المحتويات
مدخل
أولًا: القضية الفلسطينية بين وعيين
1– الوعي القومي- القطري
2– وعي الإسلام السياسي- الجهادي
ثانيًا: في اختلاف وعي انتفاضة السويداء للقضية الفلسطينية
1– ملاحظات بين انتفاضة السويداء وحرب غزة
2– من أسباب اختلاف هذا الوعي
3– مؤشرات على اختلاف هذا الوعي
ثالثًا: تحولات في وعي القضية الفلسطينية
1– من قضية قومية- إسلامية- جهادية إلى قضية وطنية ديمقراطية
2– من قضية أيديولوجية إلى قضية سياسية وإنسانية
3– من قضية مركزية للعرب والمسلمين إلى قضية مركزية للفلسطينيين فحسب
خاتمة: انتفاضة السويداء كشهادة
مدخل
استقر وعي القضية الفلسطينية، بوصفها قضيةً مركزية لها الأولوية على غيرها من القضايا الوطنية كقضية الديمقراطية مثلًا؛ وقضيةً أيديولوجية أيضًا ما زالت تُحدِّد معايير الانتماء القومي والوطني والإسلامي تحديدًا مسبقًا.
وقد ساهم انتشار الوعيين: القومي- القطري، والإسلامي السياسي- الجهادي[1]، في هذه النظرة. ولكن مع هزائمهما المتكررة أمام إسرائيل المدعومة دوليًا، وتحولهما إلى الاستبداد، راح الوعي يتخلخل بتثاقل، حتى وصلنا الآن، إلى تحديدات مختلفة له، في سياق الحرب على غزة من منظور “انتفاضة السويداء”[2].
1- موضوع البحث
انبثق الموضوع من وعي “انتفاضة السويداء” المميز للقضية الفلسطينية[3]، كما تجسد من خلال تضامنه مع غزة[4]. والذي ظهر كبوادر وعي وطني ديمقراطي مختلف عن الوعيين: القومي- القطري عمومًا، والإسلامي كما جسدته حركة المقاومة الإسلامية “حماس” وعملية “طوفان الأقصى”[5]، في السابع من تشرين أول/ أكتوبر.
وقد حاولت سلطة الاستبداد السورية، أن تُقحم أزلامها (كالسبّاح فراس معلا[6]) في السويداء لجرها إلى الخطاب التقليدي الذي لم تهتم بتفعيله في مناطق سيطرتها، من مبدأ التضامن القومي مع غزة، للتشويش على الانتفاضة[7]. كما حاولت الأذرع الإيرانية تكثيف تهريب الكبتاغون[8] والسلاح عبر السويداء إلى الأردن وما تبعه من قصف أردني للمدنيين في بلدة “عرمان”[9].
إلا أن حراك السويداء أبدى تماسكًا بعد حوار داخلي على منطق تضامنه مع القضية الفلسطينية التي هي قضية شعب فلسطيني محتل وله الحق في مقاومة الاحتلال وقيام دولته الوطنية الديمقراطية، وليست قضية قومية- قطرية أو إسلامية-جهادية. كما عبّر أيضًا عن رفضه لممارسات وخطابات السُلط الثلاث (السورية والإيرانية والإسرائيلية) تجاه الشعبين: السوري والفلسطيني. وجسّد هذا في “ساحات الكرامة”[10].
ومن هنا، سيتخذ البحث من وعي حراك السويداء لعملية “طوفان الأقصى” و”الحرب على غزة”، محكًا لامتحان فرضية اختلاف الوعي تجاه القضية الفلسطينية.
2- في مشروعية عنوان البحث
القضية الفلسطينية هي قضية وعي في جانب مهم من جوانبها. فمن المعروف أنه من دون وعي للقضية لا يكون هناك قضية أساسًا. ولهذا تعمل الأبحاث والدراسات لزيادة الوعي وتغيير منظوره، من أجل إحداث فارق في الممارسة السياسية العملية، ثوريةً أكانت أم إصلاحية أم محافظة أم مُقاوِمة؛ ولإحداث فارق في الخطاب السياسي والإعلامي والأيديولوجي والثقافي أيضًا. فالوعي سيرورة ولا يأتي دفعة واحدة، وهو الذي يبيّن نوعية الخطاب الملائم والممارسة المجدية، وذلك بتبيانه لـِ ما الواقعي، وما الممكن، وما الضروري، وما الصعب، وما المستحيل.
كما أن أخذ وعي “انتفاضة السويداء” نموذجًا للاختلاف، يستمد شرعيته من عدة أسباب:
لأنه انبثق كمحصلة متأخرة للثورة السورية قبل ظهور داعش وأخواتها؛ ولقدرته على التعبير علنًا تعبيرًا حرًا من دون إملاءات سلطوية أو خارجية عن اختلاف رؤيته للقضية الفلسطينية[11]؛ ولتخوف المنتفضين/ ات من أن تكون عملية “كتائب القسام” قد حدثت بتوجيه إيراني؛ ولتشابه وعي الحراك مع سواه من المطالبين بالدولة الوطنية الديمقراطية في سورية؛ ولمطالبته الفلسطينيين بوضع قضيتهم برمتها أمام استحقاق دولتهم الوطنية الديمقراطية والخروج من المزاودات والتوظيفات القومية- القطرية والإسلامية- الجهادية؛ وأخيرًا، لأنه أعلن عن ديمقراطيته وعلمانيته ووطنيته من اليوم الأول[12].
ومع أن البعض قد يرى أن “انتفاضة السويداء” ما هي إلا عيّنة صغيرة ولا تمثل الوعي السياسي السوري عمومًا، وهذا صحيح، إلّا أنها تمثل منه الحامل السياسي للدولة الوطنية الديمقراطية، ولها في الوقت نفسه دلالة على استمرار وتراكم وعي وطني ديمقراطي ملتزم بحقوق الإنسان وبالشرعية الدولية ومعزز للأمن والسلم[13].
3- أطروحة البحث
تعيّن الوعي السياسي السوري عمومًا، بدلالةٍ قومية، كان مركزها قضية فلسطين والوحدة العربية. ثم تعيّن بدلالة الإسلام السياسي/ الجهادي ومنه “حركة المقاومة الإسلامية حماس”. أمّا في انتفاضة السويداء، فإننا نلاحظ انزياحًا في وعي القضية عن ممارسة هذين الوعيين وخطابهما، باتجاه وعي وطني ديمقراطي.
