اهتداءً بمقالة عن المجاز المفضل الذي يراه المترجمون معبِّرًا عن ممارستهم للترجمة، أختار السكّة الحديدية. أرى خطين متوازيين يمتدان حتى خط الأفق، الكُتّاب من إحدى الثقافات والقرّاء من ثقافة أخرى، ويلعب المترجمون دور العوارض الخشبية التي تحول بين الخطين وبين التنافر أو الافتراق، وتثبّتهما على أرضنا الواحدة، وتبقيهما على مسافة قريبة. تحافظ كل لغة وكل ثقافة على خصوصية ما، على الرغم من التأثير المتبادل بين الثقافات وحركات الهجرة والتنقل واللجوء وما سبقها من استعمار أو حتى تبادل تجاري. بالنسبة إليّ، أعتبر المترجم قد أدى دوره إذا تفهم القارئ غرابة النص عن الثقافة التي تشبّع بها واعترف بحق تلك الثقافة المختلفة في الوجود والتعبير، ثم إذا شاء، قد يكتفي من قراءة الترجمة بالمعرفة والاستنارة ويبقى على مسافة آمنة تحميه من الذوبان في المنجز الإنساني المختلف وتجعله غير بعيد عنه في الوقت نفسه، أوقد يبدأ في التفكير والتساؤل وإعادة التقييم. اختياران يتيحهما وجود تلك العارضة الخشبية، التي لا توحد، لكنها تربط بين متباعدَين في رحلة واحدة.
لم تكن الترجمة مهنتي الأولى، بدأتها بعد أن انخرطت في دراسات أخرى واشتغلت بوظائف بعيدة عنها كل البعد، إدارة الأعمال وتطوير البرمجيات وعلوم الحاسب والعمل في التدريب على هذا المجال لسنوات طويلة. امتهنت الترجمة في وقت متأخر، وكانت أولى ترجماتي كتاب رحلة هاملت العربية-أمير شكسبير وشبح عبد الناصر، لمؤلفته مارجريت ليتفين، أستاذ الأدب المقارن في جامعة بوسطن، والذي صدر عن المركز القومي للترجمة في 2017. لذا راق لأستاذي المترجم الراحل خليل كلفت تشبيهي بالنابغة الذبياني، لبدايتي التي رأى أنها قوية مع أنها متأخرة. لحسن الحظ، تتلمذت مهنيًّا وإنسانيًّا على أيدي ثلاثة أساتذة رحلوا جميعًا بعد أن تركوا إرثًا قيِّمًا وقِيمًا أعتز بها. أذكرهم بترتيب زمنيّ، المترجم الراحل بشير السباعي، عمّي، الذي كان لي مثلًا يحتذى منذ طفولتي لعصاميته واجتهاده وإخلاصه الشديد في عمله، وإليه يرجع فضل تعرفي إلى مجال الترجمة عندما سمحت ظروف حياتية بالتعامل شبه اليومي بيننا على مدى خمس سنوات. ثم أستاذي المترجم الراحل خليل كلفت، الذي لم يكتفِ بدور المعلم بل ربطتني به وبأسرته الصغيرة علاقة إنسانية في فترة رائعة، وكان يقدمني بكلمة “ابنتي” في تصريح واضح بتبنيه لمسيرتي وتشجيعي للحصول على درجة جامعية ثانية للتخصص في الترجمة، كما أدين له بتمكني من الفصل الموضوعي بين دور القارئة ودور المترجمة. ثم المترجم الراحل أحمد يوسف، مرهف الحس، الذي أثرى وجداني بترجماته وكتاباته عن السينما والموسيقى. لا يسعني أن أبدأ حديثًا عن علاقتي بالترجمة من دون الاعتراف بفضلهم ودورهم في المنجز الذي حققته، والذي أعتبر درته ترجمة كتاب المجتمع القديم-أبحاث في مسارات الارتقاء البشري من الوحشية عبْر الهمجية إلى الحضارة لمؤلفه لويس هنري مورجان والذي انتهيت منه في 2019 لصالح المركز القومي للترجمة بالقاهرة ولم يصدر بعد، حتى وصلت في السنوات الأخيرة إلى ترجمة الأدب الروائي الذي يعرض لقضايا الأعراق والطبقات والنسوية بطريقة ربما تكون أكثر قربًا وتأثيرًا بالنسبة إلى القارئ العادي، مثل رواية حرائق كثيرة في كل مكان للأميركية سيليست إنج، ورواية اترك العالم خلفك للأميركي رُمَان علَم، وكتاب الاعتذار للمؤلفة والناشطة النسوية الأميركية إيف إنسلر، وصدرت جميعها عن دار الكرمة بالقاهرة.
كان امتهان الترجمة منعطفًا مؤثرًا في حياتي وشخصيتي. لمست ذلك البون الشاسع بين التعامل الحاد مع الأرقام والشفرات والتعامل المرن مع الكلمات واختلاف الثقافات. الأبجدية التي استخدمتها سابقًا لتطوير برمجيات تؤدي مهمة ما على الحاسب في هيئة أوامر ومعادلات تربطها رموز حسابية ومنطقية لها نتائج محددة هي ذاتها الأبجدية التي أترجم منها إلى العربية نصًا تفيض أفكاره بنتائج لا نهائية وتصورات لا حصر لها. غنمت من الترجمة الأفق الواسع والصدر الرحب والانفتاح على الاحتمالات. تقلصت مساحة اليقين مفسحة مجالًا واسعًا للممكن. استطعت تخطي حاجز الرقابة الذاتية وأنا أضغط لوحة المفاتيح بسرعة تعجز عن مواكبة سرعة تدفق المعاني الموازية وتوارد الكلمات المعبرة. لكن تظل ممارسة فعل الترجمة نفسه نوعًا من الأسر، أسوار وراء أسوار كلما عبرت أحدها برز الآخر متحديًا. فحينًا أجدني أمام نص في الأدب المقارن أصارع فيه للموازنة بين ترجمة لا تُعجز القارئ لكنها ملزمة بالحفاظ على نبرة صريحة توضح أن هذا النص يعبر عن رؤية الآخر بمصطلحات نقدية لن تجوز معها المناورة. وحينًا أجدني أمام نص روائي زاخر بتعبيرات عامية لا يجد الكاتب غضاضة في الإكثار منها، أو إنجليزية متكسّرة تنتهك عن غير قصد قواعد النحو لتتردد بصعوبة على ألسنة مهاجرين توّاقين إلى التعبير عن أنفسهم وتوطيد أقدامهم في أرض غريبة، إن استُخدم مقابلها في الترجمة العربية بدقة قد تكون النتيجة نصًّا مهلهلًا من وجهة نظر سياسة تحريرية ما. وأجدني دائمًا تحت وطأة إخراج ترجمة تستوفي حدًّا معينًا من معايير الجودة التي قد تختلف من بلد لبلد ومن دار نشر لأخرى ومن متلقٍّ لآخر كي تمنح المترجم ختم الاقتدار والجدارة في صناعة يلعب فيها دور عامل ينتج بذهنه ووجدانه قبل يديه. وأخيرًا وليس آخرًا، صراع لا يهدأ بين التعطش للاجتهاد والرضوخ للسير على خطى السابقين توخيًا للسلامة.
أمثل للنقطة الأخيرة بتفضيلي مفردة “احتياز” كمقابل لكلمة appropriation في ترجمة رحلة هاملت العربية على مفردة “استملاك” وهي الكلمة التي وصفت بها المؤلفة تطويع العرب لكلمات هاملت كي تلائم التعبير عن انكساراتهم في الحرب والسلم، وفي البحث عن هوية ومكان، وفي توجيه رسائل رأسية وأفقية، وفي مواجهة أحداثٍ كبرى. حجتي في ذلك أن الحيازة لا تعني الملكية، وهاملت ليس عربيًّا، ولكن باحتياز كلماته تحول إلى “هاملت عربي” لـ “يقودنا… عبر الممرات المتشابكة للمناقشات السياسية المعاصرة، خلف مكبرات صوت عبد الناصر في مصر الثورية، وإلى داخل المسارح التجريبية في فترة ما بعد 1967 في كلٍّ من مصر وسوريا والأردن والعراق. سوف يتحدث بأصواتٍ مختلفة: علمانية وإسلامية، عابسة وعابثة، ملحمية وساخرة. أحيانًا سوف يكون ثملًا ومتلعثمًا – أو قد ينسى دوره تمامًا” أو كما ترجمتُ عن المؤلفة.
وعلى عكس هاملت العربي المتحدث بأصوات مختلفة، أحاول كمترجمة إيجاد صوتي الخاص وإن تنوعت نبراته. أفضل ترجمة نصوص الأدب والإنسانيات عما عداها، ويستهويني الأدب المقارن. إذا عُرض عليّ نص لا أبدأ بقراءته وإنما بقراءة ما كتب عنه من مقالات أو مراجعات. أكوّن فكرتي العامة وأبدأ الترجمة مباشرة لأترك للنص حملي على تياراته ومفاجأتي بما يحمله من خبايا، وكلما تقدمت في الترجمة تتضح لي أمور استُغلقت أو فُهمت خطأً فأعود إلى تصويبها واستكمالها فأغنم لذة الاكتشاف ومتعة تراكم الخبرات. أومن بتطور اللغة وأنها ابنة عصرها، لكن لا يمنعني ذلك من التساؤل عن التطور الذي قد يجعل قارئًا يذمّ مترجمًا لأنه اختار “كفكفت دموعها” بدلًا من “مسحت دموعها” في نص أدبي جزل. ومع دعوات التبسيط التي وصلت إلى الترجمة إلى العامية يطلّ هاجس الموازنة بين الوصول إلى القارئ من دون تحويل النص إلى جلسة دردشة وبين الارتقاء به من دون تقعر وفرض عضلات، مع احترام سياق النص وطبيعته. تقلقني معايير السوق التي يخضع لها اختيار ما يُترجم، ويحنقني ما تتركه البيروقراطية وخلافها من أثر سلبي في إنتاج مؤسسات الترجمة الحكومية التي تسمح لها إمكاناتها الضخمة بترجمة عناوين مميزة قد تتجنبها دور النشر الخاصة تحت حسابات الربح والخسارة.
أرى الترجمة، في وضع مثالي، ثلاثيًّا حاضرًا، النص والكاتب والمترجم. لكن الوضع ليس مثاليًّا دائمًا. فإما أن يغيب الكاتب تمامًا أو يتعذر التواصل معه، فتترك المهمة بأكملها بين النص والمترجم، وإما أن تزيد الأضلاع عن ثلاثة فيحضر الكاتب عبر عدد من الوسطاء مثل وكيله ومسؤول التواصل في دار النشر، ومع أن الجميع في منظومة محترمة لا يألون جهدًا في التعاون وإخراج الترجمة في أفضل صورة، إلَّا أنني اعتبرت ظروف عملي على ترجمة كتاب رحلة هاملت العربية وكتاب قراءات في أعمال نوال السعداوي ظروفًا مثالية، لأنني تواصلت مباشرة مع مارجريت ليتفين، كاتبة العمل الأول، ومع نوال السعداوي، محور العمل الثاني، عن طريق الرسائل الإلكترونية والهاتف بل أُتيحت لي الفرصة لأقابل كلًّا منهما وجهًا لوجه على نحو غير رسمي، كما في جلستين لطيفتين بين امرأتين حول فنجاني قهوة، وقد قدمتا كل مساعدة وأجابتا عن كل سؤال ووفرتا الأصول العربية للاقتباسات التي لم تُنشر أو تعذّر الحصول عليها لقدمها وندرة طبعاتها، ما أعطى لعملي على ترجمة هذين الكتابين بعدًا إنسانيًّا أحبه.
وعلى ذكر البُعد الإنساني، كانت ترجمة الاعتذار لإيف إنسلر من أصعب التجارب التي مررت بها. كان النص متفجرًا بالمشاعر والاعترافات على الرغم من قصره وسهولة لغته. تجربة قاسية لكاتبته التي عانت من الانتهاك الجنسي والبدني على يد والدها الذي رحل عن الحياة قبل أن يعتذر أو حتى يبرر أسباب جرائمه، ما جعلها تكتب هذا الكتاب كي تكف عن انتظار اعتذار لن يأتي. تعاقدت على هذه الترجمة قبل مرض أبي الأخير مباشرة، وبالتالي لم أبدأ العمل عليها إلا بعد وفاته بفترة. فقرات كاملة ترجمتها وغلالة الدموع تحول بيني وبين رؤية ما أكتب، في تعميم لفعل اعتذار عكسي لم يحدث عن شبهات تقصير وسوء فهم، وفوات أوان التعويض وإعادة تجرع مشهد الفقد ومرارته.
اخترت الترجمة كمهنة وبدأتها في عمر يوشك فيه أقراني على الوصول إلى مناصب إدارية عليا لأنني فضلت العمل على مقعد في الشرفة أو أريكة في غرفة المعيشة وفق أوقات تناسبني وأجواء تروق لي أكثر من برودة المكاتب ومساحات العمل الشاسعة. فضلت الاستقلال والعمل وفقًا لرؤيتي الخاصة. آخذ حاسبي المحمول وأعمل في أي مكان فلا أتقيد بدوام أو منشأة أو معاملات رسمية. وحتى مواعيد التسليم أتفق عليها بما يضمن عدم تعرضي للضغط قدر الإمكان. بكلمات أخرى أحب ما أعمل وأعمل ما أحب. لا تثقلني الصعوبات التي تقابلني لأن كلًّا منها تمنحني إضافة جديدة. وفي أوقات تفرغي أستمتع بانتقاء نصوص قصيرة وترجمتها لمزاجي الخاص، ليمنحني الطرب الذي أسمعه داخليًّا في إيقاع كلماتي المختارة رضا يفوق ما أجده لدى عملي على الترجمات التي أُكلَّف بها. فهذه المختارات تخضع لذائقتي وحدي وأستأثر بها لنفسي لدرجة أنني ربما لا أنشرها إلا نادرًا على مواقع التواصل الاجتماعي. في هذه المختارات، ألتمس الوصول إلى الشاعرية التي قال فالتر بنيامين إن المترجم لا يمكن أن يعيدها إلا إذا كان هو نفسه شاعرًا، وأمارس تلك الإعادة -من دون أن تقيدها سياسات النشر أو النظريات النقدية أو الاتجاهات الرائجة- بحريةٍ مطلقة في فضائي الخاص.