مقدمة
أظهرت الحرب، التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين في قطاع غزة، بعد هجوم حركة “حماس” في 7 أكتوبر/ تشرين الثاني 2023، حجم العنف، الذي دأبت على استخدامه منذ نشأتها في عام 1948، وتفاقم منسوبه بعد أن جنحت إسرائيل كي تكون أشد تدينًا وتعصبًا وثيوقراطية، وعدّت نفسها صاحبة السيادة المطلقة على الأرض الفلسطينية، وتتمتع بسلطة قصوى على حياة الفلسطينيين، بوصفها صاحبة الحق في تحديد منْ منهم يستحق الحياة، ومن يستحق الموت، وذلك عبر اتباعها “سياسات إماتة”، أو “سياسات نيكرونية” (Nécropolitique) ([1])، وفق المفهوم الذي اجترحه الفيلسوف الكاميروني “أشيل مبمبي” (Achille Mbembe)، ويجسده الاستهداف المتواصل للوجود الفلسطيني، عبر الحروب، والتهجير القسري، إضافة إلى العقاب الجماعي المستمر، الذي مارسته إسرائيل على الفلسطينيين طوال عقود طويلة من عمر الصراع، فضلًا عن ممارسات جيش الاحتلال والمستوطنين.
أهداف البحث وحيثياته
يتناول البحث حيثيات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، محاولًا تّلمس أسباب عنفها المفرط، بالاستناد إلى مفهوم سياسات الإماتة، الذي يستند إليه من أجل تفسير حيثيات وغايات استخدامه ضد الفلسطينيين، وذلك بالاعتماد على منهج تحليلي، ونقدي، بغية تفكيك ظاهرة العنف المدروسة والوقوف على حيثياتها وأسبابها، وإجراء مقاربة فكرية للمفهومات التي تناولت العنف الاستعماري، بهدف تبيان السياق التاريخي للعنف المتأصل في العقل السياسي السائد في إسرائيل، وإبراز أوجه الاختلاف بين الاحتلال الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي، والاحتلال الاستعماري الكلاسيكي الحديث، والكيفية التي دأبت وفقها إسرائيل في اتباع سياسات الإماتة، وحيثيات محاولاتها تبريرها وتسويقها دوليًا وإقليميًا، تحت يافطة حماية مواطنيها، والكشف عن اتباعها إستراتيجيات التدمير العشوائي للبشر والحجر، بغية إبادة ما أمكنها من الشعب الفلسطيني، ودفع من يبقى على قيد الحياة إلى الهجرة، بغية الاستيلاء على أرضه، وإحلال مستوطنين يهود محله.
لقد أعادت الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية، موضوع العنف عمومًا إلى حقل النقاش العام، وعنف حكومة الحرب الإسرائيلية خصوصًا، بالنظر إلى أنها استخدمته بما يتجاوز “حق الدفاع عن النفس”. ذلك أن هذا الحق لا يبيح إفناء الآخر، ومحوه من الحياة، بوصفه أقل حقًا بالحياة الإنسانية، وعدّه لا يستحق حتى البكاء أو الحزن عليه من أي طرف.
العدو الوجودي
تصدر سياسات الإماتة عن قوة سيادية مسيطرة، تعكس ما يدور في عقول ساستها والقائمين على مراكز صنع القرار فيها، وبما يمنح إسرائيل تجريد الفلسطينيين من حقهم في الحياة، لذلك تبيح لنفسها حق استخدام العنف ضدهم، عبر منح جيشها ومستوطنيها الحق في قتل أكبر عدد منهم خلال الحروب التي تشنها، ومن ثم، فإن ما تقوم به في حربها على غزة يتجاوز كل ما يقال عن حقها في الرد على عملية “حماس”، ويدخل ضمن سياسة إقصاء الآخر الفلسطيني، بوصفه عدوًا وجوديًا، ومن حقها أن ترتكب جميع أعمال العنف ضده.
انعكست لغة العنف والتحريض على القتل في تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، حيث لم يتردد رئيس دولة الاحتلال، “إسحاق هرتسوغ”، في عدّ “أمة غزة مسؤولة بأكملها” ([2])، وطالب وزير التراث، “أميخاي إلياهو”، باستخدام السلاح النووي ضدّ القطاع، بل كرر دعوته في أكثر من مناسبة ([3]). وأمّا رئيس حكومة إسرائيل، “بنيامين نتنياهو”، لم يجد إلا الرجوع إلى التوراة ليقيم صلة إبادية بين العماليق والفلسطينيين، وكرر اقتباساته منها للتحريض على قتل أهل غزة ([4]).
العنف المتأصل
دفع العنف الإسرائيلي المتأصل في العقل السياسي السائد في إسرائيل، ليس فقط إلى استسهال استهداف المدنيين الفلسطينيين في الحرب، بل إلى إحداث تدمير أماكن عيشهم وسكناهم، وتدميرها المرافق العامة من مستشفيات ومدارس وأسواق وغيرها، فضلًا عن حرمان الفلسطينيين الغذاء والدواء، وقطع الماء والكهرباء عنهم. ويستدعي العنف الذي لا ينفصل عن السياسة والسلطة، بحسب فهم “حنة أرندت”، إلى كشف أوجه السياسة الممنهجة، التي دأب الاحتلال الإسرائيلي على ممارستها، حيث يغدو العنف المبرر الوحيد للسلطة ([5]). ويقود النقاش حوله إلى البحث في جذور العنف الإسرائيلي، وعن تاريخه وأشكاله المتعددة، والنظر في القصف الهائل، الذي يصنف في خانة أعمال القتل العشوائي، التي لا تفرق بين المدنيين ومسلحي حركة “حماس”.
بالمقابل، ارتكبت حركة “حماس” عنفًا شديدًا ضد المدنيين الإسرائيليين في العملية التي نفذتها في 7 تشرين الثاني/ أكتوبر الماضي، وليس هناك ما يسوغ عنفها حتى إن كان بمنزلة نتاجٍ لعنف إسرائيل، وسبق أن مارسته ضد فلسطينيين في قطاع غزة، حين استولت على السلطة بعد 14 حزيران/ يونيو 2007. لكن لا يمكن اتخاذ عنفها مبررًا لعنف إسرائيل المفرط ضد الفلسطينيين.
نشأة الصراع
تحاول بعض الأوساط الإعلامية الغربية والإسرائيلية تسويق سردية أن الصراع هو بين إسرائيل وحماس، في حين أن الواقع يظهر أن أصل المشكلة، وما ترتب عليها من صراع، هو الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي للأرض الفلسطينية، حيث يعود سياقها التاريخي إلى نشأة إسرائيل عام 1948، في حين أن حركة حماس أُسست عام 1987، في سياق ردة الفعل الفلسطينية على ممارسات الاحتلال التي لا تطاق.
نشأت إسرائيل على نحو غير طبيعي، فهي ليست كباقي دول العالم، التي تشكلت وفق سيرورات اجتماعية بين مجموعات بشرية تسكن إقليمًا من الأرض، ويجمعها تاريخ وعيش مشترك، بل نشأت ككيان استعماري استيطاني، نهض على نظرية “النقاء العرقي”، إضافة إلى رديفتها “النقاوة الجنسية”، بغية تدعيم أسطورة “الشعب المختار”، النقي الخالص، فيما يكشف الواقع أن اليهود اختلطوا بدماء شعوب كثيرة، ونهلوا من ثقافات أمم عديدة على مرّ التاريخ، وباتوا يشكلون مجموعات مركبة وغير متجانسة، والأهم هو أن قوى يهودية استعمارية استولت على الأرض الفلسطينية، وأن اليهود الذين استقدموا إليها ليسوا من بني إسرائيل، فهم يتألفون من دماء مختلطة، بأشد ما يكون الاختلاط، وبما يبعدهم عن أيّ أصول إسرائيلية فلسطينية قديمة، حيث لا يوجد رابط أنثروبولوجي بين الطرفين إلا رابط الدين” ([6]). ولجأ هؤلاء المستوطنون إلى اقتلاع وتهجير السكان الأصليين بالقوة، وإحلال محلهم مجموعات يهودية، هجينة ومتعددة الأصول والأعراق والثقافات والجنسيات، حيث اختلقت الحركة الصهيونية سردية “أرض الميعاد”، بوصفها أرض إسرائيل المقدسة، وعملت على نزع شرعية الوجود الفلسطيني، وعدّ الفلسطينيين مجرد غزاة احتلوا الأرض الموعودة، ومن ثم يجب طردهم وتهجيرهم، والاستيلاء على الأرض واستيطانها، ومن ثم فإن قيام إسرائيل كان استعمارًا واستيطانًا إحلاليًا في الوقت نفسه، وهو “استيطان مستمر وليس حدثًا منفصلًا، فمنذ أكثر من سبعة عقود قام الاستعمار الاستيطاني في فلسطين بعمليات ممنهجة من التطهير العرقي وما رافقها من مجازر وتدمير وتهجير للفلسطينيين قسرًا من بيوتهم والاستيلاء على ممتلكاتهم” ([7]).
ساهمت عدة دول غربية استعمارية في نشأة إسرائيل، وخاصة بريطانيا، التي فرضت ما سمته الانتداب على فلسطين في 1922، وكان عاملًا رئيسيًا في تثبيت ركائز المشروع الاستيطاني الصهيوني فيها، وذلك في إطار السيطرة الإمبريالية على دول المشرق العربي التي كانت خاضعة للحكم العثماني، انطلاقًا من فهم استعماري كان سائدًا في ذلك الوقت لدى القوى العظمى، عدّ أنه ينبغي على دول أوروبا حكم البلدان غير الأوروبية، بحجة أن الأوروبي، المتحضر، هو الذي سيأخذ بيد غير الأوروبي نحو الحضارة، هو الذي سيزرع الأرض ويعمّرها، فيما لا يمكن أن يزرعها سكانها الأصليون على نحو فعال، بوصفهم همجيين وغير متحضرين. وقد دعمت القوى الاستعمارية إسرائيل في المحافل الدولية، وساعدت الحركات الصهيونية في استقدام يهود من مختلف أرجاء العالم، والتسويق لمقولة عودة اليهود إلى أرض أجدادهم، بالاستناد إلى ما كان “حاييم وايزمن” يردده “نحن لسنا بقادمين ولكننا عائدون” ([8]). وقد تلقى المشروع الصهيوني دعمًا غير مشروط من طرف وزير خارجية بريطانيا في ذلك الوقت، “آرثر جميس بلفور”، الذي كشف عن التزام القوى الأربع العظمى بالصهيونية، “أكانت الصهيونية على خطأ أم على صواب، أو كانت شيئًا جيدًا أو سيئًا، فإنها متأصلة بعمق في تراث من الماضي البعيد وفي حاجات الحاضر وآمال المستقبل، وهي أهم كثيرًا من رغبات وتحيزات 700 ألف عربي ممن يقطنون الآن تلك الأرض القديمة” ([9]).
مع تزايد هجرة اليهود إلى فلسطين، بعد عام 1948، تشكلت دولة إسرائيل بوصفها كيانًا غير متجانس، يعتمد على العنف في استمراره، ويعيش على الصراع الدائم مع الفلسطينيين، بغية إنهائهم والسيطرة على أرضهم وأماكن عيشهم. وظلت الفكرة الاستيطانية الإحلالية المؤسسة لإسرائيل، العامل الموحد للاجتماع السياسي فيها، واقتضت خوض صراع مع الفلسطينيين، من أجل محو وجودهم، وهدم أسس حضارتهم وثقافتهم، الأمر الذي قابله الفلسطينيون بالمقاومة والرفض، وعدم الاستسلام للمشروع الصهيوني.
بقيت إسرائيل مجتمعًا مختلطًا، أو بالأحرى غير متجانس، منذ تأسيسها، حيث اعترف “دافيد بن غوريون”، أول رئيس حكومة لإسرائيل بعدم تجانس التركيبة المجتمعية في إسرائيل، فهي هجينة ومنقسمة، لذلك عدّ أنها بحاجة إلى الانصهار، إذ “مع انتهاء المعارك علينا أن ننقل إلى البلاد جموعًا أثيرة، وأن نوطنهم وأن نجذرهم في الأرض.. هذا الشعب الكبير ذو الألوان المختلفة علينا أن نصهره من جديد في بوتقة جديدة لنطبع منه أمة جديدة” ([10]). لكن معارك إسرائيل لم تنتهِ، بحيث يمكن القول إنها دولة قامت على العنف، واستمرت فيه، وأضحت كيانًا حربيًا، هدفه تصفية الوجود الفلسطيني، وكبح وسائل مقاومته، لكنها لم تتمكن من ذلك على الرغم من كل ما قامت ضد الوجود الفلسطيني أكان ذلك داخل فلسطين أم خارجها، حيث استمر الفلسطينيون في مقاومتهم، التي لم تنقطع منذ 76 عامًا من إقامة الكيان الإسرائيلي، ومما يقارب القرن من بدء المشروع الصهيوني.
توظيف العنف
تناولت دراسات وأبحاث عديدة الحالة الإسرائيلية، وصرفت جهدًا كبيرًا في تبيان بنيتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية، وتفكيك نشأتها وتاريخها، من خلال تشريح المفاصل التي أفضت إلى أنّ قيام الدولة الإسرائيليّة، التي بُنيت على واقع استثنائيّ، ولم تكف عن توظيف العنف، وتطبيعه في الداخل الإسرائيلي، حتى بات سلوكًا عاديًا في سياق الحياة اليوميّة، من أجل الحفاظ على ما تسمّيه إسرائيل حقها السيادي في ممارسته ضد الآخرين، وتمتعها في الجمع البنيوي بين الاستعمار والاستيطان الإحلالي، ما دفعها إلى الاستمرار في محاولة مسح الوجود الفلسطيني وممارسة التهجير القسري والتطهير العرقي، بوصفهما من الأفعال المؤسسة لدولة إسرائيل، وعدم التوقف عن محاولاتها الاستيلاء على الأرض والمكان الفلسطينيين، وطمس الهوية الفلسطينية عبر إلغاء آثارها في المدن والبلدات والقرى، وسرقة ممتلكات الفلسطينيين الخاصة. ولم تُخفِ إسرائيل منذ نشأتها هدفها الأساسي في تفريغ الأرض الفلسطينية، ومحاولة إظهارها أرضًا فارغة مخصصة للصهاينة. وهي ممارسة استعمارية ليس بالمعنى الاستعماري الأوروبي في القرن العشرين، أي ليس عبر استغلال السكان، ولكن عبر عملية إفراغية، وتحويل من تبقّى منهم إلى أيادٍ عاملة رخيصة ملحقة، ومهاجرين في معسكر أو في مكان معزول ومغلق (غيتو)، وهؤلاء ليسوا أكثر من أدوات استعمالية، يمكن تسخيرها واستغلاها، ولا تعمل بالضرورة على إبادتهم. لكن الأساس هو عملية إفراغ الأرض من ساكنيها عبر طردهم، وتطهيرهم عرقيًا، حيث ارتبطت عملية التطهير في فلسطين بالإفراغ الجغرافي، وتحت شعار أن الفلسطينيين ليسوا إلا عربًا رُحّل، فليعيشوا مع العرب الآخرين في البلدان العربية، وقد وصفهم الفيلسوف الفرنسي “جيل دولوز” بـ “هنود إسرائيل” ([11]).
المشروع الصهيوني
نهض العقل الصهيوني على تبني عدوانية دائمة للفلسطينيين والعرب، وعمل على تنفيذ مشروعه بالعنف عبر ممارسة أشكاله كافة ضد الفلسطينيين، وإنكار الوضع القائم في فلسطين قبل عام 1948 ومحاولة إزالته، وإجبار الفلسطينيين على الهجرة، فرفض الصهاينة إطلاق اسم فلسطين عليها، مع الترويج لفكرة نفي الوجود الفلسطيني فيها، ثم تكفل الاحتلال بمحاولة إزالته في الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل بعد عام 1967، وعمل على نفي الوجود عن السكان الأصليين، ومحاولة إزالة آثارهم، من أجل تسويق مقولة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، التي كان يدعيها زعماء الحركة الصهيونية كـ”إسرائيل زانغويل” و”تيودور هيرتزل”. كما عمل الاحتلال الإسرائيلي على نزع إنسانية الفلسطينيين، ووصفهم بمجموعات (همجية، بربرية) لا تمت بصلة إلى البشر، لذلك جرى الترويج لقتلهم في غزة، لأنهم لا يستحقون التعاطف الإنساني، فهم مجرد “حيوانات بشرية” ([12])، ومجموعة من الفائضين أو النافلين، ومن ثم، فإن الأساس الذي نهض عليه النظام الإسرائيلي لا يختلف كثيرًا عن الأنظمة الشمولية، خاصة النازية والستالينية، بحسب ما وصفتها وعرّت أسسها الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت ([13]).
أباحت إسرائيل لجيشها ومستوطنيها الاستهتار بحياة الفلسطينيين، والتحكم فيها، كونها تصدر عن سلطة إماتة، تقتل منهم ما تشاء، وخاصة من يعارض أو يقاوم سطوتها، وتحدّد من يعيش منهم تحت احتلالها، كي تشغله في العمالة وبناء المستوطنات، حيث يعمل داخل إسرائيل والمستوطنات أكثر من 200 ألف عامل. وقد حرمت الحرب الإسرائيلية على غزة مئات آلاف الفلسطينيين العمل، فارتفع عدد العاطلين من العمل إلى نحو 369 ألفًا، من بينهم 240 ألفًا في قطاع غزة ونحو 129 ألفًا في الضفة الغربية، بحسب مؤسسات فلسطينية اقتصادية، واتحاد نقابات عمال فلسطين ([14]).
الرهاب الأمني
أفضى العنف الإسرائيلي إلى تفشي نوع من الرهاب في أذهان الإسرائيليين الصهاينة حيال الفلسطينيين، يتمثل بحاجتهم الدائمة إلى الأمن، وجعلوا أمن إسرائيل مقدسًا، ويعلو على كل شيء، بحجة أنهم بحاجة إلى حماية أنفسهم من الأخطار التي يشكلونها عليهم، وقد دفع الخوف المبني على الوهم إلى بناء جدُرٍ ضدهم، لا يجسدها فقط جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية، بل له تجسيدات وأشكال مختلفة، وليس فقط في ذلك الجدار الإسمنتي الحقيقي، بل أيضًا في تقليص المساحات التي يُسمح للآخر الفلسطينيّ بالحركة والانتقال فيها، وإبعاد الفلسطينيين عن اليهود في الأماكن العامة وأماكن العمل والسكن، وغيرها كثير. وتحولت جميعها إلى أماكن استثناء، تلك التي وصفها مبمبي في البلدان المستعمرة، حيث رفضت الدول المستعمرة الاعتراف بها كدول وشعوب، بل مناطق، أو مزارع، يُعدّ فيها عنف حالة الاستثناء عاملًا في خدمة الحضارة. وقد استمرت ممارسات الفصل العنصري وحروب الإبادة في التحول عبر التاريخ، وانتهى بعضها بفضل نضالات ثوار تلك البلدان وشعوبها، لكنها لا تزال مستمرة في الحالة الإسرائيلية.
العنف والسيطرة
يشي ارتباط العنف بالمشاريع الاستعمارية الاستيطانية على أنه يهدف إلى السيطرة والتحكم والقضاء على أجساد السكان الأصليين، وهو ما يُعدّ عاملًا تكوينيًا في بنية الأنظمة القائمة على أساس عنصري تمييزي كالنظام الإسرائيلي، فالعنف ليس مجرد منتج ثانوي للاستعمار الاستيطاني، بل إن الاستعمار وفق منطق العنف هو بحدّ ذاته مجاز للقانون الاستعماري المرتبط بالبنية العرقية له، حيث يتحدى عنف الاحتلال الاستيطاني جميع القوانين الدولية والإنسانية، وقوانين حقوق الإنسان، عبر إهداره حياة الفلسطيني.
نهض الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، بوصفه بُنية، وليس حدثًا، على مبدأ العنف، وعمل مناصروه على استخدامه ضد سكان المدن والمناطق والقرى الفلسطينية، سعيًا للتدمير والهدم من أجل الاستبدال والإحلال، واستكمالًا لمشروع القضاء على تواجد الفلسطينيين لاستبدالهم بالمجتمع والنظام الاستيطاني الجديد. وقد رسخت إسرائيل منذ إنشائها المنطق الاستعماري العرقي الذي يعدّ الفلسطيني هو الآخر الذي يشكل خطرًا على اليهودي والنظام الصهيوني، الأمر الذي يتشابه مع منطق الاستعمار الغربي للرجل الأبيض الذي عرّاه إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق. وقد سكنت الأيديولوجيا العرقية وتراتبيتها أذهان المفكرين الصهاينة، الذين عدّوا الفلسطينيين مجموعات من البدو الرحل غير المتحضرين، فيما عدّوا اليهود شعبًا يعمل على جلب الحضارة الأوروبية إلى الأرض الموعودة.
لم تكف سلطات الاحتلال الإسرائيلي عن مسعاها في تحويل المجتمع الإسرائيلي إلى مجتمع يهودي محض، بل باتت إسرائيل الدولة الوحيدة في العالم، القائمة على أساس ديني، حيث تعرّف نفسها بأنها دولة يهودية، لذلك عملت على إنشاء أرض فلسطين بوصفها مستقرًا لليهود، في مجتمع متجانس دينيًا فقط، وذلك على حساب اقتلاع سكان البلاد الأصليين، والاستيلاء على أرضهم وعزلهم، والنظر إليهم على أنهم يمثلون تهديدًا وجوديًا لمجتمع اليهود، الذي يحظى بالانسجام والتوافق، ولأجل ذلك يجب العمل على وضعهم في أوضاع تصبح فيها حياتهم مستحيلة، وهو ما يقتضي اتباع سياسات حياتية، يُحدَد فيها من يحق له الحياة، كي يوظَّف في خدمة مجتمع اليهود، ومن يجب قتله، بمعنى أن العقل الإسرائيلي اتبع سياسات إماتة، وفق ما عرفها آشيل مبمبي في مفهومه للسياسات النكرونية أو سياسات الإماتة، التي ترتكز على تنظيم سلطات سيادية، تجمع بين السلطة الانضباطية والسياسات الحيوية وسياسات الإماتة، وبما يضمن لدولة إسرائيل سيطرة مطلقة لاحتلالها على سكان الأرض الأصليين، لذلك تعمد إسرائيل باستمرار إلى شن عمليات اعتقال واسعة بين صفوف الفلسطينيين، وسجنهم مددًا زمنية طويلة جدًاـ فضلًا عن الأعداد الكبيرة للمعتقلين إداريًا، والحصار الذي تفرضه عليهم، وجدار العزل العنصري.
تمثل تلك الممارسات في مجموعها إجراءات تجعل الفلسطينيين موضوعًا تفرضه موجبات السيادة الإسرائيلية الذي تنفذها مؤسسة عسكرية، احتلالية واستيطانية إحلالية، فيما تقوم بالتزامن مع ذلك بعمليات عسكرة ممنهجة ومنظمة للمجتمع الإسرائيلي، تطال حتى الأفراد العاديين، وتشمل مختلف تفاصيل الحياة اليومية، مع إعطائهم جميعًا الحق في إطلاق النار على أي فلسطيني حين يشعر الإسرائيلي بتهديد محتمل.
سياسات الإماتة
ارتكز مبمبي في مفهوم سياسات الإماتة إلى أطروحات الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو والإيطالي جورجيو أغامبين، ولا يخلو الأمر من الاستناد إلى أطروحات الفيلسوفين الألمانيين كارل شميت وحنّه أرندت حول مفهوم السياسة، حيث اتخذ مفهوم سياسات الإماتة مسارًا في التحول من مفهوم السلطة الحيوية، والسياسة الحيوية، اللذين اجترحهما فوكو ([15])، عبر تدعيم مركبات أطروحة إخضاع الحياة للسياسة، واستند إليهما أغامبين في مفهوم الحياة العارية، وفي تحديد عتبتها، حيث عمل أغامبين على مركزة مفهوم “المعسكر” في السياسات الحيوية ([16])، الذي يناظر ما قامت به إسرائيل في التعامل مع قطاع غزّة بوصفه معسكر اعتقال، حيث حُشِر فيه أكثر من مليوني إنسان معًا، تحت مختلف الأنواع من قصف الصواريخ والقنابل والقذائف، بلا غذاء أو ماء أو كهرباء، مع عدم وجود أي مكان آمن يمكن أن يلجأ المدنيون إليه.
اجترح فوكو مفهوم السلطة الحياتية، القائمة على ضبط أجساد الأفراد والرقابة التنظيمية على المجتمع، انطلاقًا من فهمه للسياسة كمفهوم تفاعلي يقوم على آليات وعلاقات وبنى نظرية، تعمل على تحقيق أهداف السلطة، التي تفرض سيادتها، بوصفها قوة عنفية، تعمل على تثبيت النظام وتشريع القوانين. ومن خلال ممارستها السيادية، تحكم السلطة بالقانون الذي يحدد علاقتها بالشعب، ويقتضي امتلاكها الحق في الإماتة والإحياء، حيث إن حق الحياة والموت للسلطة يعني أنها تستطيع أن تميت من تشاء وأن تمنح الحياة كذلك ([17]). فالسلطة وفق فوكو تتجسد في ممارستها، كونها “قبل كل شيء حقًا للقبض: على الأشياء والزمان، والأجساد، وفي النهاية على الحياة، ولعلها تبلغ ذروتها في امتياز الاستيلاء على هذه الحياة لإلغائها كليًا ([18]). وتعمل السلطة الحيوية من خلال تقنيات الضبط والمراقبة بهدف السيطرة على الأجساد والأرواح، حيث يمثل السجن المكان الذي تمارس فيه أنظمة المراقبة والمعاقبة في مساحات محددة، يجري فيها الفصل المكاني ومراقبة السكان، مثلما تفعل إسرائيل في المناطق الفلسطينية. إضافة إلى أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي توجّه أجساد الأفراد والأجساد الجمعية للفلسطينيين، بوساطة سياسات الإماتة التي تتبعها، من أجل تحديد أشكال جديدة لوجودهم، بحيث يتعرضون فيها لظروف حياة لا تطاق، حيث لا تمنحهم إلا وضع الحي الميت.
عمل مبمبي في مفهومه للسياسات النكرونية، أو سياسات الإماتة، على تطوير مفهوم فوكو عن السلطة الحيوية أو البيولوجية، التي تُحدَّث خلالها تقنيات الحكم في السيادة، التي تُمارس فيها السلطة العنف، من خلال إدارة سياسية حيوية للسكان، لكن مبمبي يعدّها غير كافية لتفسير أشكال الإخضاع الحديثة، القائمة على العنف، مثلما تمارسه إسرائيل على الفلسطينيين، فهي لا تأخذ في الحسبان استمرار التقنيات النكرونية في الدول الديمقراطية الليبرالية، إلى جانب تجاهلها “مركزية العبودية الاستعمارية كشرط مكّن تطوير الرأسمالية الغربية، ففي صميم الرأسمالية الليبرالية “كان الخلط بين العنف والسيادة من جهة والتوتر بين التداول الحر للممتلكات والحرية السياسية للذوات من جهة أُخرى” ([19]).
سعى مبمبي لتحديد مفهوم سياسات الإماتة، بوصفها التوظيف الأداتي المعمم للوجود البشري، واستخدام العنف من أجل التدمير المادي الممنهج للأجساد البشرية والسكان، واعتمد قراءة نقدية مغايرة للسياسات الاستعمارية، وما بعدها، تلك التي تنتج العسكرة واللامساواة والعداء، ضمن إعادة إنتاج أنماط النزعات العنصرية والفاشية، التي تقود إلى حروب الإبادة والإقصاء والتهجير القسري، تلك النزعات الاستعمارية التي تضمر تناقضًا صارخًا في المجتمعات والدول الاستعمارية، وتجمع ما بين الديمقراطية في الداخل والاستعمار في الخارج، حيث تعكس صورتين لها، تتجسد الأولى في جسدها الشمسي، بوصفه جسدًا مشرقًا نهاريًا في مراكزها الاستعمارية، وتحاول تكريسه لصورتها دوليًا، فيما تتجسد صورتها الثانية في سياق مساعيها لاستعمار الآخرين والسطو على مقدراتهم، وتمثل جسدها المظلم الليلي، الذي تظهره في ممارساتها في البلاد المستعمرة، الهامشية، التي تحولها إلى مزارع ومستوطنات أو بالأحرى معسكرات عقابية، مكرسة بذلك مقولة أن الديمقراطية تشرق في الغرب، وتغرب في الشرق حرفيًا” ([20]). ولا يعود هذا التناقض إلى الفرق بين المجتمعات المدجنة والمجتمعات المحاربة، بل إلى “السياسات الاستعمارية للدول الإمبريالية الغربية التي جعلت الحرب طقسًا مقدسًا لأزمنتنا المعاصرة، تفرض به سيادتها وتتخلص به من أعدائها، الفعليين أو المفترضين” ([21]). وعلى ذات الشاكلة، تحاول إسرائيل تسويق مظهرها الشمسي بالزعم أنها الديمقراطية الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط، لكنها تعدّ في الوقت نفسه أرض إسرائيل حقًا حصريًا لليهود فقط، وبما يشكل صورة جسدها المظلمة أو بالأحرى صورتها الحقيقية، القائمة على نفي الآخر غير اليهودي، لذلك فإن العنف يعود إلى نشأة إسرائيل وتكوينها ككيان احتلالي وإحلالي، قائم على وصفه وسيلة وحيدة من أجل فرض سيادتها على الأرض، ومصادرتها للفضاء الفلسطيني، إذ تبيح سلطة الاحتلال الصهيوني الاستيطاني لنفسها ممارسته إلى أقصى درجات العنف، وبمختلف أشكاله، لتتحول السياسات الحياتية من إدارة وتنظيم الحياة في الأماكن التي تحتلها إلى إدارة عمليات القتل وتنظيم الإماتة، عبر ارتكاب جرائم الإبادة، والتطهير العرقيّ، والتهجير القسريّ، والاعتقالات الموسّعة.
العنف الإعلامي
تحاول وسائل إعلام كثيرة تسويق مقولة أن الحرب هي بين “حماس” وإسرائيل، وتصوير إسرائيل وكأنها ناطقة باسم جميع اليهود في العالم، فيما تحوّل حماس إلى ناطقة باسم جميع الفلسطينيين في الداخل والشتات. وتمارس إسرائيل عنفًا إعلاميًا، إذ خلال معاركها المتوالية في حربها على الفلسطينيين، يطلّ الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي على شاشة التلفزة، ويحاول تجاوز ما يقوم به الجيش من انتهاكات، بهدف “تدشين تفوق أخلاقي لمصلحة إسرائيل، فيقول: “جيش الدفاع يحمي المدنيين الإسرائيليين بالصواريخ، بينما يحمي الإرهابيون الصواريخ بالمدنيين” ([22]).
يتجلى العنف الإعلامي الإسرائيلي في حرب أجهزة الدعاية الإسرائيلية على حواس المشاهد بغية الحدّ من نطاق ما يفكر فيه حيال ماهية الحرب، من خلال فرض رقابة صارمة على أخبارها ووقائعها، بغية تحييد وعيه العام بالحرب على غزة، التي تريد تسويق شرعنتها وتبرير نتائجها، حيث تتحول الصور والمشاهد المسجلة إلى سلاح يحدد بدقة الأهداف على الأرض، تلك التي تسجلها كاميرات طائرات الاستطلاع وطائراتها الحربية أو جنودها، أو تلك التي يسجلها المراسلون، وتعمل أجهزتها الدعائية على فبركة مادية للصورة كي تختلط بمادية الحرب، وتسيل الفاعلية بين الكاميرا وحاملها، فتصير الكاميرا امتدادًا للإنسان، ويصير الإنسان امتدادًا للكاميرا ([23]).
فرضت إسرائيل قيودًا على كل ما تنشره وسائل الإعلام الغربية عمومًا، حيث اشترطت الخضوع لرقابتها قبل نشرها أي صورة أو خبر عن وقائع حربها على الفلسطينيين، فضلًا عن عدم سماحها بدخول الصحفيين الأجانب إلى قطاع غزة، والتضييق على كل من يحاول إظهار قدرًا من الموضوعية في تغطية وقائع وأحداث حربها في غزة، وممارساتها وأفعالها في الضفة الغربية. وتجلى العنف الإسرائيلي الإعلامي في استهداف الصحافيين الفلسطينيين، وغيرهم ممن يسعون لنقل ما يجري على أرض غزة، سعيًا منها لطمس الحقيقة وإخفاء جرائمها الوحشية، إلى جانب التهديدات والاعتقالات في غزة والضفة الغربية. وطاول العنف قصف الجيش الإسرائيلي مكاتب ومقارّ وسائل الإعلام، وتدميره أكثر من 50 مقرًا إعلاميًا لوسائل محلية وأجنبية داخل قطاع غزة، من ضمنها مكاتب عدد من المؤسسات الإعلامية في “برج الغفري”، الذي كان يضم وكالة الأنباء الفرنسية، وقناة الجزيرة، وقناة الشرق، والمجموعة الإعلامية الفلسطينية، فضلًا عن تعطل جميع الإذاعات العاملة في قطاع غزة، وتوقفها عن البث، بسبب منع الكهرباء ونفاد مصادر الطاقة.
تشير تقارير الأمم المتحدة أنه “منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، قُتل أكثر من 122 صحفيًا وعاملًا في وسائل الإعلام في غزة، وأصيب عديد منهم” ([24]) كما تعمدت إسرائيل استهداف أفراد عائلاتهم، وقتلت عديدًا منهم، وخاصة عائلة مراسل الجزيرة وائل الدحدوح، وتجاوز عدد العاملين في وسائل الإعلام الذين قتلتهم إسرائيل خلال الأشهر الثلاثة الأولى من حربها على غزة عدد الصحافيين الذين قتلوا في حرب فيتنام التي دامت 20 عامًا، حيث بلغ عدد الصحافيين الذين قتلوا فيها 63 صحافيًا، كما تجاوز عددَ الصحافيين الذين قتلوا على مدى ست سنوات من الحرب العالمية الثانية، وبلغ عددهم 69 صحافيًّا ([25]). ودفع الاستهداف الإسرائيلي المتعمد للصحفيين منظمة “مراسلون بلا حدود” إلى التقدم بطلبين لدى المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في جرائم الحرب المرتكبة ضد الصحافيين في فلسطين. ولعل استهداف الصحافيين يشي بأن القتل بات عنوانًا لدولة تحكمها منذ نشأتها حكومات تعدّ التخلص من الصحافيين الذين يحاولون نقل الحقيقة، والاعتداء عليهم، أمرًا عاديًا، لذلك تعودت قوات الاحتلال، منذ سنوات طويلة، قتل الصحافيين، الفلسطينيين والأجانب، أولئك الذين يرمون إلى إظهار حقيقة أفعالها، ويكشفون للرأي العام العالمي ما تقوم به، وبما يفنّد الدعاية الصهيونية، التي تحاول دومًا إظهار إسرائيل بمظهر الضحية، وإخفاء حقيقة ما تفعله بضحاياها، الذين يرزحون تحت نير الاحتلال والحصار الجائر، ويعانون تبعات نظام الغطرسة والفصل العنصري.
الإبادة المكانية
اجترح المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحق في السكن اللائق، “بالاكريشنان راجاغوبال”، مفهوم “الإبادة السكنية” (Domicide) ([26])، وطالب بإدراج الإبادة السكنية إلى قائمة الجرائم ضد الإنسانية، وذلك على خلفية أن القصف الإسرائيلي، على قطاع غزة منذ الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أدى إلى تدمير أكثر من 75 في المئة من المباني السكنية فيه، حيث ألقت إسرائيل من المتفجرات ما يعادل قنبلتين ذرّيتين من عيار تلك التي ألقتها الولايات المتحدة على مدينة هيروشيما اليابانية في عام 1945. وهُجّر ما يقارب المليونين، أي ما يقارب 85 في المئة من سكان القطاع، من مساكنهم إلى رفح والمناطق المتاخمة للحدود المصرية، فضلًا عن منع سيارات الإسعاف من إنقاذ الجرحى أو انتشال جثامين الضحايا، استكمالًا لقصف المشافي، وتدمير المدارس، ومراكز الإيواء وتجريف المعالم التاريخية، وتخريب المؤسسات الثقافية والدينية، ونبش المقابر، بغية محو آثار سكان كانوا هنا ولم يعودوا كذلك، والوصول إلى تدمير قطاع غزة بالكامل، ومحو مظاهر الحياة فيه.
يتشابه نموذج غزة في الإبادة السكنية مع نموذج مدينة “غروزني” في جمهورية الشيشان التي دمّرها الجيش الروسي تدميرًا كاملًا، بأوامر من فلاديمير بوتين في نهاية 1999، ونموذج مدينة حلب السورية التي دمّرها جيش الأسد بدعم من الجيش الروسي والميليشيات الإيرانية وقوات نظام آل الأسد في عام 2016، ومدينة “ماريوبول” الأوكرانية التي دمّرها الجيش الروسي خلال غزوه أوكرانيا عام 2022. ولا شك في أن مدنًا عديدة أخرى يمكن إضافتها إلى قائمة المدن التي تعرضت لمختلف أنواع الإبادة.
إذًا، العنف الإسرائيلي القائم على سياسات الإماتة، يمتد إلى إبادة المكان، أو إماتته بوصفه فضاءً للعيش، بحسب ما طرحه الباحث الفلسطينيّ “ساري حنفي” في مفهوم “Spaciodide” ([27])، الذي بناه على المنهجية الإسرائيلية التي اعتمدتها لاقتلاع الفلسطينيين من مكانهم المادي، عبر قتل الفضاء الّذي يعيشون فيه أو إبادته، ويتصل ذلك بالعنف الممارس في التطهير العرقيّ والفصل العنصري والاستيلاء على الأراضي، ويمتد إلى هدم المنازل، وحرب الأمكنة الهادفة إلى الاستيلاء على المكان الفلسطيني ([28])، إضافة إلى سياسات العزل والفصل وتقطيع الأوصال في المناطق الفلسطينية كافة. وخلال فترة الانتفاضة الفلسطينية الثانية، التي استمرت من أيلول/ سبتمبر 2000 وحتى 30 أيلول/ سبتمبر 2005، تضرر 73,567 وحدة سكنية، منها 7,633 وحدة سكنية دمرت بالكامل في الضفة الغربية وغزة. كما رُحّل الفلسطينيون أيضًا من خلال “سحب الجنسية” من نحو 200 ألف فلسطيني وجدوا أنفسهم محاصرين بين حواجز إسرائيل في الضفة الغربية، وباتوا عالقين، وليسوا في الفضاء الفلسطيني أو الإسرائيلي، بل أصبحوا بحكم الأمر الواقع بلا دولة ولا مكان لهم. وقد أصبحت هذه “الإبادة المكانية” ممكنة من خلال التقسيم الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية إلى مناطق مجزأة بوساطة نظام الطرق الالتفافية، الذي يقسم الضفة الغربية إلى 64 كانتونًا صغيرًا ([29]). أما بعد عام 1948، فقد دُمّرت القرى الواقعة على امتداد الطريق بين يافا والقدس، وطوال خمسة عشر عامًا جرى تدمير 410 قرية من أصل 560 قرية فلسطينية هُجّر سكانها، تدميرًا كاملًا، وبلغ عدد القرى التي جرى البناء الاستيطاني عليها نحو 93 قرية، في حين استغل الاحتلال الصهيوني باقي مواقع القرى لبناء قواعد عسكرية ([30]).
يعدّ حنفي أن المشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي هو مشروع “إبادة مكانية (Spacio-cide)، يستهدف الأرض لغرض تنفيذ التهجير المحتوم “للسكّان الفلسطينيين عن طريق استهداف – في المقام الأول – المكان الذي يعيش فيه الشعب الفلسطيني”. و”تحقيق مشروع الإبادة المكانية يصبح ممكنًا من خلال نظام يطبق ثلاثة مبادئ: مبدأ الاستيطان ومبدأ الفصل وحالة الاستثناء التي تتوسّط بين هذين المبدأين المتناقضين ظاهريًا” ([31]).
خاتمة
أظهرت الحرب الإسرائيلية على غزة أن ما تقوم به إسرائيل في احتلالها، يختلف عما قام به الاحتلال الاستعماري المتأخر في جوانب عديدة، لا سيما في استخدامها العنف المفرط، الذي يتخذ أشكالًا متعددة، ويصدر عن عقل سياسي ينهض على سياسات قتل هدفها تنفيذ الإبادة الشاملة للشعب الفلسطيني، ولا تجسدها الإبادة الجماعية فقط، بل الإبادة السكنية أيضًا، وإبادة المكان والفضاء، لذلك مارس الاحتلال الإسرائيلي مختلف أصناف الضبط والسياسة الحيوية وسياسات الإماتة. وتظهر ممارسات العنف أن غايتها فرض إسرائيل سيادتها المطلقة على الفضاء الفلسطيني، أكان ذلك على مستوى البر أم البحر أم الجو، فهي تملك جميع التقنيات لإنتاج أنماط من العنف توظفها من أجل تنفيذ مستويات قصوى من التحكم والمراقبة والفصل، والعسكرة، والتمييز العنصري، وغير ذلك.
بالمقابل، على الرغم من ممارسة إسرائيل العنف في حالاته القصوى، إلا أنها بقيت تعيش فزعًا ورهابًا دائمين من الفلسطينيين، حيث تظهر تلك الممارسة تصورات في العقل الإسرائيلي، يتحسب فيها لعودة الأرواح الفلسطينيّة على هيئة أشباح أو أطياف لم ينس الكيفية التي جرت وفقها عمليات قتل أجسادها. ولعل ارتباط الفلسطينيين بأرضهم، وتمسكهم بوطنهم، وامتلاكهم بعدًا حضاريًا وثقافيًا، يمتد إلى العمق العربي، جعلهم يتصدون لمحاولات سلطة الإماتة محوهم، ومن ثم صمدوا طويلًا – ولا يزالون – أمام جميع الأهوال والنكبات التي أصابتهم.