ناجي العلي أيقونة في مسيرة النضال الفلسطيني، فنان مبدع وعبقري وسياسي واجه الظلم بريشته وفكره، استطاع من خلال رسومه التي تجاوزت 40 ألفًا أن يشرح الواقع العربي. كان جريئًا وصريحًا إلى أبعد الحدود من دون أن يهادن في قضيته الأساسية فلسطين، استطاع أن يلامس هموم وتوجهات الشارع العربي.
عبقرية العلي، الذي دفع حياته ثمنًا لمواقفه ونضاله، جاءت من عمق لوحاته التي كانت تختصر كثيرًا لفهم الحوادث التي تحيط بنا، ومن استشرافه للمستقبل قبل اغتياله الذي ما زال لغزًا كبيرًا منذ 37 عامًا.
عذابات التشرد
رافقت عذابات قاسية نشأة ناجي العلي في طفولته، حيث عاش أهوال نكبة فلسطين والدمار والتشرد من قريته التي كان يعشق أرضها بقدسيتها وجمالها.
ولد ناجي العلي لأسرة فلاحية في قرية الشجرة قرب الناصرة في الجليل الأعلى في فلسطين المحتلة وهي ذات اختلاط جمع أناسًا من الأديان السماوية المختلفة.
نزل العلي مع عائلته إلى الحقول ذات الطبيعة الخلابة فعشق رائحة تراب قريته التي ارتبط اسمها باسم السيد المسيح عليه السلام، الأمر الذي زاد عشقه قداسةً. إلا أن هذا العشق ارتبط بعذابات استوطنت ذاكرته، حيث إن اليهود الذين رحلوا من القرية استوطنوا مقابلها، واقتحموا القرية عدة مرات حيث رافقت مخيلته تلك الاقتحامات، وكان العرب يستردون السيطرة عليها بمؤازرة القرى المجاورة، وظل الوضع على حاله حتى دخول “جيش الإنقاذ” وسقوط الجليل بأكمله في يد الصهاينة وحدوث النكبة.
لقد أثرت نكبة فلسطين في ناجي العلي على الرغم من حداثة سنه، وترسخت في ذهنه مجازرها، إذ دُمرت قريته وأُزيلت معالمها عن الوجود، حيث قال ذات مرة “كان عمري عشر سنوات، ومع ذلك أذكر قريتي جيدًا، ولا أذكر البيوت والأشجار فحسب بل الأعشاب والحصى أيضًا، أما المدافعون عن القرية فملامحهم ما زالت في ذهني”.
بؤس اللجوء والصحوة الفكرية
ساهمت مرارة النكبة في بداية تكوين الوعي السياسي لناجي العلي، فبعد أن لجأ مع أهالي منطقته إلى جنوب لبنان، وتلاشى أمل العودة إلى ديارهم في صيف عام 1948، قررت العائلة وباقي المهجرين الرحيل مرة أخرى لتحط بهم المسيرة في ما بات يعرف بمخيم عين الحلوة القريب من صيدا.
وكان من الصعب أن يتأقلم اللاجئون مع واقع جديد شديد البؤس، فمنازلهم وحقولهم التي كانوا يعيشون فيها بكرامة استُبدلت بخيمة صغيرة لا تتجاوز مساحتها 10 أمتار مربعة، الأمر الذي أحدث صحوة فكرية مبكرة عند ناجي العلي، وعرف أنه وشعبه، كانا ضحية مؤامرة استعمارية حاكتها القوى الاستعمارية والصهيونية العالمية منذ عقود.
ورشة لتصليح السيارات بدلًا من الدراسة
على الرغم من الحالة الاقتصادية الصعبة لعائلة ناجي العلي بعد اللجوء، إلا أن والده أصرَّ على تعليمه، لكن الأحوال الصعبة كانت أكثر قوة منهم، ولم يستطع إكمال تحصيله العلمي الثانوي، فتوجه برفقة صديقه محمد نصر الذي أصبحت شقيقتُه وداد زوجةً لناجي لاحقًا، إلى إحدى المدارس التابعة للرهبان البيض في طرابلس ليتعلم مهنة الميكانيكا لمدة عامين، عاد بعدها وافتتح ورشة لتصليح السيارات داخل خيمة أعدها لذلك في حرش مخيم شاتيلا.
تعرض العلي لإصابة عمل في ورشته، الأمر الذي حال دون استمراره فيه ولا سيما أنه خضع لعملية جراحية، فسافر إلى السعودية عام 1957 وبقي هناك لمدة عامين.
الانضمام إلى حركة القوميين العرب
بعد عودة العلي من السعودية، وفي خضم المد القومي في العالم العربي التحق بحركة القوميين العرب التي أُسست واقعيًا عام 1951م، في بيروت، وقد ضمت جورج حبش ووديع حداد والدكتور أحمد الخصيب من الكويت وصالح شبل فلسطيني الأصل وحامد جبوري من العراق، وجاءت ردًا على هزيمة العرب في حرب عام 1948.
أبعد ناجي من الحركة التي تأثر بشعارتها “الثأر والتحرر والوحدة” أربع مرات عن صفوف تنظيم القوميين العرب بسبب عدم انضباطه الحزبي خلال عام واحد.
ويصف العلي تلك الفترة من حياته بالقول “لم أكن في حالة رضا عن النفس على الرغم من وجودي في صفوف الحركة. كانوا يتحدثون كثيرًا، الأفكار تكدست في رأسي، تعلمت، فهمت الكثير معهم، وأيقنت من ذلك التاريخ أن اليوم آت والثورة ستكون”.
وعلى الرغم من عدم التزامه الحزبي، إلا أنه أصدر وبالتعاون مع رفاقه فيها نشرة سياسية أسماها “الصرخة”، كانت تكتب باليد واستمرت حتى عام 1961.
بين جدران المخيم والسجن.. وغسان كنفاني
كان اللجوء والتشرد وعذابات الذاكرة سببًا في تفتح عبقرية ناجي العلي، معلنًا تمرده على الواقع في رسومه على جدران المخيم والمعتقلات، حيث يقول في إحدى حواراته “ظللت أرسم على جدران المخيم ما بقي عالقًا بذاكرتي عن الوطن، وما كنت أراه محبوسًا في العيون، ثم انتقلت رسومي إلى جدران سجون ثكنات الجيش اللبناني”، التي اعتقل فيها أكثر من مرة.
إلا أن بداية العلي الحقيقية ارتبطت بالروائي والشاعر والكاتب غسان كنفاني عندما نشر إحدى رسوم العلي في جريدة “الحرية” التابعة لحركة القوميين العرب في عام 1961، وهي عبارة عن خيمة على شكل هرم وفي قمتها بركان ترتفع منها يد مصممة على التحرير، ومن هنا بدأ الارتقاء في حياته في عالم الفكر والصحافة.
عالم الصحافة.. وبزوغ نجم العلي
بدأ نجم ناجي العلي بالسطوع في العالم العربي عندما بدأ بنشر رسومه في كبرى الصحف العربية، إذ أصبح من أهم فناني الكاريكاتير في العالم العربي في القرن العشرين.
هاجر العلي عام 1963 إلى الكويت، وعمل في مجلة الطليعة، ثم انتقل إلى جريدة السياسة عام 1968، واستمر بالعمل فيها حتى منتصف السبعينيات، ثم عاد إلى بيروت والتحق بجريدة السفير اللبنانية.
عاد العلي مجددًا إلى الكويت للعمل في جريدة القبس في عام 1983، ثم انتقل مجبرًا إلى لندن للعمل في صحيفة القبس الدولية عام 1985، وذلك بسبب الخلاف مع زعيم منظمة التحرير ياسر عرفات.
رموزه خالدة
وخلال مسيرته الطويلة في عمل الكاريكاتير استطاع ناجي العلي أن يصنع شخصيات ورموزًا خاصة به استقرت في وعي الشارع العربي من المحيط إلى الخليج، خاصة الطفل حنظلة الذي أطلقه عام 1969.
يقول ناجي العلي، في التعريف عنه، “ولد حنظلة في عمر العاشرة، وسيظل دائمًا في العاشرة من عمره؛ ففي تلك السن غادر فلسطين، وحين يعود حنظلة إلى فلسطين سيكون ما زال في العاشرة، ثم يبدأ بالكبر؛ فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء”.
وأما عن سبب تكتيف يديه، فيقول ناجي العلي “كتفته بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 لأن المنطقة كانت تشهد عملية تطويع وتطبيع شاملة، وهنا كان تكتيف الطفل دلالة على رفضه المشاركة في حلول التسوية الأميركية في المنطقة، فهو ثائر وليس مطبِّعًا”.
في أحد حواراته، يعترف ناجي العلي قائلًا “حنظلة هو أنا”.
لقد كان حنظلة أيقونة العلي، وتوقيعه على معظم رسومه، وشاهدًا على الحوادث، وضميرًا جمعيًّا لأبناء جلدته، يعبر عن آلامهم وأحلامهم، يقاتل بشراسة من أجل كرامتهم.. أدار وجهه عنا واشترط العودة عن ذلك عندما تصبح الكرامة العربية غير مهدّدة، وعندما يسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته.
لم يكن حنظلة الوحيد عند العلي، بل اعتمد في إيصال رسالته على رموز أخرى مثل فاطمة الفلسطينية اللاجئة المثابرة الداعمة للمقاومة والتي كانت بمنزلة الوطن، والرجل الطيب الذي ظهر بأدوار عدة مثل المقاتل الصلب العنيد، أطلق عليه أسماء عدة “أبو جاسم”، أبو حسين”، “أبو مارون”، “محمد”، والرجال غير الطيبين وهم مجموعة من “المتخمين المتكرشين” الذين ظهروا بوجوه قبيحة يمثلون “الأنظمة الرجعية” والذين كانوا يرمزون لـ “الاستسلام”.
انحياز للمهمشين وحسب
ريشة العلي الثورية، كانت انعكاسًا لشخصيته التي لم تكن تقبل الكذب والتضليل والاستسلام والمواقف المهادنة التي لا تعبر عن ضمير الشارع العربي، وخلقت له كثيرًا من الأعداء اللدودين الذين تضررت مصالحهم وصورتهم.
لقد كان العلي مقاومًا عنيدًا للاحتلال الإسرائيلي، منتقدًا لمنظمة التحرير الفلسطينية والنظام الرسمي العربي، بالتزامن مع انحيازه إلى الفقراء والمهمشين في فلسطين والعالم العربي.
كان العلي بفكره وريشته مصدرًا لتعرية كل ما سبق، فعندما يبدأ الناس بقراءة الجريدة التي يعمل بها بدءًا من صفحتها الأخيرة، يصبح مصدر خطر على المحتلين والمتواطئين والمهادنين والأذلاء.
اغتيال العلي واتهامات للموساد
في أثناء توجه العلي إلى مكتب جريدة القبس الدولية في 22 تموز/ يوليو عام 1987 تعرض لهجوم، وأُطلق عليه عيار ناري من مسدس كاتم للصوت أصاب عنقه، حيث دخل في غيبوبة استمرت إلى أن توفي في 29 آب/ أغسطس من العام ذاته.
كان العلي يدرك أن مصيره الاغتيال والقتل، إذ هُدِّد عدة مرات، كما أنه قال ذات مرة “اللي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حالو: ميت”.
شكلت جريمة اغتيال العلي التي كانت جريمة سياسية غير عادية، لغزًا لم تكشف ملابساته على مدى 37 عامًا.
طالت دائرة الشك في تنفيذ جريمة اغتيال العلي الموساد الإسرائيلي الذي كان يخشى الرمزية في النضال من أجل القضية الفلسطينية، والتي كان العلي واحدًا منها.
خلاف العلي مع عرفات يثير الشكوك
كما تضمنت دائرة الشك منظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها ياسر عرفات، حيث اتسمت علاقة الأخير بناجي العلي بالتوتر.
وتشير التقارير إلى أن الرجلين التقيا ثلاث مرات، وكان الخلاف في وجهات النظر يحكمها، ففي اللقاء الأول اجتمعا في مكتب عرفات وعرض عليه الأخير أن يسافر إلى إيطاليا ليتعلم الرسم هناك، ورفض ناجي هذا العرض في اللحظة نفسها، لأنه شعر بأن الهدف من ذلك إبعاده عن ممارسة الرسم السياسي، فيما كانت المقابلة الثانية غير ودية، حيث التقى أبو عمار بـناجي وكان برفقته طه السلمان رئيس تحرير جريدة السفير، وبلال الحسن، وطلب ياسر منه التقليل من رسومه الناقدة، أما المقابلة الثالثة فكانت حادة جدًا، حيث التقيا في الكويت، وعاتب عرفات ناجي على رسمه وانتقده لكتابة التعليق باللهجة الفلسطينية على الرسوم، وقال لناجي: “ليه بتضحك الناس علينا باللهجة دي !!” فأجابه علي: “اللهجة دي الناس في بلدنا تحكيها.. الغلط إنه أنت رئيس بتحكي بالمصري”، وغادر مكتبه وكان كلاهما يشتعل غيظًا.
كما كان ناجي العلي الوحيد الذي امتلك شجاعة وصلت إلى حد التهور عندما هاجم علاقة عرفات بالكاتبة المصرية رشيدة مهران التي كانت تشغل منصب مستشارة له وذات نفوذ كبير في منظمة التحرير، فنشر كاريكاتيرًا لاذعًا يذكر فيه رشيدة بالاسم ويعرّض بنفوذها، الأمر الذي أثار حوارًا بين عدد من المثقفين الفلسطينيين.
حنظلة لا يزال حيًا
على الرغم من اغتيال ناجي العلي بقي حنظلة ذو العشرة أعوام حيًا شامخًا، إذ ارتبط هذا الطفل بالقضية الفلسطينية ومعاناة الإنسان العربي وآلامه وأحلامه، تسترجعه ذاكرة الجمهور العربي عند كل حدث تاريخي مفصلي.
كما أن عمق فكر ناجي العلي وقدرته على الاستشراف جعلت من رموزه حية، حيث تنبأ قبل وفاته بالانتفاضة الفلسطينية، إضافة إلى توقعه لانحدار الواقع العربي، كالحديث عن الحكم الذاتي الفلسطيني والاتصالات السرية، واشتعال نار الطائفية في العالم العربي، وتردي الواقع العربي عمومًا، وغيرها.
تأثير سياسي
لقد كان لناجي العلي ونتاجه تأثير في تكوين وتنمية وعي سياسي لكثيرين في العالم العربي، إذ إنه لم يكن مجرد فنان كاريكاتيري فقط بل كان مثقفًا ورمزًا للنضال الفلسطيني، استطاع بفنه وذكائه ووعيه وانحيازه السياسي لعامة الشعب أن ينشر جرعات وعي يومية حولته إلى ناطق باسمها، حيث كانت رسومه المرفقة بعبارات مكتوبة بلغة بسيطة وعميقة تستقر في وجدان المتلقي وعقله وتعطيه صورة واضحة عما يحدث.
استطاع العلي توظيف فنه في تناول الحوادث الجسيمة التي تهم المواطن العربي ، بإبداع قلَّ نظيره عند كثير من فناني الكاريكاتير، من دون أن يقع في فخ رسم الحدث اليومي، الأمر الذي ساهم في بناء رأي عام حول القضية من دون أن يضيِّع الجمهور بالتفاصيل.
كما ساهمت ثوريته ومواقفه المتشددة بشأن القضية الفلسطينية بتوظيف فن الكاريكاتير في إيصال رسالته إلى الشعب العربي بفاعلية كبيرة، مقارنة بالخطابات الخشبية التي كان أصحابها يستهدفون بناء وعي زائف لا يستوعب معظمها الفلسطيني البسيط الذي عانى القمع والتجهيل.