ما الذي يفسر الهوس بإسرائيل؟

ليست مجرد بلد[1]

ترجمة حسن الخطيب

مقدمة المترجم

إن الدعم اللامحدود الذي يقدمه معظم الساسة الأوروبيون لإسرائيل منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، على الرغم من انقسام الشارع الأوروبي على نحو كبير حول الحرب الإسرائيلية على غزة يشكّل ظاهرة غير مفهومة بالنسبة إلى كثير من العرب. وعادةً ما يولي القارئ العربي الجانب السياسي النصيب الأكبر لفهم الدعم الغربي لإسرائيل بقيادة أميركا، وذلك من أجل حماية مصالحها في الشرق الأوسط وهذه مسألة مهمة بالطبع. لكن ما وراء السياسة الأوروبية هناك ارتباط أعمق منه مما لدى الأميركيين. فأوروبا لديها وعي تاريخي تشكل تدريجًا تجاه فلسطين ويعود لقرون طويلة يتشابك فيها العمق الديني، الاجتماعي، الثقافي، والسياسي. وقراءة هذا التشابك بين تلك المسائل كلها في سياقاتها التاريخية يشكل مدخلًا مهمًا لفهم ارتباط أوروبا على المستويين السياسي والشعبي بكل ما يجري في بلاد بعيدة جدًا عن حدودها. والمثير للانتباه أن أوروبا وعلى الرغم من انتقالها إلى العلمانية منذ زمنٍ ليس بالقريب ما زالت تطلق على أرض فلسطين مفهوم ‘الأرض المقدسة’، وتقدم دعمًا لامحدودًا لإسرائيل لدرجة أنها غيّبت حربًا مهمةً على حدودها الشرقية وهي الحرب الأوكرانية الروسية والتي ما زال الساسة الأوروبيون يصفونها بأنها مسألة أمن قومي بالنسبة إليهم.

ومن أجل فهم هذا العمق المتشابك للوعي الأوروبي الذي يشكل جزءًا مهمًا من مواقف الساسة الأوروبيين حيال الصراع العربي الإسرائيلي، أضع بين يدي القارئ العربي ترجمة هذه المقالة التي تبرز أهميتها في هذا الصدد لكونها تسلط الضوء على الارتباط الأوروبي بهذا الصراع من خلال أربع نقاط مهمة هي: تطور مفهوم الأرض المقدسة في الفكر الغربي المسيحي منذ العصور الوسطى، المشكلة اليهودية منذ القرن التاسع عشر في أوروبا، الصراع العربي الإسرائيلي والذي تعود جذوره إلى الهجرة الصهيونية الأولى إلى فلسطين منذ عام 1881. وأخيرًا مركزية القضية الفلسطينية في الوعي العربي والإسلامي.

وفيما يخص الترجمة من الناحية التقنية فقد آثرت الترجمة الحرفية قدر الإمكان، تاركًا للقارئ أن يحكم بنفسه في أن يتفق أو لا يتفق، خصوصًا مع المسائل والمسميات التي تختلف فيها المقالة مع الوعي العربي السائد في تلك المسائل. واتجهت لشرح المصطلحات والأسماء المحلية أو التاريخية في الحواشي السفلية، وليس في النص نفسه، وذلك تجنبًا لخلط النص بالشرح. أما ما ورد داخل النص بين قوسين، أو بين معترضتين فهو نقلٌ عن النص الأصلي.

النصّ:

يبدو أن أوكرانيا قد نُسيت، أمام التطهير العرقي في مكان آخر من العالم نحن متعلقون به بشدة. الأنظار كلها الآن تتجه نحو إسرائيل وغزة. لماذا يؤثر فينا ما يحدث هناك على نحو أعمق كثيرًا؟

أثارت حرب غزة التي اندلعت بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر مشاعر قوية خارج منطقة الشرق الأوسط. زار عديد من زعماء الحكومات الغربية إسرائيل مباشرة، واندلعت المناقشات والاحتجاجات في الجامعات، كما امتلأت الشوارع بالمتظاهرين. وبينما ترفرف الأعلام الإسرائيلية في أورك[2]، فإن مزيدًا من الأعلام الفلسطينية تظهر في أمستردام. لماذا يثير هذا الصراع هذا الاهتمام كله في أوروبا؟

بعض الإجابات عن هذا السؤال تبدو سهلة نسبيًا، والبعض الآخر أعمق كثيرًا. لكي نفهم لماذا لا يزال هذا الصراع، الذي يدور على بعد آلاف الكيلومترات في منطقة لم يزرها كثيرون من قبل، لكنه يؤثر فيهم، لا بد من النظر في جوانب عدّة. أقدم هنا أربع إجابات توضح كيف اكتسبت هذه البلاد وسكانها مثل هذه المركزية في الأرشيف الثقافي لعديدٍ من مواطني العالم.

أولًا: الأرض المقدسة

تتطلب الإجابة الأولى النظر إلى أعماق الثقافة الأوروبية. يدور الصراع العربي الإسرائيلي في قطعة من الأرض تقع بين البحر الأبيض المتوسط ​​ونهر الأردن، والتي تُعدّ الأرض المقدسة منذ العصور القديمة. وهذا هو موقع عديد من قصص الكتاب المقدس، التي أدت دورًا رئيسيًا في تشكيل الثقافة المسيحية منذ الإمبراطورية الرومانية. وكانت والدة الإمبراطور قسطنطين، هيلينا، هي التي أدت دورًا مهمًا في تحويل هذا الركن من الإمبراطورية الرومانية إلى ‘الأرض المقدسة’. عندما بحثت عن المواقع التي قيل إن قصصًا مركزية من الكتاب المقدس قد حدثت فيها؛ وعندما ظنت أنها وجدته، أُنشئ مكان مقدس هناك. وهكذا لم تعد البلاد هي المكان الذي حدثت فيه القصص المهمة فحسب، بل أصبحت أيضًا الموقع الذي صارت فيه تلك القصص ملموسة. وبذلك بدأت ‘الجغرافيا المقدسة’ تظهر بالتدرج، مع عديد من الأماكن التي يمكن أن يزورها الحجاج. وكانت الفكرة أن الله كان أكثر حضورًا في تلك الأماكن. وتعززت هذه الفكرة بحقيقة أن الأرض المقدسة كان يُنظر إليها في جميع أنحاء العالم المسيحي على أنها ‘الحبل السري للعالم’. وهذا بحسب كتاب النبي حزقيال (28:12). بناء على الاعتقاد أن القصص الحاسمة قد حدثت هنا: قصص الآباء إبراهيم وإسحاق ويعقوب، والملوك داود وسليمان، وخاصة تلك المتعلقة بيسوع المسيح. هذه القصص كلها لم تكن تُقرأ كنافذة على الماضي فحسب، بل كمبادئ توجيهية للحاضر.

تتضمن تقاليد رواية القصص المشتركة بين المسيحية المبكرة واليهودية التلمودية[3] فكرة أن الأرض المقدسة، وعلى نحو أكثر تحديدًا مدينة القدس، هي حقًا مركز العالم. هذا هو المكان الذي يقال إن الله فيه بدأ خلق العالم، ومن هذا المركز جاء بقية العالم إلى الوجود. ولهذا السبب فإن هذا هو أيضًا موقع نهاية العالم. ترى المعتقدات اليهودية المسيحية والإسلامية أيضًا أن القدس هي مكان نهاية الزمان ويوم القيامة ومجيء المسيح. أدت قدسية الأرض إلى تدفق الحجاج، والذي استمر حتى بعد سيطرة العرب على المنطقة. تمكن البابا أوربان الثاني من تعبئة عديد من الأوروبيين للحملات الصليبية بإعلان أن الأماكن المقدسة في خطر. وأدى ذلك إلى انفجار العنف الذي استمر أكثر من مئة عام وترك آثارًا عميقة في الوعي الجماعي في الشرق الأوسط. وفي الوقت نفسه، ضمنت الحملات الصليبية أيضًا أن تصبح فكرة الأرض المقدسة أكثر رسوخًا في الذاكرة المسيحية الغربية. يظهر الدور المركزي المخصص للأراضي المقدسة بوضوح في الخريطة التي رسمها رسام الخرائط هاينريش بونتينج 1518 بعنوان: “die ganze Welt in einem Kleberblatt” [4].

الصورة: خريطة هاينريش بونتينج التي رسمها عام 1851: “ganze Welt in einem Kleberblat”

ويمكن رؤية القدس في الوسط، بينما تتجمع حولها قارات أوروبا وآسيا وأفريقيا مثل ورقة البرسيم. ولتحميل الأمر معنىً أكثر وضوحًا: كان هذا التصور للعالم هو أيضًا شعار النبالة لمدينة هانوفر. لم تكن مدينتنا في المركز، بل القدس. وكان لذلك تأثيره في التعليم الأوروبي، الذي أدى فيه الكتاب المقدس دورًا مهمًا منذ العصور الوسطى. أصبح الأطفال أكثر دراية بجغرافية الأرض المقدسة مقارنة بجغرافية بلادهم. ومنذ القرن التاسع عشر فصاعدًا، عُلقت خرائط جدارية كبيرة للبلاد في المدارس والكنائس، بحيث نشأت الأجيال الجديدة وشكل البلد في أذهانهم. وحتى اليوم، فإن أسماء أماكن مثل القدس وبيت لحم مألوفة لكثيرين مثل مسقط رأسهم.

على الرغم من أن جزءًا كبيرًا من أوروبا قد أصبح الآن علمانيًا، إلا أن فكرة مركزية الأرض المقدسة لا تزال تجذب الانتباه والتركيز الكبير على الأحداث هناك. وصحيح أن تلك الخرائط لا تعكس جغرافية العالم الحقيقي، ولكن من خلال إحساسنا بالمناطق والاهتمام الذي نوليه لها، لا تزال الأرض المقدسة كبيرة على نحو استثنائي. لأن تلك البلاد تتمتع بهذا العمق الثقافي، ومن ثم الفكرة هي أن هذا ليس صراعًا بعيدًا، و’قضايانا’ على المحك هنا، بطريقة أو بأخرى.

ثانيًا: المشكلة اليهودية

إن خصوصية سكان تلك البلاد تساهم في الارتباط الأوروبي بقوة هناك. هذه المنطقة هي موطن لنحو نصف عدد اليهود ويقدر عددهم في جميع أنحاء العالم بحوالي 15.7 مليونًا؛ منهم 7.2 مليون يعيشون في إسرائيل. منذ أواخر العصور القديمة، كان لأوروبا وللشرق الأوسط تاريخًا معقدًا مع اليهود؛ فقد كان يُنظر إليهم على أنهم ‘الآخر’ الذي يضرب به المثل، والذي يستخدم للدلالة على نحو أكبر على الهوية الخاصة بالأغلبية. كان اليهودي في المقام الأول شخصية رمزية يُسقط عليها كل ما هو خاطئ. لقد أصبح هذا اليهودي المُتخيل هو العدسة التي يُنظر من خلالها إلى الجيران اليهود في الشارع. أصبح اليهود حاملين لجميع أنواع المعتقدات السيئة، حيث لم يكن من المهم كثيرًا ما إذا كان ما يعتقده اليهود أو يفعلونه بالفعل صحيحًا.

وبينما كان اليهود أقلية لا تذكر في كل مكان تقريبًا ودائمًا، إلا أن دورهم الرمزي كان كبيرًا. وبطريقة شبه هوسية، حُوّل اليهود إلى قضية دينية وسياسية وثقافية. بل أُعلنت في القرن التاسع عشر كمشكلة اجتماعية؛ ‘المشكلة اليهودية’. وكان جوهر الأمر هو أن اليهود لن يتلاءموا مع العالم الجديد الناشئ. حيث إن لديهم هوية معقدة يشكل فيها الدين والثقافة والعرق كلًا واحدًا. لقد تطلب العصر الحديث خيارات واضحة؛ الهوية اليهودية يجب أن تكون إما ًادينًا أو جنسية. ربط عددٌ من الأيديولوجيات الناشئة حل ‘المشكلة اليهودية’ ببرامجها، ومن ثم أصبحت حجر زاوية للخطط السياسية. لقد كان اليهود قضية سياسية أحبوا ذلك أم لا. دافع الليبراليون عن تحرير اليهود ودمجهم في المجتمع. كأفراد، كان على اليهود أن يكونوا قادرين على أخذ مكانهم في المجتمع مثل أي شخص آخر. كانت هويتهم اليهودية أمرًا دينيًا يمكن تجربته على انفراد. كان عليهم أن يصبحوا مواطنين عاديين، مثل الآخرين.

أصبحت مسألة اندماج اليهود رمزًا مهمًا بالنسبة إلى عديدٍ من الليبراليين، فقد ظهر أن أوروبا القديمة، التي كان فيها المسيحيون وحدهم قادرين على الوصول إلى السياسة والقطاعات الاقتصادية المهمة، لم تعد موجودة. وظهرت ديمقراطية حقيقية عندما تمكن اليهود من المشاركة في مفاصل الحياة كلها. في هولندا، على سبيل المثال، أراد ثوربيك[5] أن يُعين وزيرًا يهوديًا أول مرة وذلك بعد التعديل الدستوري لعام 1848. لكن الملك رفض ذلك، ولم يمنح الليبراليين هذه الرمزية. لقد توصل الاشتراكيون إلى حل خاص بهم؛ لا يهم خلفية الفرد، ويمكن أن يشارك الجميع في الصراع الطبقي. كان بإمكان اليهود إعادة تعريف أنفسهم كجزء من الطبقة العاملة، وكانت هويتهم الدينية والعرقية شيئًا من الماضي وليس لها علاقة بالمستقبل. ومن ثم فإن ‘المشكلة اليهودية’ ستحل نفسها تلقائيًا. ولكن في الوقت نفسه، نظرت الاشتراكية إلى اليهود واليهودية كشخصيات رمزية سلبية. بالنسبة إلى كارل ماركس، كانت اليهودية بمنزلة الشاشة التي تعرض كل ما كان يحتقره؛ الرأسمالية والطبقة المنفصلة التي ليس لها أي صلة عضوية مع عامة الناس، أي العمال. ولذلك كان على اليهود أن يحاربوا ‘اليهودي’ داخل أنفسهم. عندها فقط يمكنهم أن يصبحوا جزءًا من الطبقة العاملة الفائزة.

منذ عام 1875 فصاعدًا، ظهرت حركة سياسية جديدة جعلت من حل ‘المشكلة اليهودية’ القضية الرئيسية: معاداة السامية. قامت على فكرة أن اليهود لا ينتمون إلى المجتمعات الأوروبية. لقد سار كل شيء على نحو خاطئ عندما منحهم الليبراليون حقوقًا متساوية. لقد عطلوا الحياة الاقتصادية، وتلاعبوا بالسياسة، وهاجموا النسيج الاجتماعي للمجتمع من الداخل. وكان الحل الوحيد هو عكس اتجاه التحرر وعزل اليهود والتمييز، وطرد اليهود إذا لزم الأمر. وفي هذا السياق، توصل اليهود أنفسهم أيضًا إلى حلول، وقد أصبح هذا الأمر أكثر إلحاحًا لسببين. أولًا، لأن تصاعد معاداة السامية الحديثة وضع اليهود تحت الهجوم حتى في البلدان التي حصلوا فيها على حقوق متساوية – مثل فرنسا، موطن الليبرالية. ثانيًا، من خلال صعود الحركات القومية المتزايدة القوة والتي بدأت في الإمبراطوريات العظمى -هابسبورغ وروسيا والإمبراطورية العثمانية- في الاستعداد لعالم لم تعد فيه ‘الإمبراطورية’ بل ‘الدولة القومية’ هي التي تحدد النغمة. سعى عديدٌ من هذه الحركات القومية للتقارب بين أفراد المجموعة العرقية الواحدة مع منطقة محددة. وأصبح اليهود حجر عثرة؛ فقد عاشوا في كل مكان تقريبًا، ولكن لم يُقبَلوا في كثير من الأحيان كجزء من الحركة القومية الجديدة. لقد أصبحوا مشكلة في الانتقال من ‘الإمبراطورية’ إلى ‘الدولة القومية’.

وبالنسبة إلى الصهيونية، الحركة القومية اليهودية منذ نهاية القرن التاسع عشر، لم يكن هناك إلا حل واحد. كان لا بد من الحفاظ على المثال الليبرالي للتحرر، وكان لا بد من قبول اليهود في النهاية كمواطنين عاديين مثل بقية المواطنين. أما إذا لم يكن ذلك ممكنًا عبر الطريق الفردي، فيجب أن يتم عبر الطريق الجماعي. كان اليهود شعبًا مثل أي شعب آخر، وإذا مُنحوا دولة مثل جميع الآخرين، فإن ‘المشكلة اليهودية’ ستختفي. وكان موقع هذا الحلم القومي اليهودي هو Erets-Jisraël (أرض إسرائيل)، الأرض المقدسة. تلك كانت أرض اليهود البدائية، حيث عاشت المجتمعات اليهودية المتدينة لعدة قرون في المدن اليهودية المقدسة الأربع (القدس والخليل وطبريا وصفد)، والتي حوفِظ عليها من خلال المساهمات المالية من جميع أنحاء العالم. وكان هذا هو الموقع المذكور في الصلوات اليهودية اليومية بوصفه الوجهة النهائية للشعب اليهودي. لذلك يجب أن يصبح هذا المكان مركزًا للحكم الذاتي القومي اليهودي. وقد أدت هذه[6] الصهيونية، التي التزمت بها لفترة طويلة أقلية صغيرة فقط داخل المجتمعات اليهودية، إلى مناقشات فكرية كبرى ومن ثم إلى تزايد المشاركة السياسية للقوى الأوروبية الكبرى. كل منهم كان له رأي حول اليهود وما إذا كان يجب أن يكون لهم وطنهم الخاص أم لا. إن ما ينبغي أن يكون عليه مستقبل اليهود لم يكن يُنظر إليه على أنه مجرد قضية يهودية داخلية، بل كشيء يجب على الجميع أن يتحدثوا عنه علنًا.

أما النقطة الأعمق على الإطلاق للعلاقة مع اليهود في التاريخ الأوروبي فهي: المحرقة. لقد قدم الاشتراكيون القوميون ذلك على أنه ‘الحل النهائي للمشكلة اليهودية’. كان البعض يميل إلى النظر إلى المحرقة بوصفها صخرة غير مريحة في التاريخ الأوروبي، لكن كثيرين شعروا أن ذلك كان سهلًا جدًا. كان للهولوكوست علاقة كاملة بكيفية تحويل اليهود إلى ‘الآخر’ وإلى ‘مشكلة’. وهذا خلق مسؤولية كبيرة، أو كما قال آخرون، دَين شرف تجاه اليهود.

وبسبب هذه العوامل كلها، لم تكن دولة إسرائيل، التي أُسست عام 1948، مجرد دولة جديدة ظهرت في مكان ما في ‘الجنوب العالمي’ ما بعد الاستعمار. كانت أرض اليهود; اليهود الذين أُعلنوا كـ ‘مشكلة’، والذين شكلوا لقرون موضوع الهوس الديني والفكري والسياسي في أوروبا، والذين أصبحوا الآن الناجين من المحرقة. وهذا يعني أن حق إسرائيل في الوجود كوطن لليهود أصبح نقطة انطلاق لأغلبية السياسات الأوروبية. كان لليهود الحق أخيرًا في أن يكونوا أحرارًا، من دون أن يكونوا الآخر، أو المشكلة. وكان الألمان هم الأكثر صراحة في هذا الصدد. وفي الحرب الحالية أيضًا، يكرر مستشار الحزب الديمقراطي الاجتماعي شولتز ونائب المستشار من حزب الخضر هابيك هذه العبارة: إسرائيل هي دولة ستاتسراسون Staatsräson .[7]

ثالثًا: الكود الثقافي

ربما تكون الدولة اليهودية قد ظهرت، لكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن الجدل انتهى في عام 1948. إن الصراع العربي الإسرائيلي، الذي نشأ منذ عام 1881، عندما استقر الجيل الأول من الصهاينة في فلسطين العثمانية، أصبح في وقت لاحق متشابكًا مع الحرب الباردة. حيث أصبحت إسرائيل جزءًا من الغرب، وبالمقابل عديد من الدول العربية طلبت الدعم من الاتحاد السوفياتي. وفي هذا السياق، أصبح الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين مرتبطًا على نحو متزايد بأجندات سياسية وثقافية أوسع منذ الستينيات فصاعدًا. وهنا تكمن الإجابة الثالثة.

إن دعم مجموعة أو أخرى يصبح بمنزلة ‘كود ثقافي’، كما أظهر الباحث الإسرائيلي شولاميت فولكوف. إنها علامة التعرف إلى مجموعة أكبر من المعتقدات التي تكمن تحتها. يضمن هذا الرمز أن الأشخاص ذوي التفكير المتشابه يميز بعضُهم بعضًا. رمز واحد أو كلمة واحدة تكفي لذلك. وفي الوقت نفسه، يعني هذا أنه غالبًا ما يكون هناك قليل من المعرفة الحقيقية بالصراع.

في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كان هناك جدل حاد في الدوائر اليسارية حول من هو المستضعف الحقيقي: الإسرائيليون أم الفلسطينيون. وظهر الانقسام، حيث أصبح الموقف في الحرب الباردة رائدًا. أصبحت معاداة أميركا وانتقاد الرأسمالية ومعارضة المعتقدات الليبرالية الغربية والاستعمار والإمبريالية جزءًا من حزمة تضمنت أيضًا دعم القضية الفلسطينية. تنامى دور العلم الفلسطيني ليصبح ‘رمزًا ثقافيًا’ لأجندة يسارية تقدمية واسعة ومتقاطعة. كما أن موقف الحركة البيئية تمرد ضد الانقراض Extinction Rebellion مهم في هذا الصدد. فلا تقتصر هذه الحركة على النشاط من أجل سياسة مناخية أفضل، بل تربطها بالقضية الفلسطينية من خلال الاحتجاجات والمظاهرات العديدة.

الكلمة الرئيسة لتقاطع اليسار أصبحت الآن إنهاء الاستعمار. فهو بمنزلة منظور لفهم جميع الصراعات العالمية تقريبًا، وتُمنح إسرائيل وفلسطين دورًا رمزيًا بارزًا فيها. يُنظر إلى إسرائيل على أنها المستعمر القمعي القوي، بينما يُنظر إلى الفلسطينيين على أنهم المضطهدين الذين يشنون صراعًا محمومًا ضد نير الاستعمار. عديد من مجتمعات ما بعد الاستعمار تحاكي نضالات وآلام الفلسطينيين على أنها امتداد لنضالاتهم وآلامهم. وعلى الطرف الآخر من الطيف السياسي، كان الدعم لإسرائيل خلال الحرب الباردة منسوجًا في حزمة تمثل القيم الغربية والليبرالية والمؤيدة لأميركا والناتو. وبعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، أصبح موضوع إسرائيل متشابكًا أيضًا مع ‘الحرب على الإرهاب’ والنقاش الغربي حول الإسلام. وخصوصًا على الجانب اليميني من الطيف السياسي، أصبح يُنظر إلى إسرائيل الآن على أنها معقل للغرب في معركة عالمية ضد الإرهاب الإسلامي. وكان هذا جزءًا من بناء ثقافة يهودية مسيحية مزعومة، والتي كانت تتناقض مع الثقافة الإسلامية التي عُدّت متجانسة. ونتيجة لذلك، دُمج كلٌّ من اليهود وإسرائيل في المنظور الغربي المهيمن ووضعهم ضد الإسلام. ومن ثم أصبح يُنظر إلى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على نحو متزايد على أنه صراع ديني ثقافي بين ‘حضارتين’، وليس صراعًا سياسيًا على الأرض بين حركتين قوميتين متحاربتين.

وأدى ذلك إلى مناقشات ليست سهلةً في دوائر اليمين القومي المتطرف بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر. فهل أصبح اليهود الآن يشكلون تهديدًا لأوروبا أم أنهم في إسرائيل مركز متقدم لأوروبا؟ لقد أدى ذلك إلى احتضان جزء من اليمين المتطرف لإسرائيل واستخدام الأعلام الإسرائيلية كرمز، في حين أن الانزعاج بشأن اليهود في أوروبا لم يختفِ بأي حال من الأحوال. وتبين أن الدعم اليميني لإسرائيل عبارة عن طبقة رقيقة، كما هو الحال مع حزب منتدى من أجل الديمقراطية[8]، الذي قدم نفسه في البداية على أنه صديق لإسرائيل. وفي حرب غزة الحالية، كان منتدى من أجل الديمقراطية، الحزب اليميني البرلماني الأوروبي الوحيد وسط مجموعة صغيرة من زملائه المنتمين إلى أقصى اليسار من المصوتين ضد اقتراح يدين إرهاب حماس ويدعو إلى إطلاق سراح الرهائن. إن خطوط الصدع السياسية والثقافية والدينية في أوروبا والولايات المتحدة تؤدي إلى تورط كبير في الصراع وإلى فكرة أن ‘شؤوننا’ على المحك. واللافت في الأمر أن المسافة الجغرافية والثقافية والسياسية تبدو وكأنها تختفي إلى حد كبير، الأمر الذي يؤدي في بعض الأحيان إلى تحالفات غريبة.

رابعًا: فلسطين

الإجابة الرابعة في أن التشابك في هذا الصراع كبير جدًا، ذلك لأن عديدًا من المسلمين يعيشون في الأراضي المقدسة أيضًا. تُعدّ القدس ثالث مدينة مقدسة في الإسلام، وفيها مزارات لها قيمة دينية مركزية كبيرة لدى المسلمين في جميع أنحاء العالم: المسجد الأقصى وقبة الصخرة. وتنتشر صور ذلك على نطاق واسع ولا تمثل الانتماء الديني فحسب، بل تمثل أيضًا أجندة سياسية أوسع. منذ الستينيات، أصبح مصير المسلمين في الأراضي المقدسة عامل توحيد عالمي للعالم العربي والإسلامي. هناك كثير من الخلافات في العالم الإسلامي، لكن فلسطين أصبحت موضوعًا موحدًا، حتى بين السنة والشيعة. يُنظر إلى فلسطين في معظم أنحاء العالم العربي والإسلامي بوصفها المفتاح لحل المشاكل الكبرى كافة في المنطقة. وإن النشاط من أجل قضية فلسطين له تأثير ترابط، ليس فقط بين البلدان المختلفة، ولكن أيضًا بين الحكومات والسكان. وهذا يجعلها بمنزلة مانعة صواعق مثالية للحكومات الفاشلة؛ تمكنها من توجيه الانتباه إلى عدو خارجي وهدف خارجي.

تؤثر الأهمية الرمزية الكبيرة لفلسطين أيضًا في مجتمعات الشتات المسلمة في أوروبا والولايات المتحدة. من شأن هذا الموضوع أن يخلق الوحدة بين المجموعات الفرعية العرقية والدينية المختلفة. إن حقيقة استمرار القضية الفلسطينية لفترة طويلة وبلا أمل على ما يبدو لا تؤدي إلا إلى تعزيز دورها الرمزي. لقد أصبحت جزءًا من هوية أوسع. وعمومًا، فإن هذه الطبقات العميقة كلها في الأرشيف الثقافي الأوروبي هي التي تضمن حصول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني على اهتمام أكبر كثيرًا من أي صراع آخر. كان للحرب بين روسيا وأوكرانيا تأثير كبير، ولكن حتى هذا التأثير استُبدل الآن بحرب غزة. وفي الولايات المتحدة وأوروبا، أصبح الدعم العسكري لإسرائيل والدعم الإنساني للفلسطينيين له الأولوية الآن على أي شيء آخر. والأمر الأكثر إثارة للمشاعر هو أنه قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، طُرد الأرمن من ناجورنو كاراباخ. خرج ضد هذا التطهير العرقي أرمن الشتات فقط إلى الشوارع هنا وهناك في جميع أنحاء العالم، وقال العالم بضع كلمات عن الرفض وعاد إلى العمل كالمعتاد. أما التطهير العرقي في دارفور وطرد الأفغان من باكستان، والذي يجري حاليًا، فهو يحظى بقدر أقل من الاهتمام.

لماذا؟ الجواب هو أن المعنى الرمزي للأرض المقدسة وسكانها يضمن درجة عالية من التماهي. حتى الأشخاص الذين لم يزوروا هذه البلاد من قبل ولا يرتبطون بالمنطقة من خلال روابط عائلية، لديهم فكرة أن ‘شؤوننا’ على المحك. ويُبنى الالتزام القوي، في هولندا أيضًا، على عدة طبقات: التركيز ما بعد المسيحي على الأرض المقدسة كموقع مركزي في تاريخ العالم، وتشابك التاريخ الأوروبي واليهودي مع المحرقة كنقطة عميقة، والتفكير في ‘الحزم السياسية’ والمشاركة الواسعة للمجتمعات الإسلامية. ونتيجة لذلك، أصبح عددٌ من الموضوعات السياسية والثقافية الرئيسية متشابكًا مع المواقف من الصراع.

المراجع / المصادر:

1– نشرت المادة الأصلية باللغة الهولندية في موقع مجلة De Groene Amsterdammer في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023. الكاتب Bart Wallet بارت واليت- أستاذ التاريخ اليهودي في جامعة أمستردام.

2– مدينة هولندية تسكنها أغلبية مسيحية مؤيدة لإسرائيل.

3– استخدم الكاتب في اللغة الأصلية مصطلح “الحاخامية اليهودية” للدلالة على التقليد اليهودي المقدس المتمثل بالتلمود.

4– اسم اللوحة بالألمانية وتعني: العالم كله في ورقة برسيم.

5– ثوربيك هو سياسي هولندي ليبرالي كتب الدستور الليبرالي المنقح لعام 1848 ويُنظر إليه على أنه مؤسس النظام البرلماني الحديث في هولندا.

6– أعتقد أن الكاتب استخدم اسم الإشارة “هذه” لتمييز الفكر الصهيوني في بدايته عن أفكار الأجيال اللاحقة من الصهاينة وما طرأ على الصهيونية لاحقًا من تغييرات فكرية وأيديولوجية.

7– وهو المبدأ الأساسي للدولة الألمانية وكان المقصد من وراء استخدام هذا المصطلح أن وجود إسرائيل بالنسبة إلى ألمانيا هو أحد المبادئ الأساسية للفكر السياسي الألماني.

8– حزب هولندي يميني متطرف.

  • حسن الخطيب

    كاتب سوري، درس الحقوق في جامعة دمشق، بكالوريوس "دراسات شرق أوسطية" من جامعة أمستردام، طالب ماجستير "دراسات يهودية" في جامعة أمستردام. عمل محررًا في مجلة زمزم بين عامي 2018-2020 (مجلة أكاديمية باللغة الهولندية تصدر عن مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة أمستردام). منذ عام 2020 يعمل مستشار تواصل في مركز أمن المعلومات وحماية الخصوصية في هولندا. في عام 2021 صدرت له رواية بعنوان "رصاصة أخيرة" عن دار نون للنشر في تركيا.

مشاركة: