إسرائيليون ضد سياسة إسرائيل

تاريخيًا، وبعد تشتت اليهود منذ السبي الروماني لم ينشأ لديهم إلا اتجاهان فكريان.

الاتجاه الأول هو خط يهودي متدين يرى أن الحفاظ على الهوية اليهودية يتم من خلال التمسك بالدين والشعائر والطقوس وذلك كما جاء في كتبهم المقدسة بانتظار المسيح المخلص (المسيا).

والاتجاه الثاني جاء مع حركة التنوير الأوروبية وخاصة في مطلع القرن الثامن، كان ينادي ويرى أن على اليهود الاندماج والذوبان في المجتمعات التي يعيشون ضمنها. (الهسكالاه).

المشكلة اليهودية بدأت بوضوح في أوروبا ليس بعد طردهم من غرناطة 1492 بل بعد معاهدة وستفاليا 1648 وما نتج منها من بداية نشوء الدولة القومية، والتي تعني بشكل أو بآخر بالمفهوم اليهودي السائد ضعف اليهود داخل هذه المجتمعات فزادوا من قوقعتهم وانغلاقهم على ذاتهم، تميزوا باللباس والعادات عن باقي المجتمع وسكنوا بأحياء خاصة بهم، مع تأكيدهم فكرة أنهم شعب الله المختار وأن الآخرين (أغيار أو غوييم) أي بشر من درجة أقل، ونقطة التفوق الأهم من تلك المظاهر والادعاءات كلها هي الدور الاقتصادي الذي أدّوه واستطاعوا من خلاله السيطرة على الاقتصاد النقدي.

هذه جملة من الأسباب التي أدت لاضطهاد الأكثرية المسيحية للأقلية اليهودية، والنظر باحتقار إلى هؤلاء المرابين الذين يعبدون إلهًا واحدًا هو المال والذهب والتذكير دائمًا بأنهم قتلوا المسيح، هذه التهمة لم يُبرَّؤوا منها حتى خريف عام 1965 عندما قرر البابا يوحنا الثالث والعشرون أنه من الظلم محاسبة الخلف على أفعال السلف، ولا يجوز أن يرث الخلف أي يهود اليوم مسؤولية هذا الدم فصدرت وثيقة تبرئتهم من دم المسيح.

وهكذا وضعت المشكلة اليهودية تحت المجهر أول مرة من خلال برونو باور وهو فيلسوف ألماني من اليسار الهيغلي، رأى باور في كتابه “المسألة اليهودية” الذي نشر عام 1843 أن الحل يكمن في تخلي اليهودي عن يهوديته، ليسعى كألماني لبناء الدولة الألمانية العلمانية التي ستكفل حقوقه وحقوق غيره. متهمًا اليهود بالأنانية وأن انتماءهم ليس للأوطان والبلدان التي يقيمون فيها، وأن مطلبهم بالتحرر غير مقبول لأن لهم مطلب تحرر خاص بهم كيهود ليس كألمان ولا يخص الإنسانية جمعاء.

المفكر الكبير كارل ماركس بكتابه “حول المسألة اليهودية” الذي كتبه 1843 ونشره في العام الذي يليه. كان له هدف برونو باور نفسه ولكن من زاوية مختلفة. يرى ماركس أن المشكلة اليهودية ليست دينية والسؤال ليس كما طرحه باور من يحرر من؟ الألماني يحرر اليهودي أو اليهودي يحرر الألماني؟ بل أساس المشكلة يكمن في جوهر ومضمون التحرر، والمسألة لها أبعاد أخرى اجتماعية_ اقتصادية في المقام الأول. لذلك بحث في الأسباب الاجتماعية وكيف يمكن إلغاؤها، وطرح السؤال الأتي: ما هو الأساس الدنيوي للمسألة اليهودية؟ وأجاب: المصلحة والمنفعة، والمال الذي كان يُعدّ بمنزلة الإله الحقيقي لليهود ولكن هذا الإله لم يبق يهوديًا بل أصبح إلهًا للناس كلهم، ومن ثم يكمن الحل في تخلي المجتمعات على اختلاف دينها ومذاهبها عن “يهوديتها”، وهكذا رفض دعوة باور لتخلي اليهودي عن دينه ورأى أنها ليست الوصفة اللازمة لذلك المرض. ظهر الاتجاه الفكري الثاني (الاتجاه الفكري الأول هو الديني) عند اليهود على يد نخبة من المتنورين الليبراليين على رأسهم الفيلسوف اليهودي الألماني موسى مندلسون، لتغيير حال اليهود ورفض سيطرة السلطة الحاخامية متأثرين بالإصلاح الديني البروتستانتي وبفلسفة التنوير الأوروبية، ولمعرفتهم بأهميتهم المالية والاقتصادية مستغلين الثورة الاقتصادية، وأخيرًا للتخفيف من الظلم والاضطهاد المسيحي لهم وخاصة في أوروبا الشرقية.

انتشر هذا الاتجاه المسمى (الهسكالاه) في أوروبا الغربية واتجه شرقًا إلى بولندا وروسيا، ونادى رواده بمعارضة التعصب والخرافات، وإعمال العقل، والانتقال للتخلي عن كل ما يتميزون به من خصائص لمصلحة المجتمع والوطن والدولة، وترسيخ فكرة أن اليهودية دين وليست قومية، كما لخصها الشاعر اليهودي الروسي يهودا ليف جوردون: ” كن يهوديًا في بيتك كن إنسانًا خارج بيتك”.

أخفقت الحركة في تحقيق أهم أهدافها ألا وهو رفع الظلم عن الشعب اليهودي.

انتشرت معاداة السامية أكثر وتعرض اليهود للمذابح في روسيا بعد اغتيال القيصر ألكسندر الثاني 1881 واستمرت لمدة ثلاث سنوات، الأمر الذي أدى إلى تهجير قسم كبير منهم إلى جنوب سورية (فلسطين)، ووقوع مذبحة كيشينيف عام 1903 والتي عززت فكرة الهجرة عند المترددين من اليهود.

في فرنسا جاء صحافي يهودي شاب يدعى تيودور هرتزل لتغطية قضية دريفوس لجريدة “نيو فري برس” وعندما رأى مظاهر معاداة السامية وكره الفرنسيين غير اليهود لليهود، كتب عام 1896 كتابه “الدولة اليهودية”، والذي قامت على أسسه الحركة الصهيونية في العام التالي لصدوره وليصبح كتابها المقدس.

مثل هذا الخط وهذه الرؤية خطًا جديدًا ثالثًا في المجتمعات اليهودية المتفرقة في عديد من البلدان.

واجه الخط الثالث الخطين السابقين الذين اعترضا على إقامة وطن قومي لليهود، وكانت حجة التيار الديني أن أرض الميعاد سيحصلون عليها بوعد من الله وليس من بلفور، وأنها حق إلهي سيصلون إليه بعد ظهور مخلصهم وليس هبة من بريطانيا. وظهرت أحزاب سياسية أخرى كحزب البوند 1897 (اتحاد العمال اليهود لغرب روسيا وليتوانيا وبولندا) وهو حزب ماركسي اشتراكي خاص باليهود يرفض الصهيونية وإقامة وطن خاص باليهود، ويبحث لليهود عن حقوقهم الثقافية والفكرية في مجتمعاتهم بعيدًا مما يسمى “القومية اليهودية”.

يستمر الضغط على يهود أوروبا ويتعرضون لأنواع الذل والتمييز والأذى شتى على المستويين الاجتماعي والمؤسساتي في الدول التي يقيمون فيها. ذروة الاضطهاد 1933 _1945 مع صعود النازية للحكم في ألمانيا، حُرقوا وأُبيدوا وكانت حملة تطهير عرقي _لا ينكرها إلا بعض المعاتيه من الإسلاميين والعرب أتباع نظرية “المؤامرة”_ وهي تشبه ما فعلوه لاحقًا بشعب فلسطين، الأمر الذي أدى إلى ضرورة إيجاد الوطن اليهودي الآمن لهم. (يستطيع قارئ التاريخ ملاحظة اليهود في المجتمعات الإسلامية منذ العباسيين ومقارنته مع وضعهم في المجتمعات الأوروبية المسيحية).

عند قيام دولة إسرائيل في أيار/ مايو 1948، كان لاعتراف الرئيس السوفياتي جوزيف ستالين بتلك الدولة أثر كبير على اليسار في أنحاء العالم كلها حتى العربي في البلاد الإسلامية. فصار الخلاف مع الكيان الإسرائيلي والدولة الإسرائيلية على ممارسات هذه الدولة وأفعالها وليس على وجودها، فقد تعاملوا معها كأمر واقع.

إسرائيليون ضد السياسات الإسرائيلية

ماير فيلنر: سياسي إسرائيلي ووممثل للحزب الشيوعي في الكينيست. يرى أن الاستعمار الأنجلو-أميركي هو المسؤول الأول عن قضية اللاجئين العرب ويصفها بالقضية شديدة الخطورة بمشاركة زعماء جامعة الدول العربية الذين رفضوا قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947 ويتحملون المصائب التي حلت بالشعب العربي الفلسطيني من بؤس وتهجير وقتل، طبعًا إضافة إلى الرجعية اليهودية التي ساهمت في خلق هذا الجو الجديد بممارستها الإرهاب والقتل على العرب الأمر الذي جعل عديدًا منهم يختار الفرار ليصبح نازحًا.

ولأن أغلبية سكان إسرائيل دخلوا البلاد بعد إعلان تأسيسها وكان معظمهم في حينها من الشبان، كان من السهل على الحكومة الإسرائيلية خداعهم وخلق رأي عام إسرائيلي ضد السلام العربي، فالحكومات الإسرائيلية تريد إنكار حقوق الفلسطينيين وتجاهل وجودهم.

كانت حكومتا بن غوريون وبعده ليفي أشكول متصلبتين تجاه قضية اللاجئين والحدود، ويتلخص موقفهما بالشعار القائل: “لا عودة للاجئ واحد ولا تنازل عن شبر أرض واحد”.

فيلنر كان مع عودة اللاجئين وينتقد ادعاءات الحكومة الإسرائيلية التي تقول إن عودتهم إلى بلادهم يعني انهيار إسرائيل، كان يؤكد دائمًا على إعطاء العرب الفلسطينيين حقهم وإقامة سلام مع الجوار لما في ذلك من خير وازدهار للمنطقة كلها. جاء في مادة منشورة له بعنوان: القضية الفلسطينية والنزاع الإسرائيلي-العربي في كتاب ” من الفكر الصهيوني المعاصر” في الصفحة 283:

إن تصريحات الأوساط الحكومية الإسرائيلية التي تنكر وجود جماعة عربية في فلسطين، والتي تطالب العرب بحلّ مشكلاتهم فيما بينهم ليست إلا تصريحات غوغائية. فالكلمات المدّعية لن تمحو وجود هذا الشعب الفلسطيني، فهو موجود بقدر ما يوجد شعب في مصر وسورية والعراق والبلدان العربية الأخرى. إذ يعود إلى الشعب العربي في فلسطين أن يقرر كيفية تطبيقه لحقه في تقرير المصير: عن طريق إنشاء دولة مستقلة، أو عن طريق آخر، أما واجبنا نحن فهو الاعتراف بحق هذا الشعب في تقرير مصيره، وبذلك تُجَر الدول العربية إلى الاعتراف بحق الشعب الإسرائيلي في تقرير مصيره، وبوجود دولة إسرائيل. ذلك هو الطريق الوحيد المؤدي إلى الأمن والسلام.

لهذا السبب، فإن مشكلة اللاجئين ليست مشكلة إنسانية مؤلمة فحسب، بل هي أيضًا جزء عضوي من المسألة الفلسطينية والمسألة القومية لشعب فلسطين العربي. تريد الأوساط الرجعية إقناع الرأي العام بأن الاعتراف بحق الشعب العربي الفلسطيني يعني إنكار حقوق الشعب الإسرائيلي. نحن نتبنى رأيًا مغايرًا: تلك هي بالضبط وسيلة الحصول على الاعتراف بحقوق إسرائيل.

موشي سنيه: طبيب وسياسي إسرائيلي كان رئيسًا للهاغانا وبعدها انضم إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي ومثله في الكنيست، رئيس تحرير صحيفة صوت الشعب.

يرى أن على إسرائيل أن تندمج في محيطها العربي، وأن تفرض نفسها على وجدان العرب وعقلهم، ولن تستطيع أن تكون بلدًا آمنًا من دون ذلك، فالتقارب مع المحيط العربي والإسلامي والتفاهم معه ضرورة موضوعية لدولة إسرائيل، لكن السياسات الإسرائيلية لم تلتفت أبدًا إلى هذه الضرورة.

موشي سنيه كان واضحًا وصادقًا مع نفسه وتجلى هذا في موقفه الواضح والعلني عندما كان يطالب الحكومة الإسرائيلية ألا توالي الغرب الطامع في المنطقة والمعادي للعرب، ويرى أنه كان من واجب الحكومة الإسرائيلية أن تعلن دعمها لعبد الناصر عند تأميم قناة السويس لأسباب أيديولوجية تجمع بينهم وبين مصر ولتحطيم الحواجز بينهم وبين الجوار العربي، والاستفادة من الأزمة المصرية بهذه اللحظة الحرجة لمصر لفتح صفحة جديدة في المنطقة، لكن حكومة بن غوريون أخطأت وشاركت في العدوان على مصر.

وقدم رأيه هذا إلى الكنيست في جلسته المنعقدة في السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر 1956.

وكان موشي سنيه يعتمد على رؤية لينين للصراع القومي ورسم خط للحل وفق المبادئ اللينينية.

الحزب الشيوعي الإسرائيلي “ماكي”: كان معاديًا بشدة للصهيونية، انقسم لاحقًا وانشقّ عنه الحزب الشيوعي “راكاح” الذي ضم عديدًا من المثقفين العرب واعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية الأمر الذي زاد من جماهيريته ضمن صفوف الشعب الفلسطيني، ونتج من ذلك تولي الشاعر توفيق زياد منصب رئيس بلدية الناصرة في الانتخابات التي جرت 1975. أنشأ جبهة مع قوى سياسية عربية ويهودية “الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة” التي دعت إلى انسحاب إسرائيل من أراضي 1967 وإقامة الدولة الفلسطينية عليها.

أما على الصعيد الديني، فـ الأحزاب الدينية اليهودية كلها تعادي الممارسات الصهيونية (الحريديم) وتتعامل مع إسرائيل أيضًا كأمر واقع. أهمها حزب أغودات إسرائيل هو حزب متزمت دينيًا اندمج مع أحزاب أخرى وأحدث كثيرًا من الاضطرابات في الداخل الإسرائيلي للحفاظ على نمط الحياة المتدين للشعب اليهودي، وطالبوا بمنع تقديم لحم الخنزير في المطاعم وعلى الخطوط الجوية الإسرائيلية (العال)، ومنع لعب مباريات كرة القدم يوم السبت.. إلخ كما طالبوا بتعريف اليهودي وهو الشخص الذي ولد من امرأة يهودية، وهذا المطلب الأخير سبب حدوث مشكلات عدة مع المهاجرين وخاصة من روسيا، وفي خمسينيات القرن الماضي أحدثوا محاكم خاصة بهم.

جدير بالذكر أن الحريديم وأنصارهم خرجوا بمظاهرات ضد الكتاب الأبيض 1939.

الاستثناء في الأحزاب الدينية هو حزب المفدال وهو حزب ديني قومي أسس الصهيونية الدينية.

لا يمكن ذكر جميع اليهود المعادين للسياسات الإسرائيلية، والمطالبين بحل يضمن للفلسطيني حقه كإنسان وكشعب، والمدافعين عنه وفق الممكنات والشرعية الدولية بعيدًا من العنتريات و”الخزعبلات” العربية والإسلامية (إيرانية وتركية)، أمثال المؤرخ إيلان بابيه وغيره ولو أنهم قلة ضعيفة ليس في إسرائيل فقط، بل في العالم الذي ينحسر فيه دور اليسار وتطفو اليمينية المقيتة في دوله التي تعد مهد التنوير والديمقراطية. قد يكونون الأمل الأخير للشعب الصامد الذي تخلت عن قضيته الأنظمة العربية التي تدعمه بسلالٍ غذائية عبر الجو.

  • مصطفى هيثم سعد

    كاتب وصحافي سوري، مواليد اللاذقية 1986، تحصَّل على شهادة في الإعلام، وماجستير في اللسانيات. لديه عديد من المقالات والدراسات المنشورة.

مشاركة: