويسقط عليه المصطلحات؟ حماس لم تنكر كونها تنتمي إلى تيار إسلامي سلفي واسع وممتد في العالم العربي- ولها الحق- في تأصيل نفسها وعقيدتها في التاريخ والفكر الإسلاميين، ولكنها على الرغم من انقلابها إلى الماضي وعلى الرغم من سقوفها الفكرية والعقائدية المحدودة بشريعة ماضوية تعمل على إحيائها قسرًا وتحيينها وتحويلها إلى طريقة للتفكير والحياة- وهذا مكمن الانسداد والعقم- إلا أنها كانت أقرب إلى ناس مجتمعها من غيرها من أحزاب، بخاصة تلك التي ادعت وتدعي أنها صوت الفقراء، وملاذ الطبقات الكادحة والمظلومة. حماس وجدت لها حاضنة اجتماعية واسعة ليس فقط بسبب عملها الدؤوب لتشق لنفسها قنوات تمتّن وجودها الاجتماعي، وإنما لأنّ الإسلام هو عنصر أساسي وبنيوي متمفصل في ثقافة أهل فلسطين كما المجتمعات العربية الأخرى كافة. وحماس هي التي نفخت روحًا في المقاومة التي طعنها “العلمانيون”، منذ انتفاضة الأقصى إلى طوفان الأقصى، وأوجعت الإسرائيلي وأحيت القضية الفلسطينية، وضخت فيها مياه الاستمرار، وأعادتها إلى الطريق القويم بعد أن حرفتها عنه ثقافة التخاذل والتفاوض والتنسيق والعمالة والتآمر على الأخوة.
كما أنّ مقاومة حماس فضحت زيف التطبيع وعرّت أهدافه الواهية، فالتطبيع الذي ينظّف أيدي الصهاينة من دم عمره 75 عامًا هو تآمر وتزوير وتضليل وخداع للتاريخ وتشويه لحقائق القيم.
ربما يقول البعض إننا نتحدث بلغة خشبية وإنه آن الأوان لواقعية الأمر الواقع كي تفرز لغة مسايرة ومتكيفة مع كون “إسرائيل” كيانًا شرعيًا وطبيعيًا يجب القبول به، وأنّ جيلًا ناشئًا من الصهاينة لا شأن لهم بالصراع الدائر. ولكننا نسأل الممتعضين من اللغة المتصلّبة: وما ذنب أطفال فلسطين؟ إلى متى يقتلون ويبادون ويجوّعون وييتّمون وتبتر أعضاؤهم وينكّل بطفولتهم؟ إلى متى يجري التعامل معنا كحيوانات بشرية من جانب إسرائيل والغرب كله الذي وقف في خندقها صفًا مرصوصًا مشاركًا جهارًا نهارًا في المذبحة؟ إلى متى يستمر نهج التهجير والإبادة والفصل العنصري؟ إلى متى يعاملنا الغرب الداعم لإسرائيل كونها امتداده الاستعماري في بلادنا، كقمامة يجب التخلّص منها؟ إلى أن نجد إجابة عن هذه الأسئلة، إلى أن يشفى الغرب بقادته السياسيين وحتى فلاسفته من فصام الحداثة، إلى أن ينقّي الفكر الغربي حداثته المزعومة من قمامة التعالي والتفوق، سيبقى الخشب والحديد والنار والبارود لغتنا وأسلوبنا في مواجهة عدو الإنسان، مها كانت هوية المقاومة، أكانت حماس أم غيرها، إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا، إلى ذلك الحين، لن ننسى، لن نطبّع، لن نعتاد، وسنبقى نقاوم بالسلاح، بالمقاطعة وبرفض التطبيع، وسنربي أجيالنا على العداء للكيان الصهيوني.