مقدمة
ما الأصولية (الدينية)؟ وما سماتها؟ وما النقد الذي يمكن وينبغي توجيهه لها؟ هذه هي الأسئلة الرئيسة التي سيحاول هذا البحث الإجابة عنها. وفي الإجابة عن هذه الأسئلة، ينطلق هذا البحث من افتراض أن مفهوم الأصولية (الدينية) ينتمي إلى فئة “المفاهيم المتنازع عليها بالضرورة”، التي تحدث عنها والتر غالي؛ ويسعى لتناولها، من خلال دراسة نقديةٍ للسمات الأساسية لهذا المفهوم، تستخدم ثلاث أدواتٍ منهجيةً: تحليلٌ مفاهيميٌّ ولغويٌّ، مقاربةٌ بنائيةٌ، ونقدٌ تفكيكيٌّ. فمن ناحيةٍ أولى، يركِّز التحليل المفاهيمي على جدل العلاقة بين المبنى والمعنى، بين الوصفي والمعياري، في مفهوم الأصولية (الدينية)، بوصفه مفهومًا معياريًّا كثيفًا؛ ليبيِّن مدى وجود تناغمٍ وانسجامٍ أو توترٍ وتنافرٍ بين طرفي هذه العلاقة. فالمبنى أو اللفظ يحيل على معنيين متمايزين ومتداخلين، في الوقت نفسه، كما يحيل على رؤيتين معياريتين متناقضتين، إحداهما إيجابية – كما هو الحال عند حسن حنفي ومحمد عمارة مثلًا – والأخرى سلبيةٌ. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، يحاجج البحث بأن تحديد السمات الأساسية للأصولية (الدينية) يمكن ويفضَّل ألا يتم على أساسٍ استقرائيٍّ – فالتباين بين ما يوصف أنه أصوليات، حتى الدينية منها فقط، كبيرٌ جدًّا – وإنما على أساس بناء نمطٍ مثاليٍّ، بالمعنى الفيبري (نسبة إلى ماكس فيبر). والأطروحة البنائية الأساسية لهذا البحث هي إمكانية بناء ذلك النمط المثالي على أساس مثنوياتٍ – أي ثنائياتٍ قطبيةٍ يقصي كل طرفٍ منها الطرف الآخر – نرى أنها مؤسسةٌ لماهية الأصولية. والمثنويات الأساسية المؤسسة لماهية الأصولية، ولنمطها المثالي، هي: الماضي الأصيل المتقدم” في مواجهة “حداثة الحاضر المتخلفة”، الحركية العملية مقابل الرؤية النظرية الروحانية، السياسة والعنف مقابل اللا-سياسة والسلم، دينية الهداية مقابل علمانية التنوير، الأحادية الأصولية التراتبية مقابل التعددية الحداثية المساواتية، الهوية (السياسية) الجماعاتية الانعزالية مقابل الهوية (الثقافية) الجماعية والفردية الاندماجية، القداسة الإلهية القهرية مقابل التاريخية الإنسانية الاحتمالية، الحرفية الوثوقية أو الدوغمائية مقابل المجازية أو التأويلية المنظورية أو النسبية، النظرة والمعاملة الذكورية أو الأبوية الدونية للنساء مقابل النظرة والمعاملة المساواتية. فالأصوليات تتأسس على تبني الطرف الأول من المثنويات ومناهضة أو إقصاء الطرف الآخر. وليس ضروريًّا اتسام الأصولية بكل سمات النمط المثالي للأصولية، كما قد تتباين الأصوليات في مدى حضور كل من هذه السمات فيها. ومن ناحيةٍ ثالثةٍ، يتجسَّد البعد النقدي للبحث في تفكيكه للمثنويات المذكورة، على الطريقة الدريدية، لكن مع سعيٍّ إلى تجاوز تلك الثنائيات وإقامة جدلٍ إيجابيٍّ بين الأقطاب المؤسسة لها.
ويتناول البحث مفهوم أو ظاهرة الأصولية عمومًا، مع التركيز، تركيزًا خاصًّا، على الأصولية الدينية (الإسلامية). وعلى الرغم من حداثة هذا المفهوم أو المصطلح[1]، وحداثة الظاهرة التي يحيل عليها، من المنظور السائد، فإن دراساتٍ كثيرةً عنها ظهرت، منذ عشرينيات القرن الماضي، عمومًا، وفي العقود الخمسة الأخيرة، خصوصًا[2]. فتأسست مشاريع (أكاديمية) ضخمة لدراسة الأصولية بوصفها ظاهرةً عالميةً، ومن بين أهم هذه المشاريع، يمكن الإشارة إلى مشروع الأصولية[3]، الذي سنتحدث عنه لاحقًا. أما في السياق العربي الإسلامي، وبعد الثورة الإسلامية الخمينية الإيرانية، عام 1979[4]، واغتيال السادات على يد أحد “الأصوليين الإسلاميين” عام 1981، فقد تم التشديد على أهمية دراسة ظاهرة الأصولية الإسلامية، إلى درجة أنَّ هذه الدراسة «أصبحت أكثر المهمات الملقاة على عاتق العلوم الإنسانية إلحاحًا، بل أصبحت محكًّا أساسيًّا لقدرتها على النمو والتواصل، وربما البقاء»[5]. لكن الزيادة المتنامية في تلك الدراسات، لم تغلق الباب أمام مشروعية قيام دراساتٍ جديدةٍ، بل إنها، في كثيرٍ من الأحيان، أفضت إلى استثارة دراساتٍ جديدةٍ، تنقدها أو تتأسس عليها. فما زال هناك نقاشٌ قويٌّ، لا حول معنى أو مضمون مفهوم الأصولية، وأبعاده المعيارية أو القيمية، السلبية و/ أو الإيجابية، وسماته الرئيسة فحسب، بل، أيضًا، حول المشروعية أو الفائدة المعرفية من وجود هذا المفهوم أو استخدامه أصلًا. وعلى هذا الأساس، نرى مشروعية وضرورة تناول هذه الظاهرة، في تعيناتها الواقعية، والمقارنة بينها، من جهةٍ، ومن خلال التحليل والضبط النظري والرؤية العامة والشاملة لها، من جهةٍ أخرى.
انطلاقًا مما سبق، سنقوم، في خطوةٍ أولى، ببعض التحليلات والتوضيحات اللغوية والمفاهيمية التي نراها ضروريةً، لإظهار الاضطراب النظري، المعرفي والمعياري، المحيط بمبنى مفهوم الأصولية ومعناه، من جهةٍ، ولتمهيد الطريق للتخلص من ذلك الاضطراب أو ضبطه، من جهةٍ أخرى. ثم سنقوم، في خطوةٍ ثانيةٍ، ببناء نمطٍ مثاليٍّ لهذا المفهوم أو لتلك الظاهرة التي يحيل عليها، يتضمن (بعض) أهم سماتها، بحيث يمكن اتخاذ هذا النمط أساسًا نظريًّا متينًا وواضحًا للحكم بمدى (عدم) أصولية حركةٍ ما أو خطابٍ ما، والمعنى المحدد لتلك الأصولية. وسنبين أفضلية مقاربة الأصولية على أساس بناء هذا النمط المثالي، وليس على أساسٍ استقرائيٍّ، لاحقًا. ما يمكن وينبغي الإشارة إليه، في هذا السياق، هو أن تحديد ذلك السمات يساعد على تجاوز المنطق الثنائي القيم والقضية العنادية “إما، … وإما …” والمتمثل في كون الحكم على ظاهرةٍ أو حركةٍ ما يقتصر على كونها إما أصوليةً أو غير أصوليةٍ. فتلك السمات، تساعد على تبني منطق القيم المتعددة، بحيث يمكن معرفة مدى أصولية أو عدم ومعنى تلك الأصولية، من خلال اتسامها بهذه السمة أو تلك من سمات الأصولية. وستتضمن الخطوة الثانية خطوةً ثالثةً تتمثل بمقاربةٍ نقديةٍ وتفكيكيةٍ للمنطق المعياري المثنوي الذي يحكم مضامين السمات الرئيسة للأصولية، بحيث يتم إظهار تلك البنية المثنوية لتلك السمات، وللذهنية الأصولية عمومًا، مع البحث في إمكانية إقامة جدلٍ إيجابيٍّ بين قطبي كل مثنويةٍ على حدةٍ.
التحليل المفاهيمي وجدل العلاقة بين المبنى والمعنى، بين الوصفي والمعياري، في مفهوم الأصولية (الدينية)، بوصفه مفهومًا متنازعًا عليه بالضرورة
ثمة تنازعٌ واختلافٌ حول معنى أي مفهوم. وهذا التنازع هو جزء من ماهيته، ومن كونه مفهومًا، أصلًا. وجزئيًّا ونسبيًّا على الأقل، المفهوم مفهومٌ لوجود تنازعٍ حول مضامينه. لكن التنازع الموجود حول بعض المفاهيم أكبر وأكثر جذريةً من ذاك الموجود في خصوص مفاهيم أخرى. ومن هنا جاء حديث والتر برايس غالي عن وجود “مفاهيم متنازع عليها بالضرورة essentially Contested Concepts”[6]. ويمكن المحاججة بأن مفهوم الأصولية هو أحد هذه المفاهيم. فالاختلاف أو الخلاف لا يتعلق بتعريفه أو معناه ومضامينه وسماته فحسب، بل يشمل مبناه ولفظه العربي، أيضًا، ويمتد ليطال معقولية أو مشروعية وجود مثل هذا المفهوم. وكما هو الحال في كل المفاهيم المتنازع عليها بالضرورة، فإن الاختلاف أو الخلاف ناتجٌ، أيضًا وخصوصًا، عن البعد المعياري للمفهوم. ومفهوم الأصولية “مفهوم معياري كثيف thick normative concept”[7]، أي أن مضمونه ومعناه يتضمن وصفًا، من ناحيةٍ، وتقييمًا معياريًّا غير وصفيٍّ، من ناحيةٍ أخرى. ومفهوم الأصولية معياريٌّ إلى درجة أنه يستخدم، في أحيانٍ ليست قليلةً، للازدراء والتحقير، بالدرجة الأولى، من دون ضبط بعده الوصفي. لكل هذه الأسباب، ولأسبابٍ أخرى ستتضح لاحقًا، ثمة حاجةٌ لضبط معنى هذا المفهوم، ببعديه الوصفي والمعياري، وتحديد سماته. وسنعمل، في ما يلي، على إبراز الاختلافات والإشكاليات المتعلقة بهذا المفهوم، ومن ثم سنقدم أطروحةً حول كيفية التعامل الملائم مع هذه الاختلافات، بما يسمح بتجاوزها وتجنب سوء الفهم السائد في خصوصها.
والمسائل الأساسية التي ينبغي تناولها في هذا الخصوص: مشروعية نقل المفهوم (الأصولية) من سياقٍ تاريخيٍّ إلى سياق تاريخيٍّ آخر؛ إشكالية (عدم) التطابق بين المعنى والمبنى، بين المفهوم واللفظ المستخدم للتعبير عنه، العلاقة الملتبسة بين البعدين الوصفي والمعياري في المفهوم واستخداماته؛ الاختلاف حول السمات (الأساسية) لظاهرة الأصولية.
ثمة اتجاهان متعارضان في رؤية مدى اتساع أو شمول مفهوم الأصولية. فهناك من يرى أنه على الرغم من أن هذا المفهوم قد ظهر في سياق الحديث عن الأصولية الدينية المسيحية البروتستانتية تحديدًا، فمن الممكن توسيعه، ليشمل لا كل الأديان الأخرى فحسب، بل ليشمل، أيضًا، حركات وعقائد غير دينيةٍ. فعلى سبيل المثال، يتحدث روجيه غارودي عن الأصولية العلموية والأصولية الستالينية[8]، في حين أن محمد علي مقلد يشدد أن كتابه “الأصوليات: بحث في معوقات النهوض العربي”، «ليس، كما قد يوحي عنوانه، نقدًا للأصوليات الدينية وحدها، بل لكل الأصوليات، الماركسية منها والقومية والليبرالية»[9]. أما ديك تافِرن، فينتقد، ما أسماه، في كتابه “مسيرة اللاعقل: العلم والديمقراطية والأصولية الجديدة”، “الأصولية البيئية eco-fundamentalism”[10]. فمفهوم الأصولية يشمل، الآن، العديد من أنواع النشاطات او الممارسات، ومنها ما هو غير دينيٍّ[11]. ونعتقد بالمشروعية المبدئية لهذا التوسيع لمجال المفهوم، لكننا نرى ضرورة التمييز بين الأصوليات الدينية وغير الدينية، أو بين الأصوليات الدينية ذاتها (المسيحوية بنسختيها البروتستانتية والكاثوليكية، والإسلاموية بنسختيها السنية والشيعية، واليهودية …إلخ). فلا يمكن فهم أصوليةٍ ما، انطلاقًا من فهم أصوليةٍ أخرى فقط. فكما هو حال خيمات غسان كنفاني[12]، “أصولية عن أصولية تختلف”، وحتى لو كان ذلك الاختلاف مجرد تفاصيل، فإن الشياطين (والملائكة) تكمن في التفاصيل، في كثيرٍ من الأحيان.
الاتجاه الثاني يرى أن هذا المفهوم، لا ينطبق إلا على السياق المسيحي أو البروتستانتي، أو، في “أحسن الأحوال”، على بعض السياقات الدينية الاخرى، ومنها، أو من أولها، السياق الإسلامي. وقد قدم باحثون كثر حججًا في انتقاد أطروحة هذا الاتجاه، وفي إثبات تهافت هذه الأطروحة والحجج المقدمة لدعمها وتسويغها. ففي نصٍ موسومٍ ﺑ ” إعادة النظر في الأصولية الإسلامية: ملخَّصٌ نقديٌّ للمشكلات والأفكار والمقاربات،”[13]، عرض صادق جلال العظم بالتفصيل لحجج عشرات الباحثين الغربيين وغير الغربيين، ومنهم المسلمون، القائلين إنَّ مفهوم الأصولية لا ينطبق إلا على الخطاب المسيحي أو البروتستانتي، وقام بالرد المفصَّل عليها، وانتقادها، وإظهار عدم دقتها، بطريقةٍ عالمةٍ ومقنعةٍ. ففي هذا النص، استعرض العظم، على سبيل المثال، آراء ريتشارد ميتشل (الذي رأى انه ليس هناك كلمة عربية يمكن أن تكون مقابلًا أو ترجمةً لكلمة “fundamentalism” الإنكليزية)[14]، ونينيان سمارت (الذي رأى أنه ليس مناسبًا ولا حصيفًا نقل هذه المقولة، بمضامينها المسبقة، إلى نطاقٍ (إسلاميٍّ) خارج النطاق الديني الغربي)[15]، وجيل كيبيل الذي حاجج بأنه لا يوجد أي تسويغٍ لنقل مفهوم/ لفظ الأصولية، الإنكليزي “fundamentalism” والفرنسي intégrisme، إلى السياق الإسلامي للحديث عن الأصولية المسلمة[16]. وفي رده على هذه الاعتراضات، يشير العظم إلى مفارقةٍ طريفةٍ وذات دلالةٍ مهمةٍ، وتتمثل بأنه على الرغم من أن هذه الاعتراضات ترى أن استخدام كلمة أو مفهوم الأصولية في الحديث عن العالم الإسلامي “أمرٌ مؤسفٌ ومضللٌ للغاية”[17]، فإن أصحاب هذه الاعتراضات يستمرون في استخدام هذه الكلمة، وذاك المفهوم، في الحديث المذكور، بحجة عدم وجود بديلٍ مناسبٍ أو أنسب[18].
وفي مقابل أطروحة “كلُّ متدينٍ أصوليٌّ”، نجد أطروحة أن الأصولية ظاهرة تخص بعض الأديان فقط، وليس لها صلةٌ (وثيقةٌ) بأديانٍ أخرى. والأديان التي يجري التركيز عليها، عادةً، هي الأديان التوحيدية عمومًا، والدين الإسلامي خصوصًا. أما الأديان التي يجري الحديث عن ضعف أو عدم وجود ظاهرة الأصولية فيها فهي الهندوسية والبوذية خصوصًا[19]. لكن الاختلاف بين الأديان، في هذا الصدد، تاريخيٌّ فحسب، فهو يتعلق، أيضًا، بالسياقات التي يعيش فيها المتدينون أكثر من كونه يعبر عن اختلافٍ في الطبيعة بين الأديان. ولهذا، هناك حرصٌ لدى باحثات وباحثين كثر على تأكيد كونية الظاهرة الأصولية، وإبراز شمولها للأديان كافة، حتى عندما تقتصر أبحاثهم على الأديان التوحيدية الثلاثة. فعلى سبيل المثال، تشدد كارين آرمسترونغ، في كتابها عن “النزعات الأصولية في اليهودية والمسيحية والإسلام”، على أن «النزعة الأصولية ليست حكرًا على الأديان التوحيدية الكبيرة فحسب، بل هناك نزعات أصولية بوذية وهندوسية وحتى كونفوشيوسية»[20].
وإذا كان “الأصوليون البروتستانت” يرفضون، غالبًا، تسمية “الأصوليين”، ويفضلون أن يطلق عليهم اسم “المحافظين” أو “الإنجيليين”[21]، فإن موقف الإسلاميين، في السياق العربي الإسلامي، يتراوح بين قبول استخدام اللفظ، مع التحفظ على معناه “الغربي”، أو رفض استخدامه رفضًا مطلقًا. ففي كتابٍ يحمل عنوان “الأصولية الإسلامية”، يرى حسن حنفي، من جهةٍ أولى، أن هذا المصطلح «أفضل تسمية لما يوصف الآن بالصحوة الإسلامية، أو البعث الإسلامي، أو الاحياء الإسلامي»[22]، ومن جهةٍ ثانيةٍ، أن “الأصولية الإسلامية لا تعني بالضرورة “المحافظة والتخلف ومعاداة المدنية الحديثة”، ولا “التعصب، وضيق الأفق، ورفض الحوار، والانغلاق على الذات”، ولا “الجماعات المغلقة، السرية منها والعلنية”، ولا “ممارسة العنف واستعمال أساليب القوة والعمل على قلب نظام الحكم، والتخطيط للاغتيالات”، ولا “مجرد التمسك بالمظاهر، وإطلاق اللحى، ولبس الحجاب، والدعوة إلى تطبيق الشريعة، وبناء المساجد”[23]. فهي قد تعني عكس ذلك تمامًا. لكن إذا كانت “الأصولية الإسلامية” لا تتسم بأيٍّ من السمات المذكورة، فهل بقي هناك ما يجمعها مع مفهوم الأصولية الإنكليزي/ البروتستانتي أو الفرنسي/ الكاثوليكي؟
ما ينبغي الانتباه إليه، والتشديد عليه، في هذا السياق، أن حنفي لم ينكر إمكانية أو فعلية وجود أصوليين إسلاميين، على النمط البروتستانتي، لكنه قال إن الأصوليين المسلمين ليسوا كذلك بالضرورة. أما من بلغ الإنكار عنده الحد الأقصى أو المطلق، في هذا الصدد، فهو محمد عمارة الذي رأى – في كتابٍ مخصصٍ بالكامل لمناقشة مضامين كتاب غارودي عن “الأصوليات المعاصرة” أو بالأحرى للرد على معظمها – أن الأصولية، بالمعنى الغربي، ليس لها وجودٌ، لا في الألفاظ والمفاهيم العربية والإسلامية، ولا في الواقع العربي الإسلامي.[24] أما المعنى الذي يدل عليه مصطلح “الأصولية”، في التراث الإسلامي، فهو، من وجهة نظره، مناقض للمعنى الغربي له. «فالأصوليون في الغرب: هم أهل الجمود والتقليد، الذين يخاصمون العقل والمجاز والتأويل والقياس، وينسحبون من العصر، فيقفون عند التفسير الحرفي .. بينما الأصوليون في الحضارة الإسلامية: هم علماء أصول الفقه الذين يمثلون قطاعًا من أبرز قطاعات إسهام المسلمين في الدراسات العقلية- أي هم أهل الاستنباط والاستدلال والاجتهاد والتجديد»[25]. وانطلاقًا من ذلك، قد لا يكون مفاجئًا إنكار عمارة أصولية الأصوليات الإسلامية الأربعة التي تحدث عنها غارودي: أصولية جبهة الإنقاذ الإسلامية، وأصولية الثورة الإسلامية الإيرانية، وأصولية الإخوان المسلمين، و”الأصولية السعودية”. ولعل الاستثناء الضمني الوحيد الذي نجا من مقصلة الإنكار، عند عمارة، هو أبو علي المودودي، الذي وصفه غارودي، وكثيرون غيره، بأنه “واحد من أنفذ المنظرين للإسلاموية الأصولية”[26]. وتعليقًا على ذلك الوصف، اكتفى عمارة بالقول «إن المودودي “لا يمكن أن يكون النموذج الذي تنشره “الأصولية السعودية” في العالم بأسره»[27]. لكن إذا كان هناك مسلمون أو إسلاميون أصوليون، مثل المودودي، فلماذا لا يتم الإقرار بذلك صراحةً، بدلًا من هذا الإنكار المتشنج؟
يمكن تفسير موقف عمارة بأن أحد أسس إنكاره قائمٌ في رؤيته المعيارية الأحادية لمصطلح الأصولي. فمن وجهة نظره، أمرٌ إيجابيٌّ، دائمًا، أن يكون المسلم أصوليًّا، بالمعنى العربي الإسلامي للمصطلح أو المفهوم، أما إذا كان أصوليًّا، بالمعنى الغربي السلبي، فهو ليس أصوليًّا في المنظار العربي والمفهوم الإسلامي الإيجابي دائمًا. ولم يستطع عمارة التخلص من هذه الرؤية الأحادية الضيقة لمصطلح الأصولي. كما أنه، كما هو الحال في الثقافة العربية عمومًا، يخلط بين التحليل اللغوي والتحليل الاصطلاحي والتحليل المفهومي، فإذا كانت كلمة أصول مرتبطة ﺑ “أصول الدين و”أصول الفقه”، فهذا لا يعني عدم إمكانية أن تتضمن الكلمة ذاتها، في اللغة ذاتها والثقافة ذاتها، مفهومًا آخرًا مختلفًا، من حيث الجانب الوصفي أو المعياري. فعلى سبيل المثال، كلمة اعتراف باللغة العربية تحيل على مفهومين مختلفين يُعبَّر عنهما باللغات الأخرى، ومنها الإنكليزية، على سبيل المثال، بكلمتين مختلفتين: “recognition, confession”. ويقر عمارة بإمكانية أن تحمل الكلمة نفسها معنيين مختلفين، لكنه – انطلاقًا من رؤيته المثنوية للعالم – شرق إسلامي/ عربي وغرب مسيحي أو علماني – يرفض أن يكون المعنيان موجودين في اللغة أو الثقافة ذاتها، فيجعل المعنى السلبي للأصولية مقتصرًا على السياق الغربي فقط، والمعنى الإيجابي لها مقتصرًا على السياق العربي الإسلامي فقط. وفي موقف عمارة، ثمة تناوبٌ بين نفي أصولية ما يسميه ﺑ “الظاهرة الإسلامية”، أو نفي سلبية تلك الأصولية، مع الإقرار، الضمني أو الصريح، بوجودها.
ونجد في نص يوسف القرضاوي “مستقبل الأصولية الإسلامية”[28] المفارقات والتناقضات المحايثة لموقف (معظم) الإسلاميين من مصطلح/ مفهوم “الأصولية (الإسلامية) في أوضح وأقوى تجلياتها. فمن جهةٍ أولى، يشير القرضاوي إلى أنه يفضل كلمة “الصحوة” للتعبير عن الظاهرة الإسلامية المعاصرة”، لكنه، من جهةٍ ثانيةٍ، “يتنازل ويجيز استخدام مصطلح “الأصولية”، بالنظر إلى عربيتها ودلالاتها الإيجابية في “الثقافة الإسلامية”. ويحدد القرضاوي معنى “الأصولية الإسلامية” التي يتحدث عنها، بالقول: «إنها تعني العودة إلى الأصول، أو الجذور، في فهم الإسلام، والعمل به، والدعوة، إليه»[29]. “ويشدد على أن الأصولية، بهذا المفهوم، “فخرٌ ومنقبةٌ، وليست تهمةً ولا جريمةً”، لكنه يقر بوجود «تفاوت كبير وتمايز واضح بين الفصائل الأصولية المختلفة في هذا الأمور»[30]. ويقول القرضاوي بوجود أربع فصائل أو مدارس أساسيةٍ في الأصولية الإسلامية المعاصرة: فصيل التكفير، فصيل العنف، فصيل التشدد، فصيل الوسطية. ومن الملاحظ أنه، وفقًا لوصف القرضاوي نفسه للفصائل الأصولية الثلاثة الأولى، فإن المعنى السلبي للأصولية ينطبق عليها إلى حدٍّ يجعل من الصعب فهم كيف تكون مثل هذه الأصولية الإسلامية “فخر ومنقبة” فعلًا. ففصيل التكفير يكفِّر كل المختلفين عنه وغير المنتمين إليه، وهو، من منظور القرضاوي نفسه، «امتدادٌ لجماعة “الخوارج” الذين صح الحديث في ذمهم، والتحذير منهم، من عشرة أوجه»[31]. وفصيل العنف «يرى استخدام القوة والسلاح في مقاومة ما يعتقده من باطلٍ، وتغيير ما يراه من منكرٍ»، ولم يبال الكثير من أفراده «بقتل الأبرياء من المدنيين ومن النساء والأطفال والشيوخ الذين لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلًا»[32]، مع أن الإسلام، من منظور القرضاوي قد نهى عن ذلك أو حرَّمه. أما “فصيل التشدد والجمود”، ﻓ «عرف بالجمود في الفكر، والحرفية في الفقه، والتعسير في الفتوى، والتنفير في الدعوة، والخشونة في التعامل. فهم ينكرون التجديد في الدين، والاجتهاد في الفقه، والتيسير في الفتوى، والتبشير في الدعوة، …»[33].
إذا كانت هناك أصوليةٌ إسلاميةٌ بهذه السمات، ألا يمكن القول إنها تتشابه، في سماتٍ كثيرةٍ، مع “المفهوم الغربي للأصولية”؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب، ألا يعني ذلك أن ذلك المفهوم حاضرٌ، في اللغة العربية والثقافة الإسلامية، ومرتبطٌ بالواقع العربي الإسلامي، بغض النظر عن كون لفظ الأصولية مستوردًا، عبر الترجمة أو صناعةً محليةً؟ وإذا كانت ثلاثٌ من أربع فصائل أصوليةٍ تتسم بكل هذه السمات السلبية، من منظور القرضاوي ذاته، فلمَ الإصرار على الرؤية المعيارية الأحادية للمفهوم، والنظر إليه على أنه “فخرٌ ومنقبةٌ، وليس تهمةً ولا جريمةً”، على الرغم من كل التهم الموجهة إليها، والجرائم التي يرى القرضاوي نفسه أنها ترتكبها؟ ثمة عوامل كثيرةٌ يمكن أن تساعد على فهم المفارقات والتناقضات أو الاضطرابات الموجودة في نصوص القرضاوي وإسلاميين كثر عن مفهوم/ ظاهرة الأصولية (الإسلامية). ويمكن، في السياق الحالي الاكتفاء بالقول إن تلك الرؤية تتسم بالمانوية والدفاعية المتشنجة عمومًا. فهي مانويةٌ، لأنها تقسم العالم إلى مثنوياتٍ لا توسط بينها: غرب وشرق، إسلام ولا إسلام، ديني وعلماني …إلخ. ويحصل ذلك، أحيانًا، حتى عندما تدعي الوسطية. وهي دفاعيةٌ متشنجةٌ، لأنها لا ترى في الأصولية إلا تهمةً أو جريمةً، تظن وجوب تبرئة الإسلام والمسلمين منها.
عمارة والقرضاوي وآخرون كثر يرون أن الأصولية محايثةٌ للدين (الإسلامي) أو للتدين من ناحيةٍ، ويجعلانها، أحيانًا، مكافِئةً لكل “الظاهرة الإسلامية”، سواء أكانت إصلاحيةً أو تكفيريةً، وسطيةً أو متشددةً، من ناحيةٍ أخرى. ونجد، عند فضل الرحمن، ربطًا لمفهوم الأصولية بالتوجهين الإحيائي والإصلاحي تحديدًا، كما هو واضحٌ في عنوان كتابه “الإحياء والإصلاح في الإسلام: دراسةٌ للأصولية الإسلامية”[34]. وذلك الخلط أو التعميم أو التمييع أو التوسيع للمصطلح ليس وقفًا على الإسلاميين. ففي كتابه المهم “الأصولية الإسلامية: قصة الحركات الإسلاموية”، يرى يوسف شويري أن مفهوم “الأصولية (الإسلامية)” يشمل الحركات الإحيائية والإصلاحية والراديكالية/ الجذرية[35]، مع أنه يمكن المحاجة أن المفهوم يخص الحركة الراديكالية أكثر (بكثير) من الحركة الإصلاحية، أو لا يشمل تلك الحركة مطلقًا. وينبغي لانتقاد موقف شويري أن يأخذ في الحسبان أنه يرى أن «الأصولية ليست مجرد السمة المميزة للمتعصب أو التقليدي. وخلافًا للاعتقاد السائد، هي مسعىً متحمسٌ مشبعٌ بموقفٍ ناشطٍ وتصميمٍ جادٍّ على مواجهة الصعاب الساحقة»[36].
قبل الانتقال إلى مناقشة السمات الرئيسة للأصولية، ولإبراز ضرورة التمييز، الجزئي والنسبي على الأقل، بين المفهوم والكلمة، بين المعنى والمبنى، بين التحليل اللغوي والتحليل المفهومي، من المهم الإشارة إلى أن هناك من (يفضل أن) يستخدم كلماتٍ أخرى، في السياق العربي وغير العربي، للحديث عن مفهوم الأصولية. فسيمون وود يحاجج بأن مصطلح “fundamentalist” غير ملائم، في السياق الإسلامي، ويعلن أنه يفضّل، مع بروس لينكولن[37] استخدام مصطلح “maximalist (متطرف/ متشدد)” كما يقترح أيضًا مصطلح “Islamist (إسلاموي)”.[38] وإضافةً إلى تفضيل الإسلاميين (الأصوليين) مصطلحات “الصحوة الإسلامية المعاصرة”، و”الإحياء الإسلامي”، و”اليقظة الإسلامية الحديثة والمعاصرة”[39]، نجد أن حسن حنفي يرى إمكانية ترجمة مصطلح “fundamentalism” بلفظٍ إسلاميٍّ هو “السلفية”، ويستخدمهما بالفعل على أنهما مترادفان.[40] وكذلك يفعل عبد اللطيف محمد العبد، الذي يتحدث عن “الأصولية الإسلامية، بوصفها “السلفية الحديثة”[41]، ويرى أن مصطلح “الأصولية الإسلامية” «مصطلحٌ محمودٌ غير مذمومٍ، وهو يطلق على العالم بأصول الدين، وعلى العالم بأصول الفقه»[42]. ينبغي الانتباه إلى أن كلمة الأصولية لا تستخدم، في السياق العربي، في الترجمة من الإنكليزية كمقابل لكلمة “fundamentalism” فحسب، بل إنها تستخدم أحيانًا كمقابل لكلمة “orthodoxy”، أيضًا. وثمة تداخلٌ بين هاتين الكلمتين أو هذين المفهومين، لكن ثمة تمايزُ بينهما أيضًا. وسنقوم بتمييز مفهوم الأصولية عن بعض المفاهيم المتداخلة معه أو القريبة منه، في سياق حديثنا، في ما يلي، عن سمات الأصولية.
السمات الأساسية للأصولية (الدينية)
هناك الكثير من المحاولات لتحديد السمات الرئيسة للأصولية (الدينية). وسنقوم، في بحثنا هذا، بالاستناد إليها، والاختلاف معها، في الوقت نفسه. فالاستناد إليها بارزٌ في كون السمات التي سنتحدث عنها ليست جديدةً عمومًا. فكل سمةٍ منها متضمنةٌ في هذه المحاولة أو تلك من المحاولات المذكورة. وسنقوم، في ما يلي، بالإشارة إلى بعض (أبرز) تلك المحاولات، ثم سنبين مكامن اختلاف بحثنا عنها، والغرض من هذا الاختلاف.
من الملائم أن نبدأ بالمفهوم الواسع للأصولية الذي يرى أنها يمكن أن تكون غير دينيةٍ أيضًا. ففي ما يبدو تحديدًا لماهية الأصولية وخصائصها الضرورية، رأى محمد علي مقلد أن «الأصوليات واحدة وإن تعددت الأدوات المفهومية. فهي كلها تغليب للأيديولوجي على المعرفي، للسياسي على الثقافي، للإيمان على الدين، وهي، بالدرجة الأولى، تغليب للمصالح على المبادئ»[43]. ولا يبدو لي أن الأصوليين يفضلون، بالفعل، دائمًا، الإيمان على الدين، والمصالح على المبادئ، بل ربما كان العكس هو الذي يحصل غالبًا. وإذا انتقلنا إلى غارودي الذي يتبنى الرؤية الواسعة ذاتها لمفهوم الأصولية، نجد أنه يحدد المكونات الأساسية للأصولية بالتالي: «أولًا، الجمودية؛ “رفض التكيُّف”، “جمود معارض لكل نمو، لكل تطور”؛ ثانيًا، العودة إلى الماضي، (“الانتساب إلى التراث”، “المحافظة”) وثالثًا، عدم التسامح، الانغلاق، التحجر المذهبي: “تصلب”، “كفاح”، “عناد”»[44]. كما رأى غارودي أن “الجامع المشترك بين الأشكال الراهنة للأصولية (الإسلامية)” أنها كلها تستلزم “احترام السنة: التراث”[45]. ويضيف، لاحقًا: «إن الأصولية ترتكز دائمًا على الخلط بين حرية الإنسان المسؤولة وضرورة النظام العام للعالم الذي شاءه الله؛ والخلط بين الشريعة، قانون الله الأخلاقي، وبين الفقه، تشريع الأحكام؛ والخلط بين الكلام الإلهي والكلام البشري»[46]. أما القائمون على المشروع البحثي عن الأصولية – الذي أشرنا إليه آنفًا، والذي يتحدث عن الأصولية، بوصفها تنتمي إلى الحقل الديني فقط – فقد وضعوا خمس خصائص رئيسة للأصوليين: مقاومة التحدي الذي تفرضه الحداثة على هويتهم الأساسية؛ إنهم يسعون جاهدين من أجل تغيير الكيان السياسي المدني؛ استخدام قراءةٍ انتقائيةٍ لـ “الماضي النقي”؛ معارضة المعتدلين الذين يبحثون عن حلٍّ وسطٍ، سواء من داخل الجماعة أو خارجها؛ القتال باسم الله (أو باسم أي مرجعٍ سامٍ آخر)، بدعوى تنفيذ مطلبٍ إلهيٍّ[47].
على الرغم من مركزية أو أساسية هذه الخصائص أو السمات، لا يبدو أنها تحضر كلها، دائمًا، عند كل الأصوليين. كما أن معظمها مرتبطٌ بسياقٍ تاريخيٍّ محددٍ، أو مستخلصٌ من دراسةٍ لحركةٍ أصولية أو أكثر. فمقلد لا يستوفي الخصائص الأساسية للأصوليات، ولا يقدمها بطريقةٍ واضحةٍ ومقنعةٍ. وعلى الرغم من توسيع غارودي لمفهوم الأصولية، ومده إلى خارج الحقل أو الخطاب الديني، فقد اقتصر، في تحديده لمكونات الأصولية، على التفكير ببعض الأصوليات الدينية. أما صادق جلال العظم فقد ركَّز، في حديثه عن الخصائص البارزة للأصولية، على أصولية الحركات الأصولية الأمريكية، ليبيِّن أن كل تلك الخصائص موجودةٌ، أيضًا، في مواقف الإسلامويين (الأصوليين) ومطالبهم وتعليماتهم وممارساتهم.
وفي كتابٍ معنونٍ ﺑ “الأصولية نماذج مختارة (اليهودية، المسيحية، الإسلامية)”، يقتصر عامر الوائلي على عرض آراء عددٍ من الباحثين والمفكرين في خصوص سمات الأصولية وتصنيفاتها، من دون اتخاذ موقفٍ نقديٍّ منها، ومن دون البناء عليها لتحديد ماهية تلك السمات، وتوضيح العلاقات في ما بينها. ويتحدث الوائلي عن وجود “ثلاثة ملامح تكوِّن الأصولية (الدينية) المتطرفة”، بما يعطي الانطباع أنه يعتقد بوجود أصوليةٍ غير متطرفةٍ من منظوره![48] والملامح المذكورة هي: “هيمنة النزعة المحافظة”، “طغيان الخطاب الديني”، “بروز الخطاب العنيف بحق المختلف”[49]. ويضيف الوائلي أنه يوجد باحثون يذكرون أيضًا ثلاثة عناصر مشتركة تطبع الأصولية وهي: (الشمولية، والنصوصية، والانحياز المطلق)[50].
نعتقد أنه، بدلًا من محاولة استخلاص السمات الأساسية للأصولية بطريقةٍ استقرائيةٍ، من المفيد، بل الضروري، بناء نمطٍ مثاليٍّ بالمعنى الفيبري (نسبة إلى ماكس فيبر) للأصولية.[51] ولا يعني التخلي عن الاستقراء أن ذلك البناء لن يحاول أن يأخذ في الحسبان تعينات الأصولية وسماتها الموجودة في هذه الظاهرة أو تلك؛ وإنما يعني توضيح الإطار النظري الذي يتأسس عليه الحكم بأصولية ظاهرةٍ ما، ومعنى تلك الأصولية، ومداها أو درجتها. فمن المعروف أنه ليس ثمة واقعةٌ خامٌّ، وأن النظرية تسبق تحديد تلك الواقعة، وتسهم في هذا التحديد. فحتى إذا أردنا القيام بدراسةٍ استقرائيةٍ للأصوليات، ينبغي أن يكون لدينا، مسبقًا، رؤيةً نظريةً أوليةً عن معنى الأصولية وسماتها الرئيسة. ومن هنا تنبثق معقولية أن يكون الإطار النظري الذي ننطلق منه واضحًا، ليس للآخرين فحسب، بل لنا نحن من يقوم بتلك الدراسة أيضًا. ويمكن لدراسة الأصوليات المتعينة أن تسهم، لاحقًا، في إغناء النظرية، وتدقيقها، وتطويرها، أيضًا.
وتكون سمات الأصولية، في النمط المثالي، في أقصى وأقوى حالاتها، أي في حالة “نقاءٍ مفاهيميٍّ”، بحيث يشمل النمط كل تعينات الأصولية، من دون أن يكون متطابقًا، بالكامل، مع أيٍّ منها. وتتطلب عمومية النمط المثالي للأصولية بناءه بطريقةٍ تسمح بدراسة الأصولية الدينية وغير الدينية على حدٍّ سواءٍ، مع الأخذ في الحسبان للاختلافات والتمايزات بينهما. وسيكون تركيزنا منصبًا على الأصولية الدينية، تحديدًا، لأن محاولات توسيع مفهوم الأصولية، ومده ليشمل ظواهر أو حركات واتجاهات غير دينيةٍ، إنما تحصل على أساس إظهار التقاطع والتشابه أو التماثل (شبه) الكامل مع الظواهر أو الحركات والاتجاهات الدينية[52]. ويُتخذ النمط المثالي معيارًا واضحًا لتحديد مدى أو درجة كون ظاهرٌ ما أصوليةً، وبأي معنىً. فمن حيث المبدأ، ليس هناك أصوليةٌ تتسم بكل سمات النمط المثالي للأصولية، وبالحد الأقصى من كل سمةٍ. وانطلاقًا من ذلك، يسمح النمط المثالي ﺑ، ويتطلب، الانتقال من سؤال “هل هذه الظاهرة أصوليةٌ أم غير أصوليةٍ؟” إلى أسئلةٍ أكثر دقةً وتفصيلًا وتحديدًا، مثل: “إلى أي حدٍّ أو درجةٍ تتسم هذه الظاهرة بالأصولية؟ وبأي معنىً؟ وما السمات الأصولية التي (لا) تتسم بها؟ وإلى أي درجةٍ تتضمن هذه السمة أو تلك من سمات الأصولية؟ ونعتقد أنه يمكن للنمط المثالي، مع الأسئلة المختلفة التي يتضمنها أو يفضي إليها، أن يساعد على تجنب الكثير من حالات سوء الفهم والنقاشات العقيمة، غير النادرة، في هذا الخصوص. فليس نادرًا أن يتم إثبات أو نفي أصولية ظاهرةٍ أو فكرٍ ما، من خلال إثبات (أو نفي أو إنكار) اتسامه بهذه السمة أو تلك من سمات الأصولية. وهذا ما فعله، على سبيل المثال، حنفي وعمارة والقرضاوي، في إثباتهم و/ أو نفيهم وجود “أصولية إسلامية”.
وبالانتقال من الاستقراء إلى الاستنتاج، ينبغي لسمات النمط المثالي أن تكون متداخلةً ومنسجمةً مع بعضها البعض، بحيث تشكل وحدةً عضويةً متداخلةً ومتكاملة العناصر أو الأجزاء. وسنحاول، في عرضنا لسمات الأصولية، إظهار هذا التداخل والتكامل بين تلك السمات. وكما سيكون واضحًا، يمكن لكل سمةٍ من تلك السمات أن تتضمن بعض السمات الفرعية. كما أن شرح أي سمةٍ منها سيحيل على السمات الأخرى، ضمنيًّا على الأقل، بسبب الوحدة العضوية التي تجمع بين هذه السمات. لكن هذه الوحدة العضوية النظرية لا تعني أن وجود سمةٍ (أساسيةٍ) ما من سمات الأصولية في ظاهرةٍ ما يسمح بالاستنتاج الجازم بوجود ضروريٍّ للسمات الأخرى للأصولية في تلك الظاهرة. فكما سيتضح، في مناقشتنا لتلك السمات، ثمة اختلافٌ كبيرٌ بين الأصوليات، واختلافٌ كبيرٌ بين الباحثين حول سمات الأصولية أو مكوناتها، ومدى أساسية أو ضرورية وجود كل سمةٍ من سماتها في كل الأصوليات. وسنركز، في بنائنا للنمط المثالي للأصوليات على السمات التي نعتقد أنها أساسيةٌ، مع مناقشة مدى تلك الأساسية، ومدى ضرورة وجودها في هذه الأصولية (الدينية أو غير الدينية) أو تلك. ونشدد، أخيرًا، مع بروس لورانس، على أنه «لا توجد دراسةٌ واحدةٌ، مهما كانت شاملةً، قادرةٌ على استنفاد أبعاد الأصولية التي لا تعد ولا تحصى»[53].
نظرة حديثة تجاه “الماضي الأصيل المتقدم” في مواجهة “حداثة الحاضر المتخلفة”
ربما كانت السمة الأهم في الأصولية تكمن في تعاملها مع ثنائية الأصالة مقابل المعاصرة، الماضي مقابل الحاضر، القدامة مقابل الحداثة، وتحويلها إلى مثنوياتٍ تتضمن إعلاءً من شأن الطرف الأول، وحطًّا من شأن الطرف الثاني. فدائمًا، ترى الأصولية في الحداثة مشكلةً، أو بالأحرى المشكلة، وترى في العودة إلى الماضي، إلى الأصول الكامنة في ماضٍ ما، الحل. فالأصالة في الأصول، أما الحداثة أو المعاصرة فتتضمن زيفًا وابتعادًا مؤلمًا عن ذلك الأصل. وهذا الجمع أو الخلط، بين الأصل والأصالة، سائدٌ عند الأصوليين عمومًا، وعند الإسلاميين منهم خصوصًا.
انطلاقًا من هذه الرؤية للقدامة الأصيلة والحداثة الرذيلة، ترفض الأصولية مبدأ التقدم الذي تتبناه الأيديولوجيا الحداثوية. وثمة ترابطٌ عضويٌّ بين مفهومي الحداثة والتقدم، إلى درجة عدم إمكانية الفصل بينهما. وتحيل الحداثة على السيادة أو الظهور التدريجي للعقلانية والفردية والتصنيع والعولمة والعلمانية.[54] ومن الواضح أن كل سمات الحداثة المذكورة تتضمن إشارةً إلى مفهوم التقدم. وفي إطار فلسفة التاريخ والعلوم الاجتماعية عمومًا، يحيل مفهوم التقدم على التحسن المستمر في أحوال الإنسان الاجتماعية والمعرفية والصحية، وفي رفاهيته عمومًا، نتيجةً لازدياد قدرته على التغلب على التحديات التي تواجهه. وثمة، بالتأكيد، نقدٌ، غير أصوليٍّ، يمكن توجيهه لأطروحة التقدم الحداثوية[55]. لكن النقد الأصولي لهذه الأطروحة يذهب إلى طرفٍ أو تطرفٍ نقيضٍ، فلا يرى في التاريخ إلا مسيرة تدهورٍ وانحطاطٍ بالضرورة. فهناك تدهورٌ وانحطاطٌ بقدر الابتعاد عن الأصل أو الأصول. ويسعى الأصوليون لوقف هذه المسيرة، أو حتى عكسها، بالطرق المتاحة كلها.
ويمكن للأصوليين ألا يجادلوا في خصوص حصول تقدم في هذا الجانب أو ذاك من حياة الإنسان المعاصرة، على الرغم من أنهم غالبًا ما يعلنون عداءهم الصريح أو انتقادهم الشديد لمعظم مكونات الحداثة وأسسها، ومن ضمنها العلم الحديث[56]. وفي كل الأحوال، لا يتردد الأصوليون في استخدام معظم منتجات الحداثة المادية. وهذا الاستخدام هو، أصلًا، أحد عوامل وجود الأصولية، وسببٌ للقول إنَّها حديثة بالضرورة. ولا يرى الأصوليون تناقضًا في استخدامهم لمنتجات الحداثة و”تمتعهم” بها، وإدانتهم للحداثة، في الوقت نفسه. فهم يرون أن إدانتهم تنصب على الجانب الروحي أو الفكري او الأخلاقي، تحديدًا أو خصوصًا؛ لأن معيار التقدم الحقيقي، لديهم، يكمن في مدى هيمنة العقيدة التي يؤمنون بها، ومدى تبنيها وممارستها واتباع أو تطبيق تعليماتها والالتزام بالأخلاقيات التي تتضمنها. وترفض الأصولية الإسلامية مفهوم التقدم المادي (الغربي) وتتبنى، في هذا الخصوص، قسمة المجتمعات إلى قسمين: جاهلية وإسلامية. «فهناك طائفة تملك إنتاجًا ماديًّا متراكمًا، لم يلتقِ ببعده الأخلاقي. وهناك طائفة تمتلك الحقيقة الواحدة الجامعة، وهي حقيقة القرآن العظيم الذي تقبض عليه أيدينا نحن المسلمين […]»[57]. ووفقًا لهذا التقسيم، المجتمع الغربي المعاصر متخلفٌ، على الرغم من تقدمه المادي، والمجتمع الإسلامي متقدمٌ، على الرغم من تخلفه المادي. ففقط «المجتمع الذي ينشئه الإسلام هو المجتمع الذي يرتقي بالإنسان إلى كمالاته»[58].
ولإبراز حداثة الأصولية، ينبغي التشديد على أنها ليست نتاجًا لتأثير الماضي في الحاضر، بقدر ما هي قيام ذلك الحاضر بإعادة صياغة الماضي، وتنقيته من كل الشوائب، وتقديمه بوصفه حلمًا ينبغي العودة إليه. والحداثة، بوصفها مغايرةً للماضي، تمثل كابوسًا ينبغي الصحوة منه، بإعادة تحقيق الحلم المذكور. وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن الحاضر يؤثر في الماضي أكثر (بكثيرٍ) من تأثير الماضي في الحاضر. فالماضي لا يحضر تلقائيًّا، وإنما يستحضره الحاضر، لتوظيفه في صراعات المصالح والأفكار. وعلى العكس مما يظن أو يتوهم الأصوليون، وغيرهم، الأصولية ليست استمرارًا لماضٍ ما في الحاضر، بل هي ردّة فعلٍ حديثةٍ على الحداثة. و«لا يستطيع المرء أن يتحدث عن أصوليي ما قبل الحداثة. ففي عصر ما قبل الحداثة، لم تكن الظروف المادية التي جعلت تماسك الأيديولوجية الأصولية وتواصلها ممكنةً. كما افتقر عصر ما قبل الحداثة، أيضًا، إلى دعاة ذلك الشكل من الفردية الراديكالية المعروف الآن باسم الحداثة»[59]. وهذا الارتباط بين الحداثة والأصولية هو الذي يجعل الأصوليات عالميةً ومتعددةً ومتنوعةً، بقدر عالمية الحداثة وتعددها وتنوعها.
حركية الأصولية
يرى روثفِن، مع كارين آرمسترونغ، أن ما يميز الأصولية، في علاقتها مع النص (المقدس)، ليس رؤيتها الحرفية للنص وعصمته، وإنما اتخاذه مصدرًا للعمل والحركة.[60] فالأصولية ليست مجرد رؤيةٍ نظريةٍ ترى في النصوص الدينية مصدرًا أخلاقيًّا وروحيًّا ملهمًا وموجِّهًا في الحياة، بل هي حركةٌ ترى في النصوص مصدرًا للحركة والعمل على تنفيذ رؤيتها الدينية. وهذه السمة الحركية للأصوليين تميزهم عن المحافظين التقليديين من جهةٍ، وعن أصولية علماء الأصول، من جهةٍ أخرى.
ففي خصوص التمايز بين الأصوليين والتقليديين، يمكن القول، بطريقةٍ أو بأخرى، ولدرجةٍ أو لأخرى، كل المؤمنين بعقيدةٍ تأسست في الماضي، وتجسدت فيه من خلال ممارسةٍ أو تطبيقٍ لها، يشعرون بدرجةٍ ما من الحنين والتبجيل تجاه ذلك الماضي بعقائده وممارساته. لكن ذلك لا يعني أن كل أو أغلب هؤلاء المؤمنين أصوليون، كما يقول، أو يعطي الانطباع، جون فول في بحثه الموسوم “الأصولية في العالم العربي السني: مصر والسودان”، حيث يكتب، في سياق حديثه عن المجتمع المصري: «إذا نظر المرء إلى أولئك الذين يشاركون بشكل فعال في النهضة الإسلامية، فإن عدد الناس هو بالملايين، وفي بعض النواحي، يمثلون غالبية المجتمع»[61]. فليس لدى التقليدي وعيًا بتقليديته وبتضاده أو تضادها مع الحداثة.[62] ولهذا، ليس لديه توجهٌ للدخول في حالةٍ دفاعيةٍ عن تقليديته وحالةٍ هجوميةٍ على الحداثة. ويصبح التقليدي أصوليًّا حين يمتلك ذلك الوعي وهذا التوجه، ويدخل في الحالتين المذكورتين. لكن ليس هناك حتميةً في هذا الخصوص. ويمكن للأصولي أن يجد في التقليد عدوه، بقدر ما يجد في الحداثة، وربما أكثر. فالتقليد هو حصيلة تراكمٍ تاريخيٍّ طويلٍ، أو هو التاريخ الذي ما زال حيًّا، والذي لا يعود إلى الأصول عمومًا. وإذا كان الأصولي والتقليدي يشتركان في كونهما ماضويين، فإن الاختلاف أو الخلاف بينهما ينشأ من أن الأصولي يكتفي بنقطةٍ أو مرحلةٍ ما من هذا التاريخ، يراها أصلًا أو الأصل، في حين أن التقليدي يقيِّم إيجابًا، ويمارس عمليًّا، (جانبًا من) التراكم التاريخي التالي على ذلك الأصل. فالأصولي ماضويٌّ، لكنه يرفض التاريخية، أما التقليدي فهو حصيلة تلك التاريخية. وباختصارٍ، تقتضي أصولية الأصولي محاربة البدع المتمثلة في التقليد والحداثة، على حدٍّ سواءٍ.
أما في خصوص التمايز بين الأصولية الحركية أو الحركة الأصولية والأصولية الفقهية (أصولية علم أصول الدين وأصول الفقه وما شابه)، يمكن القول إن الأصولية الفقهية نظريةٌ من ناحيةٍ، ويمكن أن تهدف إلى إظهار الانسجام بين الأصول والحداثة، من ناحيةٍ أخرى. أما الأصولية الحركية، فهي في حالة صراعٍ مع الحداثة ورفضٍ لها، مع تبني توجهٍ عمليٍّ لصياغة الحاضر الحديث، وفقًا لرؤيةٍ ما للأصول. وإذا كانت الأصولية تأخذ مقتضيات الحاضر الحديث والعرف والمصلحة في الحسبان، في رؤيتها الفقهية النظرية، فإن الأصولية الحركية تحكم مسبقًا بأن لا مصلحة غير أو فوق مصلحة العودة إلى الأصول. وحتى لو اشتركت الأصولية الفقهية مع الأصولية الحركية من الناحية النظرية، فإنها تبقى مختلفةً عنها، اختلافًا مهمًّا وحاسمًا، في كونها تبقى مجرد رؤيةٍ ولا تتحول إلى تنظيمٍ يعمل على تجسيدها في الواقع، من خلال صدامٍ مع ذلك الواقع الحداثي. وسيزداد اتضاح الاختلاف بين الأصوليتين، في حديثنا عن السمات الأخرى للأصولية الحركية.
(لا-)سياسية الأصولية وعنفها
حركية الأصولية تجعلها حركةً سياسيةً، وهذا ما يسهم في زيادة تباعدها عن الأصولية الفقهية وعن التقليديين على حدٍّ سواءٍ[63]. وفي تعريفه للأصولية، ولسماتها الرئيسة، أشار العظم إلى أنها «ظاهرةٌ حضريةٌ تصبح نشطة سياسيًّا كثيرًا، وتمارس تأثيرًا سياسيًّا وثقافيًّا كبيرًا، في أوقات التحولات الاقتصادية الاجتماعية الضخمة والاضطراب السياسي، والانهيارات الثقافية، والاضطرابات الأخلاقية، والتحولات السريعة في المعايير والقواعد الأخلاقية»[64]. ويمكن لحضور الحركة الأصولية في المجال السياسي أو العام أن يتخذ صيغًا مختلفةً، فقد يتخذ صيغةً مباشرةً أو غير مباشرةٍ، سلميةً أو عنيفةً. وهذا يعني أن حضور الأصولية متعددٌ ومتنوعٌ، بقدر تعدد السياقات الحاضرة فيها، وتنوع مضامين التفاعل بينها وبين الأطراف الفاعلة في تلك السياقات. فالأصولية الإنجيلية أو البروتستانتية حاضرةٌ سياسيًّا بقوةٍ في المجال العام في الولايات المتحدة الأمريكية، لكنها تحضر بطريقةٍ غير مباشرةٍ، من خلال دعم هذا الحرب أو السياسي أو ذاك، دون أن يتخذ ذلك الحضور صيغةً دينيةً مباشرةً، عمومًا، بسبب الطبيعة العلمانية للنظام السياسي الأمريكي. لكن ذلك لا ينفي وجود الأصولية، ولا ينفي حضورها في السياسة، لدرجةٍ أو لأخرى، وبطريقةٍ أو بأخرى، في “أوروبا أو الغرب العلماني”، كما يظن رضوان أحمد شمسان الشيباني.[65] كما يمكن للأصوليين أن يحضروا مباشرةً في المجال السياسي، عبر تشكيل أحزابٍ ومؤسساتٍ سياسيةٍ خاصةٍ بهم. وهذا هو حال أصوليو “حزب التحرير” الذي يتوسل بالعمل السياسي والديمقراطية، ليحقق “دولة الخلافة الإسلامية”، ويقوم بالانقلاب على الديمقراطية والسياسة (المدنية)، في الوقت نفسه. فالأصولية تتناقض مع فكرة سيادة الشعب أو أي سيادة غير سيادة الله أو العقيدة التي تتضمنها،[66] ومن هنا تأتي الإمكانية الدائمة لتعارضها ليس مع الديمقراطية فحسب، بل، أيضًا، مع السياسة عمومًا، بوصفها ميدانًا للاختلاف والتنوع والمفاوضات والتنازلات للوصول إلى تسوياتٍ بين الفرقاء.
هناك أطروحةٌ ترى أن الحركات الأصولية ليست سياسيةً بالضرورة: «ليست كل الحركات الأصولية سياسيةً. عادة ما يكون للانخراط الأصولي في السياسة أسبابٌ محليةٌ، ليس أقلها السعي إلى السلطة أو النفوذ من قبل مجموعاتٍ تعتبر نفسها محرومةً من حقوقها السياسية أو الثقافية»[67]. ولمناقشة تلك الأطروحة، نعتقد بضرورة التدقيق في معنى السياسة، وعلاقتها بالعنف، خصوصًا أو تحديدًا، من جهةٍ، والعلاقة الممكنة بين الدين والسياسة، من جهةٍ أخرى. فهل الحرب أو العنف جزءٌ من السياسة، كما يوحي قول كلاوزفيتز «الحرب هي امتدادٌ للسياسة بوسائل أخرى»[68] أو قول ميشيل فوكو «السياسة هي امتدادٌ للحرب بوسائل أخرى»[69]، أم إن ثمة تمايزًا وقطيعةً بين الطرفين، بحيث تكون الحرب أو ممارسة العنف خروجًا عن ممارسة السياسة، كما ترى حنّة أرندت؟[70]
نعتقد بأفضلية تبني رأي أرندت، في هذا السياق، والتمييز بين السياسة والحرب أو استخدام العنف الذي قد يتخذ صيغة الجهاد المسلَّح وما شابه. ووفقًا للتمييز المذكور، تكون السياسة مجال المفاوضات والمساومات والتسويات والتعبير عن الآراء، والسعي إلى تحقيقها بالوسائل السلمية، ولا يكون العنف، في ذلك السياق، مشروعًا إلا من قبل الدولة، ووفقًا لقوانين وضوابط واضحةٍ ومسوَّغةٍ. أما لجوء أي طرفٍ سياسيٍّ إلى العنف فيعني خروجه من حقل السياسة بالمعنى المذكور. وانطلاقًا من ذلك التمييز، يمكن القول إن لا-سياسية الأصولية قد تتجلى في لجوئها إلى العنف، والخروج عن السياسة، بالمعنى المذكور. ويشير عالم الاجتماع جان غي فيلانكور Jean-Guy Vaillancourt، محقًّا، إلى أن العنف هو السمة الغالبة للحركات الأصولية عمومًا، مع بعض الاستثناءات النادرة، كما هو الحال الحركة التيبية السلمية[71]، والأصولية الأميشية المسيحية[72]، لكننا نعتقد بضرورة عدم تفسير تلك الاستثناءات بعاملٍ وحيدٍ أو أحاديٍّ، سواء أتجسد ذلك العامل بالنص الديني، أو بفهمه، أو بأي عاملٍ آخر.
وإذا كان الجمع بين الدين والسياسة (يمكن أن) يفضي إلى ممارسة العنف (غير المشروع)، فإن ذلك لا يعني أنه يمكن الفصل بين الجانبين، فصلًا مطلقًا، أو إلغاء كل أشكال التقاطع أو التداخل بينهما.[73] ويمكن التمييز بين نوعين من حضور الدين في السياسة: حضور الدين بوصفه قوة ناعمةً، وحضوره بوصفه قوةً خشنةً. فالحضور الأخير هو حضور الإلزام أو القسر، حضور التطرف الذي يرى أن لا طرف إلا هو، أو أنه الطرف الذي لا شريك له. وهذا الحضور للدين في السياسة هو الحضور الأصولي المرجح، في حال توفرت له الظروف الملائمة، لتحقيق ذلك الحضور. ويمكن، بالتأكيد، لهذا الحضور الاستبدادي الطغياني أن يتخذ صيغًا غير دينيةٍ. أما حضور الدين في السياسة، بوصفه قوةً ناعمةً، فيعني حضوره بوصفه سندًا روحيًّا ومصدرًا أخلاقيًّا،. ولا تتخذ الأخلاق هنا صيغة المعايير التي يجب فرضها، بل صيغة القيم العامة التي ينبغي أو يمكن الاهتداء بها، بطرقٍ مختلفةٍ.
ويمكن فهم ارتباط الأصولية بالعنف بطريقتين: خارجية، وداخلية. فالطريقة الأولى تركز على العوامل الخارجية المحيطة بالأصولية، وعلى رأسها العوامل السياسية والاقتصادية. أما الطريقة الثانية فتركز على أن لجوء الأصولية إلى العنف ليس أمرًا عرضيًّا، لا من الناحية الواقعية التاريخية، ولا من الناحية المفهومية النظرية، بل هو نابعٌ، عمومًا، من (بعض) سمات الأصولية أو مكوناتها. وبتركيزه على التناول النظري المفاهيمي، لا يتناول هذا البحث العوامل المذكورة، لكن، يمكن التشديد على مسألتين، في هذا الخصوص: الأولى أن العوامل المذكورة لا تعني نفي دور الذات الأصولية الفاعلة agencyفي العنف، الذي ينبغي عدم النظر إليه على أنه ردّة فعلٍ حتميّةٍ على تلك العوامل؛ والثانية، أن بحث العوامل المذكورة ينبغي أن يأخذ كل حالةٍ أصوليةٍ على حدةٍ، بعيدًا عن الاكتفاء بإطلاق التعميمات النظرية، في هذا الخصوص. في المقابل، نرى عدم موضوعية القول إنَّ ارتباط الأصولية بالعنف مماثلٌ لارتباط أي حركةٍ سياسيةٍ أخرى به.[74] وستتضح أسباب الترابط الخاص والوثيق، لكن غير الضروري، بين الأصولية والعنف، خلال عرضنا لبقية سمات الأصولية.
الأصولية: الدينية مقابل العلمانية، الهداية مقابل التنوير
وفقًا لنظريات التحديث التقليدية، تتضمن سيرورة التحديث، بالضرورة، مزيدًا من العلمنة، أو تقدمًا فيها. وتتضمن نظريات العلمنة التقليدية، التي سادت منذ القرن التاسع عشر، ثلاث أطروحاتٍ رئيسةً: 1)، أفول الدين أو المعتقدات والممارسات الدينية، 2)، خصخصة الدين وغيابه أو تغييبه عن المجال العام 3)، التمايز الوظيفي بين المجالين، الديني وغير الديني (العلماني)[75]. وهذه الأطروحات كانت وصفيةً ومعياريةً، في الوقت نفسه، أي أنها كانت تزعم وصف ما هو كائنٌ، من جهةٍ، وتدعو إلى تحقيقه، بوصفه ما يجب أن يكون، لنكون حداثيين، من جهةٍ أخرى.
ويرى المتدينون الأصوليون في انحسار مكان الدين ومكانته الخطر أو المشكلة الأكبر. وفي مقابل أطروحة “العلمانية هي الحل”[76]، يتبنى الأصوليون أطروحة “الدين هو الحل”. وفي مقابل مفهوم “التنوير الحداثوي”، يبرز مفهوم “الهداية الديني”. وعلى هذا الأساس، نجد عددًا من المفكرين والباحثين يعرفون الأصولية بوصفها نقيضًا للعلمانية والتنوير الحداثيين. ففي مقدمة كتاب “الأصولية والعلمانية”، يكتب مراد وهبة: «إذا كان التنوير علماني الطابع، فالأصولية نقيض العلمانية. وبيان هذا التناقض هو الفكرة المحورية لهذا الكتاب»[77]. وفي الاتجاه ذاته، يذهب يوسف شويري الذي يرى أن الحركات الإسلامية الثلاث، الإحيائية والإصلاحية والراديكالية، حركات أصوليةٌ، وأن «رفض العلمانية بكل مدارسها وظواهرها هو الذي يسم هذه الحركات ويساهم في إبراز معانيها الأصولية»[78]. أما لورانس فيكتب «أيًّا كانت نتيجة التحدي الأصولي، فإن أصوله لا يمكن فصلها عن شبح عدوه المعلن: التنوير. إن دراسة الأصولية تعني تقييم عصر التنوير باعتباره مقدمةً ومثبطًا لكل الفكر الأصولي، في الوقت نفسه»[79].
من منظور الأصولية الدينية، المرعب والمفجع في الحداثة يتمثل، تحديدًا أو خصوصًا، بتزعزع مكان الدين ومكانته، وفي كونه أصبح طرفًا من أطرافٍ عدةٍ، وبحاجةٍ إلى تسويغ نفسه، وتعديلها، وضبطها، على أسس علمانيةٍ، بدلًا من أن يكون الطرف الذي يُستند إليه، في شرعنة، أو عدم شرعنة، وجود أي طرفٍ آخر. ففي مجالاتٍ وسياقاتٍ كثيرةٍ، حل الإنسان محل الله، والعقل محل الوحي، والعلم محل المعرفة الدينية، والأخصائيون محل رجال الدين، والتجربة والحجة محل النص وسلطته. كما أصبحت القيمة الأساسية للفرد على حساب الانتماء إلى الجماعة العضوية، وللمساواة المبدئية على حساب التراتبية المبنية على النسب. ولا يعني ذلك صحة أو دقة الأطروحات الحداثوية في خصوص العلمنة أو التعلمن، وعلاقة الدين بالحداثة أو التحديث. ففي العقود الخمسة الأخيرة، فقدت الأطروحتان الأوليتان (أفول الدين، وخصخصته) جزءًا كبيرًا من قدرتيهما الوصفية والتحليلية، ولم يعد بإمكانهما الزعم بانطباقهما الدائم على سيرورة الحداثة، وواقعها، في الكثير من مناطق العالم المعاصر وثقافاته. فلم يعد ممكنًا أو معقولًا القول إن الحداثة تقتضي أو تتضمن، بالضرورة ودائمًا، أفول الدين أو المعتقدات والممارسات الدينية أو غياب الدين عن المجال العام. وعلى هذا الأساس، لم يعد الأفول والغياب المذكوران تقدمًا، وشرطًا ضروريًّا للحداثة والتحديث، أو نتيجةً حتميةً لهما. فلم تفضِ عمليات تحديث المجتمعات إلى تلاشِ دائمٍ للعقائد والممارسات الدينية والمؤسسات الدينية، كما توقعت نظريات العلمنة التقليدية؛ ولم يصبح الكتاب المقدس مجرد قطعةٍ أثريةٍ في المتحف، كما تنبأ أو تمنى كثيرون.
وفي تضادٍ مع جزءٍ من نظريات التحديث والعلمنة، ثمة عودةٌ للدين[80] أو انبعاثٌ أو حضورٌ متزايدٌ له، على نطاقٍ عالميٍّ، منذ سبعينيات القرن الماضي. ولم يُزَل السحر عن العالم، بتلاشي حضور الدين، كما توقع فيبر وآخرون[81]. ومن التسرع الخاطئ المماهاة بين هذا الانبعاث أو الحضور الديني المتجدد والأصولية الدينية، كما يفعل كثيرون.[82] وعلى المستوى الأيديولوجي، يمكن القول بوجود قطبين متطرفين، أحدهما أصوليٌّ دينيٌّ يريد (إعادة) هيمنة الدين وتديين كل المجالات التي انفصلت عنه أو نشأت بالاستقلال عنه. وعلى هذا الأساس، يمكن فهم المحاولات العبثية الساعية إلى أسلمة المعرفة، وأسلمة الدولة، وأسلمة المجتمع، وأسلمة الاقتصاد … إلخ. في المقابل، هناك طرفٌ أو تطرفٌ علمانيٌّ يرى أن لا حداثة ولا تحديث ولا تقدم، من دون التخلص من الدين الذي يتعارض بالضرورة مع الحداثة[83]. بين هذين القطبين أو الطرفين المتطرفين، ثمة من يرى إمكانية التعايش بين الديني والحداثي العلماني، ويدعو إلى ضرورة هذا التعايش، وإيجابيته، في “مجتمعٍ ما بعد علمانيٍّ”[84]. ومن الضروري تجاوز هذا التناحر القطبي بين الديني والعلماني، عمليًّا، وتفكيك العلاقة القائمة بينهما، نظريًّا.[85]
الأحادية الأصولية التراتبية مقابل التعددية الحداثية المساواتية
تتسم الأصولية برؤيةٍ أحاديةٍ، بالمعنى المعرفي والمعياري، في الوقت نفسه. فهي لا ترى إلا طرفًا واحدًا ذا قيمةٍ أساسيةٍ، أما الأطراف الأخرى فهي، من المنظور الأصولي، إما غير موجودةٍ ولا مرئيةٍ، أو لا تستحق ذلك الوجود أصلًا؛ لأنها ضئيلة أو منعدمة القيمة. والوجود الحقيقي أو الوجود ذو القيمة، هو وجود الأصل أو الأصول التي تود الأصولية إحيائها، والعودة إليها، واستبعاد كل ما عداها؛ وهو وجود من يتبنى موقف هذه الأصولية ويهتدي بهداها، بعيدًا عن الطريق المنحرف الذي يسلكه الآخرون. فالأصولية لا ترى طريقًا قويمًا إلا طريقها، وبهذا المعنى يمكن الحديث عنها بوصفها أرثوذكسيةً.
والأحادية (الأصولية) رؤيةٌ أيديولوجيةٌ، أكثر من كونها رؤيةً معرفيةً، من حيث الموضوعية. وهي، ككل أيديولوجيا، رؤيةٌ مانويةٌ أو مثنويةٌ، ينقسم العالم فيها إلى فسطاطين، فسطاطٌ يمثل الحق والخير والجمال وكل ما هو إيجابيٌّ، وفسطاطٌ آخر يمثل الباطل والشر والقبح وكل ما هو سلبيٌّ. ويظهر هذا التقسيم واضحًا، على سبيل المثال، في تقسيم الأفغاني، في كتابه “الرد على الدهريين”[86]، العالم إلى ما هو دينٌ أو دينيٌّ من جهةٍ، وما هو دهريٌّ أو لا دينيٌّ أو علمانيٌّ، من جهةٍ أخرى. ووفقًا لهذا التقسيم، فإن ما هو إيجابيٌّ لا يوجد إلا في الطرف/ الفسطاط الأول، أما ما هو سلبيٌّ فموجودٌ، حصرًا، في الطرف/ الفسطاط الثاني.
ولا ترى الأصولية في التعدد أو التعددية تنوعًا يمكن الاغتناء به، بل ترى فيه خطرًا ينبغي اجتثاثه، أو تراتبًا ينبغي عدم المساواة بين مكوناته. وفي حال قبول التعدد، لسببٍ أو لآخر، لا يتم تقبله، بل يتم التسامح معه، ولكن من دون الاعتراف به. وتسامح الأصوليين، في حال وجوده، لا ينفي تعصبهم، لأن هذا التسامح، مثله مثل كل تسامحٍ مشابهٍ، في السياق السياسي المعاصر، يتضمن إنكارًا لامتلاك الآخر حقًّا أصيلًا، ولتمتعه بقيمةٍ مساويةٍ لوجود الأطراف الأخرى الموجودة في السياق ذاته. فالتسامح تأكيدٌ للتراتب المفترض أو المفروض، وليس إلغاءً له، لأنه يفترض حق المتسامِح في ألا يتسامح، وقدرته المبدئية أو الفعلية على ذلك[87].
الأصولية مضادةٌ للحداثة، لأنها “الروح الأساسية والإلزام الأخلاقي السائد في المثل العليا العملية لجميع جوانب الحياة الحديثة”[88]، في ما يخص النظرة إلى الإنسان عمومًا. فمع الحداثة، تم تأكيد المساواة الأخلاقية الكاملة بين البشر، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والعقائدية والفكرية … إلخ. ويصعب على الأصولي الإسلامي تقبل المساواة الحقوقية والأخلاقية، بين المسلم وغير المسلم، بين الإسلام والأديان الأخرى، بين الديني وغير الديني؛ لأن هذه المساواة تتضمن مساواةً بين الحق والباطل، بين الخير والشر. وعلى هذا الأساس، تتضمن الأصولية الاعتقاد بأن «حرية الضمير أو الاعتقاد تعني، ليس فقط غض النظر عن الباطل والخطأ والبدعة واللامبالاة تجاه دين الله الحقيقي، بل الترويج لذلك أيضًا. […]. ففقط الحقيقة لها حقوقٌ، أما الباطل فليس له أي حقوقٍ»[89]. وانطلاقًا من ذلك، يبدو التعصب الأحادي إنصافًا وإحقاقًا لما هو حقٌّ، أما التسامح مع التعدد فيبدو ظلمًا للحق وحطًّا من شأنه، ونفاقًا ومحاباةً ممجوجةً للباطل. ولهذا السبب توسم الأصولية بالتعصب. والتعصب ليس عنفًا رمزيًّا أو نظريًّا فحسب، بل يمكن أن يكون، أيضًا، منبعًا لعنفٍ فرديٍّ، كلما استطاع إلى ذلك سبيلا[90].
هذه الأحادية الأصولية التراتبية المضادة أو المعادية للتعددية الحداثية المساواتية تظهر في مضامين مختلفةٍ: سياسيةٍ وأخلاقيةٍ واجتماعيةٍ وفكريةٍ. وسنحاول، في تقديم السمات الأخرى للأصولية، عرض بعض أهم تلك المضامين.
الأصولية هويةٌ (سياسيةٌ) جماعاتيةٌ انعزاليةٌ
أولى الخصائص الأساسية للأصولية في المشروع البحثي عن الأصولية هي أن الأصوليين “يقاومون التحدي الذي تفرضه الحداثة على هويتهم الأساسية”[91]. فالتوجه الأصولي هوياتيٌّ، حيث يكون الانتماء إلى أصولٍ أو عقيدةٍ أو حركةٍ ما، وتبني هذا الانتماء، وإعطائه الأولوية على كل الانتماءات الأخرى، هو المحدد الأساسي للهوية. فالأصولية «طريقةٌ دينيةٌ للوجود تتجلى في استراتيجية يحاول من خلالها المؤمنون المحاصرون الحفاظ على هوياتهم المميزة كأفراد أو مجموعات في مواجهة الحداثة والعلمنة»[92]. والهوياتية الأصولية انفصالية، بل انعزاليةٌ. وأحادية الأصولية تجعلها تختزل الهوية في أحد مكوناتها، مع إقصاءٍ للمكونات الأخرى من جهةٍ، كما تضعها في حالة عداءٍ مع الهويات الأخرى المحيطة بها، من جهةٍ أخرى. والتوجه الهوياتي للأصولية ليس مجرد توجهٍ ثقافيٍّ، بل هو توجهٌ سياسيٌّ يضع نفسه في مقابل الهوية الوطنية أو الهوية السياسية للدولة التي يوجد فيها. ومن هنا تنشأ علاقة التوتر بين الأصولية وفكرة المواطنة وواقع دولة المواطنة. فالاعتراف بالمواطنة يعني المساواة بين من يجب عدم المساواة بينهم، وتنحية الاختلافات الدينية، على الرغم من أنها الاختلافات الأهم والمؤسسة لهوية الجماعة الأصولية. ومن هنا تستهين الأصولية بالرابطة الوطنية أو المواطنية للدولة الحديثة وتهينها، لأن تلك الرابطة تساوي بين المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو الطائفية[93]. وهذه الاستهانة هي أحد العوامل التي يمكن أن تسوِّغ القول: “الإسلام السياسي لم يستطع على الإطلاق استيعاب تراث الدولة بمفهومه السياسي الحداثي، وإن استخدم مفردات حداثية، لتبقى الدولة أسيرة ومشروطة بشرط إسلامي تراثي طويل، لا الإسلام مشروطًا بشرط الدولة الحديث. الإسلام السياسي وتراث الدولة الحديث بقيا دائمًا ضدين، وإلى يومنا هذا”[94]. وقد تصل تلك الاستهانة إلى الإهانة، كما تجلى في القول الشهير المنسوب إلى مرشد جماعة الإخوان المسلمين، محمد مهدي عاكف: “طز في مصر”، و”طز في من لا يقبل الحكم الإسلامي في مصر”[95]. وفي إطار تبني مثل هذا الاتجاه، يظهر، في ذلك السياق، مفهوم “الأمة الإسلامية” على حساب مفهوم “الدولة الوطنية”، ومفهوم “تطبيق الشريعة” على حساب مفهوم “تطبيق القانون”، ومفهوم “الحاكمية الإلهية” على حساب مفهوم “حكم الشعب”، ومفهوم “أولي الأمر” على حساب مفهوم “المسؤولون (المنتخبون)”، ومفهوم “الرعية” على حساب مفهوم “المواطنون”… إلخ.
التوجه الأصولي الأحادي توجهٌ جماعاتيٌّ منغلقٌ، وهو، بالتالي، مضادٌ ليس، فقط، للرؤية المساواتية الإنسانية التي تساوي بين جميع البشر، من حيث الحقوق، من دون أي تمييزٍ، بل مضادٌ، أيضًا، للفردية التي تتضمنها تلك الرؤية المساواتية. ففي المنظور الأصولي، ليس للفرد قيمةٌ إلا من خلال انتمائه إلى الجماعة، وتبنيه لأفكارها وخضوعه لتعاليمها. وقيمة الفرد تتحدد على هذا الأساس الجماعاتي. أما الرؤية الحديثة الحداثية فتعطي الأولوية للفرد بحيث يكون كل فردٍ، بحد ذاته، ذا قيمةٍ مستقلةٍ وكرامةٍ ينبغي عدم مسها، وحقوقٍ ينبغي احترامها وعدم حرمانه منها، من دون مسوغٍ مقبولٍ ومعقول ومضبوطٍ أو محدودٍ بمنظومة حقوق الإنسان نفسها. أما الحقوق الجماعاتية فتتأسس على حريات الأفراد، وحقوقهم، وليس العكس، كما هو الحال في الرؤية الأصولية.
والانعزالية سمةٌ للأصولية أو وسيلة تتبعها في مواجهة الآخر الذي قد يلوث نقاء هويتها. وهذا النفور الأصولي العصابي من الاختلاف والتعدد يجعل حتى التعاون والتشبيك بين الحركات الأصولية ذاتها أمرًا صعبًا ونادرًا، في كل الأحوال. وحتى في حال حصول مثل ذلك التعاون والتشبيك، تحت ضغط معطيات سياقٍ ما، فإنه يبقى أمرًا تكتيكيًا وعرضيًّا في إطار استراتيجيةٍ انعزاليةٍ وإقصائيةٍ لكل آخر. ولهذا، ليس ثمة إطارٌ مؤسساتيٌّ يجمع بين الحركات الأصولية، حتى بين الحركات التي تتبنى توجهاتٍ شديدة التقارب والتشابه، وليس ثمة بنيةٌ هرميةٌ تراتبيةٌ تتضمن إمكانيةً (دائمةً) لإعطاء توجيهاتٍ وتعليماتٍ ملزمةٍ ممن هم في قمة هرم تلك البنية لمن هم في أدناها[96].
ونظرًا إلى أن الدولة الحديثة أمرٌ واقعٌ يفرض ذاته بقوةٍ في العالم المعاصر، فإن الأصوليين يواجهون هذا الواقع غير المرغوب بطرقٍ مختلفةٍ ومتباينةٍ، وفقًا لأوضاعهم وأوضاع كل دولةٍ، على حدةٍ. فمن ناحيةٍ أولى، هناك محاولاتٌ دائمةٌ لفرض العقيدة الأصولية على الدولة، لتفرض هذه الدولة، بدورها، تلك العقيدة الأصولية على الجميع، في داخل تلك الدولة وخارجها، قدر المستطاع. وأسلمة الدولة تعني إخضاع اللا-مسلمين (والمسلمين) فيها للإسلام (الأصولي)، واعتبار غير الأصوليين مواطنين أو رعايا من الدرجة الثانية، في أحسن الأحوال. وإضعاف علاقة الدولة المؤسلمة مع رعاياها غير المسلمين، أو المسلمين غير الأصوليين، يترافق مع السعي إلى تشكيل “أمةٍ إسلاميةٍ واحدةٍ ذات رسالةٍ خالدةٍ”. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، يمكن للأصوليين أن يتبنوا رؤيةً عالميةً لا تأخذ في الحسبان (كثيرًا) الدولة القائمة، انطلاقًا من التقسيم المثنوي للعالم. ويظهر ذلك في القسمة الفقهية القديمة للعالم التي تبناها سيد قطب، في السياق السياسي المعاصر: دار الإسلام ودار الحرب أو الكفر[97]. وإذا كان لدى الفقهاء في الماضي ما “يبرر” هذا التقسيم، فمن الواضح أن تبني هذا التقسيم لا يتناسب مع المنظومة السياسية والأخلاقية الحديثة والمعاصرة. لكنها الأصولية، التي لا ترى في التغير تقدمًا، ولا ترى ضرورات العالم الحديث، بل يمكن القول من منظورٍ ما، إنها لا ترى، أو لا تريد أن ترى، ذلك العالم مطلقًا.
القداسة الإلهية القهرية
ما الذي يعطي الأصوليين تلك الثقة المطلقة بالنفس، وتلك الرغبة في إقصاء المختلفين عنهم والهيمنة عليهم؟ يمكن البحث عن البحث عن الإجابة عن هذا السؤال، جزئيًّا على الأقل، في زعم الأصوليين أو اعتقادهم بأنهم يمثلون سلطةً مقدسةً، لا يأتيها الباطل من أي جهةٍ: السلطة الدينية المقدسة بوصفها سلطة الله. ومن هنا تعريف الأصولية بوصفها «تأكيد السلطة الدينية باعتبارها شمولية ومطلقة، لا تقبل النقد ولا التخفيض؛ ويتم التعبير عنها من خلال المطالبة الجماعية بالاعتراف العلني بإملاءات عقائدية وأخلاقية محددة مستمدة من الكتاب المقدس وتنفيذها قانونيًا»[98]. فالأصولية تزعم أنها تريد فرض كلمة الله وتعاليمه، لكن هذا يعني، عمليًّا، فرض كلمتها وتعاليمها. ويمكن للأصوليين المسلمين السنة المحاججة بأنه ليس في الإسلام (السني) سلطةٌ دينيةٌ، على النمط البابوي، أو على نمط حكم ولاية الفقيه الشيعي. فثمة (شبه) إجماع بين المسلمين السنة على أن الوحي قد انقطع بعد وفاة النبي محمد، وأنه ليس هناك شخص كلفه الله بالحكم باسمه[99]. لكن يبدو أن التمييز بين الدولة/ السلطة الدينية والدولة/ السلطة غير الدينية تقنيٌّ واصطلاحيٌّ، أكثر من كونه يعبر عن تمايزٍ مفهوميٍّ واضحٍ. فالدولة تكون أو تبقى دينيةً عندما يتم الحكم وصياغة القوانين والتشريعات، وتطبيقها، استنادًا إلى نصٍّ دينيٍّ مقدسٍ، وإلى فهمٍ أحاديٍّ لهذا النص، من قبل ثلةٍ من رجال الدين. والجدير بالانتباه إليه في هذا الخصوص أن الحلم الأصولي (السني) بتأسيس دولةٍ دينيةٍ، يسمونها دولةً إسلاميةً، اتخذ صيغةً مواربةً، في العقود الأخيرة خصوصًا، بتحوله إلى حلم دولة رجال الدين على النمط الطالباني. حيث يحكم رجال الدين، استنادًا إلى فهمٍ دينيٍّ يتم فرضه على الناس بدعوى أنه تعليمات الله التي يتضمنها النص الديني. وباختصارٍ، القتال أو التصرف باسم الله أو باسم المقدس (أو باسم أي مرجع سامٍ آخر)، واستنادًا إليه، بدعوى تنفيذ مطلبٍ إلهيٍّ، هو إحدى الخصائص الأساسية للأصولية في المشروع البحثي عن الأصولية[100]. ويخلط الأصوليون الإسلاميون بين الشريعة والفقه، بين الرسالة الإلهية والفهم البشري لها، فيجعلون الفقه شريعةً، ويفرضونه أو يسعون إلى فرضه بهذا الاسم.
أصولية فكرٍ أو حركةٍ ما لا تكمن في استنادها إلى نصٍّ ما من الماضي، وفي السعي إلى تطبيقه، بل تكمن، خصوصًا أو تحديدًا، في عدِّ ذلك النص مقدسًا، وسحب هذه القداسة على فهمها لهذا النص، ومن ثم سعيها إلى فرضه، أو بالأحرى فرض فهمها على الآخرين. ففي محاولة الفرض هذه تكمن أم المشكلات ويكمن أبوها أيضًا. ومن قداسة النص أو قداسة الفهم المتبنى لهذا النص، يستمد الأصوليون ما يعتقدون أنه مشروعية القيام بعملية هذا الفرض. فهم “المدافعون عن الله”، كما يشير العنوان الرئيس لكتاب بروس لورانس، الذي أحلنا عليه اكثر من مرةٍ في هذا النص. ومعارك الأصولية (الدينية) هي “معارك من أجل الإله”، كما يشير عنوان كتابٍ آخر، سبق الإشارة إليه، لكارين آرمسترونغ. وقد يكون من المفيد تحليل صورة الله في الفهم الأصولي للدين؛ إذ يبدو الله، في هذه الفهم، بحاجةٍ إلى من يدافع عنه، وبحاجةٍ إلى من يفرض أوامره ونواهيه على البشر، بغض النظر عن كونهم مؤمنين بها، ومقتنعين بهذه الأوامر والنواهي، أم لا. وبالحديث باسمه، وبامتلاك كل الصلاحيات، في هذا الخصوص، يتم تغييب الله تمامًا. كما يبدو “الدين الأصولي” منفصلًا عن الأخلاق أو عديمها، لأنه لا يتيح الحرية للأفراد أن يحددوا علاقتهم مع الله ومع أوامره ونواهيه، وفقًا لقناعاتهم واختياراتهم. ومن دون الحرية تنتفي المسؤولية، الأخلاقية والدينية، على حدٍّ سواء.
سيزيد اتضاح هذه العلاقة بين الأصولية والقداسة، خلال حديثنا، في الفقرة التالية، عن السمة الحرفية لفهمها للنص.
الحرفية الوثوقية أو الدوغمائية مقابل المجازية أو التأويلية مقابل المنظورية أو النسبية
ثمة ثلاث مفارقاتٌ، على الأقل، بارزةٌ وملازمةٌ للنقاش الدائر حول هذه السمة من سمات الأصولية. تتمثل المفارقة الأولى بأنه، من ناحيةٍ أولى، كثيرون يشددون على أهمية هذه السمة، وحضورها، في (معظم) الحركات الأصولية، وفي أن هناك من يؤكد، من ناحيةٍ أخرى، أنها ليست حاضرةً في أصولياتٍ كثيرةٍ، ومنها الأصولية الكاثوليكية، على سبيل المثال. وتبلغ المفارقة ذروتها، عندما يتبنى نصٌّ واحدٌ هاتين الأطروحتين معًا. وهذا ما نجده، أول وهلة، في كتاب روثفِن، حيث يبدو أنه يتفق مع الأطروحة الأولى، حين يكتب: «يميل الأصوليون في كل مكان نحو التأويل الحرفي للنصوص التي يقدسونها»[101]، لكنه يرى، لاحقًا، أن القول بالحرفية أو بعصمة النص لا يميز الأصوليين عن غيرهم، وبالتالي ينبغي عدم تركيز الاهتمام على هذه السمة[102]. وتتجلى المفارقة الثانية في القول، من جهةٍ أولى، إن السمة الحرفية للأصولية تنطبق، انطباقًا خاصًّا وكاملًا على السياق الإسلامي، إلى درجة سمحت لبرنارد لويس أن يكتب: «كل المسلمين انطلاقًا من وجهة نظرهم في القرآن أصوليون»[103]. «فتأويل النص الديني ليس واردًا في المجتمعات الإسلامية»[104]، وفقًا لمراد وهبة. ومن جهةٍ ثانيةٍ، ثمة من يرى أن كل تيارات الفكر الإسلامي القديمة – سواء القلة من “أهل الأثر” و”أصحاب الحديث” و”الظاهرية” .. أو الكثيرة الغالبة من “أهل الرأي” – قد قبلوا بالمجاز و”التأويل” لطائفة كبيرة من النصوص المقدسة[105]. أما المفارقة الثالثة فهي القول، من جهةٍ، إن الرؤية الحرفية مضادةٌ للتأويل، ومن ثم الحديث، من جهةٍ أخرى، عن “التأويل الحرفي”. وهذا واضحٌ في الاقتباسات السابقة.
لمناقشة الالتباسات التي تتضمنها المفارقات الثلاث المذكورة من الضروري ضبط معنى كلٍّ من الحرفية والتأويل.
في النصوص التي تناقش موضوع الأصولية، للحرفية معنيان أساسيان، على الأقل. يحيل المعنى الأول على النص المقدس، ويتمثل بالاعتقاد بأن هذا النص يتضمن كلام الله أو كلام الشخص المقدَّس حرفيًّا[106]، من دون أن يكون هناك أي تحريف بشري له، في هذا الخصوص. ووفقًا لهذا المعنى، كل المسلمين، (تقريبًا)، حرفيون، لأنهم يؤمنون أو يعتقدون أن القرآن هو كلام الله الذي لم يخضع لأي تعديلٍ أو تحريفٍ، من دون أن يجعلهم ذلك الاعتقاد أصوليين بالضرورة. فالحرفية التي نرى اتسام الأصولية بها، اتسامًا خاصًّا، تتعلق بالمعنى الثاني للحرفية، والمتمثل في الفهم أو التفسير الحرفي للنص، الذي يسمى أحيانًا تأويلًا حرفيًّا. لكن هذا يقودنا بالضرورة إلى التدقيق في معنى “التأويل”.
الحديث عن “التأويل” الحرفي حديث من خارج منظور الرؤية الحرفية[107]، لأن أصحاب التأويلات أو التفسيرات الحرفية للنصوص التي يرون وجوب تفسيرها حرفيًّا لا يعدون فهمهم أو تفسيرهم تأويلًا، بل يرون وجوب عدم التأويل في هذا السياق. فمحمد عمارة يتابع كلامه المقتبس آنفًا بالتمييز بين نصوصٍ يمكن تأويلها، ونصوصٍ أخرى لا مجال لتأويلها، فيكتب: «يكاد الإجماع أن ينعقد على أن ما لا يقبل التأويل من النصوص، وهو الذي يسمى في الاصطلاح الأصولي “نصًّا” هو القلة، بينما الكثرة في النصوص هي مما فيها للرأي والتأويل والاجتهاد مجال»[108]. هذا التقسيم للتفسيرات إلى تأويلاتٍ وغير تأويلات، وللنص القرآني إلى نصوصٍ يمكن أو يجب تأويلها ونصوصٍ أخرى يجب عدم تأويلها، ولا إمكانية لتأويلٍ مشروعٍ لها، يتعارض مع المنظور الهيرمينوطيقي الذي يرى أنه، من حيث المبدأ، كل فهمٍ أو تفسيرٍ هو تأويلٌ، بمعنى أنه يعبرٍ عن منظورٍ أو رؤيةٍ معرفيةٍ يمكن لمنظوراتٍ أو رؤىً معرفيةٍ أخرى أن تختلف معها. فمن المنظور الهيرمينوطيقي، القول بالتأويل يتضمن، بالضرورة، القول بالتعددية. أما المنظور الحرفي الأصولي فهو منظورٌ دوغمائيٌّ أحاديٌّ يرفض التأويل، لأنه يرفض إمكانية تعدد الأفهام والتفسيرات المعقولة، في سياقٍ ما.[109] كما أن التقسيم المذكور يفترض وجود معنى جاهزٍ وناجزٍ للنص مستقلٍّ عن قارئه أو متلقيه؛ كما يفترض أن النص جملٌ وأحكامٌ منفصلةٌ ومنعزلةٌ عن بعضها بعضًا، مع أن النص، بالتعريف والماهية والبنية، كلٌّ مترابطٌ، لا معنى لأي جزءٍ منه إلا من خلال ارتباطه بمعاني الأجزاء الأخرى. وحتى مفهوم التأويل الشائع في الثقافة العربية الإسلامية يربط التأويل بكلمةٍ أو جملةٍ أو جزءٍ من النص، وليس بالنص، بوصفه كلًّا[110].
في مقابل هذا المفهوم للتأويل، وذلك التقسيم، وتلك الافتراضات التي نراها معياريةً أو أيديولوجيةً أكثر من كونها وصفيةً أو دقيقةً، من الضروري إظهار تأويلية كل فهمٍ أو تفسيرٍ للنص، من خلال إبراز محايثة ما يسمى بالدائرة الهيرمينوطيقية لفهم أي نصٍّ أو تأويله. ويمكن لتلك الدائرة أن تتخذ صيغتين أساسيتين: الجدل بين الكلي والجزئي، والجدل بين الفهم والفهم المسبق. فعندما نقرأ أي نصٍّ، لا نقوم بإضافة معنىً إلى معنىً، لنصل إلى فهم النص، بوصفه كلًّا، وإنما يكون هناك استباقٌ أو تخمينٌ أو توقعٌ ما للكل، في عملية فهم أيٍّ من أجزائه. ويتم الوصول إلى ذلك الكل، من خلال فهم الأجزاء، لكن فهم الأجزاء لا يحصل إلا من خلال فهم ذلك الكلِّ. وعند حصولنا على فهمٍ كليٍّ ما لهذا النص، تحصل تغيراتٌ كثيرةٌ في فهمنا لأجزائه. ويمكن شرح هذا الجدل من خلال العلاقة بين سيرورة فهمنا للنص وفهمنا المسبق عمومًا. فالقارئ لا يأتي للنص إلا ولديه فهمٌ مسبقٌ عامٌّ لكثيرٍ من الكلمات والأفكار المتعلقة به، ويوجِّه هذا الفهم المسبق فهمنا للنص، من جهةٍ، ويمكن لفهمنا للنص أن يقوم بإغناء فهمنا السابق أو تعديله أو تعزيزه أو تصحيحه… إلخ، من جهةٍ أخرى. وهذا الجدل بين الفهمين ينتج فهمًا جديدًا يصبح هو بدوره فهمًا مسبقًا يحكم أو يوجِّه، جزئيًّا ونسبيًّا، سيرورات فهمنا اللاحقة، ويدخل في علاقةٍ جدليةٍ معها، وينتج فهمًا جديدًا مختلفًا، جزئيًّا ونسبيًّا، على الأقل، عن الفهم السابق.
والدائرة الهيرمينوطيقية المذكورة دائرةٌ وصفيةٌ، من حيث المبدأ، أي أنها تتحدث عما هو كائنٌ، وليست معياريةً تتحدث عما يجب أن يكون. والقول بسمتها الوصفية يعني أنها موجودةٌ في كل قراءةٍ وتأويلٍ، من حيث إن كل قراءةٍ أو تأويلٍ للأجزاء ينبنيان، بالضرورة، وبوعيٍ أو من دون وعيٍ، على تصورٍ ما لكلٍّ ما. ويحصل الانتقال من المعنى الوصفي/ غير المعياري للدائرة الهيرمينوطيقية إلى المعنى المعياري، حين نحاجج لصالح أو ضدِّ كلٍّ ما، و/ أو نقيم تراتبًا معياريًّا ما. وليس هناك مجالٌ للحسم الكامل للصراع أو الاختلاف بين تلك المحاجّات والتأويلات، والبرهنة على الأحقية الكاملة والمطلقة، لمحاجّةٍ ما على حساب كل ما عداها. وعلى هذا الأساس، ما ينبغي أن يسود، في هذا الخصوص، هو منطق الترجيح ومنهجية تقارب القرائن[111].
وانطلاقًا من هذه الرؤية للتأويل وللدائرة الهيرمينوطيقية المحايثة له، يمكن معارضة تقسيم الحرفيين للنص القرآني، أو بالأحرى تفتيته، وفهم (بعض) الأجزاء بمعزلٍ عن ذلك الكل، والزعم بلا تأويلية ذلك الفهم. فكل نصٍّ – دينيًّا كان أم غير دينيٍّ – يقدم ذاته بوصفه كليةً ناجزةً، وليس بوصفه مجرد أجزاءٍ مبعثرةٍ ومنفصلةٍ عن بعضها البعض. ويكون، دائمًا، أشبه ببناءٍ بحاجةٍ إلى إسهام القارئ، كي تتضح أو تكتمل أو تتجسد معالمه وأبعاده ومعانيه[112]. ومن حيث المبدأ، يمكن دائمًا إعادة بناء ذلك البناء، بإعادة ترتيب عناصره، وتغيير (بعض) سلم أولوياته وقيمه وأسسه ومبادئه ومقاصده أو غاياته. وانطلاقًا من ذلك، فإن النص، بالمعنيين الهيرمينوطيقي والأصولي للكلمة، خاضعٌ للتأويل دائمًا. وبدلًا من القول “لا اجتهاد في النص”، يمكن المحاججة بأنه “لا اجتهاد إلا في النص ومعه وبه وبدونه”.
الذكورية أو الأبوية: النظرة والمعاملة الدونية للنساء
بينت الدراسات وجود رؤيةٍ ذكوريةٍ أبويةٍ في جميع الأصوليات (الدينية). فعلى سبيل المثال، بيَّن العظم التقاطع والتشابه بين خطاب الأصولية البروتستانتية وخطاب الأصولية الإسلامية (السنية) في خصوص المرأة، من حيث مكانتها وتقسيم العمل والرؤية الجنسية[113]. وفي دراسته المقارنة للأصولية البروتستانتية التي ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية في بداية القرن العشرين، والأصولية الإسلامية الشيعية التي وصلت إلى الحكم في إيران عام 1979، رأى مارتن رايزِبورد أن الأصولية، في كلا الحالتين، احتجاجٌ ضد الاعتداء على المبادئ الأبوية في الأسرة، والاقتصاد، والسياسة. وبيَّن أن أعراض التدهور الأبوي الناتجة عن الحداثة أو عمليات التحديث، تتجلى، في المقام الأول في مجالات الأسرة والأخلاق الجنسية[114]. ويرى روثفين أن هناك وفرة من الأدلة التي تشير إلى إمكانية تطبيق نهج رايزِبرود على الأصولية، ليس في إيران وأميركا، فقط، بل، أيضًا، في العديد من الأماكن الأخرى التي تتأثر حاليًا بالتدين العام المسيس.[115]
وعلى الرغم من الحضور القوي والبارز لهذه الرؤية الذكورية الأبوية الدونية للنساء، في الأصوليات الإسلامية، ليس شائعًا تناولها وإعطاؤها الأهمية التي تستحقها، عند الحديث المفصَّل عن هذه الأصوليات، في الكتب المكتوبة باللغة العربية أو المترجمة إليها. ويرى الفكر الأصولي في المسائل المتعلقة بالمرأة والأسرة وتقسيم العمل والوظائف والاختلاط والعلاقات الجنسية أس المسائل وأكثرها أهميةً. ففي السياق الإسلامي المصري، ثمة من يرى أن «مشكلة المرأة والأسرة في المجتمعات الإسلامية، وتوزع الأعمال بين الرجل والمرأة ومسلك كل منهما في الأسرة وخارج الأسرة، هي في الواقع من أكبر المشكلات التي نواجهها اليوم […]»[116]. ويبدو حضور هذه المسائل طاغيًا في الخطاب الأصولي، حتى حين الحديث عن المسائل السياسية أو الاقتصادية. فعلى سبيل المثال، «دارت التذبذبات السياسية التي تعاني منها أفغانستان منذ مطلع القرن العشرين بشكل كبير حول “مسألة المرأة” ومسألة الفصل بين الإناث»[117].
وتبدو الأصولية الإسلامية المتجسدة في النموذج الطالباني في أفغانستان الأسوأ على الإطلاق، في هذا الخصوص. ففي تقريرٍ مشتركٍ قدَّمه إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة المقرر الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في أفغانستان ريتشارد بينيت، ورئيسة الفريق العامل المعني بالتمييز ضد النساء والفتيات دوروتي إسترادا-تانك، وصف الخبيران وضع النساء والفتيات في أفغانستان بأنه “الأسوأ على المستوى العالمي”[118]. وأكّد بينيت أنّ «النساء والفتيات يعانين في أفغانستان من تمييز شديد قد يرقى إلى حد الاضطهاد الجنساني، أو ما يُعرف بالفصل الجنساني، وهو جريمة ضد الإنسانية، حيث يبدو أن سلطات الأمر الواقع تَحكُم عبر ممارسَة التمييز النُظُمي بقصد إخضاع النساء والفتيات للهيمنة الكاملة». أمّا إسترادا-تانك فقد قالت، من جهتها: «فيما برزت ردود فعل عنيفة ضد حقوق النساء والفتيات في مختلف البلدان والمناطق خلال السنوات الأخيرة، لم يسجّل أي بلد آخر في العالم هذا الشكل من الاعتداءات الواسعة النطاق والمنهجية والشاملة التي استهدفت حقوق النساء والفتيات، كما هي الحال في أفغانستان». وشدّد الخبيران على أنّ «المراسيم الصادرة عن طالبان منذ سيطرتها على البلاد في آب/ أغسطس 2021 فرضت قيودًا واسعة النطاق على حقوق النساء والفتيات، بما في ذلك على حرية التنقل والملبس والسلوك والوصول إلى التعليم والعمل والصحة والعدالة. كما أثرت القيود تأثيرًا بالغًا على مشاركة النساء والفتيات في الحياة السياسية والعامة والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأدت إلى تفاقم العنف الزوجي والعنف الأسري ضد النساء والفتيات»[119]. والجدير بالذكر أن حركة طالبان أعلنت في أول مؤتمرٍ صحفيٍّ لها، بعد استيلائها على السلطة في 15 آب/ أغسطس 2021: «سنسمح للنساء بالدراسة والعمل ضمن إطار عملنا. وستكون النساء فاعلات جدًا في مجتمعنا»[120]. لكن من الواضح أنها نكثت بوعودها، كما تخوف وتوقع كثيرون.
ولا تحتاج الأصوليات إلى الوصول إلى السلطة، لإظهار نظرتها الأبوية أو الذكورية الدونية للنساء. ففي كتاب “الأخوات المسلمات وبناء الأسرة القرآنية”، الذي أشرنا إليه آنفًا، نجد أبرز معالم هذه النظرة الدونية، والمستندة، في هذا السياق، إلى نصوص أو رؤية حسن البنا (وسيد قطب)، بالدرجة الأولى، وهما، مع المودودي، (من) أبرز أو أهم رواد الحركة الأصولية الإسلامية. فهذا الكتاب ينص على أن “النظام الاجتماعي الإسلامي نظام فطرة”، وأن “خلقة المرأة تقتضي أن تلزم البيت”، ﻓ “مهمتها التي هيأها الله لها هي القيام على شئون الزوج المنزلية ورعاية الطفل”. ووفقًا لحسن البنا، “التفريق بين الرجل والمرأة في الحقوق إنما جاء تبعًا للفوارق الطبيعية التي لا مناص منها بين الرجل والمرأة وتبعًا لاختلاف المهمة التي يقوم بها كل منهما وصيانة للحقوق الممنوحة لكليهما”. ﻓ “للرجل الرياسة: رياسة البيت، ورياسة الحرب والجيش وقام بها على المرأة، فذلك توجيه الفطرة وضرورات الواقع”. و”الرجل قوام على المرأة ورئيس لها وطاعتها له واجب عليها”؛ وإذا حصل خلاف، بين الزوجين، فمن حق الرجل اتخاذ إجراءاتٍ تأديبيةٍ بحقها، في حين أنه من الأفضل للمرأة تقديم بعض التنازلات، لتجنب الجفوة والطلاق أو الإعراض. ويجب أن يبقى الطلاق في يد الرجل فقط “لتمام عقله وامتلاكه لنفسه وتحكمه في عواطفه …”. والمرأة ليست بحاجةٍ إلى تعلم القانون واللغات والفنون، “فالمرأة للبيت أولًا وأخيرًا”. و”المجتمع الإسلامي يكره الاختلاط، فللرجال فيه مجتمعاتهم، وللنساء مجتمعاتهن”. ويؤكد الكتاب تحريم الإسلام مزاولة المرأة الأعمال العامة، إلا عند الضرورة القصوى. وحتى في حال وجود مثل تلك الضرورة، يجب عليها عدم الخلوة بأجنبيٍّ مهما كانت الظروف. كما يشدد على أن “اشتراك المرأة في الحكم في أي صورةٍ من الصور مخالف لروح الشريعة الإسلامية، فالمرأة للبيت”[121]. ويرفض الكتاب “محاولة إخراج النساء من بيوتهن ليشاركن الرجال في ميادين الأعمال العامة” والمطالبات النسائية/ النسوية ﺑ “مساواة المرأة بالرجل”، ويرى أنها “مطالبات وادعاءات عريضة مضللة”.[122]
إن شيوع الرؤية الذكورية أو الأبوية، في جميع الأصوليات، يعطي أساسًا للمحاجَّة بأن «جميع الأديان الرئيسية هي في الأساس أبويةٌ، لأنها ظهرت إلى الوجود في فتراتٍ تاريخيةٍ بعيدةٍ عن عصرنا، عندما كان بقاء الإنسان يعتمد على تقسيمٍ صارمٍ بين عالم الذكور وعالم الإناث»[123]. ونعتقد بأهمية تجنب الخلط أو التوحيد بين الأصولية الدينية والدين، في فهمنا، ليس لهذه السمة من سمات الأصولية فحسب، بل في فهمنا لكل سمات الأصولية عمومًا. وفي مواجهة مثل هذه الأطروحة، في خصوص سمة الذكورية أو الأبوية، ينبغي التذكير بأنه في مقابل الأصوليات الدينية، ثمة، دائمًا، وفي كل الأديان، والدين الإسلامي من ضمنها بالتأكيد، تأويلاتٌ مضادةٌ للأصولية تحاجج بأن تلك الأديان تقول بالمساواة الأخلاقية والحقوقية بين الرجل والمرأة. وفي هذا الإطار، يمكن التذكير بتيارٍ حقوقيٍّ إسلاميٍّ يتبنى تأويلاتٍ للنصوص الدينية الإسلامية – القرآن خصوصًا أو تحديدًا – تقف على الطرف النقيض من تأويلات الأصولية. ولهذا التيار تسمياتٌ مختلفةٌ، منها: نسويةٌ إسلاميةٌ، إسلامٌ نسويٌّ، أنثويةٌ إسلاميةٌ، الحركة النسائية الإسلامية[124].
خاتمة
سعى هذا البحث إلى ضبط معنى الأصولية، وتحديد سماتها الرئيسة وتقديم نقدٍ (تفكيكيٍّ) لها. ففي خصوص معنى “الأصولية”، حاجج البحث بضرورة التمييز بين التحليلات والمعاني اللغوية والاصطلاحية والمفهومية للأصولية، وبضرورة تجنب إفراغ المفهوم من مضمونه الوصفي، واختزاله في رؤيةٍ معياريةٍ ازدرائيةٍ أو تحقيريةٍ. وفي خصوص السمات الرئيسة للأصولية، رأى البحث أفضلية عدم البحث عن هذه السمات بحثًا استقرائيًّا، وضرورة بنائها في نمطٍ مثاليٍّ، بالمعنى الفيبري للنمط المثالي. ويتطلب مثل هذا النمط المثالي إعادة صياغة الأسئلة الرئيسة المتعلقة بالأصولية، والتخلي عن المنطق ثنائي القيم لصالح منطق القيم المتعددة. فبدلًا من سؤال “هل هذا الطرف أو ذاك أصوليٌّ أم غير أصوليٌّ؟”، تكون هناك أسئلة مختلفةٌ، من قبيل: “إلى أي حدٍّ أو درجةٍ يتسم هذا الطرف بالأصولية؟” و”بأي معنىً؟” و”ما السمات الأصولية التي (لا) يتسم بها؟” و”إلى أي درجةٍ يتضمن هذه السمة أو تلك من سمات الأصولية؟”. فمثل هذه الأسئلة تبحث عن إجاباتٍ أكثر تفصيلًا وتحديدًا، ويمكن أن تسمح بتجنب الكثير من حالات سوء الفهم السائدة في مثل هذه السياقات. وفي سيرورة صياغتنا للنمط المثالي للأصولية، قدمنا بعض الملامح النقدية التفكيكية لسمات الأصولية وللمثنويات التي تتضمنها. ونرى إمكانيةً لاتخاذ ذلك النمط المثالي معيارًا وأساسًا نظريًّا لدراسة تعينات الحركة الأصولية في الواقع، لمعرفة مدى أصوليتها ومعنى هذه الأصولية، وسماتها. كما يمكن اتخاذ هذا النمط أساسًا لتعزيز أو تطوير النقاشات النقدية المتعلقة بالظاهرة أو الحركة الأصولية. وهذا ما نأمل القيام أو الإسهام به في أبحاثٍ نسعى إلى إنجازها في المستقبل المنظور.