في عام 2012 حطّت قدماي في غابات ألمانيا الكثيفة فجأةً بفضل قصّة حبّي الفريدة، من قلب دمشق إلى قلب ألمانيا الأخضر، إلى مدينة صغيرة، وصلت. لا ضجيج ولا فوضى ولا شيء يشبه ما تركته خلفي، سُكون لم أختبره في أيّ مدينة من مدن سوريا، ولا حتى في القرى البعيدة. منزل صغير دافئ، وأناس بعيدون، وملامح الحياة كلها جديدة. الحرب في سوريا لم تكن بعد قد بدأت والحرب في ألمانيا منذ زمن ليس ببعيد قد انتهت، لكنّ الألمان يبدون للوهلة الأولى أنهم لم يعرفوا طعم الهزيمة، جدّيون نشيطون ويصبغهم العناد، فيبدون أحيانًا كالأحجار أو الصّخر.
تجربة المنفى، تجربة الزواج، تجربة سوريا الجديدة التي لم تكتمل.. كل هذا كان تجربتي أنا وحدي.
في هذا المنزل الصغير أخبار المحطات العربية تُبثُّ على مدار الدقيقة، كي لا يفوتني خبر انتصار الحرية.
في اليوم متّسع من الوقت لقراءة كتاب وللاهتمام بقطة أو للجلوس في الحديقة، أما اللغة الألمانية فلا بُدَّ من تعلّمها وعلى طاولتي قاموس كبير، أوراق كثيرة ومصنّفات لا تحصى مليئة بالكلمات الجديدة.
يبدأ يومي قبل أن تقرّر الشمس أن تأتيني، أركب قطارًا متّجهًا إلى مدينة، لألتحق بكورس اللغة هناك، ففي مدينتي لم يكن الغرباء حتى اللحظة كُثُرًا، ولم يكن افتتاح صفّ لتعلِّم اللغة الألمانية أمرًا مُلحًّا.
في محطة القطار الثلج متراكم والهواء بارد وكل ما أرتديه يبدو خفيفًا، أقف في مهبّ الريح أنتظر قطارًا لن يتأخر أبدًا. كلّ من حولي يحمل كتابًا ويقرأ، وأنا أقاوم أن أتجمّد. أواسي نفسي فأكرّر، لن يتأخر القطار ولن أتجمّد.
كانت تلك السنة هي السنة الأكثر بردًا وسنة البدايات الأصعب.
كلّ البدايات صعبة، من صعود القطار إلى حجز التذاكر، كتابة الوظيفة والتعرّف بالمواد الغذائية الجديدة، فلا دكاكين عربية في مدينتي ولا محلّات لسندويش الفلافل. المواعيد مقدّسة فلا تتأخّر عن موعد حتى مع زوجك.
كل البدايات صعبة، كلما حاولت الالتزام بالمواعيد تأخّرت أكثر. وكلما حاولت نطق الكلمات بدقّة تلعثمت أكثر. وكلما حاولت ألا تبدو غريبًا أصبحت اللون الأقبح.
الكلّ ينظر إليك، ربما يترقّب خطأً أو زلّة، وأنت تراقبهم جميعًا لعلّك مع الوقت تتقن اللعبة وتصبح بيدقًا من بين البيادق أو ورقة من أوراق (الشّدّة).
في كلّ البدايات صعبٌ عليك أن تنسى.. وماذا أنسى؟
الوطن والأصدقاء والجيران ومكتب الجريدة، ذلك المكان وتلك الطاولة وزملاء المهنة، أن تنسى أصواتهم وهم يتناقلون ما كنا نسميه قبل الثورة خبرًا أو ضربة.
عليك أيضًا أن تنسى ألوان الطبيعة وأشكال البهجة والأماكن الجميلة التي صنعت لك هناك موقعًا ونغمة.
عليك هنا إنجاز المهمّة الأشقى، أن تصنع الألفة، وإذا تمكّنت من ذلك فستنجو.
باب الألفة هو المعرفة. أن تعرف العادة، أن تُحسن فهم الثقافة، أن تفهم نوع الفكاهة وفحوى النكتة. أن تتحرك في بلد الحرية في حدود المسموح والممنوع، أن تصبح جزءًا من القانون، فالهفوة سيعتبرها الألمان، منك أنت الغريب، أكبر مشكلة، سيتركون الأزمات كلّها التي تحدث في البلاد، وينظرون بعدسة المجهر إلى فعلتك السوداء التي لا تُغتفر ولا تُنسى، فعليك ألا تُخطئ.
بمرور الوقت، إن تجرَّأ أحدهم على الخطأ في حقك، حتى لو بكلمة، سوف تؤنِّبه بقسوة كما لم تكن تفعل، فقد تعلّمت أن تتسامح كما يتسامح الآخرون، وأن تغضب بموجب القانون.
قائمة النسيان تقصر، وقائمة المطلوب تطول.
أن تفقد الحنين هو أن تعيش قنوعًا في بلاد المنفى.
مرّت السنوات بسرعة، عشر سنوات عبرت.
أحاطتك العناية الإلهية بالأصدقاء الألمان المخلصين، فهم إمّا أن يكونوا إلى جانبك أو لا يكونون أبدًا، وأنت فعلت كلّ ما يجب عليك فعله كي تندمج، تحدّثت بلغتهم، فهمت نوع مرحهم، قرأت أخبارهم وكتبهم، حتى أنك فقدت بالتدريج محطّاتك العربية واحدةً تلو الأخرى، ومن دون قصد لم تعد تتّصل بأمّك في كل يوم أكثر من مرة، ومن دون انتباه أو نية لم تعد تتذكّر الأحاديث القديمة، نسيت مدخل البيت وصوت الجرس في منزل أهلك. أصبحت الذكريات أشباحًا أو أنصاف صور.
سوف تعلّمك الغربة معانيَ جديدة للألم، وتمزّق هويتك القديمة، وتصنع لك هوية من خشب، لا يزول محتواها إلا بالحرق.
لقد حصلت على الجنسية، ولم تفوّت فرصةً انتخابية، فأصبح لك منذ سنوات صوتٌ لا يُخنق.
كل الفصول السنوية اجتازتك، الشتاء في ألمانيا بارد وقاس، أما الخريف ملوّن ساحر، والربيع يُخرِج الألمان من جحورهم ليهتمّوا بالحديقة، والصّيف حارّ مزعج، والألمان بعد كل هذه السنوات يسألونك: لماذا تؤذيك الحرارة وأنت البدويّ القادم من سوريا؟
كل الأعياد الألمانية المسيحية والقومية حفظتك، والتاريخ في ألمانيا في كلّ المواقع لمسَك، ومنه تعلّمت الكثير. فوق هذا الجسر مرَّ الحلفاء، ومن تلك القلعة رصد الألمان جميع التحرّكات، وبسبب الغرور والحمق صنعت ألمانيا الحرب، ولم تستطع النصر.
لم تعد تقارن وتقول يومًا سننهض ونعمّر سوريا كما فعل الألمان، وحين بدأت تنسى المقارنة بين هنا وهناك، نسيت هناك.
أصبحت تنشغل حقيقةً من دون أيّ تزييف أو إجبار بما يشغل بال الألمان، ومن بين ما يشغلهم ويشغلك هو راتب التقاعد، وأين ستمضي آخر محطات العمر.
كلّ البلدان متاحة لإقامة طويلة أو رحلة او استراحة إلا بلدك، كلّ العائدين من هناك يرجونك ألا تعود حتى بهدف الزيارة، فلن ترى دمشق إلا حطامًا.
أنت واللاجئون الذين جاؤوا إلى ألمانيا تغيّرتم كثيرًا وغيّرتم ملامح المدينة، فأعدتم إلى ألمانيا الدكّان وأدخلتم دفتر الدَّين، نشرتم أطعمة مختلفة، سمع الكثير من الألمان موسيقاكم ومنهم من غنّى معكم، وتبادلتم التحية، ورسمتم لونًا جديدًا، وحاول كثيرون أن ينجحوا.