فلسطين: أنساقُ الصّراع نحوَ الحريّة

ملخّص المقالة

تعرضُ هذه المقالة بعضًا من أنساقِ الصّراعِ الفلسطينِيّ الإسرائيليّ وفق رؤيةٍ تاريخيّةٍ، وقراءةٍ حاليّة وتطلّعات مستقبليّة، وهذه الأنساق: الاحتلال، والفلسطينيّون، وطُوفان الأقصى حيث قُسّمت هذه الأنساق إلى العناوين الآتية: أوّلًا، نَسَقُ الاحتلال: عندما يصبحُ الاستبدادُ أخلاقيًّا، وفيه يعرض الباحث تحوّلات تشكّل جيش الدّفاع الإسرائيليّ من العصابةِ إلى الجيشِ النّظاميّ، ونمذجة عمليّاتِ الإبادةِ بالنظريّةِ التسلّطيّة عند عالِم الاجتماع ثيودور أدورنو Adorno Theodor. ثانيًا، الفلسطينيّون: جدلُ المُقاومةِ والمُفاوضة. إذ يتشكّل هَذا النّسق في حدود الموضوعات الآتية: الثّورةُ الكُبرى 1936 ولجنةُ بيل. الخيْمةُ إذ تصنعُ أيديولوجيا. الحركاتُ الإسلاميّة وأيديولوجيا سقف الزينكو. ثالثًا: طُوفانُ الأقصَى بينَ الطّوباويّة والفوضويّة التحرّريّة. في هذا النّسق يعرضُ الباحث مدى توافق عمليّة طوفان الأقصى مع آمال الحريّة في ظلّ الإبادةِ الكليّة لقطاع غزّة والإجابة عن سُؤال لماذا الطّوفان.

أوّلًا: نَسَقُ الاحتلال: عندما يصبحُ الاستبدادُ أخلاقيًّا

يتمتّعُ الكَيان الصهيونيّ بمنظومةٍ عسكريّة قتاليّة ذات أبعاد استخباريّة في إطار من السّريّة والعملِ الدقيق، وما كانت هذهِ المنظومةُ لتكون لولا بنائِها وفق إرهاصاتٍ قتاليّة تتعلّق في أحقيّة بناء دولةٍ لشعبٍ بلا أرض، وعندَ الحديثِ عن أنساقِ الصّراعِ العربيّ الإسرائيليّ كانَ من الممكنِ الحديث عن نسق الاحتلال السياسيّ، إذ إنّ الحالة السياسيّة الإسرائيليّة يُتغَنّى بها؛ فالتعدّدية الحزبيّة وصراعات اليمين واليسار حاضرةٌ، لكن جاء الحديث عن تشكيل الجيش لربطِ ما يفعله جيش الدّفاع الإسرائيليّ بالحالة الأخلاقيّة الاستبداديّة.

إنّ القوّة الاستبداديّة المُفرِطة ظهرت في عدوانِ إسرائيل على غزّة وفقَ ما يسمّى أحقيّة الردّ، مستغلّة ما حدثَ في السّابع من تشرين الأول/ أكتوبر بوصفه نصًّا مشرّعًا لذلك العدوان الغاشم، ونصًّا أخلاقيًّا تدافع فيه إسرائيل عن مسؤوليّتها في قتل آلاف الأطفال والنّساء، متناسية استنزافها لأرواح الفلسطينيين، واغتصابها الأرض. وهنا سيُقرَن ذلك الاستبداد بوصفهِ استبدادًا أخلاقيًّا من البدايات، ونمذجة هذ الاستبداد بمنظومة الفيلسوف ثيودور أدورنو[1] صاحب كتاب الشخصيّة الاستبداديّة.

العِصاباتُ الأولى

إنّ تاريخ جيشِ الدّفاعِ الإسرائيليّ يرتبطُ بمفهومِ العِصابة؛ فقبلَ تأسيس ما يسمّى دولة إسرائيل كان هناك وَحَدات مقاتلة على أرْض فلسطين تحت مشرّعات متنوّعة هم: (الهَجَانَاه)، (إتسل الإرجون)، (ليحي). وتلكَ العِصابات الثلاث توّلدت وفق صراعاتٍ، وتكويناتٍ مختلفة منها ما يتعلّق بوجودِ الانتدابِ البريطانيّ على أرضِ فلسطين، وضرورةِ وجود وَحَدات لحمايةِ المستوطنين. وفق الشرّ المحدود لم تكن هذه العصابات وحدها على أرض فلسطين، بل أُسّست عديدًا من الوحدات القتاليّة لكن تلك العصابات هي التي شكّلت النّواة الأولى لجيشِ الاحتلال عام 1948.وقت الحرب العربيّة الإسرائيلية الأولى[2].

الهاغاناه أقوى العِصَابات المُقاتلة وتَعْنِي في اللّغةِ العِبْريّة (الدّفاع) وهي التّشكيل الأكبر في جيش الدفاع الإسرائيليّ، تنتَمي إلى ما كان يسمّى بالوَكَالَةِ اليَهودِيّةِ الّتي مَهّدت الطّريقَ لهِجْرةِ الآلاف من أوروبا إلى أرض فلسطين، وقد ارتكبت هذه العصابة عديدًا من المجازر في أرض فلسطين. أمّا (إتسل) فتعدّ الفصيل الثاني بعد هاغاناه، وقد توّلدت نتيجة صراعات داخل هاغاناه في طريقة التعامل مع العرب في فلسطين وضرورة كسر قاعدة ضبط النفس. كان لها دور كبير في وأد الثّورة الفلسطينية في ثلاثينيات القرن الماضي، والفصيل الثالث هو فصيل “ليحي” وهو فصيل منشقّ عن إتسل وهي عصابات تؤمن بضرورة تشكيل الوطن القوميّ ورحيل الانتداب البريطانيّ، لذلك كانَ هذه الفصيل يحمل أفكارًا مرتبكة تجمعُ بين الرؤيّة القتاليّة النازيّة والرؤيّة الاشتراكيّة، لذلك قامت بعمليات قتالية ضدّ بريطانيا، باحثة عن وطن يهوديّ عظيم[3].

تشكّلَ الجيشُ الإسرائيليّ بعقيدة واحدة هي عَقيدَةُ حبِّ الدّماءِ والتّمرس في الذّبح، ليأتيَ السّؤالُ المعقّد من أين جاء حبّ تلك العصابات للدّم؟ هنا نستعينُ بمرجعيّات أدُورنو في الاستبداد وربط هذه النظريّة بتشكيل عقيدة قتاليّة مارست القتل على مدى ما يقرب من مئةِ عامٍ، وإن كانت الصّور قليلة في الماضي وما شُوهِد أصبح رسومًا بالية فإنّ الصّورة الحاضرة للاجتياح البرّيّ لغزة شكّل حالة استمرار؛ فالدّماء هناك خضراء تحكي استبداد آلة الحرب الصهيونيّة.

لا يمكن الاعتماد على نظرية أدورنو وفق حقائق بحثيّة وفضاءات تحليليّة، لكن في وقتٍ قدّم فيه أدورنو نظريته عن الشّخصيّة الاستبداديّة، كانَ هناك جيش يتولّد من رحم دماء أُسيلت على أرض فلسطين، وكأنّ مقياس أف أو ما يسمّى (F scale) يحاكي أبناء جلدة أدورنو وليس أعداءهم. وهذا المقياس يبيّن مجموعة من العناصر بتوافرها يكونُ الشّخص في دائرة الاستبداد، وهذه العناصر: التّقاليد، الخضوع السُلطوي، العُدوان الاستبدادّي، مكافحة التداخل، الخرافة والصورة النمطيّة، القوّة والصلابة، التدمير والسخريّة، الإسقاطية، الجنس. وهذه العناصر كلّها حضرت في العدوان الأخير على غزّة[4].

من المؤكّد أنّ العناصر الّتي ذُكرت سابقًا تلتزم في بناء الشّخصيّة الفرديّة، ويمكن أن تكون في أيّ فردٍ يعشق الدّم، لكن أن تنتقلَ من الفرديّة إلى الجمعيّة وأن تستمر عبر التّاريخ فذلك يحتاج إلى رؤية أكثر إبصارًا؛ فأدورنو نفسه عندما تحدث عن إسرائيل قال: “إنّ اليهود الأرثوذكس الإصلاحيين أقرب إلى الفاشيّة من اليهود اليساريين”، وهذا مغاير تمامًا؛ فالثلاثيّ الاستبداديّ الذين قَتَلوا وهجّروا كانوا يختلفون في شكليّات كثيرة ويتّفقون على ضرورة القتل. وهنا نتحدّث عن الشّخصيّات الّتي كانت تدير المشهد في الزّمن الماضي أو ما يسمّى باستبداد العصابات، وهم: ديفيد شتيرن، مناحيم بيغن، زئيف جابوتينسكي.

بعد عام 1948 خاض جيش الدفاع الإسرائيليّ حروبًا متنوّعة، منها ما هو مع جيوش نظاميّة كما حدث في عامي 1967، و1973، أو فصائل مقاتلة في لبنان، والضفّة، وغزة. وخلال هذه الحروب ظلّت عقليّة الجيش تقاتل في عقيدة واحِدة هي حماية الكيان الإسرائيليّ، فلا نجد فرقًا بين الأرثوذكس أو اليسار أو اللامنتمين، فكلهم يريد أن يظلّ في أسس الدّولة، بل التوسّع كذلك فبعدَ عشرات السّنين من الاستبداد الطفوليّ الّذي تمثّل وفق عصاباتٍ متنوّعة في تشكيلات صغيرة، يطل علينا جيش الدّفاع الإسرائيليّ في حربه على غزّة، وهذا الطّفل المستبدّ أصبح وحشًا مستبدّا، فثلاثي العصابات والذي كان يدير آلة القتل قبل تأسيس الجيش يتكرر الآن بمسميّات جديدة، وهم: بنيامين نيتنياهو، يوآف غالانت، بيني غانتس.

وفي العودة إلى الشّخصيّة الاستبداديّة عند أدورنو، وبعيدًا من العناصر التّسعة الّتي قد تكوّن مسلّمات بناء شخصيّة الكيان الإسرائيليّ، يمكن التعليق على شيء مهمّ في دراسته، إذ إنّ هناك ترابطًا بينَ تركيب الشّخصيّة، والدّعم المحتملِ لَها، فالرّأسماليّة تُنتجُ شخصيّاتٍ نرجسيّة تامّةِ الخُضوعِ للتماهي بها واللّذة بما تعمل، وهذا ما يحدث فعلًا، فالشّخصيّات الّتي قادت حرب غزة ما بعد الطوفان، وكأنّها شخصيّات موجّهة إذ نجدُ عديدًا من أصحاب التكنولوجيا والثّورة الرّقميّة يدعمون إسرائيل وكأنّهم يبحثون عن لذّات القتل، فكل جنديّ يحمل هاتفه سُمح له بالتصوير ينقل لهم صورة القتل وفق كاميرا هاتفه، لك أن تشاهد منظر القصف في لباس الديناصور.

صناعةُ الطّاغيّة من أجل لذّة القتلِ هي ما تميّز طُغيان الكيانِ في حربه، ولم يقتصر هذا الموقف على هؤلاء الرّأسماليين؛ حتى الفلاسفة الذين أشبعوا المكتبات بعشرات المجلّدات عن فلسفة الأخلاق؛ فنجد هابرماس تلميذ أدورنو الذي مهّد للشخصيّة التسلطيّة يخرج مع عشرات المثقفين بخطابٍ استفزازيّ يمجّد عمل إسرائيل ويبرر ردّة الفعل وخلاصة هذا البيان: إنّ الوضع الحالي الّذي تسبّبت فيه وحشية الهجوم غير المسبوق الذي شنّته حماس، وردّة فعل إسرائيل عليه، أفضى إلى سلسلة من المواقف الأخلاقيّة والسياسيّة والتظاهرات الاحتجاجية.

ثانيًا: الفلسطينيّون جدلُ المُقاومةِ والمُفاوضة

هنالك سؤالان متضادّان في المعنى وفي التكوين يسيطران على حالة الصّراعِ على أرضِ فلسطين، وهذان السّؤلانِ هُما أساسا الجَدل في تعريفِ مفهومِ الانتصار، السّؤال الأوّل: عَلى مَاذا أفاوِض؟ والسّؤال الآخر: على ماذا أقاوِم؟ وفي جدليّة السّؤالين ظهر ما يسمّى الانقسام الفلسطينيّ فَمَنْ يُفاوِض يختلفُ مع من يُقاوم، والعكس كذلك، وهذه الجدليّة بدأت ولم تنته منذ إعلان قيام دولة إسرائيل، وفيما يأتي رؤية بنيويّة في جدل السّؤالين:

1- الثّورةُ الكُبرى 1936 ولجنَةُ بِيل

في البعد التاريخيّ فإنّ المقاومة قبل عام 1948 كانت مقاومة غير منهجيّة، والدّليل على ذلك أنّ فكرة قيام دولتين على أرض فلسطين كانت فكرة مطروحة ومنشورة في الاتّجاهات الفكريّة والسياسيّة كلها تنبّه لها البعض وتناساها الآخرون، وإن كان أوّل مقترحات التفاوض هو: مقترح لورد بيل الصادر عن اللجنة البريطانيّة الملكية حيث كان رئيس اللّجنة هو اللورد بيل، شُكّلت هذه اللجنة عقب اندلاعِ الثّورة الفلسطينيّة الكُبرى عام 1936. خلصت اللّجنة إلى تقسيم فلسطين إلى ثلاث كارترات: الأوّل، دولة يهوديّة. والثاني، منطقة الانتداب البريطانية. والثالث، دولة عربيّة بعد ضمّها مع شرقِ الأردن.

نقصد بعدم المنهجيّة في المُقاومة غياب مقوّمات المفاوضة، فحتّى تفاوض يجب أن تملك شيئين: إمّا أن تكونَ منتصرًا فتفاوِض على قوّة، أو أن تكونَ صاحبَ حقّ فتفاوِض على ما هو أكثر قوّة. وللأسف فلسطين من الدّاخل لم تكن بمثل الحجمِ السياسيّ اليهوديّ؛ فخلال الفترة ما بينَ بلفور وقيامِ دولة إسرائيل لم يكن هناك توجّهات سياسيّة بمعنى التوجّهات وفق أدبيّات وأيديولوجيا وإن كانَ هناك جمعيّات، وأحزاب، ومؤتمرات فإنّها لا تتعدّى أكثر من كونِها عشيّات، أو جلسات مضافاتٍ من دون أسسٍ فكريّة ثابتة، فالمجتمع الفلسطينيّ حاله كحال تكوينات الشّعوب الأخرى يقوم على تكوين قائم إمّا أن يتشبث بـ (الشوال) كناية عن تجار فلسطين، وإمّا بـ (الشّجرة) كناية عن فلّاحي فلسطين، وإمّا بـ (الخيمة) كناية عن بدو فلسطين. وكانت الخلاصة وجود مفاوضين ومقاومين خارج أصحاب الأرض مثل القائد الشهيد عزّ الدين القسّام.

2- الخيمة إذ تصنع أيديولوجيا

لم يكن يتخيّل ذلك الفلسطيني أنّ أسطورة فقد أرضه أصبحت حقيقة فبعد عام 1948 وبعد أن أيقن أنّه لا يملك إلّا خيمةً، وفرشةً، ومترًا من الأرض جالت في نفسه الأسئلة الآتية: كيف حدث؟ ولماذا حدث؟ وماذا بعد؟ فأصبحت تلك الخيمة مصدرًا لحالة فكريّةٍ وعقديّة تتألّم للفقدِ، وتنتظر خلاصًا فظهرت حركاتُ المقاومة، تقاومُ لا تفاوض. تريد أن ترجعَ إلى أرضها إلى زيتونها مهما كانت الأسباب.

في فترة ما بعد 1948 وظهور ما يسمّى حركات التحرّر اليساريّة في سوريا، ومصر، والعراق وبروز القيادات القوميّة التي جعلت من فلسطين قضيّتهم الأولى، وجعلت ضرورة التّحريرِ أمرًا واجبًا؛ فرأى الفلسطينيّ الّذي ترك بلاده من دون أي شعورٍ بقوميّة أو وطنيّة أنّ هذه الحركات هي المخلّص، لتنتهي هذه الحركات بانهزام مدّوي في عام 1967 فتموت أيديولوجيا الخيمة بخيام أخرى.

بعد أن زادت الخيام، وأُثقلت همومُ الفلسطينيّ شتاتًا ظَهرَ أوّل فصيلٍ يقاوم بمنهجيّة هو حركة التحرير الوطنيّ الفلسطينيّ أو ما يُعرَف بحركة فتح، والّتي تعدّ بوجهة نظري أوّل تشكيلٍ ينزع فيه العرب فكرة القضيّة لأدلجتها في أهل الأرض فقط، وهذه وجهة نظر قد تكون صحيحة أو خاطئة إذ إنّ توجّه قيام حركة فتح تطوّر من حركة إلى دولة؛ أي تحولت من حركة من أجل أرض إلى دولة بلا أرض.

إنّ حركة فتح وإن استقطبت المفكرين والمثقفين أو الذين تفكّروا وتثقفوا بستارِ خيمة لكنّها عايشت حالة الفوضى بين المُقاومة والمُفاوضة، وهذا ما حصل معها بعد أن قوي عودها في الأردن جعلت لنفسها أدبيّات فاختلفت مع الجميع في مفهوم المقاومة وقاومت على ضعف، حتى انتقلت إلى بيروت وأيقنت أنّ الكفاح المسلّح حالة انهزاميّة، وهنا بدأ خلق ما أسمّيه دولة المتر الواحد فاليهود قالوا: بدلا من أن تكون خيمتك خارج فلسطين هات بها إلى فلسطين ولك متر الخيمة. لتنتقل حركة فتح ممثلة بقيادتها لأوسلو؛ إذ تُعدّ أوسلو مَقتلةَ القضيّة الفلسطينيّة، وشمّاعةَ القادة العرب في تركيع الشعب الفلسطينيّ أو كما قال إدوارد سعيد فإن المفاوضات مشكلتها أنّها لا تبدأ من الصفر، بل تبدأ من الفترة الزمنيّة التي يريدونها هم[5]. حتى انتهى المطاف بالسلطة الفلسطينيّة أن تكون ذراعًا أمنيّا لإسرائيل تعتقل وتعذّب من يكره إسرائيل، وذلك في السّنواتِ قُبيلَ طُوفان الأقصى. لتكسرَ حركة فتح قاعدةَ الفيلسوفة الفرنسيّة سيمون فايل: الرّغبة الدفينة لدى الإنسان في الحاجة إلى الجذور، إلى الرغبة الدفينة لدى الإنسان في إرضاء المحتل وهي حالة عبوديّة تكسر كلّ أيدولوجيّات المقاومة أو البحث عن دولة فلسطينيّة.

3- الحركاتُ الإسلاميّة وأيديولوجيا سقف الزينكو

إنّ الحسّ القوميّ الّذي بدا واضحًا في أدلجةِ المقاومةِ ودفاعِها عن فلسطين تغيّر نحو الحسّ الدينيّ وذلك حاله كحال ظهورِ الإسلامِ السياسيّ أو ما يسمّى بالصّحوةِ الإسلاميّة، فتشكّل في ثمانينيات القرنِ الماضي حضور حركتين من حركات المقاومة واللتان أصبحتا ثقلًا في الحسّ المقاوم هما: حركة حماس، وحركة الجهاد. وهذان الحركتان ظهرتا في تطوّر لافت لحركة اللاجئين وحركة الخيمة؛ فهؤلاءِ الذين يبحثون عن حلم في منفى لم تتحقق أحلامهم، وأكبر تطوّر لهم أنّ الخيمة تطورت لتصبح سقفًا من الزينكو فلا أرضهم عادت، ولا أحلامهم هدأت.

إنّ الهزيمة الكُبرى عام 1967، وزيادة عدد الخيام، والانتصار الورديّ عام 1973 شكّل لدى الفلسطينيّ والعربيّ حالة من البؤس، وأُتمّ هذا البؤس باتفاقيّة كامب ديفيد الّتي كانت كَسْرًا لروحِ القضيّة وموت أيديولوجيا المقاومة مع العرب، وهنا برز الحسّ الآخر الذي يدعو إلى تحرير الأرض أي الحس الإسلاميّ، رافق هذا الحس الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة، وظهور طالبان والمقاومة في أفغانستان، وإرهاصات الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ في الجزائر، واجتياح بيروت، وهزيمة فتح لتتولّد حركات إسلاميّة بمرجعيّة دينية. إنّ حماس والجهاد سارتا وفق أدبيّات الإخوان المسلمين أي أدلجة منظّمة نوعا ما خصوصًا بالتنظيم والقرارات.

لو لُخّص الحديثُ عن الحركات التحررية في فلسطين لكنّا أمام ثلاث حركات تحرر متنوّعة الولاءات: حركة فتح: التي اتجهت نحو القوميّة وتطورت لتحمل أيديولوجيا الدّول العربيّة وضرورة الاستسلام وبناء دولة على أي أمتار تشاؤها إسرائيل. حركة حماس، التي كان ولاؤها للإخوان المسلمين إذ رضيت بقيام دولة فلسطينية على حدود 1967، وذلك من خلال موقف مؤسس الحركة الشيخ أحمد ياسين[6]، وأيضًا حركة الجهاد الإسلاميّ التي انتقلت إلى أبعد من ذلك من خلال خطف الحركة والسير وراء أيديولوجيا إيران.

إنّ نظريّة القوّة لم تسيطر على وعي الشّعب الفلسطينيّ في الداخل؛ فحركةُ حماس وإن كانت حركة مقاومة فإنّها دخلت في تكوين السّياسة وسيادة السّياسة، إذ إنّها تنازلت عن تشريعات في مفاوضات حلّ الدولتين؛ فوثيقة حماس بعد عدّة حروب مع الكيان وضّحت ذلك، بخلاف حركة الجهاد التي رفضت مفاوضات حلّ الدولتين ودخلت في صراعات داخلية لتكون ذراعًا لمحور المقاومة في طريقه المعوجّ نحو فلسطين. في مايو عام 2017، جاء ما يسمى بوثيقة حماس؛ إذ وضعت فيها مبادئ الحركة، وجاء في أحد بنودها، وبالتحديد بعنوان: الموقف من الاحتلال والتسوية السياسية: لا تنازل عن أي جزء من أرض فلسطين… ومع ذلك- وبما لا يعني إطلاقًا الاعتراف بالاحتلال الإسرائيلي ولا التنازل عن أيٍّ من الحقوق الفلسطينية- فإن حماس تعدّ أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من يونيو 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أخرجوا منها، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة[7].

عندما تجمع بين السياسة والمقاومة يبقى لديك حس إنسانيّ أخلاقيّ يتقاطع مع مفهوم الموت الدائم المستمر، فكانت حماس في تكوين محاصر شكّلت في داخلها عنصر المواجهة، فبين أدبيّات العيش وأدبيّات الموت صنعت حماس لنفسها روحًا، تغلغلت هذه الروح لتشكّل واقعًا مستمرّا في غزة، فخاضت مع إسرائيل منذ سيطرتها على القطاع أكثر من حرب لتكون هذه الحروب تجربة في مواجهة الموت، وبعد أن أيقنت الحركة أنّ شعبيّة الموت من أجل الوطن استوطنت قلوب من فيها، انتقلت لمواجهة تاريخية في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر عام 2023.

ثالثًا: طُوفان الأقصى بين الطوباويّة والفوضويّة التحرّريّة

في نظريّات الحروب وعبر التّاريخ تكتملُ نظريّة الانتصار وفق مَبْدأ واحد” الحرب تتواصل حتى يُباد أحد الطرفين”. وفي غزّة حربٌ بلا أطراف يُباد فيها من أرادوا الحريّة وفق بناء من تاريخ، وفي فلسطين تموضعت الدّولة بما يسمّى إثْمَ الحَرْبِ، هذا الإثم نالته حركةُ فتح كما أسلفنا فوصلت إلى “لا شيء من الأرض” ليظهر كما قلنا من تربوا تحت سقف الزينكو يبصرون تحرّرًا، ويدركون معرفةً الحربَ وآثامها. ولكن المشكلة الكبرى في مسألة الإدراك، فعلى مستوى القيادة إنّ غزة خاضت حروبًا عديدة مع المحتلّ كانَ أكبر آثامها عشرات من الشّهداء ومئات من المباني المهدّمة. وبعد كل حرب كان الأملُ يزدادُ في استرجاع فلسطين فظلّت مسألةُ التّحرير قائمةً على مبدأ إثم الحرب المتواضع. فجاءَ الطّوفان بعمليّات فدائيّة داخل الأراضي المحتلّة، وبآمالٍ فوضويّة طوباويّة؛ إذ كان يعلو هِممَ المقاتلين أملٌ بتحريرٍ، ونصرٍ قريب وهم يخوضون قتالًا عشوائيًّا في شوارعِ الأرض من دون أيّ اتصال بين المقاتلين. ولكن كانت المشكلة ما بعد الوَمْضة الثوريّة، فبعد ساعاتٍ قليلة من الاجتياح الفرديّ بدأت إسرائيل وحشيّتها وأظهرتْ ما لديها من تاريخ إجراميّ.

لعلّ السّيناريو المتوقع ما بعد الحرب البريّة على غزّة يُراد منه هدم المنظومة القتاليّة لحماس، وهذا سهل جدًّا فالمنظومة القتاليّة لدى حماس لا تتعدّى أن تكونَ جَيشًا، لكن الهدفَ الأقربَ هو هدم المنظومة العقديّة لدى أهل غزّة والتي آمنت بفكرة وجوب التّحرّر وذلك وفق مسبّبات كثيرة، وهنا نستعير مبادئ المفكر وكاتب الثورات البريطانيّ إريك هوبزباوم Eric Hobsbawm وفي حديثه عن ثورات الفلاحين إذ عدّ هذه الثورات ثورات تطلّعات مبنية على أحلام، قد تقود إلى حقيقة لا إلى أوهام[8]، ولو أحدثنا مقاربة على مستوى الأيديولوجيا بين حركة حماس بوصفها الواجهة العقديّة الدينيّة، وحركة التحرر الزاباتية[9] في المكسيك إذ تتميز هذه الحركة بعنصر تحرّري يتمثل بالإدارة الذاتيّة للقرى التي تديرها، وبرفضها في أن تدخل اللعبة السياسية، وبرفضها أيضًا مناصب السّلطة لذلك كانت ملهمة لعديد من حركات الانفصال في أوروبا، بينما حركة حماس اندمجت وراء السلطةُ والسّياسة وفي عباءة الإسلام السياسيّ المتمثل بأيديولوجيا الإخوان المسلمين، ولكن سقوط الإخوان في مصر جعل من القيادة السياسيّة في حماس في انقسام شديد، إذ توجّهت القيادات نحو اتجاه آخر تمثّلَ بما يسمّى محور المقاومة فما كان هذا النموذج إلّا نموذج قتل؛ فالحشد العراقيّ وحزب الله اللبنانيّ، والحوثيّ اليمنيّ أبسط ما يسمّون ميليشيات الدّم أو أيديولوجيا الدماء. وكانت طوباوية هذه الفصائل بين قتل ودماء كما هي طوباوية إسرائيل. وحركة حماس أيقنت أنّ هذا الحراك الخجل من جانب إيران وأذرعها يمثّل سقطة لها، فمسيّراتهم وأسلحتهم لم تقتل ولم تدمّر إلّا محطّات إرسال، ولم تخدش إلّا شجيرات بسيطة.

إنّ طوفان الأقصى عرَضَ ما يسمّى قلق الأيديولوجيا، فالوحدة التي أصابت غزّة وعدم الانتصار لها كان من الجميع، وفي هذا السياق سيتشكّل عناصر جديدة في محتوى الصّراع الإسرائيلي الفلسطينيّ، أو الصّراع العربيّ الإسرائيليّ، والغريب أنّ وحشيّة إسرائيل لم تمحُ لدى المجتمع الدوليّ الساعات القليلة في السّابع من تشرين الأول/ أكتوبر، بل ظلّ المجتمع الدولي متمسّكًا بأحقية إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وكأنّه يدرك طوباويّة حماس وأملها في التحرير.

إنّ سيناريو ما بعد اليوم الأوّل للحرب هو سيناريو هزيمة ألمانيا النازيّة، ويبدو أنّ إبادة المباني ومعركة التجويع بدت واضحة، لتحوّل غزة إلى معالم شبيهة بعصر الكهوف وهو ما يريده المجتمع الدولي، ومن ثم لتبدأ غزّة من جديد الوصول إلى معالم من خلق بيئة عقديّة جديدة تؤمن بالتعايش مع المحتل أو حتى المثول لأوامره، هذا السيناريو المتوقع، إذا ما هجّر الآلاف من أبناء غزة. ويبدو أنّ مرحلة ما بعد الحرب هي من تحدد أركان طابع الصراع الجديد بعد أن خذل محور الممانعة أحلام المفتونين به، وتبيّن ذلك بعد مشهد إيران المتفرّج حيث صرّح عديد من سياسيها أنّ الحرب هي حرب حماس. لذلك ووفق التسريبات الأولية لمشهد اليوم الأوّل من الحرب يصر نتنياهو على مبدأ اجتثاث التطرّف، وهذا المبدأ من أصعب المبادئ التي يمكن أن تنفذ، إذ يعني خلق حالة صراع بين من يبحث عن قوت يومه ومن يبحث عن أرض الأجداد التي ضاعت قبل عشرات السنين. إنّ الطّوباويّة في التحرير أمل العرب كلّهم لا تقتصر على حماس، ولعلّ الطوفان جاء لينقذنا جميعًا لنبحث عن نظامٍ واحد نعيش فيه أمل الحريّة.

المراجع / المصادر:

سعيد، إدوارد، أُوسْلُو 2 سَلامٌ بِلا أرْضٍ (بيروت: دار المستقبل العربيّ، 1995).

هوبزباوم، إيريك، عصر التطرّفات: القرن العشرون الوجيز، فايز الصياغ (مترجم)، (بيروت: المنظّمة العربيّة للترجمة، 2011).

الترابين، سالم، ظهر الدّبابةِ المقلوب سيناريو ما بعد الطّوفان، (مقالة منشورة على موقع عربي بوست، 2-12-2023).

محارب، عبد الحفيظ، مَخاض ولادَةِ الجيشِ الإسرائيلِيّ: التّحوّلُ من منظّماتٍ إلى جيشٍ موحّد، (بيروت: مجلة الفكر الإستراتيجي العربي، ع:1 معهد الإنماء العربيّ، 1981).

Adorno, Theodor; Frenkel-Brunswik, Else; Levinson, Daniel; Sanford, Nevitt(1950)(2019). The Authoritarian Personality. Studies in Prejudice Series. London. Verso.

1– ثيودور أدورنو (1903-1969) فيلسوفٌ ألمانِيّ من أصولٍ يهوديّة، يُنسَب إلى مدرسةِ فرانكفورت، انتقلَ من ألمانيا إلى الولاياتِ المتّحدةِ الأمريكيّة، وفيها ألّف كتاب ” الشخصيّة الاستبداديّة” بالتّعاون مع عالم النّفس الأميركِيّ نفث سَانْفورد وآخرين، وهذا الكتاب عبارة عن قراءة إحصائيّة تحليليّة في وصفِ السّماتِ الاستبداديّةِ لعدَدٍ من النّازيين والفاشيين.

2– عبد الحفيظ محارب، مَخاض ولادَةِ الجيشِ الإسرائيلِيّ: التّحوّلُ من منظّماتٍ إلى جيشٍ موحّد (مجلة الفكر الإستراتيجي العربي، ع:1 معهد الإنماء العربيّ، بيروت، 1981)، ص160 بتصرّف.

3– المرجع نفسه: ص160، 170.

4– Adorno, Theodor; Frenkel-Brunswik, Else; Levinson, Daniel; Sanford, Nevitt(1950)(2019). The Authoritarian Personality. Studies in Prejudice Series. London. Verso. P 224.

5– إدوارد سعيد، أُوسْلُو 2 سَلامٌ بِلا أرْضٍ (بيروت: دار المستقبل العربيّ، 1995) ص8 بتصرّف.

6– سالم الترابين، ظهر الدّبابةِ المقلوب سيناريو ما بعد الطّوفان، مقال منشور على موقع عربي بوست، 2-12-2023. بتصرّف.

7– المرجع نفسه.

8– إيريك هوبزباوم، فايز الصياغ (مترجم)، عصر التطرّفات: القرن العشرون الوجيز (بيروت: المنظّمة العربيّة للترجمة، 2011)، ص1009 بتصرّف.

9– هي حركة ظهرت في جنوب المكسيك عام 1994 نتيجة تحوّلات اقتصادية مما دعا الحركة لقيام تحرك سيطرت فيه على مساحات واسعة، وأقامت منطقة حكم محليّ، سميت بهذا الاسم نسبة لأحد قادة الثورة المكسيكية عام 1910 أيميليانو زاباتا.

  • سالم عوض الترابين

    باحث أردني، حاصل على درجة الدّكتوراه في الأدب العربي الحديث ونقْدِه (جامعة اليَرموك)، باحث في السيّاسة الدّوليّة، واستراتيجيّات المصالحات الدّوليّة، باحث في الشّعر والسّرد العربيّ. لديه أبحاث ودراسات محكّمة منشورة في مجال الّنقد الأدبيّ: (أسْطُورَةُ أورفيوس، بيْنَ الحُضورِ الحِكائِيّ والديْنيّ: قَصيدةُ "دَار جدّي" للسيّاب أنموذَجًا)، و(الذّاكِرةُ وأركيولوجيا المَكَان: قِراءة حفْريّة فِي شِعْرِ عزّ الدّين المَناصْرة). وفي مجال السياسة الدوليّة: Jordanian- Israeli Relations upon the Ending of the Contract Concerning the Areas of al-Baqura (Naharayim) and al-Ghamr (Tzofar).

مشاركة: