بعد السابع من أكتوبر وحرب غزة؛ نقاش في القضية الفلسطينية من منظور مغاير

عملية طوفان الأقصى التي شنت فيها حماس هجومًا مباغتًا ونوعيًا في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، على المواقع العسكرية والأمنية والمستوطنات الإسرائيلية في ما يعرف غلاف غزة، وشكلت صدمة وجودية للمجتمع والنظام الإسرائيلي، فاتحة شهيته وشهية داعميه على انتقام غير مسبوق من سكان غزة، انتقام يجد ترجمته في حجم الضحايا والتدمير والتجويع، الذي لحق بشعب غزة خلال الأشهر الأربعة الماضية، هذه الحرب التي لا تزال مفتوحة، فتحت الباب أكثر من أي مرة سابقة أمام النقاش حول العقلية، التي ما زالت تدير الصراع العربي الإسرائيلي والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ذلك أن اللاوعي العربي مهووس بأي نصر لا يطاله، ليس لأن التضحيات المقدمة قليلة أبدًا، بل لعوامل كثيرة تتعلق بموازين القوى المحلية والدولية، والوضع السياسي العربي، وأن إسرائيل كيان محمي علانية من مراكز القرار الغربي، بصفتها كيانًا وظيفيًا. وهذا النقاش ما إن يُفتح في عقب كل هزيمة لحقت بالعرب، حتى يُخنق تحت دعوى عدالة القضية وقدسيَّتها، وأن الصراع العربي الإسرائيلي صراع وجود إلى آخر سردية المقاومة أو الممانعة.

من إشكالات الحروب الحديثة، أنها لا تعطي نتائج حاسمة حيال مصطلحي النصر والهزيمة، الأمر الذي يتيح للمهزومين الاستمتاع بانتشائهم التعويضي عما أصابهم بالعمق، ذلك أن نتائج الحروب تدلل عليها نتائج التوصيف النهائي للحرب، وليست إسقاطاتنا الرغبوية، هذا ما شهدناه في أوضح صورة، فيما لا يزال يردده حزب الله وحلفاؤه عن النصر الإلهي في حرب عام 2006، وتتكرر العملية عند كل حرب، يساهم الطرف الآخر في تعزيز هذا الادعاء التعويضي، فعلى الرغم من القتل والدمار، اللذين خلفتهما الوحشية الإسرائيلية في حربها على غزة، وهو ما لم تصل إليه إسرائيل في الحروب السابقة، تنقل معاريف عن أحد جنرالات إسرائيل، أن إسرائيل فقدت في هذه الحرب ثلاثة من أعمدة إستراتيجيتها الأمنية الأربعة (الردع-التحذير-القرار-الحماية)، إذ يقول: “فقدنا الردع والتحذير وفشلنا في توفير الحماية منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، كما أن قدرة الجيش الإسرائيلي على اتخاذ القرار بحاجة إلى إثبات”، ومثل هذا التصريح يعطي دفعًا لتصريح حسن نصر الله الأخير مخاطبًا قادة الجيش الإسرائيلي بالقول: “حتى لو دخلتم رفح، فقد خسرتم الحرب”، علمًا بأن استنتاج الجنرال الإسرائيلي، قد يكون جزءًا من الحرب الإعلامية، غايته تعويم المبررات لاستمرار الحرب التي يصرُّ على مواصلتها اليمين الإسرائيلي الحاكم، أو لجلب مزيدٍ من دعم الحلفاء وتعاطفهم، من دون أن يقول نصرالله لجمهوره شيئًا عن دلالات استنتاجه هذا، ومثال آخر عندما يحاجج كثيرون، بأن هناك انقلابًا غير مسبوق في الرأي العام العالمي على السردية الإسرائيلية التقليدية، والتعاطف والانحياز إلى جانب قضية الشعب الفلسطينية، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، حول هذا التبدل في الرأي العام العالمي وهو صحيح ومهم، هل جاء نتيجة إنجازات حماس، أم نتيجة التوحش الإسرائيلي؟

هناك نخب فلسطينية وعربية قريبةٌ من فلسطين أو بعيدةٌ عنها، وعلى مختلف توجهاتها الأيديولوجية والفكرية، حازت سلطة المعرفة أو سلطة الحكم، كانت على الدوام مستعدة للتضحية بشعوبها، من أجل استمرار سطوتها باسم القضية العادلة، ما دام من يدفع الدماء ويعاني الفقر وفقدان التنمية هم الناس العاديون، الذين باتوا رهينة بيد تلك النخب بحكم الأمر الواقع، حتى يكاد المرء يعزز من شكوكه بأن هذه النخب، تريد لهذه القضية أن تبقى معلقة، ويتابعون إسباغ مزيد من القدسية عليها باسم الدماء المهدورة والتآمر العالمي، حتى لا يغامر أحدٌ ويطرح إمكانية تقليب ونقاش آلية المواجهة والدفاع عن هذه القضية العادلة من منظورات أخرى، ومن ضمن سلم الأولويات لكل شعب عربي في بلده، بما فيه الشعب الفلسطيني صاحب القضية ، وعلى الرغم من أن عدالة هذه القضية ليست موضوع نقاش، فهي من أكثر القضايا عدالة في التاريخ، فإن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام، هو هل من الضروري أن تعالج وتدار كل القضايا العادلة بالأسلوب ذاته وبالأدوات نفسها؟

خاض العرب في سياق الصراع العربي الإسرائيلي أربعة حروب خاسرة حتى الآن، عدا ما عاناه الفلسطينيون من حروب جزئية ولا سيَّما في غزة، وما زال الخطاب العربي وآلية المواجهة ذاتها، على الرغم من أن مياهًا كثيرة، قد جرت في العقود الأربعة الأخيرة، وهناك ثلاثة أطراف على صلة مباشرة بالقضية الفلسطينية، هي مصر والأردن ومنظمة التحرير بصفتها ممثلًا شرعيًا وحيدًا للشعب الفلسطيني، عَقدت اتفاقات سلام مع إسرائيل، وهي اتفاقات مستقرة على مدى عقود، على الرغم من تعثر أوسلو بسبب تعنُّت اليمين الإسرائيلي والخلافات الفلسطينية، تلك التطورات في تاريخ الصراع، قلصته موضوعيًا من صراع عربي إسرائيلي إلى صراع فلسطيني إسرائيلي، فالأطراف التي وقعت تلك الاتفاقات باتت أسيرة استحقاقاتها، بصفتها دولًا، مع ذلك ما زال هناك من التنظيمات الفلسطينية بصفتها حركات مقاومة تبني حساباتها على أنه صراع عربي إسرائيلي قناعةً أو رغبة، وبعضها يضيف له بأنه صراع يهودي إسلامي، وهذا أخطر ما يمكن أن ينحرف إليه الصراع، ليس لأنه غير واقعي، ودول العالم الإسلامي منشغلة بهمومها، فإن هذا التوجه يشكل مقتلًا لعدالة القضية الفلسطينية، وعدالتها من حيث هي حركة تحرر وطني لشعب احتُلت أرضه، وشُرِّد معظمه خارجها، وإحلال شعب آخر مكانه.

حقيقتان طرأتا على الصراع العربي الإسرائيلي والفلسطيني الإسرائيلي بعد حرب حزيران/ يونيو 67، يجب التعامل معهما بواقعية في ظل حقائق التوازنات الدولية القائمة، بعد توقيع اتفاق أوسلو 1993، والأخذ بمبدأ حل الدولتين من جانب المجتمع الدولي، مهما طال أمد تحقيقها بفعل المماطلة الإسرائيلية، التي استثمرت عميقًا في الخلاف الفلسطيني الفلسطيني، ما بين حماس وحلفائها من جهة والسلطة الفلسطينية في رام الله من جهة أخرى، بصفتها تمثِّل منظمة التحرير الفلسطينية، التي تبادلت الاعتراف مع إسرائيل بموجب تلك الاتفاقية، أولهما: أن حلَّ الدولة الواحدة بات من الماضي، ولم يعد يقول به إلا من يريدون التخلص من أوسلو، ومن حلِّ الدولتين من أجل استمرار الصراع، ذلك أنه في ظل حكومات اليسار الإسرائيلي، التي حكمت حتى منتصف عقد التسعينيات، وهي الأكثر قابلية لمثل هذا الطرح افتراضًا، لم يجد الطرح هذا أذنًا صاغية، فما بالكم مع ميل المجتمع الإسرائيلي المتسارع نحو اليمين المتطرف، الذي يطالب بأن يعترف العالم بإسرائيل كدولة يهودية، بمعنى أن يبقى اليهود من سكانها هم الأغلبية في حاضر إسرائيل ومستقبلها، وهذا يضمر التخلص المتدرج من كل زيادة سكانية بين عرب الـ 48، وثانيهما: أن تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، بات ضربًا من الخيال وخطابًا شعبويًّا لا أكثر، فقد أكدت عملية طوفان الأقصى الحقيقة المصرح بها منذ نشوء الكيان الإسرائيلي، وهي أن الغرب يتكفل بحماية الأمن القومي الإسرائيلي، وشاهد العالم كيف تدفقت أساطيل الغرب وجيوشه إلى شرق المتوسط، وتوافد قادة الغرب الأساسيين إلى القدس للتعبير عن تضامنهم مع إسرائيل، ومنحوا حكومة نتنياهو تفويضًا بتدمير غزة فوق رؤوس سكانها ورؤوس حماس، والحصيلة بين الشعب الفلسطيني مأسوية حتى الآن، والجميع وفي المقدمة منهم محور المقاومة، الذي أصم الآذان بمقولة وحدة الساحات، قد تركوا حماس وشعب غزة لمصيرهم، في حرب ما زالت مفتوحة على مزيد من القتل والتدمير.

هذه النخب لم تكتف بمصادرة القضية، وجميع قضايا الإنسان العربي، بل هي وعلى اختلاف أيديولوجياتها قوميةً كانت أم إسلامية أم يسارية، وضعت شعوبها والقضية الفلسطينية بمواجهة الغرب، بدعوى نظرية المؤامرة، وأن الغرب وكثيرًا من دول العالم الأخرى متآمرة على المنطقة والشعوب العربية، من ضمن خطاب تحريضي، يتجاهل المشكلات البنيوية التي تُنهِك الواقع العربي، وطبيعة العلاقات التي تشتِّت إمكانات الأمة، من حيث هي علاقات ما قبل وطنية، وهيمنة الاستبداد وغياب الديمقراطية، وضعف التنمية والتخلف عن ركب الحضارة والتقدم العالمي الذي يسير بخطى مذهلة، ويحقق إنجازات على المستويات كافَّةً.

منذ حرب الـ 1973 هناك توجه عربي، كان يتنامى ببطء، للبحث عن حل للقضية الفلسطينية كان أكثرها وضوحًا مبادرة السلام العربية، التي أقرَّها مؤتمر القمة العربية الذي انعقد في بيروت عام 2002، وهي مبادرة لم تلق قبولًا من الطرف الإسرائيلي، فإسرائيل ليست في عجلة من أمرها، فالتطبيع مع الدول العربية غاية إسرائيلية وأميركية نعم، وهناك عمل أميركي حثيث لإنجازه، لكن الغاية الأكبر هي التطبيع مع الشعوب العربية، وهذا أمر بعيد المنال، وتجربة مصر والأردن واضحة في هذا السياق، وجزء كبير من هذا الرفض الشعبي تؤججه العدوانية الإسرائيلية، لكن هذه التطورات يجب أن يأخذها الشعب الفلسطيني في الحسبان، وبناء إستراتيجيات مقاومته على قاعدة أن القضية فلسطينية، وأن الشعب الفلسطيني قادر على تحمل أعبائها، الأمر الذي يفترض بداهة إدارة الصراع بطرق جديدة مبدعة، وأن السلاح لم يؤمن للعرب ولا للفلسطينيين أي إنجازات ذات بال، وقد قدم الشعب الفلسطيني سابقًا تجربتين مهمتين أولهما انتفاضة الحجارة (1987-1991) التي أكسبت القضية الفلسطينية تعاطف الرأي العام العالمي ومهدت الطريق عمليًا مع مناخات حرب الخليج الثانية، اتفاقات أوسلو وحل الدولتين، ثم جاءت الانتفاضة الثانية (2000-2005)، وهي انتفاضة لم تكن سلمية كما الأولى بفعل اجتياح شارون للضفة، لكنها أيضًا وضعت القضية على طاولة المجتمع الدولي، لتفعيل حل الدولتين، الذي أبطأه تعنت اليمين الإسرائيلي الحاكم، والانقسام الفلسطيني الذي توجته حماس بطرد السلطة الفلسطينية ومؤسساتها من غزة عام 2007، وسيطرت على القطاع وأنشأت إدارتها وسلطتها الخاصة، ولم يفلح الجهد المصري أو السعودي، برأب الصدع الفلسطيني القاتل، وخلاصة القول إن الشعب الفلسطيني قادر على حمل قضيته والدفاع عنها وتحقيق إنجازات، ليس بالضرورة اعتمادًا على الخيارات العسكرية والعنفية حصريًا، فكل ما يتيحه حق الدفاع عن النفس هو متاح، على أن يكون بأقل الخسائر البشرية والمادية ما أمكن ذلك.

مواجهة العالم وبناء المظلوميات حيال الغرب الداعم لإسرائيل، لا يفيد العرب في شيء فهم الطرف الأضعف، وعلى النخب العربية أن تعمل على تهيئة الرأي العام العربي على أهمية انخراط العرب بالعالمية، وأن يكون العرب جزءًا إيجابيًا من العالم، وتقديم نموذج نحن بحاجة إليه يقوم على رفض الإرهاب، وإعلاء قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، والتشبيك مع المجتمعات المدنية في دول الغرب، وكسب تعاطفها لقضايانا، ويكفي القضية الفلسطينية من العرب الدعم السياسي، وكل ما يعزز صمودهم في أرضهم، والتفرغ لتنمية دولهم التي يعاني معظم شعوبها الفقر والبطالة وضعف الخدمات عمومًا، وعلى وجه الخصوص الصحة والتعليم، والعمل على بناء كل ما يعزز من الحضور العربي على ساحة الفعل الدولي.

حرب غزة الدامية ستعيد بقوة عملية أوسلو وحل الدولتين إلى ساحة التداول والفعل، وهو توجه على العرب والفلسطينيين ملاقاته، والضغط لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني، وتوحيد القرار الفلسطيني، لكي يكون مستعدًا للتعامل مع الاستحقاقات التي يقتضيها، فالعالم ليس على استعداد للتعامل مع أكثر من مركز للقرار، كما أن مشروع حماس والجهاد المضمر، بإقامة دولة أو كيان ديني في غزة وصل إلى طريق مسدود، بالمقابل فإن وضع السلطة الفلسطينية ليس بحال أحسن، ليس لأنه مرتعٌ للفساد، بل لعجزه وفقدانه القدرة على المبادرة، الأمر الذي يرتب على النخب الوطنية الفلسطينية إعادة ترتيب أوراقها، بما يؤمن لها دعم العالم وثقته.

وعدم الرضوخ للأصوات التي ستعلو بالحديث عن مؤامرة جديدة تتناغم مع البضاعة الإيرانية التي خربت أربع دول عربية حتى الآن، وستستمر في محاولتها الهيمنة على دول المنطقة العربية، وتفتيت المجتمعات العربية، وتعميم المليشيات على حساب الدول التي يراد إنهاؤها.

عمليَّة طوفان الأقصى ومن دون قصد ممن أطلقها يوم السابع من تشرين الاول/ أكتوبر، وضعت الغرب الداعم لإسرائيل أمام حقيقة إجبارية ومنطقية، تفيد بأنه لن يكون هناك استقرار في فلسطين والمنطقة، ما لم ينجز حل الدولتين، وهذا إن أُنجِز، يشكل تقدمًا هائلًا بالمعنى التاريخي لصالح القضية الفلسطينية، فهو أولًا يضع حدًا لأوهام إسرائيل في التوسع الجغرافي، وهو ثانيًا سيضعف مع الزمن من غلواء العنصرية، التي تغذي العدوانية الإسرائيلية، وهو ثالثًا سيترك المجتمع الإسرائيلي ينشغل بمعالجة مشكلاته الداخلية، وهي ليست بالبسيطة، التي يؤجلها الصراع ، والحكم العسكري والأمني القابض فعلًا على سلطة القرار في إسرائيل.

  • سائد شاهين

    كاتب وباحث سوري، يكتب في مجال الفكر السياسي، نشر عددًا من الدراسات السياسية التي تُعنى بمنطقة الشرق الأوسط والعلاقات الإقليمية والدولية، متعاون مع مؤسسة ميسلون للثقافة والترجمة والنشر.

مشاركة: