التعريب؛ من الأيديولوجيا والسياسة إلى الفكر

تمهيد

كانت قضية التعريب، وما تزال، مسألة ضاغطة على أبناء المنطقة العربية، منذ الاستقلال في أواسط القرن الماضي إلى يومنا هذا، إلى درجةٍ أُشبعت فيها جوانبها كلّها تنظيرًا وبحثًا من جانب مجامع اللغة العربية، وكثيرٍ من المفكرين واللغويين والتربويين والمتخصِّصين باللسانيات وغيرهم، ومع ذلك كان الإخفاق نصيب هذا الجهد، وتهميش اللغة العربية لمصلحة الحضور القوي للغات الأجنبية في مظاهر الحياة كلّها، حتى بات المسار المتحكِّم هو الاتجاه إلى مزيد من التغريب واقعيًا، خصوصًا مع السعي المتزايد لإتقان لغاتٍ أخرى كضرورة للتواصل في عصر الإنترنت والتكنولوجيا، على الرغم ممّا يُسبِّبه ضعف حضور اللغة العربية في المجال العام من تحدياتٍ ثقافية وعلمية وتقنية، فضلًا عن الإشكالات المتعلقة بالهوية والتواصل مع التاريخ والتراث.

كان هذا الإخفاق أيضًا مجالًا لدراساتٍ كثيرةٍ حاولت البحث في أسبابه؛ بعضها تناول طبيعة اللغة العربية وإمكاناتها من حيث احتمال وجود معوِّقات لغوية فنية، مع أنّ دراسات عديدة أكّدت كفاءتها وقدرتها على استيعاب التطور العلمي والمعرفي، والتعبير عن المستجدات العلمية والتقنية المعاصرة والمعارف الحديثة. وبعضها تعرّض للأسباب الإدارية وسوء التخطيط والبطء ونقص الاستجابة لدى مجامع اللغة العربية، وبعضها الآخر جعل من غياب الرؤية الشاملة والمتكاملة للتعريب سببًا رئيسًا، وتناول غيرُها العقبات السياسية، خاصة ما يتعلّق بوجود أنظمة سلطوية مهيمنة على الحياة الثقافية. من جهتنا، نرى أنّ إخفاق التعريب ومشكلاته يعودان، بصورة رئيسة، إلى عقبات سياسية وفكرية جوهرية، لا إلى عقبات أو مشكلات لغوية فنية شائعة وطبيعية في اللغات كافة.

أولًا: التعريب ضرورة

التعريب رافدٌ مهمٌ من روافد تحديث اللغة العربية واستمرارها، فهو بوابة رئيسة لصناعة مصطلحات جديدة، تُولَّد وتُكوَّن بآليات متنوعة، مثل النحت والتوليد والاشتقاق… إلخ، لتعميمها واستخدامها في ميادين مختلفة من العلوم والمعرفة، ما يدفع باتجاه تفاعل حقيقي مع الآخر، ويساهم في بناء جسر تواصل صحّي مع المشهد العالمي، ومن ثمّ سيكون التقصير فيه سببًا رئيسًا من أسباب فقر اللغة وتهميش أهلها وانقطاعهم عن العصر.

عرفت اللغة العربية التعريبَ في الماضي بحكم الاتصال بأمم وجماعات كثيرة، مثل الروم والفرس والأنباط والأحباش، ففي “الشعر الجاهلي” ما قبل الإسلام وُجدت ألفاظ مُعرّبة كثيرة، وفي مرحلة لاحقة استوعبت اللغة العربية المفاهيم والمصطلحات الجديدة التي برزت الحاجة إليها مع ظهور الإسلام، مثل الفقه والصلاة والزكاة، واستوعبت أيضًا مصطلحات عديدة متنوعة يتعلق معظمها بالمحسوسات والماديات والإدارة والاقتصاد والعلم خلال العهدين الأموي والعباسي، ومصطلحات أخرى غيرها خلال القرن العشرين مثل السيارة والطيارة والحافلة والشاحنة… إلخ.

التعريب عمومًا هو إعطاء فرد أو شيء أو كلمة ما طابعًا عربيًا، وقد استُخدم المصطلح في ميادين متنوعة. في مجال اللغة، يُعد “التعريب اللفظي” المصطلح العربي المقابل لكلمة transliteration في اللغة الإنكليزية، أي استعمال كلمة غير عربية بعد تطبيق أحكام وقواعد اللفظ العربي عليها ووزنها على أحد أوزان العربية، وبمعنى آخر؛ يعني التعريب اللفظي تجنيس الألفاظ لتصبح من جنس اللغة العربية وعلى هواها. يقول ابن منظور في لسان العرب: “تعريب الاسم الأعجمي أن تتفوّه به العرب على منهاجها. تقول: عرّبته العرب، وأعربته أيضًا”. ويكون التعريب اللفظي، بصورة عامة، إما بإجراء تعديل على الكلمة الأجنبية وصوغها وفق قالب أو وزن معروف في العربية، ومن ثمّ إخضاعها للمقاييس والقواعد التّي تمكن الاشتقاق منها، أو بإيجاد كلمة عربية تحلّ مكان الكلمة الأجنبية الوافدة. أما إذا نُقلت الكلمة الأجنبية إلى اللغة العربية من دون أيّ تغيير فتُسمّى دخيلة. وكثيرًا ما تُكسى الدخيلة كساءً جديدًا، فيُنسى أصلها، وتصبح جزءًا من اللغة التي انتقلت إليها إلى درجة لا يشعر أهل اللغة هذه بأنّها أجنبية أو دخيلة. توجد كلمات عربية كثيرة دخلت إلى اللغة الإنكليزية، وأصبحت جزءًا منها، مثلما يوجد عدد كبير من الألفاظ الأجنبية التي جاءت إلينا من الغرب، خصوصًا ما يتعلّق منها بالاختراعات التي هي من صنعه، وأصبحت جزءًا من اللغة العربية على الرغم من رفضها من هؤلاء المتمترسين وراء قناعات تجاوزها الزمن وتجاوزتها علوم اللغات، الذين تفوتهم حقيقة أنّ اللغة تتقوّى وتستمرّ في الحياة إن هي استوعبت الجديد وهضمته، وتضعف وتتقهقر إن هي انطوت على نفسها رافضةً التغيير.

ثانيًا: المشكلات الفنية للتعريب

تُواجه اللغات جميعها عقباتٍ وإشكالاتٍ فنيةٍ في أثناء عمليات النقل والترجمة، لكن هذه لا تشكِّل مبررًا كافيًا للتخلّي عن اللغة الأم أو تهميشها أو الدعوة إلى اعتماد لغة أخرى بديلًا منها. وهنا يتحدّد التفكير الإيجابي بالبحث عن كيفية تخطّي العقبات والإشكالات الفنية، وهذا ممكن غالبًا شرط تجاوز العقبات غير الفنية أولًا، ولعلّ أهمّها الرؤية التي ننظر من خلالها إلى اللغة ودورها، وهذه وثيقة الصلة حكمًا بالموقف من العالم والعصر، والدور المنوط بنا اتجاههما.

يمكن ذكر العديد من مشكلات التعريب الفنية، مثل غياب الضوابط الأكاديمية المتفق عليها لاستخدام التعريب اللفظي، وتعدّد خياراته وعدم توحيدها بحكم تعدّد المؤسّسات المسؤولة والمجامع اللغوية، ومنها أيضًا غياب معايير واضحة لاستخدام حروف الاستبدال عند التعريب اللفظي لمصطلحات تحوي أصواتًا أو أحرفًا غير موجودة في اللغة العربية، لكنّ أهمها هو إصرار المدرسة اللغوية التقليدية إن جاز التعبير على إيجاد مصطلحات عربية بديلة، مثل الإصرار على استخدام مصطلح (الحاسب أو الحاسوب) بديلًا عن مصطلح (كمبيوتر computer)، على الرغم من بقاء الأول بعيدًا عن الحياة العلمية والثقافية والعامة، وشيوع الثاني، والأمر نفسه حدث عندما استُخدمت كلمة (الرائي) تعريبًا لكلمة (television)، فكانت غير مقبولة أو مستساغة.

عادة ما تنتظر مجامع اللغة العربية إلى أن يصبح اللفظ الأجنبي شائعًا ثم تُعرِّبه، ما يؤدي إلى غلبة اللفظ الأجنبي على أي تعريب متأخر. في اعتقادنا، لا بدّ من الموازنة بين المصلحة العامة متمثِّلة بالشيوع والقابلية للاستخدام من جهة وقواعد اللغة وضوابطها من جهة ثانية، ولا ضير في ما لو اضطُررنا إلى إدخال الكلمة الأجنبية كما هي بحروف عربية، وهذه عملية معروفة وشائعة في اللغات جميعها تُسمّى “الاقتراض اللغوي أو الاستعارة اللغوية”، إذ تستعير لغة ما كلماتٍ من لغاتٍ أخرى للتعبير عن مفاهيم أو اختراعات جديدة لم يعرفها أهل تلك اللغة سابقًا، خصوصًا في حال كانت البدائل المقترحة ضعيفة أو أكثر صعوبة من الكلمات الدخيلة أو عندما يكون المصطلح الجديد من الألفاظ التي اكتسبت صفة العالمية، ودخل إلى لغات العالم كلّها، وأحيانًا يمكن اعتماد التعريب القائم على شرح معنى المصطلح أو وصفه، وهذه الطرائق كلّها تحتاج إلى قراراتٍ شجاعة وموحّدة.

ثالثًا: تسييس التعريب وأدلجته

واحدة من المشكلات الكبرى للتعريب تكمن في النظر إلى اللغة العربية بوصفها سياجًا للتراث والتاريخ والدين، وحافظة للهوية القومية والإسلامية لـ “الأمة”، لأنّ هذه الرؤية تمنع، على أقلّ تقدير على مستوى اللاوعي، استقبال الجديد خوفًا على اللغة، وتقبّل فكرة تحديث اللغة العربية في ضوء معارف العصر وحاجاته، ومن ثمّ تُطرح قضية التعريب في سياق هذه الرؤية التقليدية للغة العربية عمومًا. هاتان الأيديولوجيتان، القومية العربية والإسلامية، تمسكان بلباب عملية التعريب، بما تحملانه من عصبوية وانغلاق وعقد النقص تجاه الآخر المتفوِّق، لتكتسي عملية التعريب السائدة بالضرورة مسحة أيديولوجية تؤدّي إلى إخضاع اللغة للأيديولوجيا، وجعلها جزءًا من أدواتها في التعبئة والتحشيد والسيطرة. هذا جعل للتعريب وظائف أخرى غير تلك التي ينبغي له أن يؤدّيها، تحشره في سياق الأصالة والحفاظ على الهوية والتراث ومواجهة الغزو الثقافي والانكفاء على الذات.

من جانب آخر، ترتبط اللغة بصورة أو أخرى بالهوية، لكن ليس بالمعاني الأيديولوجية السائدة، بل بمعنى أنّ اللغة أداة التواصل والتفكير وخلق الوعي الجمعي وبناء الروح والوجدان والرأي العام. الهوية لا تُستنفد في اللغة، لأنّ إنتاج البشر، ماديًا وروحيًا وفكريًا، في الواقع الراهن، الآن وهنا، وفي المستقبل، أمرٌ حاسم في تبلور الهوية، وفي نموّها. اللغة والهوية متغيِّران، بينما تنظر الأيديولوجيات إليهما على أنّهما تكوّنا في الماضي، وما علينا إلّا الحفاظ عليهما، ومواجهة الآخر الذي يحاول اختراقهما، فمثلما عملت قوى الواقع المسيطرة على تسييس العروبة والإسلام وأدلجتهما، عملت أيضًا على تسييس التعريب واللغة والهوية وأدلجتها.

لا ينبغي للتمسك باللغة العربية أن يكون واجهة للعداء مع الآخر أو شعارًا تطرحه أيديولوجية قومية عصابية أو أيديولوجية إسلامية متطرفة، ومن ثمّ ينبغي للتعريب ألّا يخضع لرسم حدود ومعايير أيديولوجية أو دينية تمنعه من أداء دوره الضروري والمأمول في الإسهام في تحديث اللغة العربية ووضعها في سياق العصر.

عندما نفهم أنّ العروبة شيءٌ آخر مختلف عن أيديولوجيا القومية العربية، وعندما ندرك المسافة الفاصلة بين الإسلام والأيديولوجيات الإسلامية، ستكون أمامنا فرصة لبناء وجهة نظر عقلانية وعصرية تجاه اللغة العربية، ومن ثمّ إعادة النظر في مفهوم التعريب ووظائفه وأدواره. عروبة لا تتناقض مع وجود دول وطنية ديمقراطية مستقلة تشترك في اللغة، وفي مصالح أخرى، عروبة تسمح بتعريب عصري وبتحديث اللغة العربية، في حالة تشبه اشتراك دول عديدة في الثقافة الغربية، وفي اللغة الإنكليزية، وفي مصالح أخرى، على الرغم من كونها دولًا ديمقراطية ومستقلة.

ينبغي للتعريب أن يستند إلى رؤية فكرية حديثة، وأن يُجرّد من الأيديولوجيات التي تحاول أسره وقولبته ومنعه من فتح آفاق وآليات جديدة تتوافق مع الحداثة والعصر، اعتمادًا على رؤى قاصرة وضيقة تنطلق إما من تقديس اللغة العربية أو من الخوف على اللغة والهوية.

رابعًا: في حاجة التعريب إلى الفكر

اللغة نظامٌ من الأصوات والرموز والإشارات صنعه البشر تدريجًا عبر الزمن لتأمين التواصل في ما بينهم والتعبير عن أفكارهم، وهي تتأثر بالبيئة الاجتماعية، فتنمو وتتطور بتقدّم أهلها، وتضيع وتتلاشى بتراجعهم. لكن هذا التعريف للّغة، بوصفها أداة تواصلٍ وتعبير، أصبح بسيطًا أو ناقصًا، لأنّ معرفة مضامين المفاهيم والمصطلحات وآليات وأحوال استخدامها قد غدا جزءًا حيويًا من اللغة مع تقدّم المعرفة وكونيّتها. إن تعلّم أسماء الأشياء المادية أو الملموسة ربما يكون سهلًا، خاصة إذا كانت قريبة من أيدي البشر ونظرهم، لكنّ تعلّم المفاهيم المجرّدة صعب، مثل الحرية والدولة والديمقراطية، لأنّه يحتاج إلى ما هو أبعد من إتقان لفظ الكلمات، أي إلى الفكر. فمعنى كلمة (دولة) مثلًا في الثقافة العربية السائدة ليس نفسه في الثقافة الغربية، وهذا يأخذنا إلى أهمية وعي العلاقة بين اللغة والفكر لبناء رؤية فكرية إلى مسألة التعريب اللفظي تُطلقه خارج أسوار التقليد.

يرى بعض النظريات أنّ الفكر واللغة متصلان ومتزامنان ومتلازمان، أي أنّ العلاقة بينهما علاقة اتصال وثيق بحيث لا يمكن الحديث عن أسبقية أحدهما على الآخر، ولا وجود لأفكار خارج نطاق اللغة، فهما ينبثقان في آنٍ واحد أو هما شيءٌ واحد، وأنّ الإنسان يفكِّر داخل اللغة لا خارجها، وأنّ فعل التفكير لا يتحقّق بصورة مستقلة عن فعل الكلام، فالفكرة لا تكتسب وجودها الفعلي إلّا عندما تُصاغ لغويًّا، وهذه العملية هي ما تجعل الفكرة تتحقّق بالفعل، ومن ثمّ نتمكن من إدراكها. أما النظريات الأخرى فأكّدت الانفصال والتمايز بين اللغة والفكر، من جانب أنّ اللغة ذات طابعٍ موضوعيٍّ اجتماعيٍّ بينما الفكر ذاتي فردي، ورأت أنّ الفكر أقدم زمنيًا من اللغة، وأنّنا نملك من الأفكار أكثر ممّا نملك من الأصوات، وهو ما يعني أنّ اللغة عاجزة عن مسايرة الفكر.

بصرف النظر عن وجهتي النظر السابقتين، تبقى اللغة، في الحصيلة، وسيلةَ التعبير عن الفكر، فضلًا عن أنّ ما ننتجه من أفكار في اللغة يعود ويولِّد باستمرار أفكارًا جديدة، ما يعني أنّ العلاقة بينهما متداخلة وتبادلية؛ فاللغة تزوِّد الفكر بالمفاهيم وأدوات التعبير، والفكر يساعد اللغة في تجديد نفسها، أي أنّ اللغة تساهم في صناعة الفكر، والفكر لا يتجلّى أو يتمثّل إلّا باللغة.

لا تُختزل مشكلة التعريب المطروحة منذ عقود على الساحة العربية في مشكلات اللغة وقواعدها وآلية بناء المصطلحات، ولا في العقبات الإدارية أو المالية التي تعانيها مجامع اللغة العربية، بل تكمن أساسًا في أنّ المنطقة العربية ذاتها، بشعوبها ودولها وجامعاتها ومراكز بحثها واقتصاداتها، غير منتجة للمعرفة والثقافة والعلم، لأنّه من البديهي القول إن المنتجين وحدهم يمكن أن يكونوا شركاء في إنتاج المصطلحات وإثراء اللغة حقًا. وهذا يأخذنا بالضرورة إلى الأزمات السياسية المزمنة في المنطقة، لأنّ الإنتاج المعرفي والعلمي فيها رهن بالتحديث السياسي، بحكم تبعية الحقول الأخرى إلى السياسة.

التعريب السائد فعلٌ تابع أو تالٍ، بمعنى أنه يأتي بعد إنتاج الآخر، وهذه نقطة ضعف رئيسة فيه، لأنّه مقطوع عن سياق إنتاج الاختراع أو الاكتشاف الجديد، هذا الذي لا يُولد فجأة ولا يهبط في لحظة من السماء بل تسبقه عمليات عديدة قبل الولادة، وإنّ المشاركة في هذه العمليات لها دورٌ مهمٌ في اختيار المصطلح أو المفهوم الأكثر مقاربة. ما يعني أن تسمية الاكتشاف أو الاختراع أو المنجز الجديد ليست مسألة لغوية بحت بل مسألة فكرية في حيز العلوم الإنسانية، ومسألة علمية في حيز العلوم الطبيعية، وفي الحيزين الفلسفة حاضرة بصورة مؤكّدة.

في ميدان العلوم الإنسانية، التعريب عملية فكرية أساسًا، ولا يمكن اختزاله إلى عملية لغوية تقنية، فكلُّ مفهوم أو مصطلح هو تكثيف لفكر أو أفكار. مفهوم “المواطن” مثلًا هو نتاج عملية فكرية عبر التاريخ، ولذلك يأخذ المفهوم وقعًا مختلفًا عند الغرب عمّا هو عليه عند العرب، حيث يكون عندنا مقطوع الصلة عن السياقات الفكرية والتاريخية التي أنتجته، لذلك نحمِّل المفهوم أو الكلمة مضامين ومدلولات من تاريخنا، ليصبح متطابقًا مع العبد أو المسلم أو الرعية، في حين هو ابن سيرورة ثقافية تاريخية في الغرب، وتحوّل لديهم إلى مفهوم لا يحتاج إلى شرح في الحياة العادية، لأنّه يحمل مضامينه ودلالاته بنفسه.

كان تعريب الماركسية، بوصفها منهجًا علميًا في التفكير، يعني بالنسبة إلى ياسين الحافظ وإلياس مرقص مثلًا تبييئها في الثقافة العربية، وتوطينها في المجتمعات العربية، على عكس التيار السائد، خصوصًا الحركات والأحزاب الشيوعية العربية، التي حوّلت الماركسية إلى أيديولوجيا، واختزلتها إلى مقولات وشعارات، ما جعلها قشرة خارجية فحسب تفتقد إلى الدم واللحم والأعصاب، والأمر نفسه يُقال عن الحداثة وثقافة حقوق الإنسان اللتين ظلتا قشرة “برانية”، ولم يُصَر إلى توطينهما في الثقافة والمجتمع. لم تصبح الحداثة جزءًا عضويًا، أي روحيًا ووجدانيًا، من الثقافة العامة والثقافة السياسية؛ وما زالت المفاهيم الخاصة بالحداثة “برانية”، وتجري مطابقتها مع موروثنا الثقافي، فما حصل فعليًا هو تحديث التقليد، ولذلك ظل مفهوم المواطنة/المواطنين معادلًا لمفهوم الرعية، وظلّ الفرد عبدًا، والحزب السياسي قبيلة. بينما كانت الماركسية والحداثة وحقوق الإنسان في الغرب إنجازات “جوانية” ما سهّل دخولها إلى جوانب الحياة كافة.

يفيدنا هذا في الاستنتاج أنّ التعريب الحاصل على مستوى اللغة أيضًا تقليدي وسطحي وغير مؤثر فكريًا وروحيًا، وليكون عكس ذلك لا بدّ أن يكتسب معنى عصريًا عبر الاحتفاء بالتعريب الفكريّ إلى جانب التعريب اللفظي المعتاد. هناك مفاهيم ومصطلحات أصبحت كونية وعالمية، ولا يمكن لأيّ لغةٍ تريد العيش والاستمرار أن تستغني عنها، ما يعني أنّه ينبغي للغة العربية أن تهضم الكونيةَ، وتسير معها، لتستمر. في مستوى الفكر، عُرِّبت مصطلحات كثيرة لكن الفكر الذي أنتجها أصلًا ظلّ مرفوضًا أو على الهامش، كمن يريد الثمار لكنه يستنكر وجود الشجرة. لذلك نقول إنّ التعريب لا يزدهر إلّا في كنف الحداثة، أما التعريب الذي يقوده عقلٌ مسكونٌ بالخوف من الغزو الثقافي والتوجّس الدائم من الآخر فلا ينتج شيئًا. تزداد هذه الحقيقة وضوحًا عندما نكتشف واقعيًا تسارع عملية إتقان اللغات الأجنبية، لكنّه إتقان لا يتعدّى اللسان، أما إتقان اللغة بوصفها ظاهرة فكرية فما زال بعيدًا عن العقول والأرواح.

كلمة أخيرة

لا شكّ أنّ التغريب الذي يقرّ سلفًا بعجز اللغة العربية، ويدعو إلى تهميشها أو التخلّي عنها، يستند هو الآخر إلى عقد النقص وعدم الثقة بالذات، ويفتقر إلى قراءة حال اللغة في السياق التاريخي، وأحوال أهلها ومكانتهم الراهنة في العالم، تمامًا مثل أنماط التعريب السائدة في معظمها. على العموم، لم يأخذ التعريب أهمية توازي الحاجة إليه في السياق العربي المعاصر، وظلّ عملًا موسميًا خاضعًا لقرارات سياسية أو رسمية، ما جعله مقصورًا، في الأغلب الأعم، على المستويات الأكاديمية والمؤسّسات الرسمية. إلى جانب هذا العجز، أدّت العولمة اللغوية إلى هيمنة اللغة الإنكليزية في البلاد العربية في المجالات الثقافية والعلمية والعامة. لكن ما يبعث على التفاؤل قليلًا هو أن اللغة العربية، على الرغم من التقييدات كلها، السياسية والأيديولوجية والثقافية والفنية، قد تطورت نسبيًا لأنّ الواقع وحاجاته في الحصيلة أقوى من الأيديولوجيات والسياسات السائدة.

التعريب آلية لنكون في العالم، ومع العالم، وداخل العصر، وليس آلية للانكفاء على الذات أو الانعزال أو مواجهة العالم، آلية تستند إلى الثقة بالذات لا إلى الخوف من الآخر. من لا ينفتح على العالم، ولا يواكب التطور الحاصل في المجالات الفكرية والعلمية المختلفة بلغته، يبقى خارج التاريخ لا محالة، ذلك أنّ الإنسان لا يكون فاعلًا حقًا في الاجتماع الإنساني، ولا يمكنه أن يقدِّم شيئًا إلى الآخر أو إلى المشهد الكوني، إذا لم يتمكن من التحاور معه لغويًّا وثقافيًّا، ما يفرض عليه أن تكون لغته مواكبةً عصره. على التوازي مع ذلك، وبالقدر ذاته، لا يحصل التقدّم من دون الإمساك بناصية اللغة التي صيغت بها الأفكار والعلوم والظواهر الحديثة، والعمل على نقل المعارف هذه إلى لغة الذات، بهدف توطين العلم وأسباب المعرفة في تربة الذات.

مشاركة: