ناجي العلي.. رسومه التي تنمو بعد وفاته كنبات الحنظل

لو أذابوا أصابعي بالأسيد سأرسم بأصابع قدمي

ناجي العلي

كم من “حنظلة” كان سيرسم الراحل ناجي العلي لو كان في قيد الحياة احتجاجًا على الحرب على غزة؟ هل كانت سحنته ومضمونه سيتغيران أم سيرخي يديه المكتفتين ويدير وجهه إلينا؟ وكم من “فاطمة” التي لا تهادن ستتناسخ على أوراقه بقلمه الرصاصي كشخصيته التي لطالما لم تؤمن باللون الرمادي؟ أما عن زوجها، أجزم أن العلي كان سيشرف على ولادة آلاف الشخصيات المنكسرة المطعونة بخنجر الخذلان والصمت العربي المطبق.

على خلاف الآباء الذين يطلقون أسماء مبشرة ولطيفة واعدة على أبنائهم، أطلق العلي اسم “حنظلة” على مولوده الكاريكاتيري إنصافًا للحياة المرة والقاسية التي عاشها منذ لحظة تهجيره من بيته في فلسطين في سن العاشرة، وهو العمر الذي قرر العلي منحه لأيقونته الفلسطينية وتقديمها للعالم على صفحات جريدة “السياسة” الكويتية أول مرة في عام 1967 كإعلان رسمي لنكسة العرب في حربها ضد إسرائيل، متعهدًا على نفسه بعدم زيادة سنوات عمر الصبي “حنظلة” إلى حين عودته إلى أرض البرتقال، فالطفل الذي ولد في العاشرة، سيظل هكذا إلى حين العودة.

حنظلة، طفل بوقفة رجل.. وفاطمة، المرأة التي لا تساوم

أنجب العلي نحو أربعين ألف لوحة كاريكاتيرية مختلفة لامست الوجع الفلسطيني ونكأت بجراحه الغائرة، ولكل منها أدوار محددة برمزيات واضحة ودلالات أراد العلي إيصالها، غير أن الصبي “حنظلة” الذي استمد العلي اسمه من نبات الحنظل المعمر في فلسطين ذي الطعم المر الذي ينمو بعد بتر جذوره، والذي اكتسب مكانة مميزة في الوعي العربي أولًا، وروح ناجي ثانيًا الذي اختزل حبه العميق لها بكلمتين “هذا أنا”.

إنَّ تعلق ناجي بشخصية “حنظلة” مبررٌ عاطفيًا، فالتسمية وخصائصها الجسدية تليق بفتى العاشرة الذي استودع عمره حين غادر فلسطين قهرًا، فظل عالقًا بها عاجزًا عن التقدم بالعمر، يتذكر السنوات العشر الأولى أكثر من بقية عمره، وكأنه بحنظلة يحمي روحه من الهشاشة والتفتت والإصابة بلوثة النسيان في توكيد أبدي على طفل العاشرة الذي توقفت عقارب الساعة عنده، طفل بوقفة رجل، يجهل نمرة رجله لأنه يظل حافيًا، ويرتدي ملابس رثة بشعر خشن، حاله يعكس حال الأطفال الفلسطينيين الذين كبروا قبل أوانهم.

للمرأة الفلسطينية حضورها الآسر في أعمال ناجي الكاريكاتيرية، وذلك وفق قاموس ناجي وفلسفته الحياتية أن “الوطن أنثى والأنثى وطن”، فكانت فاطمة واحدة من الصور النسائية التي تصدرت رسوم ناجي كتجسيد عميق للمرأة الفلسطينية الصابرة، المفجوعة، الثكلى، فلم تكن “فاطمة” بشعرها المسجى بالسواد وعينيها المكحلتين وكوفيتها وموقفها الواضح غير المهادن أقل تمردًا وتحديًا وإصرارًا من “حنظلة”، ولم يكن مفتاح منزلها (مفتاح العودة) الذي هجرته منذ سنة 1948 المعلق بسلسلةٍ على صدرها إلا إيمانًا عميقًا بالعودة وانعكاسًا مكثفًا للرسوخ في جذور الوطن.

ناجي الذي تبرأ من الأنظمة العربية

ظل ناجي العلي ينتمي إلى القبيلة بمفهومها التقليدي التي تمتلك حدودًا جغرافية واضحة وكيانًا مستقلًا وسيادة كاملة وعلمًا يمثل الدولة، مجتمعة كلها في ما يسمى الوطن، إلى اللحظة التي أدار العرب ظهورهم لفلسطين وتعاموا عن معاناتهم المديدة. من هذه الحركة الاستغنائية اختار ناجي “حنظلة” وهو يدير ظهره بشعره الخشن، يرفض الكشف عن وجهه إلى حين استرداد الكرامة العربية المهدورة، واسترداد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته، وإلى حين التفات العرب إلى ما يجري في فلسطين وإلى حال الفلسطينيين في مخيمات الشتات على مدار عقود، من دون الإتيان بأي حركة.

أما عن تكتيف يدي “حنظلة” الذي تزامن مع حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، يقول ناجي: “كتفته لأن المنطقة كانت تشهد عملية تطويع وتطبيع شاملة”، وهنا كان تكتيف الطفل دلالة على رفضه المشاركة في حلول التسوية الأميركية في المنطقة، فهو ثائر وليس مطبِّعًا.

بقي العلي يدين الواقع العربي الذي أمعن في شرذمة الفلسطينيين وزادهم تشردًا وتمزقًا بفعل الولاءات السياسية والفكرية، ليدأب على الدوام بالتذكير بعدم انتمائه للدكاكين السياسية والتزامه المفرط بقضية فلسطين فحسب، يقول “طالما فلسطين غير محررة، لن يكون ولائي لأي جماعة أو حزب أو تنظيم أو نظام، أنا ضمير أمثل الناس جميعًا عبر رسومي التي تستشف معاناتهم بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والسياسية”.

ناجي العلي في السينما المصرية

لم يسبق للسينما المصرية أن تناولت معاناة الفلسطينيين في التسعينيات قبل إطلاق فيلم “ناجي العلي” الذي حمل توقيع المخرج المصري عاطف الطيب بعد إصرار كبير من الممثل نور الشريف والمؤلف بشير الديك على تناول مسيرة حياة الرسام الكاريكاتيري، ولا سيما أن الرغبة في إنتاج الفيلم لم تأتِ من فراغ، فقد مثلت حياة ناجي العلي تجسيدًا صادقًا للتغريبة الفلسطينية ومعاناة أهلها، وما زاد من أهمية الفيلم أنه صُور في أماكن الدمار الحقيقية التي خلفتها الحرب الأهلية اللبنانية وزادت من واقعيته وشفافيته، غير أن حملة هجومية منظمة شنتها الصحافة المصرية طالبت بإيقاف عرض الفيلم ومنع تداوله لتضع صناع الفيلم على لائحة التخوين، كما أنها طالت شخصية ناجي العلي وليس الفيلم فحسب، بحجة أن رسومه التي كانت تقف ضد اتفاقية “كامب ديفيد” أساءت لمصر وخونتها وكانت تتعارض مع السياسة الرسمية لها، وأنه لا يخدم القضية الفلسطينية، ليُستبعَد الفيلم من المنافسة في المهرجان القومي للسينما، لكن كانت هناك أسباب كامنة غير معلنة لرفض الفيلم وهي وقوف الرئيس الليبي معمر القذافي وراء تمويل الفيلم على أساس أن تكلفة إنتاجه الضخمة كانت تفوق الإمكانات المادية للممثل الراحل نور الشريف الذي ظهر اسمه في الإنتاج الفني، وذلك في توقيت حساس حيث لم تكن العلاقات الليبية والمصرية على وفاق، ما فسر الأمر بأنه فيلم سياسي موجه بسبب استعراضه لوقائع قد تشير لاحتمالية تورط حركة “فتح” باغتيال العلي.

طفولته وشبابه

ولد ناجي العلي في قرية الشجرة بالقرب من الناصرة عام 1937، هُجر قسرًا من قريته بعد هزيمة 1948 عندما كان في العاشرة من عمره على يد الاحتلال الإسرائيلي لينتقل مع عائلته إلى مخيم الحلوة جنوب لبنان، بقي هناك وفي ذهنه هاجس واحد وهو حلم العودة إلى فلسطين، لم يكمل تعليمه الثانوي، ليقصد المدرسة المهنية لتعلم الميكانيك، ثم التحق بمعهد الفنون اللبناني عام 1960 لفترة قصيرة، لينقطع عنها بسبب عدم قدرته على تحمل التكاليف المالية، لكنه تمكن من تنمية موهبته بالرسم في أحوال قاهرة ما لبثت أن انفجرت على جدران الزنزانة في أحد السجون اللبنانية على خلفية تورطه بنشاط سياسي، وذلك بحكم شخصيته المتمردة وبذور العصيان التي نضجت خلال مكوثه في المخيم

تمكنت رسومه العبقرية اللاذعة من تأجيج الغضب في الأنفس العربية وقول ما لم تتجرأ الحكومات العربية على قوله، كما استطاعت المساس بشخصيات شهيرة، وبساسة الشرق الأوسط، وإقلاق راحة سلطات الاحتلال الإسرائيلي، فكان الشبان الفلسطينيون يخاطرون بحياتهم ويعلقون رسومه بكميات هائلة على جدران الكنائس والجوامع والشوارع في الضفة الغربية بعد وصولها عبر الفاكس، فظل ملهمًا بفكره الثوري ومساره النضالي لقسم كبير من الشبان حتى بعد وفاته، وبقي راسخًا في الوعي العربي، كما امتلك ناجي حق ترخيص النشر من صحف يابانية، ليعمل في صحف عديدة كالسفير اللبنانية ووصل إلى ذروة شهرته عندما عمل مع صحيفة “القبس”.

تزوج ناجي العلي وداد صالح النصر بطريقة تقليدية امتثالًا للعادات السائدة في عائلتها المحافظة، حرصت زوجته على توفير أجواء هادئة له في المنزل للتفرغ لعمله الإبداعي، فكانت طقوس الرسم غالبًا ما تُمارس في الفترة الصباحية مع العشرات من فناجين القهوة وسحب الدخان، كما تحملت أعباء البيت وتصالحت مع فكرة غياب الأب والزوج لانشغاله الدائم بالعمل النابع من همه في القضية الفلسطينية.

أنجب العلي من وداد أربعة أطفال، أسامة وليال وجودي وخالد، حيث عمل أفراد العائلة على توثيق مسيرة والدهم عبر مرجع ضخم يضم أكبر عدد من الشهادات والمعلومات والمواقف التي جمعت والدهم مع الأصدقاء ويستعرض مراحل حياته المختلفة، وذلك بعد أن أخفق كثيرٌ من الأعمال الفنية بتصوير العلي على حقيقته، وفي سبيل الحفاظ على إرثه النضالي وفكره الثوري المقاوم.

غسان كنفاني.. أخوة القلم والريشة

كان الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني أول من أخذ بيد ناجي إلى الصحافة المكتوبة، وذلك خلال زيارته إلى مخيم الحلوة لتلفتَ انتباهَه لوحاتُه بخطوطها الحادة وقساوة ألوانها ورمزيتها الجريئة، ليختار أربع لوحات حملت عنوان “ينتظر أن نأتي” ويقرر نشرها في مجلة “الحرية” وأرفقها بمقالة له عن ناجي، وبذلك عبرت رسوم العلي من جدران المخيم إلى صفحات الجرائد الورقية مثل “السفير” اللبنانية، و “القبس” الدولية، و”الطليعة” الكويتية، و”السياسة” الكويتية.

لم تتوقف العلاقة بينهما، بل تطورت لتثمر نصوصًا وأعمالًا أدبية وفنية جمعت في كتاب “عرب 48″، فقد أشرف على رسم فصول وأجزاء رواية “العبيد” التي كانت مجلة “الطليعة” تود نشرها متسلسلة بأعداد متلاحقة، فكانت مهمة ناجي التعبير عن النصوص برسوم ملائمة ومعبرة، ليستمر النشر من العدد 32 المؤرخ في 22 أيار/ مايو 1963 إلى العدد رقم 48 في 11 أيلول/ سبتمبر 1963.

سبق هذا التعامل بخمس سنوات، مجلة “الفجر” الكويتية التي تصدر أسبوعيًا قصصًا أدبية، وفيها تولى كنفاني كتابتها، مثل “رسالة من حسن” و”الشيخ الصغير” و”واحد من الخالدين” التي نُشرت عام 1958، بينما أخذ ناجي مهمة الرسوم المأخوذة من أجواء القصص وعبر عنها بإبداع كبير.

الانتماء إلى “التحت”

لم يعرف ناجي العلي المحاباة إلا للقضية الفلسطينية؛ “أنا لست محايدًا، أنا منحاز لمن هم تحت، لمن ينامون في مصر بين قبور الموتى، ولمن يخرجون من حواري الخرطوم يمزقون بأيديهم سلاسلهم، لمن يقرؤون كتاب الوطن في المخيمات”، إذ اتسمت علاقته بالفصائل الفلسطينية بأنها ساخنة ولم تعرف المهادنة، فانتقد بريشته الحادة أداء بعض فصائل المقاومة الفلسطينية وأسلوب حياتهم وتحييدها عن مسار النضال الفلسطيني بلهاثها المحموم نحو تجميع الثروات والتطبيع واستخدام نفوذها لغايات شخصية، ليثير أحد الرسوم الكاريكاتيرية حفيظة رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، بسبب مساسه بالكاتبة المصرية رشيدة مهران التي تجمعها علاقة قوية مع عرفات الذي نجحت مساعيه في الضغط على الحكومة الكويتية لإنهاء إقامة العلي في البلاد، فاضطرت جريدة “القبس” إلى نقل العلي إلى أحد مكاتبها في لندن لاستكمال العمل من هناك.

أكثر من مجرد رسوم.. بل ذاكرة فلسطينية باقية

تجاوزت رسوم العلي كونها شخصيات تستفز التخاذل العربي وتفضح انتهاكات إسرائيل بحق الفلسطينيين وكسر شوكتهم، بل تحولت إلى رموز للهوية الفلسطينية وفلسفة المقاومة التي ابتكرها للحفاظ على الذاكرة الفلسطينية وتخليدها، وعكست أحاسيس الإنسان الفلسطيني، فكان “حنظلة” بمنزلة الضمير الحي الذي يحاول الجميع إسكاته ورمزًا باقيًا للقضية، كما عملت رسومه على إذابة الحدود الجغرافية، وقفزت فوق الأسوار الشائكة لتأتي معبرة عن وجع الفلسطينيين وكأنه يعيش بينهم ويأكل معهم ويقاتل إلى جانبهم من دون أن يعير أهمية للمسافات الجغرافية.

اكتسبت الرسوم الكاريكاتيرية صفة التنبؤ واستشراف المستقبل العربي، وذلك ليس غريبًا على طفل تفتق وعيه السياسي مبكرًا حول المجريات التاريخية نتيجة مجالسة الكبار والمشاركة في التظاهرات والتقاطه جوهر الأمور، ذلك الطفل الذي شّب في مخيم للاجئين الفلسطينيين، محولًا جدُرها إلى صور لفلسطينيين ينشدون العودة إلى ديارهم ويكابدون الشقاء يوميًا، فهذه المناخات المعرفية والنفسية المزدحمة صنعت منه شخصًا ذكيًا، واضح الرؤية، نافذ البصيرة ذا نظرة ثاقبة نحو المستقبل، ونمت قدرته على التحليل السياسي ومراقبة التغيرات السياسية، فلم تكن مصادفة أن يتنبأ العلي بأطفال الحجارة الذين أطلقوا شرارة الانتفاضة بعد فترة وجيزة من اغتياله. ركز ناجي لوقت طويل في رسومه على الطفل الفلسطيني الذي يواجه الجندي الإسرائيلي وجهًا لوجه بحجارة صغيرة أمام بنادقهم أميركية الصنع.

اليوم الأخير.. من قتل ناجي ليس من أطلق الرصاص

في أحد شوارع منطقة “نايتش بريدج” في لندن الباردة بتاريخ 22 تموز/ يوليو1987 تمكن مجهول من إطلاق عدة رصاصات من فوهة مسدس بكاتم صوت نحو رأس ناجي العلي خلال توجهه إلى مكتب صحيفة “القبس”، أصابت إحداها عنقه وأسفل عينه اليمنى، دخل على إثرها في غيبوبة لأكثر من شهر، إلى أن أردته شهيدًا في سبيل ريشته التي لطالما كافح عبرها من أجل حقوق الفلسطينيين ونيلهم الحرية، معلنًا دومًا عن عدم التوقف بالرسم بيديه حتى لو اضطر إلى استخدام قدميه “لو أذابوا أصابعي بالأسيد سأرسم بأصابع قدمي”.

  • الحسناء عدره

    صحافية سورية، تكتب في مواقع عديدة، منها المجلة، رصيف 22، صالون سوريا. عملت في إعداد التقارير الإذاعية والتحقيقات الاستقصائية.

مشاركة: