المرجعيات الأيديولوجية لمشروعات السلام في فلسطين قراءة نقدية في خطاب حنّة أرندت السياسي

ملخص

تتناول هذه الدراسة بالتحليل والنقد طبيعة وماهية مشروعات السلام في الفكر الفلسفي، مع التركيز على قضية فلسطين على وجه الخصوص ضمن أطروحات الفلاسفة في هذه المشروعات. وقد اخترنا حنة أرندت كنموذج كاشف لهذه المشروعات ضمن إطار الفكر الغربي المعاصر. وتنطلق الدراسة في اتجاه محاولة كشف النقاب عن المرجعيات الأساسية المحركة لمشروعات السلام هذه، وهي مرجعيات تتشابك وتتقاطع وتتداخل معًا، وتؤسس نفسها لتصبح سلطة للقمع، وتكريس السيادة وإضفاء طابع المشروعية للهيمنة من طرف واحد تدعمه لتخفي من خلالها الأيديولوجيا المتحكمة فيها. وفي ضوء هذه المرجعيات الأيديولوجية، تحاول الدراسة البرهنة على أن معظم أطروحات فلاسفة الغرب في هذه المشروعات لم تأتِ في ضوء تعاملهم مع الصراع الدائر في فلسطين على أنه قضية عادلة لتحرير شعب مظلوم وإنما جاء بنظرة أيديولوجية قمعية.

كلمات مفتاحية: السلام- العدل- الصَهيونية- أرندت- الحرب- فلسطين.

مقدمة

لا شك أن الفلسفة منذ نشأتها ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بقيم السلام العالمي، بما في ذلك تناولها لماهية الفرص والتحديات التي تواجه قيام السلام بين الشعوب، ومع الفلسفة الرواقية (في بدايات القرن الثالث قبل الميلاد) ظهرت الدعوة إلى السلام الداخلي للفرد ومن ثَمَّ الدعوة إلى تأسيس مدينة عالمية قوامها الوحدة والعدالة والتسامح والمساواة بين الشعوب. ومن هذا المنطلق، مثلت قضية السلام العالمي أهمية كبرى على مدى تاريخ الفكر الفلسفي، وقد بدت هذه الأهمية بوضوح في القرن العشرين- على وجه الخصوص- لما كان يموج به من حروب عالمية وصراعات مرة بجميع أشكالها، وهي ظواهر لم يشهد لها العالم المعاصر مثيلًا من قبل، أما الآن وفي ظل الحرب الدامية للكيان الصهيوني على فلسطين وأهل غزة فإن هذه القضية تتزايد أهميتها على نحو مضاعف.

ومن الناحية التاريخية اهتم الفلاسفة بقضايا السلام العالمي. وفي العصر الحديث نجد «جون لوك» (John Locke)‏ (1632-1704) و«فولتير» (Voltaire) (1694-1778)، على سبيل المثال، بدعوتهما إلى المساواة والتسامح والعدالة بين الأفراد من ناحية والشعوب من ناحية أخرى. ونجد كذلك «كانط» (Immanuel Kant)) (1724-1804) بتركيزه على قضايا الحروب في كتابه «مشروع للسلام الدائم» (1795م) وهو مشروع يقوم على أساس تحكيم العقل في الصراعات والحروب، واضعًا في هذا الكتاب مشروعًا للسلام يجب أن تلتزم به حكومات الدول جميعًا، وواصفًا المواد والبنود التمهيدية التي تُعدُّ جزءًا لا يتجزأ من الخطوات التي يجب اتخاذها على نحو آني للحد من الحروب وإنهائها. وفي الحقيقة يُعدُّ كانط من أهم الفلاسفة الذين أكدوا ضرورة التزام الدول بالمعقولية والتأني قبل شن الحرب، وأن تكون العدالة هي محور اهتمام الدول عند شنها الحرب وكذلك إدارتها، وإلا لن تكون حربها مشروعة بأي حال من الأحول.

أما في القرن العشرين فنتقابل مع بعض دعاة السلام الحقيقيين في الفكر الغربي ومنهم: «برتراند راسل» (Bertrand Russell) (1882-1970) بدعوته إلى ضرورة الالتزام بقيم السلام العالمي، وتنديده للحروب المعاصرة ومنها حرب الولايات المتحدة في فيتنام وهو ما دفعه مع مجموعة من الفلاسفة إلى تشكيل ما يُعرف باسم «محكمة راسل» لمحاكمة مجرمي الحرب. وكذلك نجد «ولتر ستيس» (Walter T. Stace) (1886-1967) بنقده للعقيدة الصَهيونية في مقالته المهمة «الوهم الصهيوني» (Zionist Illusion) التي نشرها عام 1947 (أي قبل تأسيس دولة الكيان الصهيوني في فلسطين بعام واحد فقط). وقد استطاع ستيس أن يكشف بما لا يدع مجالًا للشك عن الأطماع الغربية في فلسطين، ويفند فكرة الوهم الصهيوني بطمس الصَهيونية للحقيقة التاريخية لفلسطين.

وفي ضوء هذه الإطلالة على بعض ملامح مشروعات السلام في الفكر الغربي، نلاحظ أنه على مدار الحقب المختلفة لتاريخ الفكر الفلسفي اهتمت الفلسفة بقوة بهذا التساؤل والمتمثل في: هل من سبيل لتحقيق السلام بين الشعوب ووجود ضمانات حاسمة في ظل عالم مليء بتحديات جمة؟ وفي ظل التحديات ذاتها التي تعيشها المجتمعات المعاصرة بصورها شتى، كيف يمكن أن نطرح سؤال السلام ونَعدّه سؤالًا واقعيًا يمكن أن تسير عليه سياسات الدول وتلتزم به؟ لقد شهد القرن العشرون كما شهد القرن الواحد والعشرون فلاسفة كبار انطلقوا لتأسيس مشروعات السلام العالمي، وقد ركّز بعضهم على ما حدث ويحدث الآن في فلسطين منذ قيام الكيان الصهيوني عام 1948 وانتهاكاته المستمرة لجميع القيم والأعراف والتقاليد والقوانين الدولية. ومن هنا نزع هؤلاء الفلاسفة إلى تناول (قيم السلام العالمي الغائبة) هذه في محاولة لتحليل أسبابها واقتراح الحلول لها. لكن المفارقة تكمن في أن المدقق في بعض مشروعاتهم للسلام التي طرحوها يجد أنها ترتكز على أسس ومرجعيات تنبثق منها أنظمة تحاول أن تؤسس لنفسها لتصبح سلطة للقمع، وتكريس السيادة وإضفاء طابع المشروعية للهيمنة من طرف واحد تدعمه لتخفي من خلالها الأيديولوجيا المتحكمة فيها، خاصة عندما يتعلق الحديث بقضية الصراع العربي الإسرائيلي التي مثلت المحور النابض في هذه المشروعات.

وهكذا تأتي هذه الدراسة للكشف عن المرجعيات الأيديولوجية لمشروعات السلام في فلسطين. ونعني بالمرجعيات الأيديولوجية تلك العقيدة المحركة لمشروعات السلام في الفكر الغربي، وسنقصر نقاشنا هنا على «حنة أرندت» (Hannah Arendt) (1906-1975)، كمحاولة للكشف عن الأبعاد المخفية في خطابها السياسي حول قضية فلسطين، وذلك بما يؤكد من ضرورة إعادة قراءة فلسفات بعض المفكرين المعاصرين في ضوء السياق السياسي والتاريخي لظهورها، ومن بين هؤلاء الفلاسفة أيضًا: «ياسبرز» (Karl Theodor Jaspers) (1883-1969)، و«هيدجر» (Martin Heidegger) (1889-1976) بآرائهما الفلسفية المؤسِّسة والمبرِّرة للأيديولوجية النازية. وكذلك الأمر بالنسبة إلى «فيتغنشتاين» (Ludwig Wittgenstein) (1889-1951) على الرغم من نقده لليهودية والصَهيونية معًا، و«ليو شتراوس» (Leo Strauss) (1899-1973) بآرائه المؤسّسة للعقيدة الصَهيونية، و«جان بول سارتر» (Jean-Paul Sartre) (1905-1980) بآرائه المباركة لقيام دولة الكيان الصهيوني والمؤيدة لإسرائيل والمباركة للعقيدة الصَهيونية على حساب القضية الفلسطينية العادلة.

أهمية الدراسة

تأتي أهمية هذه الدراسة من كونها محاولة لكشف النقاب عن المرجعيات الأساسية المحركة لمشروعات السلام في فلسطين في الفكر الغربي المعاصر، هي مرجعيات تتشابك وتتقاطع وتتداخل معًا لتؤسس لما نسميه بالمرجعيات الأيديولوجية، في محاولة للبرهنة على أن تعامل هؤلاء الفلاسفة مع الصراع الدائر في فلسطين لم ينطلق من النظر إليه كقضية عادلة لتحررِ شعبٍ مظلوم وإنما جاء بنظرة أيديولوجية قمعية. وعليه؛ فإن دراسة قضية السلام في الفكر الفلسفي المعاصر بصفة عامة، ومدى انطباقها في فلسطين بصفة خاصة، تُعَدُّ ذات أهمية من جوانب عديدة ستتضح بعضها لاحقًا.

منهج الدراسة، وإشكاليتها

نتيجة لهذا، ولأسبابٍ أخرى كثيرة ستتضح في ثَنَايا هذه الدراسة، يصبح البحث في موضوع السلام العالمي بصفة عامة، وقضية فلسطين بصفة خاصة، مطلبًا ضروريًا ومُجديًا إلى حدٍّ كبير. وسنستخدم في هذه الدراسة بعض مناهج البحث كالمنهج التحليلي، والمنهج النقدي، في الوقوف على أبعاد الخطاب السياسي عند أرندت في ما يتعلق بقضية فلسطين، قبل وبعد تأسيس دولة إسرائيل، وقراءة هذا الخطاب خلال السياق التاريخي والسياسي؛ بحيث يمكننا أن نتتبع تشكُّله، كمحاولة لفهم مساره وتعقيداته ومحركه، وبحيث يمكننا أن نقرأ نصوصها السياسية في ضوء اللحظة التاريخية التي انبثقت فيها وعبر سياقها المُنْتِج لها وكذا في ضوء العوامل السياسية والتاريخية المُشَكِّلة لها والمُؤثِّرة فيها، وبحيث نستطيع أخيرًا أن ندللَ على أن خطابها للسلام تكمن وراءه أهداف عنصرية بالدرجة الأولى.

ولهذا، فإننا نسعى من وراء هذه الدراسة، من خلال منهج هرمينوطيقي، للإجابة عن مجموعة من التساؤلات التي تدور في ذهن أيّ قارئ معاصر تشغل تفكيره طبيعة السياسة، ومَكْنُوناتُها، ومَآلُها. لكنْ إشكاليةُ الدراسةِ الرئيسية تكمن في محاولة الإجابة عن هذا التساؤل: ما طبيعة المرجعيات الأساسية التي انطلقت منها أرندت في طرحها لمشروع السلام وهي بصدد تناولها لقضية فلسطين على وجه الخصوص؟ ويتفرع عن هذا التساؤل الرئيسي مجموعة من التساؤلات المرتبطة به، والتي تحاول أن تقف على طبيعة بعض الإشكاليات الأخرى الوثيقة الصلة بموضوع السلام العالمي بصفة عامة، وقضية فلسطين بصفة خاصة.

تقسيم الدراسة

للإجابة عن هذا التساؤل وغيره من التساؤلات الأخرى المرتبطة به، رأينا أن نُقسم هذه الدراسة إلى ثلاثة محاور أساسية على النحو الآتي:

المحور الأول: الدلالات المعرفية والتاريخية لمشروع السلام في فلسطين.

المحور الثاني: الصراع العربي الإسرائيلي في ضوء الأبعاد الأساسية لصَهيونيّة أرندت.

المحور الثالث: الخطاب الصَهيوني المراوغ لأرندت.

وبعد هذه الإطلالة على موضوع الدراسة، وإشكاليتها، ومنهجها، وهدفها، فإن التساؤل الذي يطرح نفسه: ماذا عن المرجعيات الأيديولوجية لخطاب السلام في فكر أرندت السياسي؟ وما العوامل التي أثرت في تشكيل هذا الخطاب؟ إن الإجابة عن هذين التساؤلين تمثل محور مناقشتنا في المحور الأول.

المحور الأول: الدلالات المعرفية والتاريخية لمشروع السلام في فلسطين

لا تنفصل دلالات الخطاب السياسي عن ظروف العصر الذي ظهر فيه، رفضًا أو قبولًا، تبريرًا أو تغييرًا، وكذلك فإنها لا تنفصل عن السياق المُنْتِج له والمُؤثِّر فيه، وعلى وجه الخصوص عن الإطار الاجتماعي الذي تَخَلَّق فيه. ويقترن الخطاب بالذات المُفكِّرة التي أنتجته؛ الأمر الذي يجعله ذا طابع مُعقّد ومتشابك، وتحكمه متغيرات وعوامل عِدَّة. ومن هذا المنطلق، فإن مواقف الفلاسفة من قضية السلام العالمي بصفة عامة، وقضية فلسطين بصفة خاصة، لا تنفصل عن ظروف عصرهم، وتُعَدُّ سيرة حياتهم، بشكل أو بآخر، تجسيدًا لأهم معالم وخصائص خطابهم السياسي. ولكننا لن نطوف- هنا- في تفاصيل حياة أرندت، وعلاقة ذلك بتطور خطابها السياسي، وإنما هدفنا الأساسي سَبْرٌ أغوارَ هذا الخطاب لفَهْم مكنوناته، والكشف عن أثر بعض العوامل الأخرى في مسار تشكُّله، وتغيير بعض مواقفها السياسية في بعض الفترات التاريخية.

(أ) مسار العلاقة بين حياة أرندت وخطابها السياسي

وُلدت أرندت عام 1906، في بلدة «ليندن» التي تُعَدُّ جزءًا من ولاية هانوفر- بألمانيا، من عائلة ذات أصول يهودية مندمجة في المجتمع الألماني. وفي خضم التطورات التي أدت إلى وصول النازية إلى السلطة في ألمانيا في يناير 1933، وخلال تطهير ألمانيا من اليهود، والشيوعيين، ألقى الجستابو (جهاز البوليس السري الألماني) القبض على أرندت في أغسطس 1933، بوصفها يهودية تمارس نشاطًا يناهض سياسات الدولة الألمانية. لكنها تمكنت بأعجوبة من الهروب، متجهة إلى باريس عبر تشيكوسلوفاكيا، وقد استقرت هناك كلاجئة([1]).

ويمكن عدّ صعود النازية إلى الحكم نقطة تحول مركزية في حياة أرندت؛ حيث عانت في وطنها الأم- ألمانيا- تنامي النزعة المعادية للسامية([2])، والتي بلغت ذُرْوَتها في ممارسات الاضطهاد والإبادة الجماعية ضد اليهود. وعلاوة على ذلك، إن تجربتها المؤلمة في المنفى، في باريس، فرضت عليها الابتعاد عن البحث الفلسفي حول السياسة بمفهومه النظري التقليدي والتوجه صوب التفكير السياسي العملي؛ الأمر الذي دفعها بعد ذلك إلى نقد الأصول الفكرية والسياسية للنازية، وتَعْرية ممارساتها القمعية، وهو ما ظهر في كتابها الأشهر «أصول الشمولية» ‘The Origins of Totalitarianism’ (1951).

ومن الجدير بالذكر أنه خلال إقامتها في فرنسا، التقت أرندت بين عامي 1935 و1936 ببعض المفكرين والمثقّفين اليهود، ومنهم مَنْ كان له ميولٌ صَهيونية بدرجة أو بأخرى، ومن هؤلاء المفكرين: «فالتر بنيامين» (Walter Benjamin)، و«ألكسندر كوير» (Alexandre Koyré)، و«جان بول سارتر»، و«ريمون آرون» (Raymond Aron). كذلك التقت أرندت باللاجئ الألماني «هاينريش بلوخر» (Heinrich Blücher) (1899-1970)- الذي سيصبح في ما بعد زوجها المُخلِص- وهو شاعر ومناضل ثوري كان عضوًا في الجناح اليساري في الحزب الشيوعي الألماني. وقد أصبحت أرندت صديقة مقربة لكثير منهم، كما أصبحت معروفة جيدًا في عديد من الدوائر الأكاديمية والثقافية الفرنسية، خاصة بعد زواجها من «بلوخر»([3]).

وبسبب ظروف الحرب العالمية الثانية، واجتياح القوات النازية الحدود الفرنسية واحتلالها في عام 1940، قُبض على أرندت مرة أخرى في أيار/ مايو من العام نفسه، بوصفها «أجنبية مقيمة في فرنسا بطريقة غير شرعية». وقد احتُجزت لمدة أسبوع في معسكر «جيرز»([4]) (Gurs)، وكانت نِيَة الحكومة الفرنسية مُبَيّتَة لترحليها وتسليمها للحكومة الألمانية، بعد أن سحبت الحكومة الألمانية جنسيتها في عام 1937، وبعد ضغط من ألمانيا على فرنسا لطرد اللاجئين الألمان من أراضيها. ولم تشفع لها الحكومة الفرنسية، ولا لغيرها من المهاجرين الألمان، كونهم يهودًا مُضْطَهَدين ومُعَرَّضين للقمع النازي. ومرة أخرى استطاعت أرندت الهروب، لكن هذه المرة إلى أميركا. وفي أثناء هروبها قابلت بلوخر، فتزوجت منه- بعد أن كانت قد طُلقت من شتيرن عام 1937- ثم نزح الاثنان إلى أمريكا عن طريق باخرة متجهة من لشبونة إلى نيويورك، ودخلا الولايات المتحدة بمساعدة من «ثيودور أدورنو» (Theodor Adorno)، وكان ذلك في عام 1941([5]). وقد استطاعت بعد نحو عشر سنوات من إقامتها في أميركا أن تحصل على الجنسية الأميركية.

إن هذه اللمحة المختصرة عن حياة أرندت ضرورية لفهم مسار خطابها الذي طرحته في خمسينيات القرن الماضي حول موضوع الصراع العربي الإسرائيلي.

(ب) مَذاق الألم؛ إنسانة يهودية بلا وطن

اهتمت أرندت كثيرًا بمسألة الهوية اليهودية، وقد جاء هذا الاهتمام مبكرًا. وعلى الرغم من أن بلوخر- زوجها الثاني- لم يكن يهوديًا، فإنها لم تعدّ هذا الأمر بِذِي أهمية؛ الأمر الذي يمكن تفسيره إذا وضعنا في الحسبان الحنان والدفء العاطفي اللذَينِ شعرت بهما معه. ولعلَّ ذلك قد يرجع أيضًا إلى أصولها العائلية؛ لأن عائلتها كانت تدعو إلى اندماج اليهود داخل المجتمع الألماني وأي مجتمع آخر، وهو الأمر الذي تكشف عنه أرندت نفسها؛ إذ إن «الاندماج» (Assimilation) بالنسبة إليها لا يَعنِي «التَكَيُّف المطلوب مع البلد الذي وُلِد فيه اليهود ومع الشعب الذي يتكلم لغتهم»، وإنما يَعنِي «التَكَيُّف من حيث المبدأ مع كل شيء وكل شخص»([6]).

لكن كان هناك إحساس جديد ومؤلم يراود أرندت من حين إلى آخر؛ وهو إحساس نبع في الأساس من امتِهَان كرامتها في موطنها الأصلي، وإلى الحد الذي شعرت فيه بأنها هي وغيرها من اليهود منبوذون، الأمر الذي كانت تصف فيه نفسها في كثير من الأوقات بأنها: «امرأة يهودية، وليست ألمانية». ولذلك فعندما وصفت رحلة منفاها إلى فرنسا، نجدها ترفض أن يُقال عنها «لاجئة»، وتقول عن نفسها وعن غيرها من اليهود الذين اضطهدتهم النازية: «إننا نُسمي أنفسنا (الوافدين الجدد) أو (المهاجرين)»([7]). ومن هنا عاشت خبرة مؤلمة جدًّا، خاصة بعد نزوحها إلى فرنسا، وهي تجربة طويلة نسبيًا، ونابعة من إحساسها بطمس معالم هويتها، وبأنها يهودية «بلا وطن» يحميها، وإقرارها بأن مَنْ لا وطن له لا حقوق له، بل ليس إنسانًا في الأساس؛ فالمواطنة والأرض بالنسبة إليها عنصران لا ينفصلان في تشكيل ماهية الإنسان الحقّة.

وفي ضوء ما سبق نتساءل: ما علاقة هذا بقضية فلسطين التي طرقتها أرندت؟ وماذا عن الأبعاد الأساسية لنزعتها الصَهيونيّة؟

المحور الثاني: الصراع العربي الإسرائيلي في ضوء الأبعاد الأساسية لصَهيونيّة أرندت

يبدو لي إن كل ما عَدَّه الباحثون الغربيون فلسفة إنسانية راقية من جانب أرندت، وما عَدَّه المثقّفون العرب مواقف سياسية معتدلة من جانبها تجاه القضية الفلسطينية، ما هو إلَّا قناع تَتخَفَّى وراءه عقيدتها الصَهيونية ذات الأبعاد المُمَيَّزة، كما سأحاول التدليل على ذلك. وسنرى كيف أن المثل الفلسفي الأعلى لدى أرندت لا يهتم بالبحث عن الحقيقة لذات الحقيقة أو لفائدتها العملية، بل كان خطابها السياسي، والفلسفي كذلك، مُسَخَّرًا من أجل هدف محدد يتمثل في: خلاص الشعب اليهودي من خلال تأسيس يوتوبيا يهودية تتقاطع وتتشابك تارة مع المشروع الصَهيوني لـ«ثيودور هرتزل» (Theodor Herzl) (1860-1904)، وتارة أخرى مع الرؤى الصَهيونية عند «برنارد لازار» (Bernard Lazare) (1865-1903)، و«مارتن بوبر» (Martin Buber) (1878-1965) وغيرهما من المنظرين الصهاينة. وما سوف أحاول التدليل عليه أيضًا هو: إن أرندت مُنظِّرة صَهيونية بدرجة أو بأخرى؛ تمارس الفكر لأهداف سياسية ودينية محددة؛ حيث غايتها النهائية إيجاد الوسيلة أو الطريقة لتحرير اليهود المُضْطَهَدين في أوروبا وإعادة دمجهم بطريقة صحيحة في فلسطين بما يضمن لهم خلاصهم الروحي والسياسي في هذا العالم.

أ- الانخراط في السياسة اليهودية

بدأت تظهر بَوادِرُ النزعة الصَهيونية عند أرندت منذ فترة مبكرة من حياتها، وتحديدًا عند انخراطها في العمل السياسي عام 1926، وانتمائها إلى دوائر النخبة اليهودية المثقّفة في ألمانيا، وقد أبدت تعاطفًا مع التيار الصَهيوني الصاعد في ذلك الوقت([8])، وخدمت بطاقتها كلها المنظمات الصَهيونية، كما كانت مثل عديد من أبناء جيلها مُتَحَمِّسة لأفكار «القومية اليهودية» وخاصة مشروع «هرتزل» بشأن إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. وقد ظهر ذلك أيضًا خلال إقامتها في فرنسا، بوصفها لاجئة يهودية، حيث انخرطت بقوة في الممارسة السياسية اليهودية، وخاصة محاربة معاداة السامية والتي تصفها بأنها واحدة من أخطر الأكاذيب السياسية. وإضافة إلى هذا انتمت أرندت إلى «منظمة إلياه» (Aliyat Hano’ar)- وهي منظمة صَهيونية شبابية أُسست عام 1933 في ألمانيا- التي ساهمت في إنقاذ آلاف اللاجئين اليهود من الأطفال والشباب من القمع النازي، وعملت على توطينهم في فلسطين في الكيبوتسات (القرى التعاونية) التي أصبحت بالنسبة إليهم بمنزلة البيت والمدرسة([9]). وقد أشرفت أرندت نفسها على ترحيل عشرات الأفراد والأُسر اليهودية من معتقلات الموت في أوروبا، كما كانت علاوة على ذلك عضوًا في جماعة مقاومة الفاشية والستالينية([10]).

كذلك اهتمّت أرندت خلال إقامتها في الولايات المتحدة بقضايا الأقليات اليهودية، واللاجئين اليهود من الأطفال والشباب. وخلال هذه الفترة أيضًا توطدت الصلة مرة أخرى بينها وبين الحركة الصَهيونية، وقد عملت منذ عام 1953 مديرة الأبحاث في مؤتمر العلاقات اليهودية، والمديرة التنفيذية لمنظمة إعادة بناء الثقافة اليهودية. وقد بذلت طاقتها كلها في خدمة المنظمات اليهودية، كما أخذت على عاتقها إنقاذ ما يمكن إنقاذه من يهود أوروبا، وتوطينهم في فلسطين([11]).

ب- تأييد قيام الدولة الإسرائيلية

هنا نأتي إلى اللحظة الحاسمة بالنسبة إلى أرندت في تأييدها لقيام الدولة الإسرائيلية. إن اضطهاد النازية لليهود دفع بأرندت إلى الزعم بأنه من المشروع، بل ومن الضروري، إقامة وطن قومي لليهود الأوروبيين المهاجرين. وفي عام 1941، وبحلول الذكرى السنوية لوعد «بُلفور»، أيَّدت ما دعت إليه المنظمات الصَهيونية في أميركا والتي طالبت بتشييد جيش يهودي. ووفقًا لزعمها، «على الرغم من أن هذه المطالب، التي دعت إليها الطليعة السياسية اليهودية، لا تُعبِّر مباشرةً عن إرادة جميع اليهود في العالم، فإنها يمكن مع ذلك أن تصبح سياسة خلاقة إذا ما نجحت في تعبئة قطاعات واسعة من الأمة اليهودية، وإلَّا ستصبح في طي النسيان، مثل كثير من الفرص الضائعة»([12]).

وفي الواقع كان لتجربتها المؤلمة في المنفى في باريس تأثيرٌ كبير في دفاعها عن قيام دولة إسرائيل عام 1948، لكي تجمع اليهود المشتتين في أوروبا. لكن نزعتها الصَهيونية تظهر قبل ذلك في أوائل الأربعينيات وبوضوح في زعمها أن إنشاء جيش يهودي قوي يمثل البداية التي يجب أن ينطلق منها التنظير الفعلي للسياسة اليهودية، وذلك كمحاولة أولى للانضمام إلى جيوش العالم في مواجهة هتلر وغيره ممن يحاولون إفناء اليهود، محذرة اليهود أنفسهم من أن الشعب الذي لا مكان له في عالم الحرب، لن يكون له مكان في عالم السلم([13]). ومن ثَمَّ، فإنه من دون المشاركة الإيجابية والفَعّالة لليهود في الحرب، فإن تحررهم القومي سيغدو مستحيلًا، وأنه من دون جيش يهودي، لن يكون بإمكانهم المشاركة الفَعّالة في الحرب، وعلى أضعف الإيمان، فكل ما سيتبقى لهم هو أن يظلوا عرضة للقمع والإبادة بين الحين والآخر([14]).

وتتجلَّى نزعة أرندت الصَهيونية في طيّات حديثها عن حق الشعب اليهودي في فلسطين، وذلك عندما توضح أن هذا الحق مماثلٌ لحق كلِّ إنسان في حيازة ثمرة عمله، وعلى حدّ تعبيرها: «إن تمكين اليهود في فلسطين يُعَدُّ جزءًا من النضال من أجل حرية الشعب اليهودي ذاته. وعندما يكون اليهود على استعداد للالتزام الكامل بهذا النضال، فعندئذ فحسب يمكن أن يكونوا قادرين على تمكين أنفسهم في فلسطين»([15]).

وعلى هذا النحو كان هدف أرندت من مشروعها في السياسة اليهودية هو إنشاء جيش يهودي، أو على أقل تقدير تأسيس وحدات يهودية مسلحة. وقد ظهر هذا المشروع أول مرة في وقت الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939)، كما ظهر في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1941 عندما نشرت هذا المشروع في سلسلة من الرسائل والمقالات المفتوحة في نيويورك؛ حيث اعتقدت أن اليهود في حاجة ماسة إلى جيش قوي، الأمر الذي دفعها إلى حفز اليهود على النضال السياسي كشعب من الشعوب الأوروبية المركزية. ولكنها لم توضح كيف يمكن تحقيق ذلك الهدف المتمثل بإنشاء جيش يهودي، خاصة أن اليهود في أوروبا في ذلك الوقت كانوا تحت قمع حكم النازية. بدلًا من ذلك حاول اليهود الأوروبيون الذين هاجروا إلى فلسطين أن يكون لديهم جيشهم الخاص، ولكن الأمر استغرق ثلاث سنوات لتشكيل فرقة تكون بمنزلة النواة لجيش مسلح كبير في ما بعد([16]).

كذلك فقرب نهاية مقالتها المعنونة بـ«نحن اللاجئون» ‘We Refugees’ والتي نُشرت عام 1943- أي قبل قيام دولة إسرائيل بخمس سنوات فقط- تُنَدِّد بتَّخَلِّي كثير من حكومات الدول الأوروبية عن حماية اليهود الفارين من النازية (والإشارة هنا إلى تخاذل الحكومة الفرنسية عن حماية اليهود المهاجرين من ألمانيا والبلدان التي اِحتلَّتها النازية). لكن المهم هو أننا نلمح في طيّات حديثها نزعة صَهيونية واضحة. وتقول أرندت:

«سيعلم الجميع أن حرمان الشعب اليهودي من الحماية القانونية المكفولة لكل إنسان سيكون مقدمة مباشرة لحرمان معظم الشعوب الأوروبية الأخرى من حماية القانون. وإن اللاجئين اليهود، المطرودين من بلد إلى آخر، سيمثِّلون طليعة شعبهم إذا حافظوا على ثقافتهم الخاصة وهويّتهم المُميَّزة. وإن مسار التاريخ اليهودي منذ اللحظة الأولى لم يكن منفصلًا عن جملة الأحداث التي مرّت بها جميع الشعوب الأخرى، بل كان مرتبطًا أشد الارتباط بها؛ ولا أدل على ذلك من انكسار عصبة الشعوب الأوروبية وتحولها إلى شظايا عندما سمحت بأن يجري إقصاء العضو الأضعف فيها [تقصد اليهود]»([17]).

وفي حقيقة الأمر لا أحد يستطيع أن يُنكر على أرندت، أو على غيرها من المفكرين والمثقّفين، دفاعها عن اللاجئين اليهود من قمع النازية؛ فتضامنها معهم أمرٌ لا يقبل الطعن كما لا يمكن توجيه أي لوم لها في هذا، على العكس من ذلك فإن أيّ إنسان سَوِيّ- بغض النظر عن دينه- لا يمكن أن يقبل أو أن يُقِرّ الممارسات النازية الوحشيّة التي مورست ضد اليهود وضد الشعوب الأخرى. لكننا من الناحية الأخرى نجد في هذا النصّ ما يَدفَع في اتجاه صَهيونية أرندت الخفي؛ من حيث إنها تتوهّم أن الطليعة الصَهيونية هي وحدها- تحديدًا- التي تستطيع أن تقود اليهود إلى (أرض الميعاد). وهذا واضح من حديثها بأن اللاجئين اليهود هم القادرون على النضال والتغيير السياسي. ويجسد هؤلاء، وفقًا لأرندت، «طليعة شعبهم»؛ بمعنى أنهم ربما يشكلون النواة الأصلية لدولة قومية يهودية في المستقبل([18]). كذلك فإن ما يَدفَع في اتجاه صَهيونيتها الخفي، هو تشبيهها للاجئ على أنه الصورة الممكنة الوحيدة للشعب في عصرنا هذا، والفئة الوحيدة التي يمكن من خلالها اليوم تلمُّس حدود المجتمع السياسي المقبل، على الأقل حتى تصل عملية تحلل الدولة القومية وسيادتها إلى نهايتهما([19]).

وعلاوة على ذلك، إذا كانت أرندت تُدافع عن حقوق اليهود المُضْطَهَدين، وخاصة الحق في عودتهم إلى فلسطين، وأنهم سيشكلون يومًا ما دولة قوية، فأين دفاعها عن الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين في العواصم العربية والغربية كافة منذ خروجهم بالقوة من ديارهم في عام 1948. لم تَأْبَه أرندت- مثل عديد من مفكري وفلاسفة جيلها اليهود وعلى رأسهم «مارتن بوبر»، و«سارتر»- بمصير الشعب الفلسطيني الذي أُرغِم بالقوة على ترك أرضه، ولذا فليس غريبًا- بعد هذا كله- أن نجد أرندت تؤكد بشدة فكرة «الوطن اليهودي» Jewish Homeland و«الأمة اليهودية»، وليس فقط «المجتمع اليهودي». كما تتضح نزعتها العنصرية من قولها: «إنه حتى ولو قُدر وفاز الإسرائيليون في حربهم ضد العرب، فإن هدفهم ينبغي أن يُركز على إيجاد الإمكانات الفريدة والإنجازات المُميَّزة للصَهيونية في فلسطين التي دُمّرت في وقت قصير جدًا. ذلك أن أرض الميعاد والتي ستخرج إلى حيز الوجود ستكون شيئًا آخر مختلف تمامًا عمّا يحلم به يهود العالم، صَهاينة كانوا، أم غير صَهاينة»([20]).

ج- هويّة الدولة الصَهيونية

ثمة مسألة مهمة في فكر أرندت، وتتعلق بهويّة الدولة الصَهيونية؛ فقد اختلفت مع سياسات الدولة الإسرائيلية في ما يتعلق بكيفية التعامل مع المسألة العربية في فلسطين، ورفضت استعمال القوة كسبيل لإقامة الدولة اليهودية في فلسطين. وفي مقالة لها عام 1950، بعنوان «السلام أو الهدنة في الشرق الأدنى؟» (أي بعد قيام دولة إسرائيل بسنتين تقريبًا) ادّعت أن السلام أمرٌ ضروري لدولة إسرائيل، وللشعب العربي، وللعالم الغربي كله. وإن السلام- وليس الهدنة- لا يمكن أن يُفرَض من الخارج، وإنما يحدث نتيجة المفاوضات، والتسوية المتبادلة والاتفاق في نهاية المطاف بين الإسرائيليين والعرب([21]).

وفي السياق نفسه رأت أرندت أن اعتماد إسرائيل على الدولتين العظميين (أميركا والاتحاد السوفياتي) من شأنه أن يجعل استقرار إسرائيل مهددًا باستمرار، ويتأكد ذلك من قولها: «إن الاستيطان اليهودي في فلسطين قد يصبح عاملًا مهمًا جدًا في تطوير الشرق الأدنى(…) وحتى في حالة الهجرة القصوى على مدار فترة طويلة من السنين، فإن تعداد المواطنين الإسرائيليين سيكون محدودًا بما يقرب من مليوني نسمة، وهو رقم يمكن أن يزيد باستمرار نظرًا إلى الأوضاع الصعبة في الدولتين العظميين. وبصرف النظر عن احتمال أو عدم احتمال مثل هذا التحول في الأحداث، فنظرًا إلى أن إسرائيل تدين بوجودها لهاتين القوتين، ونظرًا إلى أن فشل الجهد في إنهاء النزاع العربي/ الإسرائيلي سيجعل بقاء إسرائيل أكثر اعتمادًا بالضرورة على التعاطف والدعم المستمرين من هاتين الدولتين، فإن كارثة اليهود في الدولتين العظميين الباقيتين ستؤدي على الفور إلى كارثة لدولة إسرائيل ذاتها»([22]).

وفي ضوء هذا، قاد ذلك التخوف أرندت إلى القول بضرورة تأسيس جيش مستقل للدفاع عن دولة إسرائيل، وكذلك رأت ضرورة استقلال إسرائيل من الناحية الاقتصادية عن الولايات المتحدة وأيّ دولة أخرى. وستكون إسرائيل- كما تدَّعي أرندت- «المركز الثقافي للشعب اليهودي في العالم كله». ولكنها تحذرها من أن النفقات الكبيرة التي تتحملها للدفاع عن نفسها من شأنها أن تؤدي بها إلى الاعتماد كليًا على أميركا، ومن المحتمل أن تكون النتائج المترتبة على هذا الأمر كارثية، وفي هذا المعنى تقول: «إن التبرعات والمعونات التي تحصل عليها إسرائيل من أميركا تأتي لها بكميات كبيرة في حالات الطوارئ فقط، مثل الكارثة الأخيرة لليهود في أوروبا، والصراع العربي/ الإسرائيلي في الوقت الحالي، الأمر الذي يجعل إسرائيل في القريب العاجل- وإذا لم تتمكن بجهدها الذاتي من الاستقلال الاقتصادي عن الولايات المتحدة- في موقف لا تُحسد عليه؛ حيث إنها ولكي تحصل على دعم مالي من أميركا ستجد نفسها مُضطرة إلى خلق حالات طوارئ، وهذا ما قد يضطرها إلى النزوع إلى سياسة العدوان والتوسع الخارجي»([23]).

من هذا المنطلق نجد أرندت تُقَدِّم العذر لإسرائيل لتحالفها مع بريطانيا وفرنسا، في ما يُعرف بالعدوان الثلاثي ضد مصر في 1956، من أجل أن تستعيد بريطانيا منطقة قناة السويس، وأن تقضي فرنسا على دعم عبد الناصر لجبهة التحرير الوطنية في الجزائر([24]). وكذلك نجدها تتعاطف مع إسرائيل في حربها ضد مصر وسورية في 5 حزيران/ يونيو 1967. ومن ناحية أخرى، وبفضل تنظيرها في السياسة اليهودية، والتقائها مع فكر الحركة الصهيونية في ذلك الوقت، أصبحت أرندت منذ أوائل الخمسينيات شخصية بارزة ومعروفة في إسرائيل. وفي الواقع، وكما يقول «اِلحنان ياكيرا» (Elhanan Yakira)- أستاذ الفلسفة في الجامعة العبرية في القدس- «إن قدرًا كبيرًا من القوة التي تُعزَى إلى خطابها السياسي في وقت متأخر نابع من ارتباطها اليهودي- الصهيوني بدولة إسرائيل»([25]).

والملاحظ كذلك أن انخراطها في المنظمات الصهيونية كان ذا طابع حيويّ وملموس، وهو نشاط وصل إلى قوته وذُرْوَته في أثناء فترة إقامتها في فرنسا؛ عندما كانت تؤرقها مسألة كيفية «اندماج» اليهود في المجتمعات الأوروبية، وقبل ذلك في ألمانيا عندما كانت مشبعة بالوعي السياسي اليهودي بعد لقائها عام 1926 بـ «كورت بُلومِنفِلد» (Kurt Blumenfeld) (1884-1963)- الصديق المقرب منها حتى وفاته، ورئيس المنظمة الصهيونية في ألمانيا- وانخراطها معه في بداية الثلاثينيات في الحركة الصهيونية المقاومة للنازية، ليس كيسارية وإنما كامرأة يهودية. ومنذ ذلك الحين، وحتى تأسيس دولة إسرائيل، كانت نشطة بدرجة أكبر أو أقل في مختلف الحركات الصهيونية، كما كانت نشطة في حركة هجرة اليهود إلى فلسطين. إضافة إلى زيارتها إلى فلسطين في نيسان/ أبريل 1961، بصحبة مجموعة من اليهود الذين أسسوا منظمة إلياه، كجزء من عملها في هذه المنظمة([26]).

وبوصفها لاجئة في باريس، وبعد ذلك كمهاجرة في نيويورك، قدَّم لها انخراطُها في الحركة الصَهيونية إطارًا للانتماء، فضلًا عن توفير سبيل للعيش. وعلى الرغم من أنها كانت ملتزمة بجدية بسياسة الحركة الصهيونية، فإنها بقيت منعزلة عنها إلى حدٍّ ما. وعلى سبيل المثال، فإنها صرحت بأنها لم تفكر أبدًا في الهجرة إلى فلسطين. وقد تركت لها زيارتُها إلى فلسطين لتغطية محاكمة النازي الألماني «أدولف أيخمان»، ذكريات غير سارة. وعلى الرغم من أنها حاولت إغفال هذا الجانب من زيارتها عند حديثها مع النشطاء اليهود بعد عودتها، وعندما تحدثت عن زيارتها لصديقتها المُقَرَّبة «ماري مكارثي» (Mary McCarthy) (الكاتبة الأميركية والناشطة السياسية)، بعد وقت قصير من عدوان إسرائيل على مصر في 1967، فإنها تحدثت عن زيارتها بكثير من التحفظ، ولكنها صرحت بعبارة شهيرة تقول فيها: «إن كل كارثة يمكن أن تصيب إسرائيل سيكون لها تأثيرٌ عميق في حالتها النفسية أكثر من أيّ شيء آخر»([27]).

المحور الثالث: الخطاب الصَهيوني المراوغ لأرندت

دخلت أرندت في الفترة الأخيرة من حياتها، وفي مناسبات عِدَّة، في مواجهات حادّة مع دولة إسرائيل؛ بسبب نقدها للممارسات الإسرائيلية في فلسطين وبعض الدول العربية الأخرى. ولم تكن انتقاداتها نابعة من تحول أيديولوجي عن العقيدة الصَهيونية- كما ظن بعض الباحثين الغربيين والعرب على حدٍّ سواء- بل كانت انتقاداتها موجهة إلى القادة الإسرائيليين والزعماء الصَهاينة أنفسهم، وكذلك إلى الممارسات السياسية، لا إلى جوهر العقيدة الصَهيونية ذاتها.

وقد بدأت هذه الصدامات والمواجهات مع إسرائيل منذ عام 1955، عندما عدّت أرندت أن سياسة الدولة الإسرائيلية تجاه العرب ومعاملتها لهم، كافية لأن تستعدي عليها العالم برمته، وإلى الحد الذي نظرت فيه إلى دولة إسرائيل على أنها دولة يسود بداخلها الرعب الأرثوذكسي المتمثل بتلك العصابة المدثرة بالسواد والعطشى إلى السلطة([28]). فكيف إذًا يمكن أن نقرأ خطاب أرندت السياسي؟ وهل يَعنِي رفضها لسياسة الحركة الصَهيونية، في فترة معينة، التحول عن جوهر العقيدة الصَهيونية ذاتها؟

أ- نقد سياسة الحركة الصهيونية (المواجهة مع إسرائيل)

أثار كتاب أرندت: «أيخمان في القدس» (1963) ضجة كبيرة، وحالة من الغضب والسخط بين المثقّفين اليهود داخل إسرائيل وخارجها؛ لأنه يتهم اليهود والمجالس اليهودية بالتعاون مع الحركة النازية، ومن دونهم لم تكن إبادة يهود أوروبا ممكنة، الأمر الذي فتح الباب أمام إثارة عديد من الشكوك في الادعاءات الصهيونية بكون اليهود ضحايا للنازية. كذلك أثارت بعض ملاحظات أرندت والمتعلقة بممارسات القادة الإسرائيليين، وتشبيهها الطريقة التي رُحّل بها أيخمان من الأرجنتين بالطريقة التي رُحّل بها اليهود إلى غيتوات الموت، أثارت ملاحظاتها هذه ردات فعل سلبية في عديد من الأوساط الأكاديمية، والشعبية في أميركا، وإسرائيل على وجه الخصوص([29]).

لكن قد تبدو القراءة لما جاء في كتابها السابق، خاصة دفاعها عن أيخمان، أنها تحوَّلت عن فكر الحركة الصَهيونية، بل عن اليهودية، خاصة وأن ردة فعلها ضد محاكمة أيخمان كان مدويًا؛ إذ عدّت المحاكمة مسرحية هزلية من جانب إسرائيل لترسيخ دعائم دولتها، مُشبهة الصَهاينة الإسرائيليين بأيخمان نفسه، فهم مثاليون أكثر مما ينبغي، ومستعدون للتضحية بكل شيء في هذا العالم لأجل فكرة معينة([30]).

لقد استطاعت أرندت أن تفضح الطريقة التي حوكِم بها أيخمان؛ فقد كان موضوعًا داخل قفص زجاجي مثل شبح وكأن الأمر هو إعلان عن جلسة روحانية، وأمامه المدعي العام اليهودي الذي يجسد عقلية الغيتو المدعمة بالمدرعات وبالاستعراض العسكري. وأمام هذا الشخص أيضًا- كما تقول- «سيستنتج العالم كله أن تقتيل اليهود ومعاناتهم هو أمر عادي بالنسبة إلى غير اليهود». ولقد كانت أرندت ساخطة من خيانة المثل الأعلى الصهيوني الذي كان لديها: فالحلم الصَهيوني تجسد على نحو وضيع على أرض الواقع([31]).

من ناحية أخرى أثار نقد أرندت لمشاعر العداء القومي من جانب اليهود تجاه العرب والمسلمين- وهي المشاعر التي تهيمن على مجمل السياسة الإسرائيلية حتى اللحظة الراهنة- حالة من الاستياء داخل إسرائيل وخارجها، إضافة إلى إعلانها عن اشمئزازها من ثرثرة اليهود الأوروبيين حول تاريخ المعاناة وغيتوات الموت، ومن عاداتهم وسلوكياتهم؛ الأمر الذي قاد الباحثة والكتابة الفرنسية «كاترين كليمان» (Catherine Clément) إلى القول إن أرندت ظلت طوال حياتها متأرجحة بين التعاطف مع إسرائيل وتأييدها من ناحية، وبين الإعلان المتسمر عن خيبة أمل إسرائيل من مآل الأوضاع في فلسطين من ناحية أخرى. ومن هذه الزاوية، وجب علينا فهم الفضيحة التي أثارتها في محاكمة أيخمان؛ إذ تحدَّت جميع الحاضرين بنقدها للمدعي العام الإسرائيلي وبإثارتها هذا السؤال: لماذا وجب علينا التحدث بالعبرية في أثناء المحاكمة علمًا بأن المتهم، والشهود، والمحلفين هم يهود ألمان؟ وسيصل التحدي ذُرْوَته عندما تحدثت عن مسؤولية المجالس اليهودية التي أنشأها النازيون لوضع اليد على لوائح الأشخاص الذين سيُرسلون إلى معسكرات الاعتقال. وقد طُرِح السؤال الآتي إثر ذلك: هل تُعَدُّ أرندت معادية للسامية؟ وإلى يومنا هذا، لا يزال الجواب في إسرائيل «بالإيجاب»([32]).

لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل كانت أرندت حقيقة- كما تقول «كاترين كليمان»- متأرجحة بين تأييد إسرائيل من جانب، والإعلان المستمر عن خيبة أملها في سياساتها وممارساتها من جانب آخر؟ والسؤال المهم أيضًا: هل تحولت أرندت عن فكر العقيدة الصَهيونية؟

وفي الواقع أثارت انتقادات أرندت لسياسات إسرائيل كثيرًا من الجدل والنقاش على صفحات المجلات والجرائد. لكن الحقيقة إن أرندت لم تتخل عن محاربة الفكر المناهض للسامية، كما أنها لم تتحول عن العقيدة الصَهيونية في فترة متأخرة من حياتها كما فسر بعض الباحثين ذلك، ولم تكن أيضًا- وهو المهم هنا- مع الشعب الفلسطيني في مطالبته بحقه التاريخي في أرض فلسطين، حتى وإِنْ كانت قد انتقدت سياسة الحركة الصَهيونية في فترة معينة. وبالمثل فإن نقدها للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين لا يَعنِي- كما قد يتبادر إلى الذهن أول وهلة- أنها كانت متضامنة مع العرب وحق الشعب الفلسطيني غير المشروط في أرضه، وإنما كان جُلّ نقدها ينصبّ فحسب على «الطريقة» التي مُكّن بها اليهود في فلسطين.

والحقيقة هي أن أرندت لم تكن مع قضية الشعب العربي الفلسطيني في مطالباته المستمرة بحقوقه المسلوبة. وإذا كانت قد انفصلت عن الحركة الصَهيونية في وقت لاحق من حياتها، فلا يَعنِي ذلك تنكُّرها للصَهيونية وتحوُّلها عنها؛ لأن هجومها على الحركة الصَهيونية في ذلك الوقت- بالذات- لم يكن إلا بدافع خلافها مع السياسة الواقعية التي انتهجتها. لكن ما دليلنا على صحة ما نذهب إليه من عدم تحوُّلها عن الصَهيونية؟

يتضح سوء الفهم الذي تَعرَّض له موقف أرندت من الحركة الصَهيونية، والذي أشرنا إليه سابقًا، إذا وضعنا في الحسبان مقالتها المهمة التي كتبتها قُبيل تأسيس دولة إسرائيل: «اليهودي بوصفه إنسانًا منبوذًا؛ التقليد الذي حُجب» (1944). ففي هذه المقالة توضح أرندت أن «برنارد لازار» قدَّم في فترة مبكرة من حياته الحل المثالي للمسألة اليهودية، وهو الحل الذي يتمثل بسياسة «المنبوذين الواعين». وقد كان «لازار» أحد الشخصيات اليهودية الكبيرة المعاصرة لـ«هرتزل»، وانضم إلى الحركة الصَهيونية التي أسسها الأخير، ولكنه سرعان ما انفصل عنها نتيجة خلافه مع «هرتزل» بشأن المستقبل السياسي للحركة؛ فقد كان الأخير يؤمن بما أصبح يُطلق عليه «الواقعية السياسية»، والمتمثلة بإحدى صورها في سياسة تمكين اليهود بالقوة، مع المحافظة على إقامة علاقات مع الدول المجاورة. أما «لازار» فكان يؤمن بأن الحل الوحيد بالنسبة إلى يهود أوروبا هو «الاندماج» بين شعوب الدول الأخرى. توضح أرندت أنها تقف مع فكرة «لازار» ضد أفكار «هرتزل» وخاصة ضد السياسة الواقعية التي انتهجتها الحركة الصَهيونية، كما تتفق مع «لازار» في أن مسألة الأرض ينبغي أن تكون مسألة ثانوية؛ فما هي إلا نتيجة للمطلب الأساسي الذي ينبغي أن يسعى اليهود لتحقيقه والمتمثل بضرورة تحريرهم أولًا كشعب وكأُمّة من الإقصاء والتهميش([33]).

ومن هذا المنطلق فإن انفصال أرندت عن العقيدة الصهيونية لم يكن انفصالًا تامًا، ولكنه كان انفصالًا بسبب خلافها حول الاتجاهات السياسية للحركة ذاتها، وخاصة النهج الواقعي الذي ظلت تنتهجه منذ تأسيسها. لقد ذهبت أرندت إلى ضرورة الالتزام بالثقافة اليهودية كسبيل أوليِّ لتحرير اليهود في أيّ بلد كانوا، متفقة في ذلك مع «لازار» حول ضرورة العمل «بالحل الثقافي» كمدخل للتمكين السياسي؛ لأن الصَهيونية- في نظرها- ليست حزبًا سياسيًا ولكنها حركة انتقال ثقافية وتربوية وروحية أصيلة للحياة اليهودية([34])، وهي في ذلك تتفق مع «آشر جينـزبرج» (Asher Ginsberg) (1856–1927)- الفيلسوف اليهودي الروسي، والمعروف بـ«آحاد هعام» (Ahad Ha’am)- والذي روج لما أسماه «الصَهيونية الثقافية»، والذي كان من أكبر المعارضين لصَهيونية هرتزل السياسية([35]).

إن ما كان يسعى له «لازار»- وكذلك أرندت- يتمثل بتعبئة اليهود ثقافيًا وروحيًا ضد خصومهم. وإن ما تعلمه «لازار»، وفقًا لأرندت، هو أنه عندما يدخل المنبوذون إلى السياسة، فإنهم يصبحون متمردين وفاعلين أكثر فأكثر([36]). ومن هذا المنطلق نفسه رأت أرندت أن تكون فلسطين دولة تجمع العرب الفلسطينيين واليهود الأوروبيين معًا، بحيث يتعايشون سلميًا كجيران بغض النظر عن دينهم وقوميتهم. إن أرندت تبَنَّت- في نهاية المطاف- ذلك الزعم الصهيوني القائل بأن أحد الخيارات المطروحة للقضية الفلسطينية هو أن تصبح القدس- على نحو متزامن ومن دون أيّ تقسيم للأرض، أو فصل بين الحدود- عاصمة لدولتين مختلفتين: «فلسطين» و«إسرائيل». فبدلًا من دولتين قوميتين مفصولتين بحدود مُلتبَسة ومُهدَّدة دائمًا، يمكن أن يتخيل المرء مجموعتين سياسيتين تقطنان المنطقة ذاتها وتهاجر كل منهما إلى الأخرى([37]).

ب- لأجل إسرائيل، لا لأجل القادة الإسرائيليين

يتضح مما سبق أن الحل الوحيد لتحرير اليهود في نظر أرندت (على خلاف ما تقول به الحركة الصَهيونية) يتمثل باندماجهم مع الشعوب الأخرى، مع ضرورة المحافظة على ثقافتهم وهويّتهم الخاصة. وفي السياق نفسه، رأت أن مشروع «الوطن القومي» اليهودي الوطن القومي لليهود لا يمكن أن يتحقق إلَّا عن طريق إنشاء الصلات الوديّة مع العرب، وليس عن طريق سياسة القوة تجاههم.

ومن هنا نستطيع أن نفهم خطابها لتحذير إسرائيل من السياسة التي انتهجتها في فلسطين منذ تأسيسها في عام 1948، كذلك نستطيع أن نقف على نحو دقيق- في ضوء مراعاة سياق النصّ واللحظة التاريخية- على نقدها المتأخر للمسار الذي اتَّبعَته الحركة الصَهيونية بوصفه نقدًا يهدف إلى تصحيح المسار، وليس نقدًا لأصولها الاستعمارية والاستيطانية الفاسدة، خاصة بحلول عام 1950 عندما بدَا في الأفق أن القضية الفلسطينية دخلت في نفق مظلم، وأن المصالحة بين العرب وإسرائيل أضحت غير ممكنة أبدًا، الأمر الذي حَدا بأرندت إلى نقد سياسة الحركة، والانسحاب شيئًا فشيئًا من السياسة اليهودية.

ومن هذه الناحية على وجه التحديد، يمكن تفسير هجومها على السياسة التي اتبعتها إسرائيل منذ تأسيسها؛ حيث رأت في المسار الذي اتخذته أنه لا يتعدى كونه فعلًا فرديًا للتحرر القومي لليهود من دون أن يكون له ثمار مُهِمّة بالنسبة إلى لشعب اليهودي ككل. إن هذا المسار- في نظرها- لا يتعدى كونه «لحظة تحرير فجائية» من القسر الخارجي والأغلال المادية التي تُكبِّل اليهود الأوروبيين من دون أن يكون لذلك تأثيرٌ يُذكَر في حياة اليهود ككل([38]).

ونعود لنؤكد مرة أخرى: إن نقد أرندت لإسرائيل لا يتعدى كونه وسيلة «تخدير»، ودعوة «تحذير» في الوقت نفسه: وسيلة «تخدير» من حيث إنها تحاول تهدئة العرب وإقامة صلات وديّة بينهم وبين اليهود بصفة عامة والإسرائيليين بصفة خاصة، ودعوة «تحذير» من حيث دعوتها لإسرائيل لأن تلتزم الحيطة والحذر من سياسة القوة الغاشمة التي تنتهجها.

وإذا كانت أرندت تعدّ مسار الحركة في ذلك الوقت مُضَلِّلًا تمامًا، نراها تذهب إلى أن السبيل الأوحد لتحرير اليهود يتمثل بإيمانهم بضرورة «الحرية». والحرية عندها تتجسد في استرجاع الفعل الإبداعي في ميدان السياسة؛ لأنه الميدان الذي تظهر فيه الحرية كحقيقة من حقائق الحياة اليومية. ومن ثَمَّ فلا بُدَّ عند الحديث عن مشكلة الحرية أن نضع نُصْبَ أعيننا موضوع السياسة، بوصف أن الإنسان مخلوقٌ وُهب موهبة «الفعل» (Action). وإن «الفعل» و«السياسة» هما الوحيدان من بين مجموع قدرات الحياة البشرية وإمكاناتها اللتين لا يمكننا حتى تصورهما من دون أن نفترض على الأقل أن الحرية موجودة([39]).

تتمثل الحرية إذًا بالقدرة على الفعل الإبداعي في ميدان السياسة، أو هي- كما تقول أرندت- «القدرة على استدعاء شيء إلى الوجود لم يكن موجودًا من قبل، ولم يكن مُعْطًى، حتى أنه لا يمكن إدراكه أو تصوّره»([40]). وبهذا المعنى فإن تحرير اليهود، وفق ما ترى، لا يمكن أن يَحصُل إلَّا عن طريق الفعل الإبداعي، وهو ما لن يتحقق إلَّا بانخراطهم في ميدان السياسة.

إن تعويل أرندت على «الفعل» الذي ينتمي إلى دائرة «المجال العام»، كوسيلة لإعادة مكانة الشعب اليهودي في العالم، يؤكد في هذه الناحية نزوعها التحرري الإنساني. فعن طريق الفعل يكشف الأفراد عن ذاتهم، وهويّتهم، وتميُّزهم الفريد، لا بوصفهم أشياء مادية، بل بما هم بشر في المقام الأول. وهذا الظهور بوصفه متميزًا عن مجرّد الوجود الجسدي- الحيواني- يستند إلى «المبادرة» Initiative، وهي مبادرة لا يمكن أن يمتنع عنها أيُّ كائن بشري إذا أراد أن يبقى إنسانًا([41]).

من هنا يتضح مدى أهمية «الفعل» عند أرندت بوصفه السبيل الوحيد للتحرر السياسي والاجتماعي؛ فعن طريق الفعل يكون في وسعنا دائمًا أن نبتكر شيئًا جديدًا، ومن دونه سيكون كل مسعى إنساني مجرد سلوك تلقائي، أو سيرورة بقاء بيولوجي لا أكثر. وتضيف أرندت: «إن قدرة الإنسان على الفعل هي التي تجعله مواطنًا سياسيًا بالدرجة الأولى، وهي التي تُمكِّنه من أن يلتقي بأمثاله من البشر وأن يفعل معهم على نحو متناسق، وأن يتوصل معهم إلى تحقيق أهداف ومشاريع، ما كان بإمكانه أن يقوم بها لو أنه لم يتمتع بتلك الهبة»([42]).

ومن هذا المنطلق، تُمثِّل السياسة مجالًا للإبداع لأنها تُعلم البشر كيف يخلقون ما هو عظيم ومشرق، ويتجرؤون على فعل ما هو خارق للعادة. وتوضح «كاثي كاروث» (Cathy Caruth) ذلك بقولها: «إن تأكيد أرندت أن السياسة تُعَدُّ مجالًا ذا أهمية كبيرة، يعود إلى أنها الميدان النموذجي الذي يستطيع الإنسان من خلاله أن يمارس قدراته الأساسية- كإنسان- على الفعل، ومن ثَمَّ قدرته على أن يخلق في العالم شيئًا جديدًا لم يكن موجودًا من قبل. وإن هذا التصور للفعل ظهر على وجه التحديد عند اليونانيين، عندما حلَّت الأقوال والأفعال محل قوة العنف العمياء، فساعد ذلك في خلق مجال عام ظهر فيه الأشخاص في مواجهة بعضهم أمام بعض، فساهموا في خلق العالم من جديد بطرق غير متوقعة»([43]).

المهم أنه من منطلق اعتقادها أن الحرية تتجسد من خلال الفعل في مجال السياسة، تنظر أرندت إلى التحرر القومي لليهود بوصفه إبداعًا إنسانيًا ينبغي أن يتم عن طريق انخراطهم السياسي في المجتمعات التي يقطنون فيها، وفعلهم السياسي الإبداعي، وليس عن طريق القوة والعنف- كما تصور هرتزل وغيره. وفي إشارة مُهِمّة جدًا، تربط «توبي إلكين» (Tobi B. Elkin) بين الفعل عند أرندت وتحرير اليهود، وتلاحظ أن ثَمَّة علاقة وثيقة بين الحرية المتجسِّدة في الفعل الإبداعي وسعيها لجعل اليهود يعيشون خارج الحدود الضيقة للذات الإنسانية([44]).

يتبين لنا إذًا كيف كانت أرندت صَهيونية بالمعنى الحقيقي للكلمة؛ فلم تنتقد الحركة الصهيونية لأنها عقيدة شمولية، استيطانية، مثلها مثل النازية تمامًا مع اختلاف الهدف الأيديولوجي، علاوة على أنها لم تهاجم إسرائيل إلَّا لكي تحاول إنقاذها من العثرات التي كانت تقع فيها آنذاك، وكأنها تقول لإسرائيل: إن تحرير عقول اليهود أهمّ وأَوْلَى من تحريرهم المادي، بل هو الطريق الوحيد لتحررهم الشامل، وإنَّ «الفعل السياسي» بأنفسهم سابق على «التمكين في الأرض».

كانت دعوة أرندت إذًا «تحذيرًا» لإسرائيل، من أن الدولة اليهودية كما تصورها هرتزل لن تحل «المشكلة اليهودية» العالمية؛ لأن النتيجة المأسوية هي أن مسألة معاداة السامية تحولت إلى معاداة الصَهيونية. كما أن سعي إسرائيل لتثبيت شرعيتها بالقوة لن يكون ممكنًا على الدوام. وبحكم أن إسرائيل دولة صغيرة تقع في منطقة محورية من صراع القوى العظمى، فسيكون مصيرها تقريبًا الخضوع لظروف لا يمكن السيطرة عليها كما كان الحال بالنسبة إلى مصير يهود المهجر في أوروبا. ومن ثَمَّ فإن الاعتقاد الإسرائيلي المنتشر في كثير من الأحيان، والذي مفاده أن الإسرائيليين يمكن أن يصمدوا أمام العالم كله- إذا لزم الأمر- أمرٌ غيُر واقعي، تمامًا مثل عدم اكتراث يهود المهجر بالفعل السياسي الإبداعي. وخلاصة القول: كانت أرندت تخشى من أن تؤدي هذه السياسة التي تنتهجها إسرائيل إلى نهاية مأسوية لها وللشعب اليهودي ككل.

وإضافة إلى هذا، فإن انتقاداتها في كتاب «أيخمان في القدس» كانت موجهة إلى تعاون القادة اليهود وتواطئهم خلال الحرب، ولم تكن موجهة إلى اليهود أنفسهم([45]). ومن ثَمَّ فإنها إذا كانت قد وقفت ضد إسرائيل- أو على الأصح ضد بعض سياساتها؛ خاصة في ما يتعلق بكيفية تعاملها مع المسألة الفلسطينية- وإذا كانت قد نَقَمت على إسرائيل في وقت ما، فإن ذلك لا يَعنِي خروجها عن الصَهيونية وفكرة القومية اليهودية العضوية، والمتمثلة بحلم الاستيطان اليهودي عن طريق «الاندماج» والانخراط السياسي، وليس عن طريق القوة والعنف.

وهكذا يتبين مدى تعصب أرندت للصَهيونية، على الرغم من نقدها لإسرائيل، وهكذا يتكشف مدى التحريف في قراءة «راينر فيمر» (Reiner Wimmer)- على سبيل المثال- من أن أرندت ليست مُنظِّرة عنصرية. كما يكشف لنا أيضًا أن ما بَدا من بعض الكُتّاب الإسرائيليين من أنهم غفروا لأرندت زَلاَّتِها في كتابها السابق، وما أبداه الكُتّاب العرب- خاصة ذوي الميول ما بعد الحداثية- من ثناء على مواقفها المعادية للصهيونية([46])، إنَّ هذا يكشف لنا أن هذه القراءات تفسيرات غير صحيحة، أو على أقل تقدير قراءات سطحية ومتعسفة لا تتعدى النظر الخارجي إلى خطاب أرندت الأساسي، ولا تراعي سياق نصوصها وخطاباتها السياسية، كما أنها لا تضع في الحسبان اللحظة التاريخية لمواقفها من إسرائيل، ومن الحركة الصَهيونية بصفة خاصة.

ومما يدعم هذه القراءة التي نقدمها لخطاب أرندت، أن النزاع حول مدى ولائها لإسرائيل لم يظهر إلَّا بعد نشرها للكتاب الذي انتقدت فيه كيفية محاكمة أيخمان، حيث كان عليها أن تواجه استجوابًا شديد اللهجة من اليهود الذين ذهبوا إلى حد رفضها بوصفها «ابنة إسرائيل» بسبب علاقتها القديمة والوثيقة بالمشروع الصَهيوني([47]).

ج- سوء فهم صَهيونية أرندت من قِبل الصَهاينة أنفسهم

ثَمَّة ظاهرة لافتة للنّظر، وتتمثل بأنه منذ أن أُسست إسرائيل، وهي تمقُت أيّ مفكر أو مثقّف يعارض الصَهيونية، من أي جنسيةٍ، ومن أي دين ينتمي، حتى لو كان يهوديًا، وتحاول بأيّ طريقة تشويهه أو إقصاءه تمامًا من الساحة الفكرية والثقافية. كما لا «تتسامح» إسرائيل مع أيّ مفكر أو سياسي يقف ضدها، أو يُبدي تحفظًا على سياساتها، حيث ترى فيه خطرًا داهمًا عليها، ولا تتهاون في تخويفه، وصدّه، وتشويه سمعته. ويُدرك الصَهاينة أنفسهم مدى أهمية جذب مَنْ يؤيد سياستهم، ويبارك عقيدتهم من خارج اليهودية، وخطورة من ينتقدهم من داخل الديانة اليهودية.

ومن هذا المنطلق انتقد عديد من المؤرخين والمثقّفين الصَهاينة ما جاء في كتاب أرندت عن محاكمة أيخمان، وخاصة تصويرها لأيخمان والذي تظهر فيه بصورة متعاطفة معه، وقد علَّق بعضهم قائلًا: «تقول أرندت إن أيخمان أساء التقدير والتصرف؛ لأن ذهنه ووعيه قد حُرّفا، الأمر الذي يجعله ضحية (الحظ العاثر). أليس هذا تعاطفًا معه؟!»([48]). لكن الأهم من هذا هو ذلك النقد الذي وجهه لها «جيرشوم شوليم»([49]) (Gershom Scholem) (1897-1982)، من بين آخرين، والمتمثل بتصويرها لليهود بأنهم شعبٌ منبوذ في العالم؛ الأمر الذي فهمه «شوليم» بأنه هجوم على السامية وعلى اليهود([50]).

وفي واقع الأمر إن دخول أرندت في مواجهات مع إسرائيل سبَّب لها الكثير من حملات التشويه المتعمدة، إضافة إلى حملات النقد من جانب اللوبي الصَهيوني في أميركا، وهي حملات لا تخلو من نوع من الإقصاء الممنهج، حيث اتِّهامها بخيانة الشعب اليهودي، والقضية اليهودية التي ظلت تدافع عنها على مدار حياتها. لذلك فعندما اتَّهمَها «جيرشوم شوليم» بخيانتها لفكرة القومية اليهودية، وكذا عدم حبها لدولة إسرائيل خاصة، رَدَّت عليه بأن نزعتها الوطنية وحبها للشعب اليهودي هو بالنسبة إليها، كيهودية أولًا وقبل كل شيء، واجب يُحتِّم عليها نقد السياسة التي تنتهجها إسرائيل، وغاية تُريد أن ترتقي بها إلى معايير أسمى من تلك التي لدى القادة الإسرائيليين أنفسهم([51]). وعندما تجادلت معه بشأن نشر هذه المراسلات، أعربت عن عدم رغبتها في نشرها، وقد انتابتها موجة من الغضب ناحية «شوليم» لاعتزامه نشر هذه المراسلات في وسائل الإعلام؛ لأنها كانت تخشى من أن يُساء فهم محتواها من الجمهور (مثلما حدث مع كتابها عن محاكمة أيخمان، والذي تَعرَّض لقدر كبير من إساءة الفهم المتعمدة من الجمهور والمثقّفين اليهود على حدٍّ سواء)([52]).

نستنتج مما سبق أن أرندت، وإِنْ كانت ترفض الاستيطان بالقوة وسياسة العنف في التعامل مع القضية الفلسطينية، فإنها ترى في الوقت نفسه أن «الصَهيونية الثقافية» هي الحل الوحيد للمسألة اليهودية وجميع مشاكل اليهود! إذًا وفي التحليل الأخير، بأي معنى يمكننا الحديث عن صَهيونية أرندت، إذا كانت الصَهيونية تهدف- ضمن ما تهدف إليه- إلى تمكين الأفراد والجاليات اليهودية في فلسطين؟

إِنَّ أرندت كانت مؤيدة وبشدة لذلك النوع من الصَهيونية الذي بدأ يُروَّج له بعد تأسيس دولة إسرائيل مباشرة، والمتمثل بالتركيز على أهمية الجوانب الثقافية والحضارية والإثنية في عملية توطين اليهود (أو ما يُسمى «الوعي اليهودي»). وهكذا فإن أرندت لم تنقلب، بعد زيارتها إلى فلسطين، إلى كونها رافضة لفكرة القومية اليهودية، بعد أن كانت مُلتزمة بها في فترات معينة. وأحد الأدلة الأخيرة على ذلك أنها دافعت طوال حياتها عن حق اليهود في الحياة والحرية وتحريرهم من الاضطهاد والقمع، وأنكرت على الشعب الفلسطيني كفاحه من أجل الاستقلال التام لأرضه، أو على أقل تقدير لم تدافع عن نضال الشعب الفلسطيني في سبيل استعادة حقوقه المسلوبة([53]).

نتائج الدراسة

من خلال هذه المحاور الثلاثة، توصلت الدراسة إلى عدد من النتائج التي يمكن إيجازها في الآتي:

1– ضرورة عدم التسليم الأعمى بأقوال ومشروعات السلام في الفلسفة الغربية؛ فقد تُخفي وراءها أقنعة زائفة تحاول من خلالها تحويل الانتباه أو التغاضي عن ممارسات دولة بعينها، ولنا في فلسفة أرندت خير نموذج على هذا.

2– إن ما يحرك الصهيونية، والنازية، وأي عقيدة سياسية قمعية أخرى، هو عقيدة دينية مبنية على فهم مغلوط للنصوص الدينية.

3– لا بد للحق من قوة تؤازره وتعضده وتحمي المستضعفين من بطش الظالمين، وعلينا أن نتذكر هنا ما قاله المناضل الثوري تشي غيفارا: «الحق الذي لا يستند إلى قوة تحميه سيبقى باطلًا في شرع السياسة»! الأمر الذي يؤكد أن امتلاك مزيد من القوة- في حالاتها المشروعة- قد يغني عن استعمال القوة ذاتها.

4– من الضروري عدم فصل الخطاب السياسي للفيلسوف عن حياته والمؤثرات والعوامل التي شكَّلت فكره. فقد تكون ثمة علاقة مُلْتَبَسة تجمع بين الطرفين، وعلى سبيل المثال، إذا كان الوجه الذي تظهر فيه أرندت في كتاباتها المتأخرة هو الوجه الإنساني، فإن الوجه الآخر لها هو الوجه الصَهيوني المتذبذب والمتردد باستمرار، ولكنه في كل حال وجه مكشوف تارة ومُتَخَفًّى تارة أخرى؛ وهذا الوجه الآخر لأرندت يقف على قدم المساواة لوجه أرندت الناقدة للسياسة الإسرائيلية في فترة متأخرة من حياتها، والأهم الناقدة لسطوة الأنظمة الشمولية. فخطاب أرندت السياسي، إذًا، يتعيَّن قراءته في ضوء المسار التاريخي والسياسي والاجتماعي الذي انبثق فيه، وفي ضوء فكرها الفلسفي العام.

5– إن الفكر الغربي ليس كله قائمًا على السلام وليس كله داعيًا للسلام، وقد برهنا على أن هناك بعض الفلاسفة الذين عُرف عنهم أنهم دعاة سلام، إلا أنه كان لهم وجه آخر وهم أبعد ما يكونوا عن السلام وكان أكثرهم مساندين لكيانات متجرّدة من القيم الأخلاقية والإنسانية والدينية كافة ومنها الكيان الصَهيوني، الأمر الذي يؤكد مرة أخرى ضرورة عدم التسليم بكل ما يطرحه فلاسفة الغرب من أفكار براقة وشعارات خادعة.

وحري بنا بعد هذه القراءة التي نقدمها لمشروعات السلام في فلسطين في ضوء من آراء حنة أرندت حول الصراع العربي الإسرائيلي، أن نتساءل:

هل يمكن النظر إلى السياسة بوصفها قيمة في حد ذاتها؟

هل من الممكن للساسة أن يُقوِّضوا أُطُر عوالمهم الاستبدادية، ويعودوا بها إلى الواقع السياسي الذي يهتم بالإنسان كقيمة في ذاته؟

هل يأتي ذلك اليوم الذي يُنظَر فيه إلى السياسة لا بوصفها سلعة تُباع وتُشترى؟ أم أن عجلة السياسة ستبقى تدور وتدور، لتسحق إلى الأبد، ولنظل في صراع دائم مع طواحين الهواء؟

–  لماذا سطع نجم «هنتنغتون»، و«فوكوياما»، ومَنْ هم على شاكلتهما، وتوارى فكر «ماكفرسون» (Crawford MacPherson) (1911-1987)، ومَنْ سار على دَربه؟

وأخيرًا، في ضوء التطلع إلى نظام عالمي جديد يحقق تعددية الأقطاب بديلًا عن سلطة القطب الأوحد أو السلطة ثنائية القطبية، هل يمكن أن يكون العالم العربي يومًا ما ضمن هذه الأقطاب؟!

المراجع / المصادر:

أولًا: المصادر والمراجع الإنجليزية

1– Agamben, Giorgio: Means without End: Notes on Politics, Theory Out of Bounds Series, Vol. 20, trans. by: Vincenzo Binetti and Cesare Casarino, Minneapolis & London: University of Minnesota Press, 2000.

2– Arendt, Hannah: The Portable Hannah Arendt, ed. by: Peter Baehr, New York: Penguin Books, 2000.

3– ………………: The Jewish Writings, ed. by: Jerome Kahn and Ron H. Feldman, New York: Schocken Books, 2007.

4– Aschheim, Steven E. (ed.): Hannah Arendt in Jerusalem, Berkeley: University of California Press, 2001.

5– Berkowitz, Roger, and others (eds.): Thinking in Dark Times: Hannah Arendt, On Ethics and Politics, New York, Fordham Univ. Press, 2010.

6– Carlisle, Erin J.: “How did she Forgive Heidegger? Hannah Arendt and the Politics of Forgiveness”, in: B. West (ed.), TASA Conference 2014. Adelaide, SA: Challenging Identities, Institutions, and Communities, Melbourne, VIC. Nov, 2014.

7– Elkin, Tobi B.: “A Study of the Pariah in Hannah Arendt’s Theory of Action”, M. A. Thesis in Political Science, University of Massachusetts,1990.

8– Ezra, Michael: “The Eichmann Polemics: Hannah Arendt and Her Critics”, Democratiya, No. 9 (Summer 2007).

9– Feher, Ferenc: “The Pariah and the Citizen (On Arendt’s Political Theory)”, Thesis Eleven, No. 15, 1986.

10– Grunenberg, Antonia: Hannah Arendt and Martin Heidegger: History of a Love, trans by: Peg Birmingham and others, Bloomington, Indianapolis: Indiana Univ. Press, 2017.

11– Hull, Margaret Betz: The Hidden Philosophy of Hannah Arendt, London: Routledge, 2002.

12– Jacobson, Eric: “Why did Hannah Arendt Reject the Partition of Palestine?”, Journal for Cultural Research, 2013.

13– Segev, Alon: Thinking and Killing: Philosophical Discourse in the Shadow of the Third Reich, Boston, Berlin: Walter de Gruyter, 2013.

14– Vromen, Suzanne: “Hannah Arendt’s Jewish Identity: Neither Parvenu Nor Pariah”, European Journal of Political Theory, Vol. 3, No. 2, 2004.

15– Yakira, Elhanan: “Hannah Arendt, the Holocaust, and Zionism: A Story of a Failure”, Israel Studies, Vol. 11, No. 3 (Fall, 2006).

16– Zertal, Idith: “A State on Trial: Hannah Arendt vs. the State of Israel”, Social Research, Vol. 74, No. 4 (Winter 2007).

ثانيًا: المصادر والمراجع العربية والمترجمة إلى العربية

1– أرنـدت، حنّـة (1958): الوضع البشري، هادية العرقي (مترجمة) (بيروت: دار جداول للنشر والتوزيع، 2015).

2– …………… (1961): بين الماضي والمستقبل؛ ستة بحوث في الفكر السياسي، عبد الرحمن بشناق (مترجم)، زكريا إبراهيم (مراجع) (بيروت: دار جداول للنشر والتوزيع، 2014).

3– ……………. (1963): أيخمان في القدس: تقرير حول تفاهة الشرّ، نادرة السنوسي (مترجمة)، علي عبود المحمداوي (مقدم) (وهران وبيروت: ابن النديم للنشر والتوزيع ودار الروافد الثقافية، 2014).

4– …………… (1969): في العنـف، إبراهيم العريس (مترجم) (بيروت: دار الساقي، 1992).

5– وايتلام، كيث: اختلاق إسرائيل القديمة، سحر الهنيدي (مترجمة)، فؤاد زكريا (مراجع)، سلسلة عالم المعرفة 249 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، أيلول/ سبتمبر 1999).

1– ( ) Benhabib, Seyla: “Hannah Arendt’s Political Engagements”, in: Thinking in Dark Times: Hannah Arendt, On Ethics and Politics, ed. by: Roger Berkowitz and others, New York, Fordham Univ. Press, 2010, P. 56.

2– ( ) يجب أن يكون واضحًا أن «معاداة اليهودية» تعني «العداء الديني لليهود»، وهي حركة مسيحية تكافح اليهودية على أساس ديني وثقافي بسبب عدم اعتراف اليهود بأن «يسوع المسيح هو المُخلص»، وهي حركة قديمة ترجع إلى أوائل القرن الرابع الميلادي واستمرت حتى منتصف القرن التاسع عشر أما «معاداة السامية» فتعني العداء العرقي، أو البيولوجي، للجنس السامي عمومًا، وهي حركة عنصرية حديثة العهد نسبيًا. والنازية كانت تعادي الاثنين معًا على المستوى السياسي والمستوى الثقافي.

3– ( ) Benhabib, Seyla: Loc. Cit.

4– ( ) انتشرت المعسكرات والمخيمات في فترة ما بين الحربين العالميتين، خاصة في فرنسا، وكانت تؤسَّس خِصِّيصًا لكي يعيش فيها اللاجئون الذين لا وطن لهم، وعلى رأسهم اللاجئون من يهود أوروبا.

5– ( ) Benhabib, Seyla: op. cit., P. 57.

6– ( ) Arendt, Hannah: “We Refugees”, in: The Jewish Writings, ed. by: Jerome Kahn and Ron H. Feldman, New York: Schocken Books, 2007, P. 272.

7– ( ) Ibid, P. 264.

8– ( ) Grunenberg, Antonia: Hannah Arendt and Martin Heidegger: History of a Love, trans by: Peg Birmingham and others, Bloomington, Indianapolis: Indiana Univ. Press, 2017, P. 1.

9– ( ) Feldman, Ronh H.: “The Pariah as Rebel: Hannah Arendt’s Jewish Writings”, in: Thinking in Dark Times, P. 199.

10– ( ) Benhabib, Seyla: op. cit., P. 56.

11– ( ) Feldman, Ronh: op. cit., P 199.

12– ( ) Arendt, Hannah: “The Jewish Army: The Beginning of A Jewish Politics?”, in: The Portable Hannah Arendt, ed. by: Peter Baehr, New York: Penguin Books, 2000, P. 46.

13– ( ) Ibid, P. 47.

14– ( ) Arendt, Hannah: “The Jewish War That Isn’s Happening”, in: The Jewish Writings, P. 166.

15– ( ) Arendt, Hannah: “The Jewish Army”, P. 46.

16– ( ) Laqueur, Walter: “The Arendt Cult: Hannah Arendt as Political Commentator”, in: Hannah Arendt in Jerusalem, ed. by: Steven E. Aschheim, Berkeley: Univ. of California Press, 2001, P. 52.

17– ( ) Arendt, Hannah: “We Refugees”, P. 274. Emphasis from us.

18– ( ) Agamben, Giorgio: “Beyond Human Rights”, in: Means without End: Notes on Politics, Theory Out of Bounds Series, Vol. 20, trans. by: Vincenzo Binetti and Cesare Casarino, Minneapolis & London: University of Minnesota Press, 2000, P. 25.

19– ( ) Ibid, P. 15.

20– ( ) Arendt, Hannah: “To Save the Jewish Homeland”, in: The Jewish Writings, P. 396.

21– ( ) Arendt, Hannah: “Peace or Armistice in the Near East?”, in: The Jewish Writings, P. 423.

22– ( ) Loc. Cit.

23– ( ) Arendt, Hannah: op cit., PP. 449-450.

24– ( ) Hitchens, Christopher: “Reflections on Antisemitism”, in: Thinking in Dark Times, P. 20.

25– ( ) Yakira, Elhanan: “Hannah Arendt, the Holocaust, and Zionism: A Story of a Failure”, Israel Studies, Vol. 11, No. 3 (Fall, 2006), P. 34.

26– ( ) Ibid, PP. 39-40; Benhabib, Seyla: op. cit., P. 56.

27– ( ) Yakira, Elhanan: op cit., P. 40. See also: Zertal, Idith: “A State on Trial: Hannah Arendt vs. the State of Israel”, Social Research, Vol. 74, No. 4 (Winter 2007), PP. 1127-1158.

28– ( ) كاترين كليمان، «حنا أرنت؛ من أجل مواطنة عالمية»، عز الدين الخطابي (مترجم) مجلة (مدارات فلسفية)، تصدر عن الجمعية الفلسفية المغربية، 2004، ص 141.

29– ( ) Segev, Alon: Thinking and Killing: Philosophical Discourse in the Shadow of the Third Reich, Boston, Berlin: Walter de Gruyter, 2013, P. 55.

30– ( ) حنّـة أرنت، أيخمان في القدس: تقرير حول تفاهة الشرّ، نادرة السنوسي (مترجمة)، علي عبود الحمداوي (مقدم)، (وهران وبيروت: ابن النديم للنشر والتوزيع ودار الروافد الثقافية، 2014)، ص 78.

31– ( ) كليمان، حنا أرنت، ص 141.

32– ( ) المرجع نفسه، ص 139.

33– ( ) Arendt, Hannah: “The Jew as Pariah: A Hidden Tradition”, in: The Jewish Writings, PP. 283-286.

34 ( ) «الصَهيونية الروحية» أو الثقافية Spiritual Zionism: هي حركة تدعو إلى إحياء التراث اليهودي؛ خاصة الآداب، والفنون، والتعاليم اليهودية، وتنادي بفكرة أن «الوطن القومي» اليهودي لا يَعنِي بالضرورة إنشاء دولة يهودية، بل أن تكون فلسطين هي المركز الروحي والثقافي لليهود في العالم. (كيث وايتلام، اختلاق إسرائيل القديمة، سحر الهنيدي (مترجمة)، فؤاد ذكريا (مراجع)، سلسلة عالم المعرفة 249 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، أيلول/ سبتمبر 1999)، ص 173).

35 ( ) وايتلام، اختلاق إسرائيل القديمة، ص 173.

36– ( ) Feldman, Ronh: op. cit., P. 200.

37 ( ) Agamben, Giorgio: op. cit., P. 24.

38– ( ) Feher, Ferenc: “The Pariah and the Citizen (On Arendt’s Political Theory)”, Thesis Eleven, No. 15, 1986, P. 16.

39– ( ) حنّة أرندت «ما هي الحرية؟»، ضمن: بين الماضي والمستقبل؛ ستة بحوث في الفكر السياسي،عبد الرحمن بشناق (مترجم)، زكريا إبراهيم (مراجع) (بيروت: طبعة دار جداول للنشر والتوزيع، 2014)، ص 204.

40– ( ) المرجع نفسه، ص 211.

41– ( ) حنّـة أرندت، الوضع البشري، هادية العرقي (مترجمة) (بيروت: دار جداول للنشر والتوزيع، 2015)، ص 197-198.

42– ( ) حنّـة أرندت، في العنـف، إبراهيم العريس (مترجم) (بيروت: دار الساقي، 1992)، ص 74.

43– ( ) Caruth, Cathy: “Lying and History”, in: Thinking in Dark Times, P. 79.

44– ( ) Elkin, Tobi B.: “A Study of the Pariah in Hannah Arendt’s Theory of Action”, M. A. Thesis in Political Science, University of Massachusetts,1990, PP. 101ff.

45– ( ) Hull, Margaret Betz: The Hidden Philosophy of Hannah Arendt, London: Routledge, 2002, PP. 125-126.

46 ( ) Laqueur, Walter: op. cit., P. 49.

47– ( ) Vromen, Suzanne: “Hannah Arendt’s Jewish Identity: Neither Parvenu Nor Pariah”, European Journal of Political Theory, Vol. 3, No. 2, 2004, P. 178.

48– ( ) Ezra, Michael: “The Eichmann Polemics: Hannah Arendt and Her Critics”, Democratiya, No. 9 (Summer 2007), P. 144.

49– ( ) «جيرشوم شوليم» مؤرخ يهودي- صهيوني من أصل ألماني، وقد كرَّس اهتمامه بحركات الشباب الصَهيونية تحت تأثير رفيقه «مارتن بوبر». وعندما أيَّد «بوبر» الحرب العالمية الأولى، اختلف معه «شوليم»؛ إذ تبنَّى موقف عدم اشتراك اليهود في الحرب، ولم يكن موقفه هذا ينبع من أي ميل عدائي من ناحيته تجاه الحرب، وإنما من موقف انعزالي يتمثل بأن الأمة اليهودية أمة عضوية لا علاقة لها بأوروبا أو بحروبها، وأن على اليهود أن يهاجروا إلى فلسطين لتأسيس الدولة اليهودية. ومعنى هذا أن الخلاف بين «شوليم» و«بوبر» ليس جوهريًا؛ لأن «بوبر» كان هو الآخر من دعاة الصَهيونية أو فكرة القومية اليهودية.

50– ( ) Feher, Ferenc: op. cit., P. 15.

51– ( ) Arendt, Hannah: “The Eichmann Controversy: A Letter to Gershom Scholem”, in: The Jewish Writings, PP. 466-467.

52– ( ) Yakira, Elhanan: op cit., PP. 34-35.

53– ( ) Jacobson, Eric: “Why did Hannah Arendt Reject the Partition of Palestine?”, Journal for Cultural Research, 2013, P. P. 1, 22.

  • حمدي الشريف

    دكتوراه في الفلسفة من جامعة سوهاج (2015)، أستاذ الفلسفة السياسية المساعد في كلية الآداب-جامعة سوهاج، (الدين والثورة بين لاهوت التحرير المسيحي واليسار الإسلامي المعاصر، 2016)، (فلسفة الكذب والخداع السياسي، 2019)، مفهوم العدالة في فلسفة مايكل ولترز السياسية، 2020)، (مفهوم الشر في الفكر السياسي المعاصر، 2023)، (الرمزية السياسية: مفهوم الرمز ووظيفته في الفكر السياسي، 2023)، وأخرى غيرها. ولديه العديد من البحوث والدراسات المنشورة في مجلات محكمة، إضافة إلى عديد من المقالات الفلسفية، وعدد من الترجمات. وهو عضو محكِّم في عديد من المجلات والدوريات العلمية العربية.

مشاركة: