بيان ريحان

بيان ريحان

“لن تكوني في ألمانيا رئيسة مكتب المرأة، ولن تجدي فرصة عمل بسهولة، عليك أن تبدئي ليس من الصفر، بل من تحت الصفر، هنا حيث لا أحد يعرفك”. هذه الكلمات قالها زوجي لي في اجتماعنا الأول الذي كنّا نخطّط فيه لرحلة السفر إلى ألمانيا، اعتقدت وقتها أنها مزحة منه، لكن بعد وصولي واستقراري في ألمانيا، لم تصبح حقيقة فحسب، بل فاجعة أعيشها بشكل يومي. لم تكن الهجرة أو اللجوء خيارًا لي، بل تحمّلت الضربات كلّها، من حصار وكيماوي وطيران وغيرها من الأسلحة التي قَتَلنا بها الأسد، مقابل أن أبقى في بلدي وأتابع حلمي، حلمي الذي أصبح حقيقة في ظلّ حرب ضروس فتكت ببلدي. لطالما حلمت بأن أكون ذات شأن في بلدي وأن أصل إلى منصب سياسيّ أستطيع من خلاله إحداث تغيير في واقع النساء في بلدي. وقد دفعني هذا الحلم إلى أن أشارك في الثورة السورية منذ انطلاقتها. لا أذكر يومًا مرّ عليّ خلال ثماني سنوات قضيتها في سوريا، أكثر من سبعة أعوام منها في الغوطة الشرقية، والبقية في الشمال السوري، من غير عمل أو اجتماع أو مخطّط أعمل عليه من أجل مشروع جديد، أمّا الآن فأيامي متشابهة. حدّثت نفسي لأهدّئ من روعها فقلت لها: “لم تختاري الهجرة أبدًا، لقد أخرجوك بالباصات الخضراء اللعينة، لا تجلدي ذاتك فتلك الحرب الدولية لم تكن تحمل معها إلا خيارَين، الموت أو الخروج، لملمي جرحك وإياك أن تبكي أمام أحد، واحتفظي بذلك الجرح لنفسك، فلا أحد يعنيه هذا الألم، أحدهم سيقول لك: إنني أتمنى أن أكون مكانك فأنت في بلاد الفرص والنعيم، وآخر سيقول: اشكري الله لأنك ما زلت على قيد الحياة، أمّا المتضامن معك فسيقول لك: ابدئي حياتك من جديد. لذلك لا تخبري أحدًا.. وقِفي، فكم ردّدت: نحن قوم نُجيد البدايات الجديدة، هيا فهذه البلاد تنتظرك”. بدأت أبحث عن مفاتيح أتمكّن من خلالها من الاندماج في مقرّي الجديد، فبحثت عن كورسات للغة، واصطدمت بالإجراءات الطويلة المعقّدة، وعندما بدأت رحلة التعلّم، أدركت أنني لم أكن ألاحظ تقدّمي بالعمر إلا الآن، فاللغة تحتاج إلى عمر أصغر وممارسة أكثر لتتقنها، وبدأت أتخبّط في البحث عن فرصة للعمل أو التعليم، لأعود وأصارع من أجل الحصول على أوراقي الرسمية التي حرمني منها النظام السّوري بعد اعتقالي، وأدفع آلاف الدولارات مقابل ذلك، وأحرق دمي وأعصابي وأنا أنتظر تلك الورقة وأبحث عن أخرى، والكارثة تكمن في أوراقي الجامعية التي جدّدت حزني ووجعي بحرماني من التخرّج بعد الاعتقال. الناس هنا مختلفون، ليس السّوريّون والألمان، أو العرب والألمان والجنسيات الأخرى. لا، السوريون هنا مختلفون جدًّا عن أولئك الذين عشت معهم. أغلبهم موجود هنا منذ أكثر من خمس سنوات، قسم كبير يسمّي ما حدث في سوريا أحداث أو أزمة، وقسم يقارن بين ألمانيا الباردة وسوريا التي تعجّ بالحياة الاجتماعية، وقسم قليل فقط يشبهني، ذلك الذي يقول إنها ثورة.. فاتخذت قراري بألّا أبني علاقات إلا مع الذين يؤمنون بالثورة السورية، وأن أغلق بابي على نفسي، فلديّ الكثير من الأصدقاء والأحبّاء الذين أتواصل معهم عن طريق الإنترنت، وفعلًا شعرت بالارتياح، ولكن.. كان أول موقف عنصري أتعرّض له عندما ذهبت إلى مركز المدينة، ووقفت على محطّة الباص، وجاءت سيّدة ألمانية متقدّمة في العمر، ألقيت عليها التحية، فأخرجت محفظتها وقدّمت لي عشرة يوروهات، سألتها ما سبب ذلك، فقالت لي: اشتري فطورًا لك. قلت لها: شكرًا لقد تناولت فطوري قبل أن أخرج من المنزل. لتردّ عليّ: من أين أنت؟ فقلت لها: من سوريا. فقالت لي: لماذا تلبسين هذا اللباس اخلعيه فأنت بعيدة عن سوريا، لا تلبسي هنا الحجاب. فذهلت، لم أتوقع أن تقول لي ذلك، فقلت لها: أنا أحبّ لباسي وهو يعبّر عن ثقافتي، لا أحد أجبرني على ارتدائه. وقبل أن أكمل انفعالي، جاء الباص وأنقذني من هذا الموقف. وتتالت المواقف بعدها.. في البداية كنت أعدّها وأذكرها، فيما بعد لم يعد الأمر مهمًا بسبب كثرتها، حقيقةً لم أتوقّع أن أتعرض يومًا لهذه المواقف كوني محجّبة، بل أول فكرة كانت عندي هي أنني سأكون في بلد الحرّيات وتقبُّل الآخر لأُفاجَأ بوجود التنمّر والعنصرية وما إلى ذلك. ولعلّ أقسى صراع أعيشه هو وجودي بعيدة عن أهلي ورفاقي الذين ما زالوا يعانون ويعيشون في عدم الاستقرار، وقد بدأت أنا حياة جديدة، فلست هناك لأتقاسم معهم همومهم، ولا يعجبني هنا الذي يستنزفني من داخلي. أمّا الموقف الفاصل الذي سبَّب لي اكتئابًا نفسيًّا فهو الانتخابات الألمانية حيث بدأت حملات المرشّحين وبرامج الأحزاب المتنافسة. وعلى الرغم من ضعف لغتي، حاولت أن أفهم ما يحدث. بكيت بحرقة، فهذا ما كنت أحلم أن أمارسه في بلدي، وما طمحت إليه هو أن أترشّح للانتخابات، فهرعت إلى جهاز الكومبيوتر والهارد الذي أحفظ فيه جميع ذكرياتي وبحثت عن انتخابات المجلس المحلّي لمدينة (دوما) الدورة الخامسة، عندما فزت عن مقعد التعليم فابتسمت وبكيت. ثم سألت نفسي: هل سأتمكّن من الترشّح للانتخابات هنا في ألمانيا؟ لحظة لماذا في ألمانيا؟ هل أصبحت سوريا والعودة إليها ضربًا من الخيال؟ آه من كلّ هذه الأفكار والهواجس التي تكبّل روحي، نحن الذين أتينا إلى أوروبا في منتصف العمر، لم نتمكن من متابعة دراستنا في بلدنا بسبب الثورة، ولا أحد يعترف بعملنا هنا من غير شهادة. كثيرة هي الليالي التي تمنّيت فيها الموت، أو سألت نفسي: لماذا لم أمت هناك في تلك البقعة؟ لم أتوقّف أسبوعًا عن زيارة الطبيبة أو إجراء التحاليل، فتلك السنوات تركتْ آثارها في جسدي وأبقت ذكرياتها فيه لتنال منه. في ذكرى الثورة خرجت إلى فرانكفورت لأشارك في المظاهرة، ليصدمني العدد، فلم نتجاوز العشرين شخصًا. كانت المظاهرة مملّة، وفجأة هجمت مجموعة من الشبيحة المؤيّدين للأسد على المظاهرة، فتدخّلت الشرطة لفضّ الاشتباك. ارتفع الأدرينالين عندي، وشعرت بسعادة غامرة، للحظة تخيّلت إطلاق النار، لأستوعب أن هذا لم يحدث، لسنا في سوريا. (داني) صديقتي الألمانية التي كانت تتابع نشاطي أثناء وجودي في الغوطة جاءت لزيارتي في منزلي، وقد كانت سعيدة للقائها بي، وأهدتني كتابًا لجبران خليل جبران، فقلت لها: هذا ما ينقصني، هجرة وجبران. وانفجرنا ضاحكتَين. سأتمكّن من اللغة الألمانية أولًا، نعم، هذا هو هدفي الحالي لأعود وأقف على قدمي. فرص العمل صعبة جدًّا، والتعلّم أيضًا، كَوني تجاوزت الثلاثين. لذلك سأعمل في مهنة لن يشكل حجابي عائقًا فيها. نصحتني إحدى الصديقات بمهنة، وبدأت الإجراءات التي تمكّنني من إيجاد فرصة عمل فيها. لكنّ الأهم هو حلم الدراسة الجامعية، سأدقّ بابه من جديد، لكنه مؤجّل حاليًا. نعم، نحن الذين نجيد البدايات، نحن الذين صمدنا في الحصار، وفي كلّ ذلك الدّمار. نحن أنفسنا الذين نُهزم في كلّ ليلة تمرّ علينا في هذه الغربة، وفي بلاد اللجوء التي لا تُدرك قيمتنا، وتحكم علينا من خلال أشكالنا الخارجية، نحن الذين هرب الموت منّا في كل طريق اقتربنا منه. أَتَعرف ما هو أول سؤال سألته لزوجي عندما وصلت إلى ألمانيا: إذا متّ هنا أين سأدفن؟ فاستغرب زوجي من سؤالي وقال لي: ما هذا السؤال؟ فأجبته: وهل يحيا الثائر لفترة طويلةٍ بعيدًا عن أرضه.

مقالات الكاتب

منفى ووطن

“لن تكوني في ألمانيا رئيسة مكتب المرأة، ولن تجدي فرصة عمل بسهولة، عليك أن تبدئي ليس من الصفر، بل من تحت الصفر، هنا حيث لا أحد يعرفك”.

اقرأ المزيد »