ترافقني الغيوم الرمادية والشمس الحارقة على مدارِ السنة، وأنا أجتازُ المسافة من منزلي إلى معملِ النسيج الذي يقعُ في محافظةٍ مجاورة.
عشر سنوات وأنا أخرجُ فجرًا في الساعةِ الخامسةِ والدقيقة الثلاثين حتى أصل إلى مكانِ عملي في الساعةِ السابعة تمامًا.
تعدُ زوجتي قبل ذهابي قهوة تخرجُ من بخارها ألحان مرئية، تقدمُ معها قطعة حلوى وابتسامة أكثر حلاوة، تودعني بأدعيتها الصادقة وأكثر ما تتمناه هو أن يمنَّ الله عليَّ بعملٍ في مدينتي، فقد أتعبها تعبي، تسرعُ بعدها لإيقاظ أطفالنا، لقد رُزقنا والحمد لله بصبي أصبح في الصفِ الرابع وبنتٍ في الصفِ الثاني، ثُمَّ حددنا نسلنا، لأن طفلنا الثالث رفض أن يأتي إلا بعد أن تنتهي الحرب.
أربعة عشر عامًا مرَّ على زواجنا، أنا أحبُّ زوجتي كثيرًا وهي تبادلني الشعور نفسه، صداقة قوية تربطنا معًا، نتحدثُ طويلًا على سريرنا قبل النوم وعند الاستيقاظ، حتى إن طفلينا يسميانه سرير الحكايات، لأنهما يسمعان عليه أحاديثنا وتلك القصص التي أرويها لهم وأسألهم عنها كما تفعل معلمتهم في المدرسة، ثُمَّ أجعل ابني يغلبني في لعبةِ المكاسرة أو في لعبةِ الشطرنج وأمسكُ أرنبة أنف ابنتي وأسألها هذا لمن؟ فتقول سريعًا: هذا لي، كأنها تثبت ملكيتها لأنفها، فأمسكُ أذنها وأشدها قائلًا: إذاً هذه لي، وابتسامتان تكبران على فمي وفمها، كنا نقطفُ السعادة على الرغم من فقر الحال.
في صباح يومٍ ستتحقق دعوة زوجتي في ظهيرته، قلتُ لها بصوتٍ خافت داعيًا الله ألا تستيقظ حتى لا تسمعني: هل تريدين شيئًا يا عزيزتي؟
وإذ بها -عندما تريد- تسمعُ دبيب النمل، قالت بعينين مغمضتين: قنينة الغاز لفظت ذراتها الأخيرة.
انكمشَ وجهي وقلتُ: سأبدلها إن شاء الله.
ثُمَّ أسرعتُ الخطى باتجاهِ الباب، فما في محفظتي لا يكفي إلا لطلبٍ واحدٍ فحسب، صفعني طلب آخر على رقبتي وأنا أنتعلُ حذائي:
لا تنسى حليب الأطفال.
– تكرم عيونك أنتِ والأطفال.
– ومسحوق غسيل برغوة.
– تكرم عيونك أنتِ والغسالة.
– أعرف أني أثقلتُ عليك يا زوجي، ليدِم الله علينا سعادتنا.
–حسنًا …حسنًا …. أراكِ عندما أعود.
وإذ بصوتها يصلني وأنا أفتحُ باب المنزل:
– صحيح قبل أن أنسى، لم يبق في البيتِ حبة أرز واحدة، والسكر لن يكفي حتى المساء، حتى لا تقول لي لماذا لم تذكّريني.
– يا رب الصبر…سأجلبهم معي إن شاء الله، لا تحملي همًا.
همهمتُ وأنا أتنفسُ هواء الشارع: الحمد لله أنها لم تطلب أكثر.
وإذ بها ترسلُ طفلنا ورائي:
– ماما تسلّم عليك وتقول لك: اجلب معكَ قهوة، وإن استطعتَ بعض الموالح.
عدتُ للهمهمة: تُسلم عليَّ وهل تستحق الأربعون ثانية التي مضت على آخر مرَّة رأيتها فيها أن تسلم عليَّ.
وأضافَ الطفل: بابا أريد كرة ولا تقل لي إن شاء الله.
قلتُ له غاضبًا: لا تقل هذا يا ولد، أي شيء سيحدث هو بمشيئةِ الله.
– أنا آسف يا بابا، لكنك تُجيب إن شاء الله ولا تجلب معكَ شيء.
– اليوم سأجلب لك الكرة… بإذن الله.
ورحتُ أكلم نفسي كالمجنون قائلًا:
ما بال كل شيء ينتهي مع بعضه، هل خَرجَ المثل القائل “المصائب لا تأتي فرادى” من المطابخ؟
تمتمتُ: نحن سعداء، أجل، لكن ما أصعب قطف السعادة من شجرةٍ يابسة.
بعد أربع ساعات من وصولي إلى عملي، شَبَّ حَرِيقٌ ضخم، بدأ بشعلةٍ واحدةٍ، حاولنا السيطرة عليه لكن النار كانت تسبقنا، يبدو أن النارَ جائعة فجعة ومصرة على التهامِ كامل المعمل، إضاءة الصالة الرئيسية تكفي لقريةٍ كاملة، لكن بإيعاز من صاحبِ المعمل الذي بدأَ يلفظُ أنفاسه الأخيرة تم إطفاء الكهرباء، رحمه الله، على الرغم من ثروته الطائلة ولباسه الرسمي كان يحملُ مفاتيح فك وتركيب في جيبه مثل العمال، لقد أشرفَ على بناءِ المعمل وتركيب آلاته قطعة قطعة.
الظلام دامس، لم نكن نعرف أين نضع أقدامنا، نريدُ الوصول إلى الخزاناتِ من أجلِ أخذ ثيابنا ووثائقنا قبل أن تحاصرَنا ألسنة النار التي ترى طريقها جيدًا في الظلام.
صديقي عبد القادر لم يفكر مثلنا، إنه يريدُ إطفاء حريق عظيم بهمته العظيمة، ناديتُه بصوتٍ هرمٍ يرتجف:
– يا عبد القادر، اجلب أغراضك ولنخرج.
إلا أن عبد القادر لم يرد.
كررتُ ندائي بلهجة خائفة:
– عبد القادر، يا صاحبي
لم يصله صوتي، لقد لفظَ أنفاسه الأخيرة، لفظها عندما اختنقَ بأدخنةِ الحريق، لفظها عندما وصلت إليه ألسنة اللهب، لفظها عندما غرقَ بماءِ سيارات الإطفاء والطائرات التي تناوبت على تفريغِ حمولتها فوقه.
خرجنا من المعملِ وعيوننا تبكي عبد القادر وتبكي سدس عمرنا الذي التهمته النار.
عملتُ بعدها محاسبًا في مكتبٍ يقعُ وسطَ السوقِ، أخرجُ في الصباح وأعودُ بعد العشاء، أدخلُ يدَي في ظلامِ جيبي، أسحبُ مفتاحَ بيتِي بهدوءٍ كلصٍ، وعلى ضوءِ ذاكرتِي أفتحُ بابًا ًيُصدرُ أصواتًا تعلو على صوتِ زوجتي التي تغلقُ عينيها المتعبتين من العتمة، وقربها طفلانا يلعبانِ بصمت.
تسبقُ أفكارَ الطفلين المتفائلة أيديهم الخجولةُ حينما تجدُ في أكياسٍ أتركها على الأرض مأكولاتٍ بسيطةً أو حشائشَ يعتمدُ عليها الفقراء أمثالنا في طعامهم، بجانبِ المأكولات علبةُ مناديلَ مبللة بالأسى قبلَ أن تبللَها الدموع!
أذهبُ إلى مقدارِ كأسِ ماءٍ لأتوضأ به، فالماءُ نادرٌ في هذا الزمن، وخزانُ المياه مفروغ دائمًا، يتعجبُ من أنَّ هنالك بشرًا أشدَّ قساوةً من حجارته.
أُنهي صلاتي وأستلقي على الأرض، رأسي خليةُ نحلٍ تختلطُ فيها أشياءُ كثيرة؛ أنباءُ الحربِ الأهليةِ في بلدي، أخبارُ الأهلِ المشتتين، أسعارُ الموادِ الاستهلاكية التي تُزهقُ روحَ راتبِي في أيامٍ قليلة!
أطلبُ أوراقي لأكتبَ فكرةً بقيتُ أرددها طوالَ الطريق حتى لا تضيعَ مني، فأجدُ قلمي يلفظُ قطراتِ حبرِهِ الأخيرة، أُخرجُ لبَّ القلم، أنفُخُه، محاولًا إنعاشَهُ بصدماتٍ كهربائية من فمي، لكنَّ القلمَ يصرُّ على الجفاف… على الموت!
تتبخر الفكرةُ من رأسِي، ويحلُّ مكانها وشيشٌ، وضجيجٌ، وقرقعة، أرمي نفسي في الفراشِ هاربًا إلى عالمِ النوم.
بعدَ دقائق، دقائقَ فقط تطاردني إلى عالمِ نومِي أصوات انفجارات بعيدة لا آبه لها، لكني أنهض آبهًا بالخفقانِ الشديد للقلوبِ الثلاثة مِن حولي، أردُّ على تساؤلاتِ عينَي زوجتي الخائفةِ الحزينة بالشرود، ذلك الشرودُ هو جوابي الدائم، وعندما تأخذ أصواتُ الانفجارات تقتربُ وتقترب، نهرعُ إلى الحمَّامِ لنختبئِ بداخلِهِ، أمسكُ كتابًا أقرؤهُ هناك باطمئنان؛ هكذا كل يوم تقريبًا على هذا المنوال.
اليوم رفضَ ابني أن يذهب إلى المدرسة، لم ينفع معَهُ شدُّ الأذن، ولا التهديدُ بعقابٍ أقسى، جلسنا أنا وأمه حزينين، كانت دموعُ زوجتي لحنًا صامتًا تعزفُهُ عيناها على خديها، خرجَ صوتُها مهروسَ النبرات:
يا ويلي ضاعَ مستقبلُ ابني!
زفرتُ وقد انتقلتُ من الحزنِ إلى الغضب:
– تريدين الحق؟ مستقبلُهُ ضائع حتى لو ذهبَ إلى المدرسة!
ظهرَ استفهامٌ جائعٌ في وجهها، رددتُ عليها صارخًا:
– أيُّ مدرسةٍ هذه والبردُ سيّدٌ فيها، يمطُّ رأسَهُ من نوافذها، يخرمشُ أبوابَها، يتسلقُ جدرانها، يجلسُ على مقاعدها، يهطلُ من صنابيرها، ويسرحُ، ويمرحُ في باحتها؟ ويمدُّ لسانَهُ عندما يدخلها حواةُ المنظمات من دعمٍ نفسي وتمكين وضحك على الذقونِ، أيُّ مدرسةٍ هذه، وفيها مديرتان وبرميلُ مازوتٍ فارغ؟ حكومتان في مدينةٍ واحدة، منهاجان في حقيبةٍ واحدة وقلمُ رصاص مكسور، وممحاةٌ مأكولة، أيُّ مدرسةٍ هذه والشمس تسمح لغزاة السماء أن تسرح وتمرح في فضاءِ المدينة، ولا يحلو لها أن تتساقط صواريخها إلا في السابعةِ والنصف صباحًا موعدِ ذهاب التلاميذ إلى المدرسة؟ بالله عليكِ يا زوجتي، لو كانت هذه المدرسةُ في طفولتكِ هل كنتِ تحضرين فيها درسًا واحدًا؟
لم ترد… ودّعتني وراحت تنتظرُ عودتي مع أني ما زلتُ أمامها.
تأخرتُ كثيرًا على موعدِ عودتي، جلسَ ابني على درجِ باب الحديقة الذي يطلُ على الشارعِ مباشرة، ينتظرني وهو ساهم، مرَّ به رجلٌ يحملُ كيسًا ورقيًا بداخلِه بندقًا يختبئ في قشوره المحمَّصَة، ليغدو أشهى وألذ طعمًا، رآه ينظرُ للبعيدِ، يتلفتُ يمنة ويسرة، ويقذفُ الحصى محاولًا أَن يصيبُ عجلة مهترئة مرمية في وسط الطريق.
كان الرجل يقف تقريبًا منتصف عجلاتِ الدراجة الهوائية التي رسمها ابني على الرصيفِ بواسطة طبشورة، بدا كأنه يقودها، قدّمَ له حباتٍ من البندق، مانعَ بادئ الأمر، لكن قبضة يده الصغيرة أضعف من يدِ الرجل الكبيرة، فكَّ أصابعه المضمومة ووضع ست حبات.
عرَفَ ابني اسمَ البندقِ لكنه نسي مذاقه، أكله مرةً أو اثنتين على الأغلب، دخلَ مسرعًا، أعطى واحدةً لأمهِ وواحدةً لأختهِ الصغيرةِ وواحدة أمتصَ مِلحَها ثم كسرها بمتعةٍ غريبةٍ، وأكلها ببطءٍ شديدٍ ليبقى طعمُ البندقِ في فمه، وتركَ ثلاثَ حبات، وعادَ ينتظرني أمامَ بابِ المنزلِ.
رأى امرأةً أربعينيةً تمشي على عكازٍ، فقال “الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاها” كما علَّمته أن يقول عندما يرى مريضًا أو مصابًا، ورأى صبيًا يرمي كيسَ قمامةٍ جانب حاوية القمامة، فنهره كما أفعل.
وطالَ انتظارُهُ…
لم أكن قد انتهيتُ من عملي بعد، سمعتُ صوتًا قويًا جعلني أرتفعُ ثُمَّ أسقطُ من سقفِ غرفة نومي كجثة قلبها ما زال ينبض، كيف ذلك؟ كنتُ في عملي منذ لحظات!
كانت الغرفة فارغة فراغًا مزعجًا رغم وجود بعض الأثاث، تفوح رائحة هواء فاسد، تلفَّتُّ حولي متسائلًا: أين هي؟
شعرتُ بالخوف من ظلام لا أعتقد أنه هبطَ من السماءِ، بل ظلام صعدَ من الأرض، بحثتُ عمن ينجدني، لا دور لعينيّ، فقط يديَّ التي كلَّت وملَّت من البحث، قلتُ بضعفٍ: أين زوجتي؟ هل هي نائمة في مكانٍ آخر؟
إنَّ نومها كنوم العصافير، أستيقظُ كل يوم، فأجدُ عينيها تنظران إلى عينيّ، لكنها البارحة استيقظتْ وعيناها على فمي؛ تبحثُ عن حمرةِ امرأة رأتها تقبلني في حلمها.
كل صباح بعد أَن تذهبَ إلى وظيفتها، أمسكُ ثيابها الموجودة على كرسي مرآتها أشمُّ فيه رائحةَ الحب، ثم أعلِّقُها، صارت مع الوقت عادةً لي.
لكن…لماذا ثيابها معلَّقة؟ هل تركت عادتها؟
أسمعُ صوت فحيح لم أستطع تحديد جهته، يقولُ الصوت:
إنها في عالم آخر.
كيف حصل هذا؟ ومتى؟
إني أختنق، أين هي النوافذ؟ كيف أصبحت الستائر من حَجر؟ أين العقارب في ساعةِ الحائط؟
ما هذه الرائحة الكريهة، كنتُ أشمُّ روائح الثياب المغسولة؟ وعبق زجاجات عطرها، آه يا رأسي، أين أنتِ يا زوجتي؟
هل صرتُ رجلًا أرمل؟ وغدوتُ أبًا وأمًا بعد فقدانها؟
كيف سأصنع طعامًا لأطفالي؟ كم أكره الدخول إلى المطبخ.
ماذا سألبسهم؟ سأتدبر أمر الملبس، لكن ربط شعر ابنتي لا أستطيع تدبره، أحتاجُ رؤية أمي، سأزورها!
أمي يا أمي، لماذا لا أراها أيضًا؟ أين أنت يا أمي؟!
حبيبتي السابقة هنا! يبدو أنَّ الأقدار أعادتها إلي وستغدو زوجتي الجديدة.
رحمكِ الله يا زوجتي القديمة، يا أم أطفالي، لقد وعدتكِ ألا أتزوج بعدكِ، لكن حمل الأطفال كبير.
سمعتُ صوت أبي يضحك ويبارك لي، بل ويطلب حلوى وشرابًا بمناسبةِ زواجي الثاني، كيف حدث هذا؟ لقد مات أبي منذ ثمانيةَ عشرَ عامًا، وأنا الآن أراه يبارك زواجًا جلبَ لي السعادة وأنساني زوجتي المرحومة، هل أملك قلبًا قاسيًا لهذه الدرجة؟!
خرجتُ من المنزلِ لإحضار ما طلبه أبي، لم أستخدم قدميّ، أنا أستطيعُ الطيران، ها أنا بين السماء والأرض، مررتُ أمام بناء عال يكسوه زجاج أزرق، بدا كالمرايا يقعُ في شارعٍ مكتظ، أنا لا أرى نفسي! ماذا يحصل؟
عادَ صوت الفحيح: أنتَ ووالدك وحبيبتك السابقة، كلكم في عالمِ الأموات! وزوجتك القديمة وأمك على قيدِ الحياة.
حدثت جلبة أمامَ المنزلِ، لا تحدثُ عند عودتي بالعادة، حَدثت لأنَّي عدتُ محمولًا بعد إصابتي في استهدافِ السوق!
اقتربَ ابني، جثماني مسجى على سريرِ الحكايات، سمعَ أبطال الحكايات يبكون، كشفَ الغطاء عن وجهي فأدهشه أن عينيّ كانتا مفتوحتين على الرغم من موتي، بدوت كأني أنظر إليه بنظراتي الحزينة، بل خُيّل إليه أنّ عينيّ فيهما بقايا دموع، لمسَ وجهي البارد، طَبعَ قبلةً على خدي، فعادَ مكانها لونُ الوردِ، وعندما أغلقوا لي جفنيّ بكى بدموعٍ يؤمنُ أنها تنبعُ من غيمةٍ أو نهرٍ، وإلا فكيف تَنزلُ بهذه الغزارة.
عندما وضعوني في القبرِ وقبلَ أن يُهيلوا عليَّ الترابَ، سبقهم ابني ورمى حباتِ البندق وعادَ إلى سريرِ الحكايات الذي توقفت عليه الحياة.