فهل اختلف هذا الوعي فعلًا؟ وإن كان قد اختلف، فإلى أين يميل؟ ولماذا لا تنتظم استنادًا إلى الوعي الجديد مشاريع جديدة تتجاوز المشاريع القديمة؟
4- فرضية البحث المؤقتة
إن وعي “انتفاضة السويداء” تجاه القضية الفلسطينية، هو وعي مختلف عن الوعي المتهافت السائد[14]. وستَمتحن هذه الفرضية تمظهر هذا الاختلاف في خطاب وممارسة “ساحات الكرامة”، بوصفها تعبيرًا حرًا عن الوعي؛ وعيّنةً مصغرةً عن الوعي الديمقراطي السوري.
5- قيمة هذه الفرضية
قبل التحقق من صواب هذه الفرضية أو خطئها، علينا التساؤل عن قيمتها قبل التثبت من سلامتها ووزن الحجج التي ستسوغها. فهي تستمد قيمتها من عدة مسائل:
– تعد مؤشرًا على الوعي الديمقراطي السوري بالقضية الفلسطينية؛ لأنها تعبير حر من دون أوصياء خارجيين ومن دون مسبقات وبديهيات متعالية. بل إنها تعبير نابع من ضمير (وعي) الانتفاضة وملازم ومحايث له.
– وفيمَ إذا اختلف الوعي فعلًا، فهذا سيعني اختلافًا بالمنظار سيتبعه وينتج منه ممارسة مختلفة وخطاب مختلف. وسنعرف عندها أن وعينا الجديد لم يتحول إلى مشروع بعد، ومن ثم سنعمل على تحويله إلى مشروع.
– كما أن دراسة الفرق بين وعيين أو أكثر هي بمنزلة نقاط علّام ترشد العمل، حتى لو كان هذا الفرق صغيرًا وتفصيليًا، فالفويرقات تفعل فعلها في عفلة منا.
6- منهج البحث
يُستخدم في البحث منهج جديد يمكن تسميته “منطق الحالة”. ولأن الحالة ناطقة بذاتها عن أفكارها الملازمة لها، سيُستخدم فيه اللافتات التي رفعت في الساحات وكانت متعلقة بغزة وفلسطين. وذلك لاستخلاص اختلاف الوعي الحاليّ منها، بوساطة طرح الأسئلة عن حضور بعض الأطروحات وغياب بعضها الآخر. ومن ثم مقارنتها ببعض الأطروحات المنتشرة مثل: إعلان الجهاد أو الدعوة إلى المقاطعة الاقتصادية أو تقديس “حماس” أو التمجيد بعملية “طوفان الأقصى”.
7- ما الوعي عمومًا؟
الوعي هو انعكاس نوعي للواقع في الذهن. ولكن الذهن لا يعكس الواقع كما المرآة بل يضيف إليه بعدًا تخيليًا وافتراضيًا. فالوعي هو وعي بشيءٍ دائمًا، وخيال البشر يبني أهدافه في الوعي أولًا ثم يسعى لبنائها في الواقع ثانيًا.
على كل حال، يبقى الوعي حاملًا لفعل الاستباق أو التوقع (anticipation) للمستقبل، ويحمل أيضًا الشعور بديمومة الزمن، ماضي حاضر مستقبل، ومن ثم تأكيد فكرة التراكم والتدرج والقبل والبعد، كما يحمل فعل الافتراض الذي يتضمن الاختراع والإبداع في الواقع، فالوعي عملية تحويل في الأساس. ومثل هذه الحوامل تضع الوعي في علاقة حميمة بالواقع فيؤثران في بعضهما وكأنهما وجهان لعملة واحدة. ولهذا يُصرَّف الواقع إلى وعي، والوعي إلى واقع، كما نُصرِّف الليرة السورية إلى دولار، ونصرِّف الدولار إلى الليرة السورية[15]. يقول ياسين الحافظ في فحوى هذا التحديد: “الوعي هو سيرورة تتكامل وتتواصل بغية الاقتراب من حقيقة واقعية غير مكتملة على الدوام ومن واقع متحرك على الدوام”[16].
أمّا الوعي السياسي السوري خصوصًا، فقد تصور دولته في مراحل مختلفة منذ ما يزيد على قرن من الزمان، ثم سعى السوريون لتحقيقها وتطبيقها في الواقع بوساطة العمل. والآن يبني السوريون دولتهم الوطنية الديمقراطية أولًا في الوعي ثم يبنونها في الواقع. كما أن علاقة الوعي بالقضية الفلسطينية فرضت عليه أشكالًا مختلفة من الأدوار. وقد تجسد الاستباق مؤخرًا في توقع الدمار الهائل[17] الذي ستحدثه “الحرب على غزة” كعاقبة لعملية “طوفان الأقصى” النوعية. غير أن الخوف على القضية الفلسطينية وعلى الغزيين والأطفال[18] وعلى سورية نفسها كذلك، قد غطى على نوعية العملية، ولا سيّما أنها طالت بعض المدنيين بالأسر والقتل. فالوعي السياسي السوري عمومًا لم تعد تنطلي عليه توظيفات القضية الفلسطينية والمتاجرة بها لصالح الأعداء[19]، أكان العدو[20] هو السلطة السورية أم سلطة حزب الله[21] أم سلطة إيران أم سلطة حماس أم سلطة إسرائيل أم سلطة تركيا[22].
أولًا: القضية الفلسطينية بين وعيين
إن وعي القضية الفلسطينية في سورية، هو وعي متفاوت في قيمته. فمنه ما هو عميق، ومنه ما هو متهافت. وكان يسيطر عليه وعي قومي- قطري من جهة، ووعي إسلامي سياسي من جهة أخرى. غير أن الوعي الديمقراطي الوطني للقضية الفلسطينية، يبقى متناثرًا هنا وهناك ليظهر تارة ويختفي تارات، لأنه من دون تنظيمات أو دول تعبر عنه.
ولهذا سيُدرس هنا منطق السيرورة، أو العملية أو التحولية التاريخية للوعي، والذي هو ليس مجرد تأريخ للأحداث وإنما استخلاص منطقها بالدرجة الأولى. وما ذلك إلا للتعرف إلى الكيفية التي صارت بها القضية الفلسطينية قضية مركزية؛ وقضية أيديولوجية ومن ثم قضية وطنية ديمقراطية للفلسطينيين. وتبيان الكيفية التي اختلف فيها وعي حراك السويداء لهذه المسائل.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن للسويداء، أسوة بسواها من المحافظات السورية، حضورًا بأشكالٍ مختلفة في هذه السيرورة أو التحولية وصولًا إلى وعي انتفاضتها الحالية.
أ- الوعي القومي- القطري
تشكل الوعي القومي، في المرحلة الأولى، في سياق “الصدمة الغربية الاستعمارية”[23]، بحسب جورج طرابيشي إذ يقول: “ثمة شبه إجماع في الخطاب العربي المعاصر على توصيف لحظة احتكاك العالم العربي بالغرب بأنها كانت بمنزلة صدمة”. أي أن الصدمة أنتجت نهوضًا قوميًا. وقد صاغ “أمير البيان” شكيب أرسلان هذه الصدمة في سؤاله[24]: “لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟”. يقول ياسين الحافظ عن تلك الصدمة ودورها في النهضة: “الصدمة الأوروبية التي تلقاها العرب من الغرب، منذ الغزو النابليوني لمصر، أجبرتهم على التساؤل: كيف يمكن أن نصبح متقدمين وأن نُبقي على هويتنا في الوقت نفسه؟”[25].
وقد كان الوعي القومي حينها ضيقًا، لا يشمل الوطن العربي كله وإنما بلاد الشام كاملة فقط. ثم تجسد بداية على الأرض في وحدة بلاد الشام، أرضًا وشعبًا وحكومة ومَلِكًا، في المؤتمر السوري العام 1919. ولكن الانتدابين، الفرنسي والبريطاني، منعا استمرار هذه الوحدة بما يخالف إرادة الأكثرية الشعبية آنذاك، وتقسمت بلاد الشام (سورية الكبرى) أرضًا وشعبًا، وظهر الشعب السوري واللبناني والفلسطيني والأردني[26] و”العراقي”[27]، كما ظهرت الحدود السياسية لهذه الدول.
وهنا برز الوعي الوطني الخاص بكل دولة على حدة يوم كانت تحت الانتداب. وبدأ السعي المنفرد لاستقلال كلّ وطنية منها في حدودها وشعوبها عن الاستعمار، مع بقاء إمكان التعاون مفتوحًا بين حركات وثورات استقلال هذه الدول الجديدة. فباتت قضية استقلال فلسطين عن الانتداب الإنكليزي مثلًا، هي قضية الشعب الفلسطيني أولًا، وليست قضية شعوب بلاد الشام أجمع. ومع أنه قد تبلورت فكرة المطالبة بعودة وحدة بلاد الشام أرضًا وشعبًا، إلّا أن دور شعوب بلاد الشام اقتصر على مد يد العون للشعب الفلسطيني، وليس الكفاح المشترك كبلاد الشام ككل أو القتال نيابة عنه. فهذه الوطنيات الناتجة من تقسيم بلاد الشام هي وثيقة الارتباط بالاعتراف بحدود سايكس بيكو وترسيم الحدود من جهة، وبالشعب الذي هو سيد عليها ويعيش ضمن هذه الحدود، واختلافه عن باقي الشعوب من جهة أخرى. وعلى الرغم من التداخل في ضروب الوعي القومي والإسلامي والوطني، غير أن الممارسة السائدة كانت المساعدة فحسب بوصفها اعترافًا ضمنيًا بالدول المتشكلة حديثًا. وعلى سبيل المثال، يروى[28] أن الثوار في سورية/ السويداء، وعلى رأسهم قائد الثورة السورية الكبرى سلطان الأطرش، أرسلوا “حامية درزية” للقتال في الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936 كمساعدة للفلسطينيين، وقد استشهد منهم ثمانون مجاهدًا قرب نابلس، وفي ما بعد دشن رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات ضريحًا أو نصبًا تذكاريًا في رام الله تخليدًا لذكراهم. وهذا يؤكد أن قضية الثورة الفلسطينية ليست قضيتهم الرئيسة، وإنما الثورة السورية هي قضيتهم الوطنية كونهم سوريين.
غير أنه في أربعينيات القرن العشرين ومع الاستقلال، توسعت النزعة القومية في المرحلة الثانية، تماشيًا مع الفكر النازي والفاشي والستاليني، لترتبط من جهة، بالوحدة العربية لكل الوطن العربي والشعب العربي، وإنما من دون أي تجسيد للوحدة في أرض الواقع، ولاحقًا لترتبط بتحرير فلسطين الأمر الذي جعل قضية فلسطين قضية مركزية للشعب العربي من جهة أخرى. وما جيش الإنقاذ العربي إلا خير دليل على ذلك. وهذا الجيش هو عبارة عن تعاون من عدة دول عربية (وهو الذي كان من قوامه “فوج جبل الدروز: وتكوّن من ثلاث سرايا بلغ عدد أفرادها 500”. “في الوقت نفسه، مُني جيش التحرير العربي بهزيمة ساحقة في “مشمار هعيمك” في أول عملية واسعة النطاق له، بالتزامن مع فقدان حلفائه الدروز بسبب الانشقاق”)[29]. واقتصر التجسيد السياسي لهذه النزعة القومية الواسعة في أحزاب كحزب البعث العربي وحركة القوميين العرب، وذلك على الرغم من استمرار المشروع القومي الضيّق الساعي لاستعادة وحدة بلاد الشام كما جسدها سياسيًا الحزب السوري القومي الاجتماعي.
أمّا في المرحلة الثالثة، في حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، فقد مالت الكفة لصالح النزعة القومية الواسعة مع الناصرية والبعثية واليسارية والماركسية[30]، والتي تجسدت سياسيًا بالوحدة المصرية السورية، ومن ثم دور الانفصال في تراجع المد القومي وصولًا إلى هزيمة 1967. وبعد الهزيمة، كتب “القومي الماركسي اليساري البعثي الناصري” ياسين الحافظ: “الخجل من عار الهزيمة دفعني إلى الهروب بسرعة، من الباب الخلفي، من باريس إلى بيروت… وطوال أشهر، وفي مناخ من الحبوط واليأس، كانت فكرة الانتحار تراودني بين حين وآخر…”[31]. ومع شعور الحافظ بهزيمة قضية العرب القومية الكبرى، اقترحَ امتلاك الوعي المطابق[32] الكوني والتاريخي لتجاوز الأيديولوجية المهزومة، وأولى عناية خاصة لمسائل الثورة القومية الديمقراطية[33]، والعقلانية المتمثلة بموازين القوى والمصلحة ومفاعيل الزمن، والتأخر التاريخي ودوره في تسهيل قيام إسرائيل ومن ثم الهزيمة[34]. ويضيف مؤكدًا تصالح قوميته مع الماركسية: “لقد كانت ماركسيتي متصالحة مع القومية، ليس بصورة ضمنية فحسب، بل بصورة صريحة أيضًا”[35]. أما جورج طرابيشي فقد عدّ هزيمة حزيران 1967 “رضة” أي أكثر من صدمة. فإذا كانت الصدمة قد أنتجت نهضة في الوعي العربي القومي، فإن الرضة تنتج نكوصًا عربيًا إلى التراث ووعيًا مدمرًا في صفوف النخب (الإنتلجنسيا) العربية[36].
في المرحلة الرابعة استقرت الدول القطرية مع المحافظة على الانتماء القومي وما يستلزمه من تنسيق بينها. وخاضت حرب تشرين/ أكتوبر 1973 بدواعٍ قطرية -لاسترجاع الجولان بالنسبة إلى سورية، وسيناء بالنسبة إلى مصر، والضفة الغربية بالنسبة إلى الأردن- وليس بدواعٍ قومية أو لتحرير فلسطين كقضية قومية. وكان قد سبقها خروج منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن إلى لبنان وعقبها دخول الجيش السوري إلى لبنان، وانتهت هذه المرحلة بخروج منظمة التحرير إلى تونس 1982.
في المرحلة الخامسة في تسعينيات القرن الماضي، تأكّل الوعي القومي بعد احتلال العراق للكويت ووقوف مصر وسورية مع التحالف الدولي ضد العراق، كما عبر أسامة أنور عكاشة عن ذلك في سياق “عاصفة الصحراء” بقول ما معناه: سقطت القومية العربية في “حفر الباطن”.
وإن كانت الهزائم المتلاحقة تفسر تراجع الدلالة القومية في الوعي السياسي السوري عمومًا، إلّا أنها تفسر أيضًا سيادة الوعي القطري وممارسة الاستبداد بحجة القضية الفلسطينية. ففي الوعي السياسي السوري وعلى صعيد الخطاب السياسي حضرت القضية الفلسطينية حضورًا طاغيًا، ولكن على صعيد الممارسة السياسة كان الوعي القومي قطريًا وأقل حضورًا منذ الهزيمة. وساد في الوعي التلهف إلى الوحدة العربية، بمعنى أن السوريين دائمًا هم جزء من الشعب العربي، والدولة السورية هي جزء من الأمة العربية، وما رافق هذا من شعور بنقص في الكيان السوري منذ نشوئه. فالملك الأول فيصل بن الشريف حسين كان من شبه جزيرة العرب وليس من بلاد الشام ولم تتحد بلاد الشام إلا قليلًا. وعلى الرغم من أن الوعي السياسي السوري مرتبط بالقطرية إلا أنه يقدم نفسه بإيهاب قومي واسع ممثلًا بالوطن العربي، أو قومي ضيق ممثلًا ببلاد الشام.
فعليًا، لم يعد القطر السوري مجرد جزء من الوطن العربي أو جزء من بلاد الشام، كما لم يعد الشعب السوري مجرد جزء من الشعب العربي أو جزء من بلاد الشام، بل بات القطر السوري دولةً سورية ووطنًا سوريًا وهما (الدولة والشعب) قائمان بذاتيهما ككيان مستقل يقيم العلاقات مع الدول الأخرى استنادًا إلى مصلحته العينية وليس إلى مصالح العروبة أو الوطن الشامي، ولكن الوعي القومي الضيق والواسع والوعي الإسلامي السياسي- الجهادي يكابران حتى الآن بتكرار الخطابات المتهافتة والممارسة غير المفيدة، لتضيع بذلك الدولة الوطنية الديمقراطية في الوطنية الفلسطينية وغيرها من الوطنيات كالسورية واللبنانية في الأوهام.
ب- وعي الإسلام السياسي- الجهادي
منذ عشرينيات القرن العشرين، وفي سياق إنهاء الخلافة الإسلامية 1923 على يد كمال أتاتورك، ظهر الإسلام السياسي ممثلًا بالإخوان المسلمين وراح يتنافس مع التيار القومي، ولكن ظل على مستوى الأحزاب والتنظيمات ولم يُتبنَّ مشروعه في الدول باستثناء المملكة العربية السعودية الوهابية 1932. ولكن في الثمانينيات نشأت ظاهرة العرب الأفغان، للجهاد ضد الاتحاد السوفياتي، الشيوعية مع عبدالله عزام الفلسطيني، ومع نشوء تنظيم القاعدة 1988 كانت السودان قد تبنت وجسدت الإسلام السياسي 1989. ولا سيما أن ذلك قد ترافق مع انتشار الوعي الجهادي إبان انسحاب السوفيات من أفغانستان تحت وطأة الضربات الجهادية وظاهرة الأفغان العرب بدعم أميركي سعودي مصري. وهذا مهد الطريق واسعًا أمام الإسلام الجهادي وتنظيم القاعدة.
وفي التسعينيات مع سقوط المعسكر الاشتراكي وبروز العولمة واحتلال الكويت والتحالف الدولي ضد العراق، أخذ الإسلام الجهادي مده، وراح ينقل المعركة إلى معركة دولية مع الولايات المتحدة الأميركية وصولُا إلى احتلال أفغانستان 2002 والعراق 2003.
وانتشرت حالة محاربة الإرهاب كمرشد للسياسة الدولية وطالت “مقاومة حماس” كحركة إسلام سياسي- جهادي. فبهذا الوعي المتخبط والذي تحكمه العاطفة الدينية وقعت غزة الآن إلى أجل غير معروف ووُجِّهت ضربة عنيفة للقضية الفلسطينية وقد تكون قاصمة.
وهكذا، وعلى الرغم من أن التداخل بين الوعيين أمرٌ حاصل في محطات كثيرة، إلا أن الفصل بينهما وبسطهما على مراحل سيكون أوضح للفكر. وهذا ما أكده ياسين الحافظ بقوله: “إن التدرج في مراتب الوعي، وإن كان سيرورة، إلا أن مراحل الوعي ومحطاته قد تتداخل من جهة، كما أنها من جهة أخرى قد تحمل تراجعات”[37].
ولكن على الرغم من هذا التعيّن المزدوج للوعي، فإننا نلاحظ انزياحًا عن هذين الوعيين لصالح وعي وطني ديمقراطي يهدف إلى تحقيق الدولة الوطنية الديمقراطية؛ أي أنه يزاوج بين الوطنية بوصفها جنسية الفلسطينيين القائمة في حدود سايكس بيكو وشعوبها المعترف بها في الأمم المتحدة، وبين الديمقراطية بوصفها نظامًا للحكم يحدد علاقة المحكومين بالحاكم وببعضهم وبالدستور والقانون والانتخابات التمثيلية وقبول المختلف والتشارك معه لا إقصاءه ونفيه. فالشعب السوري هو الجنسية السورية والشعب اللبناني كذلك والفلسطيني والأردني أيضًا. وبكلام آخر: فالشعب الفلسطيني أو السوري لا تسنفده الصفة القومية العروبية ولا الصفة الإسلامية. فهناك حقيقة وطنية دولية تتقاطع مع العروبة والإسلام بالمعنى الثقافي وليس بالمعنى السياسي.
ثانيًا: في اختلاف وعي انتفاضة السويداء للقضية الفلسطينية
بعد شهرين من انطلاق “انتفاضة السويداء” أتت “الحرب على غزة” كردٍ إسرائيلي على عملية “طوفان الأقصى”. وراحت تداعياتها المتصاعدة تضع ثقلها على الانتفاضة لتتوقف، تحت وطأة مخلفات الوعي المتهافت، كما جرى سابقًا في محطات عديدة كانت قد أسكتت الأصوات الحرة في أكثر من مكان، برعاية شعارات مثل “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”. ولكن كان لانتفاضة السويداء رأي آخر. ولا سيما أنه قد انتشرت ظاهرة تحتقر الرأي العام وتستهين به، وتقول إن عملية “طوفان الأقصى” فتحت الباب للشروع بتحرير فلسطين. ولم يتساءل هؤلاء لا عن الثمن البشري المهول والدمار الجسيم، ولا عن الكيفية التي تُهزم فيها “حركة المقاومة الإسلامية حماس” مفترضةً أن وراءها العرب والمسلمين أمام إسرائيل الصهيونية الاستيطانية العنصرية، ولا عما إذا كانت العملية مدخلًا لتحرير فلسطين أم تسليمًا لفلسطين والمنطقة!
لا شك أن هناك عوامل كثيرة أدّت دورًا في القضية الفلسطينية، إلّا أن اختلاف الوعي يبقى أحد هذه العوامل التي يركز عليها هذا البحث.
أ- ملاحظات بين انتفاضة السويداء وحرب غزة
كمتابعٍ يومي لتفاصيل الحراك في السويداء بالتوازي مع محطات الحرب على غزة، لاحظت عدة ملاحظات قد تحيل إلى وعي مختلف للقضية الفلسطينية، ربما يتجسد في دلالات منطق الحضور والغياب:
حضور فكرة أن “غزة تباد”[38] وغياب فكرة أن “غزة تنتصر”. على سبيل المثال: “أنقذوا غزة وأطفالها”[39]، و”أوقفوا الحرب على غزة”، و”جرح غزة ينكأ”[40].
غياب الدعوة إلى الجهاد في غزة، وغياب الدعوة إلى مقاطعة البضائع الأجنبية لنصرة غزة.
غياب “حماس” كليًا عن اللافتات، مساندةً أكانت هذه اللافتات أم لافتات إدانة. وربما يكون هذا ابتعاد مبطّن من الحراك كي لا يقع في فخ الجدال العقيم المنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي.
غياب هتاف “يا غزة حنا معاكي للموت”، مع أنه حاضر بكثرة في التضامن مع المدن السورية، كدرعا وإدلب وحلب والحسكة وحماه.
غياب غزة أو فلسطين لذاتها كقضية قومية[41] أو جهادية، وغالبًا كان حضور اللافتات التي تستند إلى الدعم الإنساني لا القومي ولا الجهادي.
ذُكرت عملية “طوفان الأقصى” مرة واحدة فقط، وقد أشرنا إلى استنكارها الضمني غير الصريح [راجع الإشارة المرجعية رقم 5]. لم أجد إلا لافتة يتيمة في “ساحات الكرامة” تشجع عملية “طوفان الأقصى”، على الرغم من الدهشة من نوعية العملية، ولكنني لم أجد لافتة تدينها مباشرة أيضًا. وهذا السكوت ربما يعني إدانة موارِبة للعملية خوفًا من الاصطدام مع أصحاب الوعي المتهافت. ذاك الوعي الذي يريد تحرير فلسطين من البحر إلى النهر من دون حساب موازين القوى والسياق الدولي ويظن في نفسه أنه يقوم بعمل تراكمي ولكنه كبرميل بلا قعر لا يراكم، ولا يستطيع تجاوز أزماته التي يفتعلها غالبًا كما تفعل السطات الإسرائيلية، لغياب الديمقراطية التي تعتمد المحاسبة والتداول والاستماع لصوت العقل والتدرج في الكفاح.
ومع هذا وجدت منشورات فردية على مواقع التواصل الاجتماعي تدين العملية إدانة مباشرة. فقد كتب المحامي أيمن شيب الدين، وهو من قادة الحراك في السويداء، على حسابه في فيسبوك: “إدانة حماس وإسرائيل في قتلهما للمدنيين مطلوب، والتضامن مع الضحايا المدنيين مطلوب كموقف أخلاقي إنساني بالدرجة الأولى…”[42].
وما هذا النوع من الحضور والغياب إلا مؤشرات قوية على اختلاف الوعي باتجاه وعي وطني ديمقراطي.
كما تضامنَ حراك السويداء[43] بوضوح مع غزة[44]، من خلال ارتداء الكوفية الفلسطينية[45]، ورفع خارطة وعلم فلسطين[46]، والمطالبة بوقف الحرب[47]، وإدانة قتل الأطفال[48]، والتطهير العرقي[49]، وقصف المستشفيات[50]… ولكن ليس مع حماس أبدًا. ومقارنة مع التضامن الكبير الذي حظي به حزب الله في حرب 2006 من السويداء -على الرغم من أنه تضامن لم يصل إلى درجة التحرك للقتال بجانبه كما شهدنا في الحرب على لبنان ومنظمة التحرير 1982 والعمليات المتفرقة[51]– فإن التضامن مع حماس الآن لا يذكر.
في سياق التضامن مع غزة، غالبًا ما يُربَط بين ما حدث في سورية ويحدث في إدلب هذه الأيام وبين ما يحدث في غزة[52]، وذلك بتأكيد المساواة بين ما أحدثه الأسد في سورية من تدمير وما أحدثه نتنياهو من تدمير لغزة[53]؛ وبين الأسد ونتنياهو[54]؛ وبين الدم الفلسطيني والدم السوري؛ وبين قصف إدلب وقصف غزة[55]. وبالمطالبة بمحاكمة الاثنين على تدمير غزة وسورية: “الدم الفلسطيني والسوري واحد”، “غزة وإدلب تذبحان بدم بارد”، “أوقفوا الحرب في إدلب وغزة”. أو بالمساواة بالقتل والإجرام[56] والمطالبة بمحاكمتهما بالتعبير الآتي: “القاتل واحد”[57]. وهذا الربط يستند إلى وجهة نظر عامة تفيد التخادم المتبادل بينهما[58]، وتؤكد أن الأسد بتدميره لسورية قد مهد[59] الطريق لنتنياهو لتدمير غزة من جهة، وكان قد تفوق عليه بالتدمير من جهة ثانية[60].
وقد نظر الحراك إلى دعوات سلطة الأسد من أجل الوقفة التضامنية مع غزة[61]، على أنها ليست موجهة للتضامن مع قطاع غزة[62]، وما هي إلا محاولات يائسة لخلق شارعٍ موالٍ في السويداء لدعم الأسد واستثمار حرب غزة[63]. ولذلك أفشلها كما حصل عندما منع وفدًا من الرياضيين من القدوم للسويداء[64].
وعلى الرغم من القناعة العامة في سورية التي تفيد أن النظام السوري المتوحش محميٌ من إسرائيل[65]، إلّا أن السوريين عمومًا لم يروا في عملية “طوفان الأقصى” خطوة تراكمية ضد إسرائيل، ومن ثم فهي ليست ضد النظام السوري أيضًا وربما تصب في صالحه في سياق ما، ولذلك لم يراهنوا على أن تجلب العملية تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، ولا حتى تحرير الأقصى أو القدس، وإنما ستجلب الدمار لغزة وسورية والقضية الفلسطينية. ومع هذا، ثمة أمل مفاده أن بسقوط نتنياهو سيسقط الأسد[66].
لا نجد من ينتحر، أو يفكر بالانتحار، بسبب المأساة التي تحدث في غزة، أو بسبب الدمار الذي حدث في سورية طوال قرابة ثلاثة عشر عامًا، أو بسبب ما حصل بحرب إسرائيل على حزب الله وتدمير لبنان عام 2006، كما فعل خليل حاوي إبان اجتياح إسرائيل لبيروت مثلًا، أو كما فكر ياسين الحافظ بعد هزيمة 1967، مع أننا شاهدنا “البوعزيزي” وهو يحرق نفسه من أجل كرامته والعيش الكريم في وطنه وليس في الأمة العربية أو الإسلامية.
ولم تُشكَّل لجنة من السوريين لنصرة غزة من دون حماس، مثلما تشكل لجنة لنصرة الشعب العراقي من دون النظام العراقي عام 2002. ولم يذهب مقاتلون سوريون لقتال إسرائيل في غزة بدواعٍ قومية أو إسلامية، مثلما حصل في العراق لمحاربة الأميركان أو أفغانستان لمحاربة الشيوعية. ولم ينصر السوريون حماس أو يراهنوا عليها كما نصروا حزب الله في حرب 2006 وراهنوا عليه، باستثناء أكثر من 700 مقاتل أدخلتهم إيران وحزب الله لتشكيل ما يسمى “حركة مقاومة إسلامية في الجنوب السوري”[67]، مع بداية الحرب على غزة، وقد تمركزوا في نواحي الجولان وراحوا يطلقون الصواريخ وقذائف الهاون باتجاه الجولان المحتل، وجاء الرد الإسرائيلي الفوري عليهم. وما قصف مطاري دمشق وحلب المتكرر إلا قطعٌ لطريق الاستمرار بهذا العمل المدعوم بالسلاح والمال والإرهابيين، والذي من مهماته محاولاته المتكررة لزعزعة استقرار الأردن عبر السويداء بوساطة تهريب الكبتاغون والسلاح والإرهابيين إليه، لتشكيل مقاومة إسلامية أيضًا أسوة بالمقاومة الإسلامية في العراق وقبلها المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان (حزب الله) وفي فلسطين (حماس). وهذا ما يفسر لنا أن “وحدة الساحات” القومية والجهادية ليست من الاندفاع الذاتي أو الحميّة الذاتية فحسب، وإنما بافتعال وتدخل من “محور الممانعة” على نحو رئيسي.
لهذه الملاحظات وغيرها أسباب كثيرة ومتداخلة، ولكن يبقى إحدى هذه الأسباب هو اختلاف الوعي. مع الإصرار على عدم خسارة العمق الثقافي العربي الإسلامي. ومع تعدد الولاءات وعدم تضاربها في الوقت نفسه بين القومي والإسلامي والوطني والمحلي والتوفيق بينها في الشخص الواحد. ومن دون أن ننسى أيضُا أنه قد يبدو اختلاف في الوعي، ولكنه قد يكون بسبب تغير القضايا تغيرًا ميكانيكيًا والذي يتبعه تغير في الاصطفاف السياسي، بمعنى أن الوقوف ضد إيران سيقابله الوقوف مع إسرائيل.
ب- من أسباب اختلاف هذا الوعي
إن استخلاص هذه الأسباب آتٍ من المحايثة أو الملازمة لواقع الحال في حراك السويداء.
1– إن الدور الذي أدّاه الإسلام السياسي- الجهادي السنّي والشيعي في تدمير سورية ساعد في اختلاف الوعي تجاه دوره في غزة.
2– إن متاجرة النظام السوري بالقضية الفلسطينية وتوظيفها[68]، ساهم في اختلاف الوعي تجاه قضايا الوعي القومي وطرق تحقيقها[69].
3– إن الدور الإيراني التدميري في المنطقة، جعل الوعي السياسي السوري يختلف اختلافًا كليًا عمّا قبل. والدليل مناصرة السوريين ومساندتهم لحزب الله في حرب إسرائيل 2006، ومن ثم اختلف الوعي تجاهه بعد مشاركته في تدمير سورية وقتل السوريين. وقد كتب المحامي أيمن شيب الدين، وهو من قادة الحراك، في حسابه على فيسبوك[70] ما يفيد هذا المعنى:
“لإنقاذ النظام من انفضاض الموالين من حوله، ولعدم قبوله بالحل السياسي كونه نهايته، ولعدم إتقانه إلا لغة العسكر والتخويف والترهيب، ولإحراج السويداء ومظاهراتها السلمية له، ولخشية امتدادها سوريًا… كان لابد من حصول مجزرة الكلية الحربية! ولإنقاذ إيران ومحور المقاومة من ضياع المنطقة من أيديهم، ولتهاوي شعبيتهم ونبذهم إقليميًا ودوليًا، ولإعادة هيبتهم، كان لابد من عملية حماس! فلسطين والفلسطينيون وحقهم في تقرير مصيرهم وحريتهم وكرامتهم هذا موضوع وشأن آخر يناصرهم به كل من يعلي من شأن الحرية والكرامة ومنطق الدولة. ما يجري اليوم هو ما جرى بالأمس وقبله وقبل قبله: تجارة واستثمار باسم فلسطين والفلسطينيين وتجارة في المقاومة لتحسين شروط التفاوض!”.
4– إن الممارسة الإسرائيلية، التدميرية والاستيطانية والعنصرية في فلسطين أساسًا وفي المنطقة، قد جعلت الوعي ينضج بالتدريج. فعلى سبيل المثال، كان الوعي الشعبوي السوري يلوم الفلسطينيين لأنهم تركوا أرضهم وبيوتهم وباعوها، ثم تبيّن له أن تحت وطأة التطهير العرقي والاستيطان والعنصرية، من الطبيعي أن يلجأ الفلسطينيون إلى جميع بقاع العالم، ولا سيّما أن السوريين قد اختبروا حرب النظام السوري وحلفائه الدوليين والإرهابيين عليهم وذاقوا ويلاتها.
5– إن الربيع العربي بما طرحه من تغيير وطني ديمقراطي لتحقيق دولة القانون والمواطنة أكد وجود فروق كبيرة بين التيارات المتصدرة للمشهد كالقوميين والإسلاميين- الجهاديين والعسكر المرتبط بهما وكان بمثابة وسيلة توضيحية ليتنامى اختلاف الوعي تجاه الديمقراطية.
6– الهزائم المتكررة للمشروعين: القومي- القطري والإسلامي السياسي- الجهادي، قادت إلى الابتعاد عن القضية الفلسطينية والوحدة العربية بالمعنى القومي.
7– عيش التجربة السورية مع داعش وأخواتها، وما رافقها من “إدارة التوحش” والإرهاب، والاعتداء السافر على الوطنية والديمقراطية بوصفهما “صنمين” يجب تحطيمهما أو وضعهما “تحت أقدام” إرهابيي داعش والنصرة وجيش الإسلام… قد جعلت من وعي الحراك وعيًا مختلفًا كليًا وكلّه ريبة من هذه التنظيمات، ولا سيّما أن السويداء كغيرها ذاقت طعم الإرهاب مباشرة في هجوم داعش على قراها الشرقية عام 2018، والذي صدته منفردة من دون مساعدة من أحد أكان النظام السوري أم الوجود الإيراني وحزب الله أم القوات الروسية أم قوى التحالف الدولي.
8– الاستناد إلى المحرز النظري السابق والبناء عليه والتشبث به. وهو المتمثل بربط الوطنية بالديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان والقانون والمواطنة من جهة، وفي نقد ومراجعة الهزائم السابقة من جهة أخرى. وبهذا المعنى يكون وعي “انتفاضة السويداء” وعيًا تراكميًا قد وقف على أكتاف عمالقة الوعي الوطني الديمقراطي ليزداد تعملقًا.
والآن، إن قوة حماس آخذة في التراجع السريع بفعل الحرب الإسرائيلية، ولذلك ستضعف قدرتها على تأكيد قيمها الجهادية والدفاع عن مصالحها السياسية ومصالح داعميها، وستبدأ في مواجهة خيارات محدودة مثل: الانشقاق على نفسها؛ الخروج من غزة؛ مزيدٌ من التراجع حتى الزوال؛ وأن تُماري إسرائيل وتنساق إلى الانحياز إليها. وربما يظهر مما تبقى مَنْ يحاول تنمية قوته الاقتصادية والعسكرية من جديد، لكي يقاوم ويعمل على توازن جديد بالوعي المتهافت نفسه.
إذًا، بعد هزيمة “حماس” سينمو الوعي الوطني الديمقراطي أكثر فأكثر تجاه القضية الفلسطينية، على الرغم من الضرر الفادح الذي لحق به من جراء المغامرات القومية والجهادية والإرهابية، وحملات التخوين والتكفير الممنهجة والمدعومة من بعض الدول.
ت- مؤشرات على اختلاف هذا الوعي
ما المؤشرات التي يُستخلص منها اختلاف وعي “انتفاضة السويداء”؟
أ- استمرار الانتفاضة[71]
لقد استمرت “انتفاضة السويداء” وكأن حرب غزة غير قائمة بالفعل. ولم تثنها كارثة الحرب في غزة لأنها كارثة للوطنية الفلسطينية بالدرجة الأولى، ولها انعكاسات سلبية على المنطقة والعالم بالدرجة الثانية. وهذا وعي يختلف عن الوعي الذي تلقى سقوط بغداد 2003 أو بيروت 1982. ولو أن وعي القضية الفلسطينية ما زال يعدّها قضية مركزية بالمعنى القومي، ما كانت الانتفاضة لتستمر على الرغم مما يحصل في غزة. ولو أنه ما زال معيقًا لطرح القضايا الوطنية كقضية التغيير الوطني الديمقراطي في سورية ما كانت الانتفاضة لتستمر أيضًا.
فالشكل الكرنفالي للتظاهر وقع بين نارين، نار التعبير عن التغيير الوطني الديمقراطي، ونار ما يحدث في غزة من دمار وقتل واستهداف للمدنيين والمدارس والمستشفيات على خطى الأسد[72]، وما يتطلبه ذلك من مساندة لأهل غزة والتضامن الإنساني والقومي والإسلامي معهم والحاجة إلى التعبير عن مشاعر الغضب والحزن.
إن الآثار الملحوظة لحرب غزة على حراك السويداء، من ناحية تراجع التغطية الإعلامية والاهتمام السياسي الدولي والإقليمي والسوري، والذي شهدنا تصاعده قبل عملية “طوفان الأقصى”، يجعل من استمرار الحراك فيها مؤشرًا مهمًا على اختلاف الوعي السياسي. فعلى الرغم من مرور خمسة أشهر على الحرب في غزة، فإن الحراك مستمر حتى الآن ولا تخلو مظاهراته اليومية من التضامن مع الغزيين الفلسطينيين ولا سيّما في الشهرين الأولين من الحرب. ولو أن هذه الانتفاضة حدثت في ثمانينيات أو ستينيات أو أربعينيات القرن العشرين لكانت توقفت فورًا بسبب تلك الحروب وتداعياتها القومية والجهادية المستبدة.
2- التضامن المشروط
كان تضامن الانتفاضة مشروطًا مع غزة. إذ أنه دعا “حماس” إلى تجنب قتل المدنيين الإسرائيليين، والاكتفاء من المغامرات التي تودي بحياة الغزيين. ودعا إسرائيل إلى عدم قتل المدنيين أيضًا. فقد كتب شيب الدين مرة أخرى: “إدانة حماس وإسرائيل في قتلهما للمدنيين مطلوب، والتضامن مع الضحايا المدنيين مطلوب كموقف أخلاقي إنساني بالدرجة الأولى…”[73]. التنديد بحرب إسرائيل على غزة، والتضامن مع معاناة المدنيين والوقوف إلى جانبهم، والتنديد بعملية “طوفان الأقصى”، والتضامن مع المدنيين الإسرائيليين.
3- الدعوة الضمنية
ينطوي حراك السويداء على دعوة ضمنية للفلسطينيين كي يرفضوا توظيف قضيتهم[74] من جانب القوميين- القطريين والإسلاميين- الجهاديين ومن ضمنهم دول كإيران وتركيا وقطر وسورية[75]. وفي الوقت نفسه هناك دعوة ضمنية لجعل كفاح الفلسطينيين من أجل دولة فلسطينية وطنية ديمقراطية تلتزم مبادئ حقوق الإنسان والشرعية الدولية والسلم والأمن[76].
وهذا معناه: إسقاط الاستبداد “المقاوم” أولًا ومن ثم إسقاط الاحتلال الإسرائيلي ثانيًا. فطغاة “حماس” جلبوا القتل والدمار والتطهير العرقي لغزة.
ثالثًا: تحولات في وعي القضية الفلسطينية
منذ 76 عامًا، تعيّن وعي القضية الفلسطينية كوعي متهافت. ففي أذهان السوريين/ات مثلًا، كانت قضية استبدادية تؤجل القضايا الوطنية السورية، وتُستخدَم في قمع الحريَّات وتأبيد الأنظمة المستبدة والمقاومات الإسلامية؛ أي أنها كانت تشرعن الاستبدادَين السياسيِّ والدينيِّ، وتُحدِّد المعايير التي تميز الخيِّر من الشرير، والوطني من الخائن، والمؤمن من الكافر.
ولكننا نشهد الآن انزياحًا طفيفًا، من خلال رفض عملية “طوفان الأقصى”، ورفض الحرب على غزة، ورفض قتل المدنيين من الأطراف كلها، والالتزام بالقانون الدولي والقرارات الدولية لتحقيق الأمن والسلم في المنطقة والعالم.
أ- من قضية قومية جهادية إلى قضية وطنية ديمقراطية
لقد برز أن القضايا الوطنية الأخرى في سورية ليست هامشيَّة إطلاقًا، ولا يجوز استخدام فلسطين لتأجيل الاستحقاقات الوطنية الكبرى. أليست الديمقراطيَّة والحريَّة وحقوق الإنسان قضايا مركزية في فلسطين وفي سورية أيضًا؟ أليست إعادة بناء فلسطين، ودول المنطقة الأخرى، على أسس وطنيَّة ديمقراطيَّة، قضايا مركزية هي الأخرى؟ فقد بات واضحًا لوعي القضية الفلسطينية في “انتفاضة السويداء” أنه ليس بالإمكان خدمة القضيَّة الفلسطينيَّة حقًّا من دون أن تتقدَّم سورية والمنطقة خطوات كبرى في طريق الوطنيات الديمقراطية[77].
ب- من قضية أيديولوجية إلى قضية سياسية إنسانية
يسود رفض شعبي واسع للاستبداد الديني والسياسي و”المقاوِم”، أكان مصدره القضية الفلسطينية أم القضايا الوطنية أم القضايا القومية والدينية. كما يتنامى الرفض لتصنيف البشر استنادًا إلى معايير القضية الفلسطينية المتعالية والآتية من خارج الأفراد ليحل محلها معايير ملازمة لوضع الأفراد. فما عاد أحد يطيق أيديولوجيا القضية الفلسطينية وهي تبرر قتل الفلسطينيين أو السوريين من أجل تحرير فلسطين. ولا أحد يطيق معاييرها المتعالية التي لا تراعي الاختلاف والتنوع، بل على العكس تعمل جاهدة لتقضي عليهما بحجة الوحدة، ولهذا يبرز الاختلاف والتنوع وقبول الآخر من دون أحكام مسبقة ومتعالية في الوعي الجديد بالتضاد مع هذه الأيديولوجية. أثبتت انتفاضة السويداء أن القضية الفلسطينية كقضية مركزية وأيديولوجية صارت وراءنا، وأنها ليست أيديولوجية مهزومة لأنها مفوتة ومتأخرة فحسب، بل لإنها أسست لتبرير الاستبداد وتأجيل استحقاق الديمقراطية.
ت- من قضية مركزية للعرب والمسلمين إلى قضية مركزية للفلسطينيين فحسب
حصل تجاوز لمركزية القضية القومية الفلسطينية لمصلحة القضايا الوطنية، وذلك إلى حدِّ لا نسمع فيه من أحد هنا، كما كنا نسمع ونقرأ ليل نهار وفي كل مناسبة، أن “القضية الفلسطينية قضية مركزية”. ولم تعد القضية الفلسطينية هي القضية المركزية بالنسبة إلى السوريين، وإنما قضية مركزية بالنسبة إلى الفلسطينيين فحسب.
خاتمة: انتفاضة السويداء كشهادة
أجل هناك اختلاف في وعي القضية الفلسطينية. وهو يميل لصالح الوطنية الديمقراطية. ولكن لا مشروع سياسي يستند إليه. وهذا لا يعني بتاتًا التخلي عنها كقضية محقة[78]، وإنما للتدليل على تموضعها في سياق وعي ديمقراطي وطني جديد. وأول مرة إذًا، ستكون نتائج الحرب داعمة لخيار السوريين في دولتهم الوطنية الديمقراطية، وللفلسطينيين في دولتهم الوطنية الديمقراطية، ولن تكون نتائج الحرب على غزة، مؤثرة كما تعودنا مع الهزائم السابقة في تكرار تهافت الوعي نفسه.
ومن هنا نستنتج أن هذا الوعي الوطني الديمقراطي المختلف، غير مدرج في مشروع سياسي كما المشاريع الأخرى ولم تتبناه دول أو أحزاب حتى الآن. ولهذا، وعلى الرغم مما يتعرض له الديمقراطيون من تخوين وتكفير وسخرية، يجب الاستمرار في العمل على قيام مشروع وطني ديمقراطي للفلسطينيين. إذ أنه سيكون مختلفًا، في الخطاب والممارسة، عن كلٍ من المشاريع القومية- القطرية؛ والإسلامية السياسية- الجهادية؛ والتطبيعية العربية الإسرائيلية. وهي مشاريع مطروحة من بعض الأنظمة العربية والإقليمية وبعض التنظيمات الجهادية.
وحتى نقبل ونساند مشروعًا وطنيًا ديمقراطيًا لحل القضية الفلسطينية، يجب عليه أن يبدو أفضل من المنافسين الآخرين؛ لأن تقدم الوعي، يتشكل من إزاحة وعي سائد ولكنه متهافت، إلى وعي مقارب للواقع. وها قد أُعيد اكتشاف الوعي المتهافت المصاحب لعملية “طوفان الأقصى”. ولهذا يجب استبداله بوعي وطني ديمقراطي يستطيع أن يقدم تفسيرًا منطقيًا للسياق والمشكلة لنتبناه، وطريقًا لتحقيق المصالح الوطنية الفلسطينية أكثر إقناعًا لنسلكه.
ومن هنا، فإن “انتفاضة السويداء” تشهد على شيئين هما: اختلاف وعي القضية الفلسطينية أولًا، وانتشار الوعي المتهافت[79] لحلها ثانيًا. وهذا يعني في ما يعنيه، أن النتائج التي قد تصدر عن الوعي الديمقراطي هي نتائج واعدة، بينما نلمس كارثية الوعي المتهافت بنتائجه المتحققة.
إن الشهادة التي تقدمها “انتفاضة السويداء” على وعي حرب غزة، تؤكد الاختلاف في الرد على الاستبداد والاحتلال القائمين. وكما قال إدغار موران بالنسبة إلى مأساة غزة مؤخرًا: “شهادتنا على ما يحدث هي المقاومة الوحيدة المتبقية لنا”.