مقدمة
شكل هجوم حماس على مستوطنات غلاف غزة، 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وتداعياته الحدث الأبرز على صعيد المنطقة والعالم، وخلط الأوراق من جديد لجهة التذكير بقضية متعثرة وقد دخلت في متاهة حلول غير مكتملة هي القضية الفلسطينية. كما تفاقم الجدل حول المقاومة الإسلامية ومدى شرعيتها ووطنيتها، ودورها في استثارة ردات فعل إسرائيلية أكثر عنفًا ووحشية.
كررت عملية “طوفان الأقصى هذه، بصورة ما، حرب 2006 بين إسرائيل وحزب الله، أو حرب 6 تشرين الأول/ أكتوبر بين مصر وسورية من جهة وإسرائيل من جهة أخرى. في هذه المعارك الثلاث لم تستطع إسرائيل تحقيق الغلبة منذ البداية وبصورة حاسمة، كما فعلت في حرب 1967، لكنها احتفظت بقدرتها على التدمير واستعادة المبادرة لهذه الدرجة أو تلك. وكانت مفاجأة عيد يوم الغفران في “طوفان الأقصى” هي الثانية لإسرائيل بعد مفاجأة اليوم ذاته في أثناء حرب 1973.
هاجمت إسرائيل غزة، في ردة فعل اتسمت بصعوبة خاصة بسبب بناء حماس لشبكة أنفاق معقدة، فاستُخدم التدمير والتهجير الواسعان كتكتيك عسكري وكان جلّ ضحاياه من المدنيين، قبل أن يستفيق العالم على وحشية ما تقوم به إسرائيل في مساحة جغرافية ضيقة وذات كثافة سكانية شديدة[1]، مستغلةً موجة التضامن العالمية، والغربية خاصة، غير المسبوقة معها، وضد حماس وعمليتها الاستعراضية غير المحسوبة، و”الناجحة” بمقاييس استجلاب هذه المآسي كلها لسكان قطاع غزة.
تحتوي هذه المقالة على كثيرٍ من الأسئلة التي لا يمكن الإجابة عنها بالطريقة “المريحة والمقنعة” التي اعتدنا عليها، وربما هي محاولات للتفكير والمراجعة فحسب. فحجم المآسي، وآخرها ما وقع لفلسطينيي غزة، لم يعد يكفي تجاهه التضامن وشتم إسرائيل والحديث عن الحقوق المغتصبة، إنما لا بد من “تمزيق” الحجب كلها التي تمنعنا من الرؤية الواضحة والشاملة، والنظر بتمعُّن حولنا وفي دواخلنا.
ثلاثة أرباع القرن من عمر القضية
ثلاثة أرباع القرن هي عمر القضية الفلسطينية، كقضية شعب طُرد من أرضه بعد قيام دولة إسرائيل (15 أيار/ مايو 1948) والحرب التي تلتها، وقد وعد “جيش الإنقاذ” الذي دخل الحرب مع الفلسطينيين أنهم سيعودون إلى ديارهم فور استكمال التحرير، لكن الحرب انتهت بهزيمة الجيوش العربية وبقي الفلسطينيون في الشتات. ولم يتوقف سعي المؤسسة الصهيونية، مستغلة الظلم الذي وقع على اليهود في أوروبا، للاستيلاء على مزيدٍ من الأراضي بالسبل كافة. وتمثّل الخطأ العربي الأول برفض حل الدولتين الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1947 بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، والذي استند إلى دعم وتوافق المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي.
لكن هذه السردية، وعلى الرغم من صحتها، فهي تغفل كثيرًا من التفاصيل والحيثيات التي حالت دون مواجهة هذا المد الاستيطاني، وأهمها الفرق في القدرة على التنظيم واستخدام الموارد وزجها في المعركة، كفارق حضاري بين العرب وإسرائيل وقتها، الأمر الذي لم يختلف كثيرًا حتى الآن. ولم يحل شتم إسرائيل وحلفائها دون تحقيقها مزيدًا من التقدم، كما لم نتمكن من الانتقال إلى طريقة في التفكير تمكننا من الاستفادة من العوامل والأسباب التي كانت وراء إنجازات إسرائيل ونجاحاتها العسكرية، كتحصيل حاصل.
وبعد فشل اتفاقيتي أوسلو (1993 و1995) أو إفشالهما، حلت في المقدمة تنظيمات راديكالية مدعومة من إيران الإسلامية، الجهاد الإسلامي وحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، على خلفية صعود الإسلام السياسي والجهادي بعد ثورة الخميني (1979)، بينما بقي التنسيق والتخطيط شبه معدوم بين الأنظمة العربية في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، التي استُغلَّت ولم تتوقف محاولات الهيمنة على قرار منظمة التحرير، ممثلتها الشرعية.
فماذا حقق العرب والإسرائيليون خلال هذه الفترة الزمنية الطويلة؟
انتقلت إسرائيل، التي لم يعترف العرب بوجودها أصلًا[2]، من مجرد منظمات إرهابية إلى بناء دولة ديمقراطية ولو كان فيها ألف عيب، وقوية بقدرات دولة عظمى ولو فشلت قبتها الحديدية، نسبيًا، في صد صواريخ “الجهاد وحماس” وغرقت دباباتها الميركافا في وحل غزة. فإسرائيل يمكن أن تشكل تهديدًا حقيقيًا بالنسبة إلى جميع جيرانها العرب والعجم، ولو بمساعدة حلفائها، على الرغم من محدودية مساحتها الجغرافية التي تحاول أن تبقيها من دون حدود واضحة. وهي بعيدة جدًا عن لحظة الانهيار التي يحلم بها أولئك الذين يقاتلونها بالخناجر على طريقة الحشاشين في العهد الأيوبي، مدفوعين بحماس لم ينقطع ولم يتعقلن ولم يحقق شيئًا ملموسًا لمن يدعون الدفاع عنهم، إلا باستخدامهم كمورد لا ينضب للموت، وكفائض سكاني ناجم عن “معاركهم” البيولوجية غير المنضبطة هي أيضًا!
وخلال هذه الفترة ذاتها من عمر القضية، وعلى الرغم من التضحيات الجسام، عجزت القوى الذاتية الفلسطينية وداعموها العرب، الأنظمة الثورية على وجه التحديد، عن تحقيق أي نصر إستراتيجي يعتد به، أو تحقيق أي درجة من الديمقراطية لشعوبها التي أذلتها وضيقت عليها سبل الحياة حتى “انفجرت” عام 2011 بما سمي الربيع العربي. كما انتظر الفلسطينيون والعرب أكثر من نصف قرن حتى يعودوا ويقبلوا بحل الدولتين، الذي أصبح أشبه بالحلم، وإن تحقق، فبشروط أسوأ كثيرًا من الذي كان يمكن الحصول عليه في عام 1947.
وعلى مستوى الجسم الأكثر تمثيلية لهذه القضية، أي منظمة التحرير الفلسطينية التي أُسّست عام 1964 ونالت الاعتراف العالمي بها عام 1974 كممثلة للشعب الفلسطيني، فقد كانت “إنجازاتها” الرئيسة هي محاولة تحرير عمان وبيروت في الطريق إلى القدس التي ابتعدت أكثر فأكثر، ولم تستطع المنظمة وداعموها تحرير شبر واحد من الأرض الفلسطينية بالقوة العسكرية، لا قبل 1967 ولا بعده، إلا إذا استثنينا اختطاف حافلة ركاب إسرائيلية على طريق حيفا – تل أبيب لعدة ساعات في العملية البطولية التي قادتها دلال المغربي عام 1978.
الطريق المتعثرة إلى حل الدولتين
أثمرت الانتفاضة الفلسطينية الأولى السلمية (1987–1993)، التي فجرتها حادثة دهس إسرائيلي لعمال فلسطينيين، عن توقيع اتفاقية أوسلو الأولى (13 كانون الأول/ ديسمبر 1993) وُضِعت بموجبها ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي للفلسطينيين، واعترفت المنظمة بموجبها بحق إسرائيل بالعيش بسلام ونبذ العنف. وكان من نتائجها أيضًا تشكيل السلطة الوطنية الفلسطينية بعد اتفاق غزة – أريحا عام 1994. ثم تلتها اتفاقية أوسلو الثانية (28 أيلول/ سبتمبر عام 1995) كمقدمة لتسوية شاملة خلال خمس سنوات، لكن العنف كان قد تصاعد من المتطرفين الإسرائيليين (مجزرة الحرم الإبراهيمي) والفلسطينيين (سلسلة تفجيرات انتحارية)، ودفع اسحق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي حياته ثمنًا لها (4 تشرين الثاني/ نوفمبر 1995).
أما بعد عسكرة الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000–2005)، فكانت النتيجة تدمير مؤسسات السلطة الفلسطينية وفوز حركة حماس في انتخابات 2006 في قطاع غزة، ومن ثم معركتها الدموية ضد فتح، والتي انتهت بالسيطرة التامة على القطاع وطرد كوادر فتح إلى الضفة الغربية، كعربون وفاء لمنتخبيهم من الفلسطينيين اليائسين من فساد “فتحهم”، فأثبتت حماس للعالم أن الصراع العقائدي أهم كثيرًا من الصراع مع الأعداء وتحرير الأرض.
وأصبحت الطريق إلى مشروع حل الدولتين مليئة بالأشواك والعوائق، وبشروط لا حصر لها، في ظل ميزان قوى صار يميل لصالح إسرائيل بما لا يمكن مقارنته بعام 1947. واغتبطت إسرائيل، طالما أن مشروع الدولة الفلسطينية انتهى إلى دويلة فتح في الضفة الغربية وإمارة حماس في قطاع غزة. فكان على إسرائيل أن تساعد إمارة حماس بمدها بأسباب الحياة، فلا يمكن قيام دولة فلسطينية بوجود سلطة حماس في قطاع غزة، وهو المطلوب بالنسبة إلى إسرائيل. كما حمت إسرائيل فتح من نفوذ حماس المتزايد في الضفة الغربية، فالمهم هو ألا تتوحد الضفة الغربية وغزة تحت أي راية، وتبقى الدولة الفلسطينية مجرد حلم. وفي الوقت ذاته، “غربلت” إسرائيل الضفة الغربية بالمستوطنات، وشقت فيها طرق التفافية للمستوطنين الزاحفين في كل اتجاه، والمعتمرين لقلنسواتهم منذ السبي البابلي، أما غزة فلا مكان فيها لمستوطنات جديدة، وكانت قد نقلتها إسرائيل عند انسحابها عام 2005 إلى محيط القطاع وسميت مستوطنات غلاف غزة.
طوفان الأقصى أم طوفان غزة؟
طرحت عملية حماس الأخيرة كثيرًا من الأسئلة أو أعادت طرحها بقوة من دون إجابات واضحة: إلى أين تسير القضية الفلسطينية؟ ومن يحمل لواءها؟ وما علاقتها بالقضايا التنموية والتنويرية والديمقراطية والإنسانية المعلقة؟ وهل ثمة أمل أو إمكانية لابتداع أساليب وطرائق تفكير جديدة يمكن أن تعيد تعريفنا للمقاومة وربطها بقضية الفلسطيني المستهدف من أعدائه و”مناضليه” في حريته وحياته؟ وخاتمة الأسئلة تتمثل بكيفية السعي لبناء دولة فلسطينية بالاستناد إلى مفاهيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، على كثرة عقباتها والمتاجرين بها؟
لقد وصلت حركة حماس إلى أوج قدراتها التنظيمية وقوتها العسكرية في عملية طوفان الأقصى، ومنها ستبدأ غالبًا بالاضمحلال والزوال وتتحول إلى مجرد ذكرى، ولا يعني ذلك التفاؤل بأن لا حركات شبيهة يمكن أن تظهر بعدها، فثمة خزان من الجهل المقدس والمظالم التي يمكن أن تتفاعل مع بعضها لتحدث مثل هذه الطفرات غير الملائمة. ويبقى الأمل بأن تُسرِّع مثل هذه الصدمات من انبثاق وعي جديد أصبح حاجة ماسة لشعب فلسطين وشعوب المنطقة، مع أن عملية طوفان الأقصى قد أطاحت علاقة التعايش بين حماس وإسرائيل، وانفتحت الاحتمالات على اتساعها من جديد، وقد تحولت عملية طوفان الأقصى غير المحسوبة إلى طوفان شرد أهل غزة وأذاقهم صنوف الموت والعذاب.
صورة الواقع الفلسطيني والعربي بعد “طوفان الأقصى”
حول المواقف العربية الشعبية من عملية طوفان الأقصى الحمساوية، أفادت استطلاعات الرأي في بداية عام 2024 أن أهم سبب للعملية هو استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية (35 في المئة)، بينما جاء الدفاع عن المسجد الأقصى كثاني أهم الأسباب (24 في المئة)[3]. في هذه الاستطلاعات ثمة أمر لافت هو أن النسبة الأكبر من الذين يقولون إن هدف العملية هو الدفاع عن المجسد الأقصى (45 في المئة) وإنها مشروعة (79 في المئة) جاءت من فلسطين، مقابل نسبة 5 في المئة قالوا بعدم شرعيتها[4]، الأمر الذي يعكس ازدياد شعبية حماس وضعف شعبية السلطة الفلسطينية حتى في عقر دارها (الضفة الغربية)، وهو أمر لا يبشر بالخير، بالنظر إلى أن نسبة مهمة من الفلسطينيين تقف وراء حماس عسكريًا وعاطفيًا ودينيًا، وهو عامل لا يخدم إنشاء دولة فلسطينية على أسس مقبولة من الأطراف كلها، إنما إمارة إسلامية لن تقبل إسرائيل ولا العالم بها؛ أي أن حل القضية الفلسطينية (حل الدولتين) قد تراجع في هذه المرحلة.
وعبّر 92 في المئة من المستجوبين العرب عن تضامنهم مع شعب غزة، وانخفضت هذه النسبة إلى 69 في المئة إذا أضفنا التضامن مع حماس إلى التضامن مع غزة، وهو مؤشر جيد نسبيًا لجهة التفريق بين تأييد حماس وتأييد شعب غزة[5]. وأكد 59 في المئة من المستجوبين العرب أن السلام مع إسرائيل غير ممكن بعد الحرب على غزة، وأن مواقف دول الغرب كانت سيئة جدًا (94 في المئة)، مع التركيز على الدور السيّء للولايات المتحدة وفقدان الثقة بها، وأنها الأكثر تهديدًا للمنطقة من إسرائيل بنسبة الضعف (51 في المئة مقابل 26 في المئة)، بينما تراجعت إيران إلى المرتبة الثالثة كخطر يهدد المنطقة (7 في المئة)[6]، وعُدّ موقفها، كما الموقف التركي، إيجابيًا برأي نصف المستجوبين تقريبًا (48 في المئة و47 في المئة على التوالي)[7].
كما رفض 89 في المئة من المستجوبين الاعتراف بإسرائيل، وعدّ 92 في المئة منهم أن القضية الفلسطينية هي قضية العرب جميعهم، وجاءت النسبة الأقل حول هذا الأمر من فلسطين (67 في المئة)[8]، فكيف نفهم ذلك، أو كيف يكون العرب فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم؟ هذا غير منطقي بالطبع، ويعكس عواطف شعبية لا تقدم شيئًا للقضية وينظر إليها الفلسطينيون أنفسهم بعين الريبة، وهي إشارة مهمة إلى ضرورة أن ندع الفلسطينيين “يقلعون شوكهم بأيديهم”.
من الواقع العربي أيضًا، ولمعرفة طبيعة ردات فعل الأوساط الأكاديمية التي من المفترض أنها تُنتج الفكر والمعرفة، سنأخذ عينة هي مجموعة من المقالات المنشورة لـ 42 باحثًا وأكاديميًا في ملف أصدرته الشبكة الدولية لدراسة المجتمعات العربية (إيناس) [9]. تقول الباحثة اللبنانية التي أعدت الملف، ماريز يونس، إن المقالات/ أو وجهات نظر الباحثين هؤلاء، تُعدّ نقلةً نوعية من “نقد العقل العربي والتراث الديني بعد حرب 1967، إلى نقد العقل الحديث بوصفه مفلسًا ومهيمنًا ومثقوبًا”[10]، فهل الأمر كذلك بالفعل، أو هل يتطابق هذا التحول في النقد مع تطورات تبرره في الواقع العربي الراهن؟
في مقالته في الملف المذكور، على سبيل المثال، يقول ساري حنفي، مدير مركز الدراسات العربية والشرق أوسطية في الجامعة الأميركية في فلسطين، إنه “لكي يفكر المرء في الحرب الفلسطينية – الإسرائيلية، ينبغي أن يستخدم المقياس نفسه لإدانة أي هجوم لا يميز بين المدنيين والمقاتلين بغض النظر عن السياق”، وإن “الحرب وحدها غير قادرة على استعادة الحقوق الفلسطينية العادلة”[11]. إنه قول شجاع لفلسطيني في مواجهة رأي عام معظمه مستثار عاطفيًا، وهي المقالة الوحيدة التي تدعو إلى تحييد المدنيين عن أي فعل عنفي، فهو بذلك يدين هجوم حماس بصورة غير مباشرة، لكنه يُعدّ أن هذه العملية تجعل الاحتلال يدفع ثمنًا أكبر، ولا ينوه الكاتب إلى دور المقاومة السلمية والإخفاق في تبنيها كسياسة ثابتة أو رديفة على الأقل.
ويستعرض كاتب فلسطيني آخر، شرحبيل الغريب، رئيس منتدى العلاقات الدولية للحوار والسياسات في غزة، الحلول السياسية المقترحة لقطاع غزة والردود عليها، ويدعم اقتراح إجراء انتخابات فلسطينية تفضي إلى حكومة جديدة يمكنها أن تدير الوضع في غزة[12]، بمعنى إلغاء مفاعيل فوز حماس في انتخابات غزة 2006 ونتائجها الحالية. وتتحدث كاتبة فلسطينية في الملف، إصلاح جاد، عن ازدواج المعايير إن تعلق الأمر بإسرائيل، كونها “إذن أميركا للتجسس على منطقتنا” وعن ضرورة معاقبة إسرائيل[13]. ولا بد من التساؤل هنا حول ماهية المواقع والقدرات التي تتجسس عليها أميركا أو إسرائيل عندنا!
أما الكتاب والأكاديميون الآخرون المشاركون في الملف فقد كرروا عبارات “شعبية” حول انحياز الغرب الديمقراطي لإسرائيل، مثل الأكاديمي الفلسطيني أباهر السقا[14]، الذي يضع كلمة الديمقراطية بين مزدوجتين وكأنها لعنة، ويريد للغرب، في الوقت نفسه، أن ينحاز لقضيته، أو كأن الديمقراطية يمكن أن تُختصر بموقف خارجي لهذه الدولة أو تلك، مع أن المواقف الغربية انتقدت اليمين الإسرائيلي فور تكشُّف وحشية الهجوم على غزة. ولا يتطرق الكاتب إلى الواقع المحلي والعربي، الواقع الذي يجعل من ديمقراطية الغرب، وحتى ديمقراطية إسرائيل المنقوصة، “نجمة” نحلم أن نطالها. كما لا يشير الكاتب، ولا باقي كتاب الملف لا من قريب ولا من بعيد، إلى دور حماس في مأساة سكان قطاع غزة الأخيرة أو اختصار المقاومة بها وبطريقتها، ولا إلى جدوى هذه المقاومة بعين تحليلية كما يفترض بأكاديمي أن يفعل، فضلًا عن عدم وضوح مشروع حماس وارتباطاتها الخارجية غير الملائمة لإحداث تراكم يمكن البناء عليه وطنيًا، فهي لا تختلف، في العمق، عن تنظيم الإخوان المسلمين الذي ولدت من رحمه.
أما الكتاب العرب في الملف، فلا تختلف مقالاتهم من حيث فقرها المعرفي والتحليلي. كما في دعوة محسن بوعزيزي، أستاذ علم الاجتماع في جامعة تونس المنار، إلى “عدم التسليم بمفاهيم وقيم أنتجها الفكر الغربي حول المعنى الغربي للقيم الإنسانية ومفاهيم أخرى من قبيل العولمة والحداثة والقيم الإنسانية” في ضوء أحداث غزة الأخيرة، وعَدّ الكاتب أن “لا إنسانية للقيم الإنسانية”[15]. وعلى الرغم من كثيرٍ من خيبات الأمل التي يمكن أن تدفع لمثل هذا القول، فإن اتهام القيم الغربية باللاإنسانية، وهي التي أضحت عالمية، ليس بذي فائدة، ما دامت لا توجد منظومة بديلة وشاملة يمكن أن تحل محلها.
ولا يختلف الأكاديمي الجزائري عنصر العياشي عن زملائه بتكرار مقولة الانحياز الغربي لإسرائيل[16]. كذلك يفعل علي الموسوي من لبنان، والذي تميز عن زملائه بتأييد حل الدولة الواحدة الديمقراطية، دولة المواطنة والعدالة والإنصاف وتفسيرها على أساس المصالح لا المبادئ من أجل العيش في شرق أوسط جديد[17]. فيما تحدثت مواطنته سحر حجازي عن وجود عنصرية مؤسساتية وازدواجية معايير في الأمم المتحدة من حيث تشريع عنف وإدانة آخر[18]. ولا تقدم المقالات الأخرى أيضًا أفكار ملموسة، لكنها تؤكد الفقر المعرفي لهذه الأصوات الأكاديمية بصورة تدعو إلى الخجل. خلاصة القول، للأسف، أن المقالات الموجودة في الملف لا ترقى إلى أهمية الحدث وحجم المسؤوليات، وكتابها أقرب إلى كتاب تقارير وموظفين.
ردات فعل دولية وعربية ومحلية
كانت عملية حماس بمنزلة الصدمة للرأي العام الغربي، وانعكس ذلك في وسائل الإعلام تضامنًا واسعًا مع الإسرائيليين في الأيام الأولى بعد العملية، لا بل إن بعض وسائل الإعلام انساقت وراء المبالغات الإسرائيلية ثم تراجعت عنها، كما في ادعاء قطع حماس لرؤوس أطفال إسرائيليين، الأمر الذي ردده الرئيس بايدن، ما اضطر الناطق باسم البيت الأبيض إلى الاعتذار[19]. ويبدو أن عملية حماس، بالنسبة إلى الغرب، أعادت ذكرى هجوم منظمة القاعدة في الولايات المتحدة، 11 أيلول/ سبتمبر 2001، ولو أن المقارنة هنا لا تصح تمامًا على الرغم من وجود بعد التقاطعات. ولم تلبث أن تزايدت الانتقادات الغربية للإسرائيليين بسبب حجم التدمير وأعداد الضحايا من المدنيين، مع التأكيد على حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها، ربما من منطلق أن “البادئ أظلم” والرغبة في تصفية حماس.
وبالنسبة إلى الإعلام العربي كانت عملية حماس ملائمة لممارسة الشعبوية، وفي مقدمته قناة الجزيرة الرائدة في هذا المجال والأكثر انتشارًا، فهي لسان حال الجماهير العربية بالفعل، بمعنى تغليب العواطف على العقل وممارسة التحريض والبعد عن محاولة الارتقاء بالرأي. ولا حاجة بنا إلى الحديث عن إعلام الدول المحكومة بأنظمة تسلطية، والتي تتباكى على شعب غزة ولا تأخذ حياة شعوبها في الحسبان.
أما حماس فقد نشرت في 20 كانون الثاني/ يناير وثيقة موجهة إلى الرأي العام العالمي بعنوان “هذه روايتنا.. لماذا طوفان الأقصى؟”، وجاء فيها: “إلى أحرار العالم مناصري الحق ورافضي الظلم، والمدافعين عن الحرية والعدالة وكرامة الإنسان، في كل مكان”[20]. وبعد استعراض المظالم التي تعرض لها الشعب الفلسطيني، تساءلت الوثيقة: ماذا كان يتوقع العالم من شعبنا أن يفعل[21]؟ في هذا التساؤل يكمن لبّ المشكلة، فالحديث عن الشعب أنه “شعبنا” هو احتكار وسلب لإرادة الشعب الفلسطيني، مهما كانت شعبية حماس، ما يذكر بخطابات العروبيين في حركات التحرر الوطني في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، والتي انتهت إلى دكتاتوريات عسكرية استجلبت، بسبب إخفاقها، حركات الإسلام السياسي هذه لتزيد الأمور تعقيدًا بأساليبها المنافية لروح العصر.
في هذه الوثيقة، تحمل حماس العالم “المتقاعس” ما نتج من هجومها على مستوطنات غلاف غزة، وأن عمليتها جاءت بطلب وأمر من الشعب الفلسطيني: “هل كان المطلوب من شعبنا أن يواصل الانتظار والرهان على الأمم المتحدة ومؤسساتها العاجزة، أم أن الردَّ الطبيعي على تلك الممارسات هو مبادرة شعبنا للدفاع عن أرضه وحقوقه ومقدساته”[22]. وتضع حماس أهدافًا لعمليتها تبدأ من “مواجهة ما يحاك من مخططات إسرائيلية تستهدف تصفية القضية الفلسطينية… إلى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس”[23]. وبعيدًا من هذه “العنتريات” الثورية، فإن ما حققته حماس حتى الآن هو التسبب بقتل وتدمير واسعي النطاق في قطاع غزة، بالتضامن والتكافل مع اليمين الإسرائيلي، فيما بقي المسجد الأقصى شامخًا في مكانه، ولم ينل الشعب الفلسطيني (شعب حماس) غير الموت والتشرد والذل، وانتظار أن يتكفل أعداء حماس، دول الغرب، بتأمين أبسط الاحتياجات التي تساعده، مرة أخرى، على البقاء.
كما نوهت حماس في الوثيقة المذكورة إلى الفوضى التي حدثت في أثناء عملية طوفان الأقصى، وكأنها تعتذر عن بعض الممارسات التي لا يمكن إنكارها، كاعتقال المسنين[24]، وفندت ما قيل عن ارتكاب حماس لأفعال جرمية مثل قطع الرؤوس والاغتصاب. في الواقع، لا يمكن مقارنة تصرفات حماس المنضبطة نسبيًا بأفعال منظمات مثل القاعدة وداعش، فهي تعرِّف نفسها بأنها حركة مقاومة وطنية تتموضع في صف الإسلام المعتدل وليست ضد اليهود كدين[25]. ولكن ماذا حول بناء مدينة تحت الأرض لتحتمي بها وتترك لإسرائيل أن تزلزل منازل الفلسطينيين بمن وبما فيها فوقها؟
في الواقع، لا تعترف حماس بشرعية الأمم المتحدة إلا كخطاب موجه إلى الرأي العام العالمي، ولا بحل الدولتين إلا بطريقتها، وتحلم بتحرير فلسطين من البحر إلى النهر، لأن ذلك، ببساطة، يتفق وإسلامها السياسي، مهما ادعت، وهي مستعدة للتضحية بالشعب من أجل القضية. ومثل الإسلاميين كلهم، غير الديمقراطيين، تستخدم حماس الانتخابات من أجل إلغاء الديمقراطية، وتقمع كل رأي يخالفها أو يعترض على طريقتها في المقاومة. وبالتأكيد لم تفكر حماس، كأي إمارة إسلامية، في إعادة الانتخابات الوحيدة (النزيهة) التي حملتها إلى السلطة عام 2006.
وكانت قد قامت تظاهرات عدة في غزة احتجاجًا على الأوضاع المعيشية وقمعتها حماس، ومنها ما حدث في شهري تموز/ يوليو وآب أغسطس 2023، ومن أهم أسبابها تحويل أموال المساعدات لبناء الأنفاق وشراء الأسلحة وتصنيعها[26]. ولإسكات هذه الأصوات، تقوم حماس ببعض العمليات ضد إسرائيل من حين لآخر، لكن عملية 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي أخطأت الحسابات بخصوص عدم تقدير حجم الرد المتوقع من اليمين الإسرائيلي.
وتمثلت ردات فعل حركة فتح ودولتها بالحديث عن الحق في مقاومة الاحتلال، ويغمزون إلى حماس التي تقاوم عوضًا عنهم، وبما أصبح بالنسبة إليهم مجرد ذكرى وهم يتثاءبون في مكاتبهم. ومع ذلك، فهم يدافعون عن حماس ومقاومتها مكرهين، لئلا يستنكر “شعبهم” تخليهم عن القضية ويستفيد العدو من تصريحاتهم إن وقفوا ضدها. ومع ذلك، تخرج أحيانًا بعض الأصوات الصريحة في التعبير عن الموقف الحقيقي للفتحاويين من حماس، كما في التصريح الذي أدلى به عضو المجلس الاستشاري لحركة فتح أسامة العلي، لتُتهَم حماس مباشرة بأنها مدعومة من إيران وإسرائيل معًا، وأنها لن تترك غزة إلا مجبرة، وبأن شعوب العالم تتظاهر دعمًا للشعب الفلسطيني وليس دعمًا لحماس[27]. وهذا صحيح على مستوى العالم، لكن في العالم العربي، وحتى في الأراضي الفلسطينية، لا يصح ذلك إلا جزئيًا، فما زال كثيرون يدعمون حماس بالفعل.
تحرير الأرض أم تحرير الإنسان؟
ولنا أن نتساءل بعد هذا الإخفاق الإستراتيجي كله إن كان تحرير الأرض هدفًا بحد ذاته، أم أن مصلحة الإنسان الذي يعيش عليها وحريته هي الأساس؟ إن القائلين بأولوية تحرير الأرض، من حركات مقاومة وأنظمة تسلطية، أخفقوا في تحرير الاثنين معًا. ومن شبه المؤكد أن فلسطينيي 1948م الذين يعيشون تحت الحكم الإسرائيلي لن ينتقلوا للعيش لا تحت حكم حماس ولا حتى فتح، على الرغم من التمييز الذي يُمارس بحقهم، وهم يرون كيف يفرُّ سكان البلدان العربية الثورية، التي رفعت شعار تحرير فلسطين، من بلدانهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، وهربًا من الموت والفقر. قد يقول قائل إن تحرير الأرض هو الهدف الأول، ولاحقًا يمكن تحقيق باقي الأهداف، بما في ذلك تأمين سبل الحياة وتوفير العدالة والحرية وحكم القانون. حسن، ربما، ولكن متى وكيف وهل ثمة مقدمات تشي بذلك؟ وهل وضع البلدان العربية التي تحررت من الاستعمار صار أفضل، أو عدد الضحايا وحجم النهب هل صار أقل في ظل حكامها “الوطنيين” الميامين؟
ما سبق يقودنا إلى البحث عن المشكلة في مكان آخر، عن إعادة ربط القضية بحياة ومصلحة الإنسان، الفلسطيني في هذه الحالة، وبما يخدم احتياجاته المادية والروحية. من هنا يمكن الحكم على الأحداث ذات الصلة، وإن كانت هذه العملية (طوفان الأقصى) تخدم مصلحة الشعب الفلسطيني أم لا، من دون أن نهمل طبيعة ردات الفعل الإسرائيلية التي وصلت إلى حد حرمان سكان غزة من أي حماية، واستغلال التعاطف الدولي الأولي مع إسرائيل للإمعان بالتدمير والقتل، ومن دون نسيان دور حماس في ذلك.
وللتذكير أيضًا، فإن العالم لم يخرج من عصر الوحشية إلا مؤخرًا، وبعد أن صار الاهتمام بحياة الإنسان وسعادته هو ما تتنافس عليه برامج الأحزاب وتنفذه الحكومات في الدول الديمقراطية، والتي يُحاسب زعماؤها على تقصيرهم في هذا المجال قبل كل شيء، ولو كان ذلك على حساب الشعوب الأخرى للأسف، والتي لا سبيل أمامها إلا تقليد الأعداء في تعاملهم مع شعوبهم واحترامها، عوضًا عن المغامرات العقائدية التي تستخدم الناس كأكباش فداء.
تنطلق حماس كتنظيم عقائدي من قاعدة رخص الإنسان مقابل القضية، ومن أنانية البحث عن مكاسب لسلطتها على حساب الدم الفلسطيني الذي تُرك ليُهدر على أيدي الأعداء، بعد أن جعلت صدمة الاختراق الحمساوي لمستوطنات غلاف غزة الإسرائيليين يفقدون أعصابهم ويتصرفون من دون ضوابط. فالأراضي التي هاجمتها حماس هي أراضٍ إسرائيلية حسب قرار الأمم المتحدة للتقسيم عام 1947، وليست مكانًا لتقوم حماس بعملياتها فيه بحسب الشرعية الدولية التي تستنجد بها حماس في وثيقتها سابقة الذكر، فضلًا عن التعرض للمدنيين الإسرائيليين. والأهم من ذلك كله هو ترك أكثر من مليوني فلسطيني يتعرضون للقصف الإسرائيلي الوحشي، بينما انسحب عناصر حماس مع غنائمهم من الأسرى إلى أنفاقهم المحصنة.
ومع أنه من المرجح إطاحة حماس هذه المرة، فإنها تكون قد نفذت ما تريده إسرائيل سياسيًا وعسكريًا، وساهمت في إعطاء إيران مزيدًا من المكاسب، بما في ذلك استغلال المعاناة الفلسطينية من أجل استكمال مشروعها في الهيمنة على المنطقة، ووفرت للأنظمة “المقاومة”، التي تعيش على المصائب والكوارث والمحن، مزيدًا من المبررات لتتباكى على الشعب الفلسطيني الذي يدفع الثمن من دمائه وأرزاقه في قطاع غزة.
خاتمة
في العصر الحالي، تعددت الوسائل السلمية التي يمكن تبنيها لخدمة الحقوق والمطالبة بها، والتي يمكن أن تتراكم لتحدث تأثيرًا نوعيًا وأكثر ديمومة، بمساعدة وسائل التواصل الحديثة. تضمن المقاومة السلمية المحافظة على الحياة واحترامها في المستقبل أيضًا، بخلاف المقاومة المسلحة التي تتعود استرخاص الأرواح، فتستمر في نهجها هذا حتى بعد فوز مناضليها. ينطبق ذلك على النضال من أجل حقوق الفلسطينيين، وخاصة بعد الفشل في تحقيق أي مكاسب مهمة عن طريق العنف الذي يحتمي بالمقدس المتعالي على مصالح الناس الملموسة وأهمها احترام حق الحياة. من هنا تُعدّ أساليب المقاومة الإسلامية خطرة على مستقبل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، إلا إذا تنبه الأصدقاء والأعداء إلى الخطر المحدق بالجميع وسارعوا إلى التوصل إلى حلول وسطية ملائمة.
وكان الانتقال من المقاومة الوطنية، ممثلةً بمنظمة التحرير الفلسطينية، إلى المقاومة الإسلامية، ممثلة بحماس والجهاد الإسلامي، قد منح هذه الأخيرة ميزات أكبر، كوفرة التمويل والاتكاء على المقدس. مقابل ذلك، حصلت المقاومة الإسلامية على دعم شعبي استخدمته لتحقيق أهدافها الخاصة وأهداف حلفائها، ولكن ليس ثمة إحصاءات دقيقة وموثوقة يمكن الاعتماد عليها لمعرفة مدى شعبية المقاومة الإسلامية، كما في أي مجتمع تحكمه سلطة مستبدة.
إن حرب الصواريخ التي تشنها حماس، كسلاح رئيس، هي جزء من حرب الصواريخ التي تعتمدها الأنظمة التسلطية، من كوريا الشمالية إلى إيران، وهي استعراضات وممارسات خطرة على السلم العالمي، وتتسبب بحروب تجلب الدمار والموت لشعوبها وغيرها من الشعوب. كما أن هذه الحرب بلا أفق سياسي عقلاني وتزيد الأعداء قوةً، بما تحرض عليه من إعداد لوسائل دفاعية أكثر تطورًا.
لقد هُزم الاتحاد السوفياتي سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وهو يمتلك أكثر من عشرة آلاف رأس نووي، وإن كوريا الشمالية، التي تهدد جيرانها بصواريخها وقنابلها النووية من وقت إلى آخر، تجتاحها المجاعة بصورة دورية، ويتلقى شعبها المساعدات من جارتها الجنوبية التي أصبح سكانها في عصر آخر مقارنة بأهلهم في الشمال! كما تصرف إيران قدراتها ومواردها المهمة على التوسع الخارجي لبناء أمجاد إمبراطورية ستُكسَر في اللحظة التي يقرر فيها أعداؤها تقويضها، ومن خلال أذرعها الضاربة تجر إيران المنطقة إلى مزيد من التدمير والموت، مستغلة عدالة القضية الفلسطينية ومستثمرة في الفصائل المسلحة المؤتمرة بأمرها.
لا يمكن أن تحرر العقائد الدينية أو الدنيوية شعبًا في العصر الحديث، وهي تخرجه من عبودية لتدخله في عبودية أخرى، فقد وُجدت العقيدة ليخدمها الإنسان لا لتخدمه، وبخاصة إن كانت تأخذ صفة القداسة ويعتقد رافعو راياتها أنهم وكلاء الله على الأرض، ومنهم مدعو الدفاع عن الأقصى، الذين لا ترتجف لهم شعرة وهم يحصون عدد الضحايا كمجرد أرقام وشهداء.
ما كانت إسرائيل لتحقق هذه النجاحات كلها من دون احترامها لحياة مواطنيها ومنحهم حرية التعبير والرأي ليكونوا أحرارًا في انتقادها. من هنا تنبع الوطنية لا من التبعية والرعوية التي تقود إلى حشد الناس كالعبيد وجرهم نحو الموت مسلوبي الإرادة. وبسبب عجزها عن تحقيق السلام والطمأنينة في الداخل والتنافس المنتج مع الخارج، تلجأ الأنظمة التسلطية وامتداداتها “المقاوِمة” إلى إعداد وسائل العنف وممارسته، كأقصر طريق إلى الجحيم.
ومن المدهش ألَّا نتعلم من تاريخنا في الصراع مع إسرائيل، ولا من تجارب الشعوب الأخرى التي هُزمَت وعادت فبنت نفسها وتفوقت على أعدائها، أو تحولت إلى التعاون معهم واكتشاف فوائد الشراكة التي يمكن أن تقدم كثيرًا وبصورة ملموسة، عوضًا عن سياسة العداء واسترخاص الأرواح. فقد يتحول الأعداء إلى أصدقاء في غمضةٍ من عين التاريخ إن غيرنا طريقة التفكير وما يرتبط بها من جمود واجترار للمواقف، واحترام حق الحياة، الذي يبدأ من لحظة اتخاذ القرار بإنجاب الأطفال عند توافر شروط ملائمة لنموهم، لا أن نتكاثر بلا ضابط ونلقي بأبنائنا إلى الموت لمحو آثار “جرائمنا”.