القراءة بقلب مترجِمة

بدأت حكايتي مع الترجمة في السنة الرابعة لدراستي الجامعية، توقفت حينها عن الدراسة لعام كامل بسبب الحرب وانعكاساتها النفسية والاجتماعية والاقتصادية في سورية. في هذا العام قررت أن أبدأ تجربتي مع الترجمة وأول ما فكّرت فيه هو ترجمة الشّعر، لأنني شاعرة في المقام الأول، جذبني هذا العالم، مع أن الشّعر يُعدّ من أصعب الأنواع الأدبية في الترجمة، إلاّ أنّ شغفي به ذلّل أغلب العقبات، وتمكّنت نوعًا ما من تقديم ترجمة جميلة. نشرتُ أول ترجمة لي على صفحتي الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي، وهي قصيدة للشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، ثم بدأت بنشر ترجمات متفرقة في عدّة مواقع ومجلات إلكترونية وورقية. تخرجت بعدها في كلية الترجمة- قسم اللغة الإنكليزية في جامعة تشرين. وحصلت على أول عقد ترجمة مع دار نشر “الجيدة” في الأردن، لرواية مذكرات براس كوباس بعد الموت للكاتب البرازيلي ماتشادو دي أسيس عام 2019، وتتالت بعدها الترجمات والإصدارات.

آثار الترجمة اجتماعيًا ونفسيًا:

منحتني الترجمة طاقة إيجابية على الرغم من متاعبها الكبيرة والجهد المضني الذي لا يدركه إلاّ المترجمون أنفسهم. ثمّة مصاعب وإرهاق وتوتر يرافق كل عمل حتى الانتهاء منه. إلاّ أن متعة الإنجاز وتقديم عمل بكامل تفاصيله وأجوائه وطقوسه ومفرداته، يبعث على البهجة التي بتنا نفتقدها تدريجيًا في واقع يضيّق الخناق شيئًا فشيئًا على المبدعين. وبالنّظر إلى الفسحة الثقافية التي تقدّمها الترجمة، فقد أتاحت لي المجال للتعرف إلى عالم غامض وارتقت بذائقتي الأدبية، وأصبحتُ أكثر انتقاء حتى للأعمال العربية التي أقرؤها. كما زادت من حساسيتي للغة والتعامل بمفرداتها، حتى كدتُ لا أقرأ أيّ عمل بعين قارئ يريد أن يستمتع بمحتوى جميل، بل أقرؤه بقلب مترجم يريد أن يُفكّك أدوات النص الذي بين يديه ويربط خيوطه من جديد ليخلُص إلى نتيجة مفادها أنه لا يمكن العودة إلى الوراء، لم يعُد بإمكاني الاستمتاع بقراءة رواية أو كتاب من دون تخيّل الطقس النفسي للكاتب الأصلي، وتفحّص ما بين السطور والتقاط الثغرات، وهذا كفيل بحرماني من متعة الاستمتاع والاكتفاء بالقراءة لغاية القراءة فقط.

آخر ترجماتي:

صدَر لي مؤخرًا كتاب بعنوان الأدب الإيطالي عن مشروع “كلمة” في أبو ظبي، وهذا الكتاب جزء من سلسلة “مقدمات موجزة” الصادرة عن مطبعة أكسفورد، وهو من تأليف الكاتبين بيتر هينسوورث، وديفيد روبي، وهما أستاذان محاضران في جامعة أكسفورد ومتخصصان في الأدب الإيطالي.

الكتاب قيّم وشيّق، وغني بالمعلومات والتفاصيل عن تاريخ الأدب الإيطالي. يتناول كاتبا هذا العمل جميع مراحل الأدب الإيطالي وتاريخ إيطاليا ابتداءً من القرن الثاني عشر وحتى العصر الحديث. كما يدحض كاتبا هذا العمل الرأيّ الشائع بأنّ الأدب الإيطاليّ أدب بسيط، ويثبتان من خلال تناولهما للأعمال الإيطاليّة المختارة أنّه أدب ذو خلفيّة تاريخيّة وسياسيّة، يتّسم بأصداء معقّدة وبعيدة المدى، وتداخلات وثنائيّات مؤثّرة، ولا يكتفي بطرح فكرة بمعزل عن دلالاتها، ولا يذكر حدثًا من دون أن يستحضر ارتباطه بشخوص معيّنة، ولا يمكن فهم كل هذا من دون الاطّلاع على المسار الخاص بالأدب الإيطاليّ على حدّ تعبيرهما.

على الرّغم من عنوان الكتاب الذي يوحي للقارئ بأنّه كتاب مختصر، إلاّ أنّ الكاتبين؛ بيتر هينسوورث وديڤيد روبي، يفردان مساحة وافرة، يقدّمان فيها معلومات غنيّة وتفاصيل شيّقة عن تاريخ الأدب الإيطالي، من بداياته حتى العصر الحديث. وبناءً على هذا، قسّما فصول الكتاب إلى عدّة عناوين، متناولين في كل فصل ثيمة معيّنة من ثيمات الأدب الإيطالي. التاريخ، والتّقليد، والنظريّة، والسياسة، والعلمانية، والمرأة. ومع كل ثيمة، يحضر تاريخ إيطاليا كقاعدة أساسية؛ بدءًا من إيطاليا المفككة والمتهالكة، وصولًا إلى الثورات والتوحيد، ويستحضران إيطاليا في أوج ازدهارها، حتى الفاشية وحكم موسوليني، وما بعده. علاوة على العدد الضخم لأسماء الأدباء والمثقفين الذين أسّسوا قاعدة الأدب الإيطالي، مرورًا بالعصور الوسطى، ثم التوحيد، والكتّاب المناهضين للفاشية، وكتّاب العصر الحديث.

بالحديث عن الأدب الإيطالي يستحضرنا سؤال عن مكانة اللغة اللاتينية وأهميّتها كما تناولها كاتبا هذا العمل:

يرى كاتبا هذا العمل أنّ الآراء تتفاوت بشأن التمسك باللغة اللاتينية، فبعضها كان مُجمعًا على أن الأدب الإيطالي يستمد أهميته من الكتابة باللغة اللاتينية، وآراء أخرى كانت تطرح فكرة ضرورة تشكّل لغة وطنية إيطالية والتحرر من شرنقة اللاتينية.

إلاّ أنّه (وبحسب الكتاب) فإنّ تفوّق الكلاسيكيّة الإنسانيّة في القرن الخامس عشر عزّز موقف التمسّك بالكتابة اللاتينيّة، كان هذا سببًا جزئياّ في اتباع أسلوب بترارك في الكتابة أثناء حياته وعلى مدى مئة عام بعد وفاته، بذريعة أنّ اللاتينية الكلاسيكية هي الحامل الحقيقيّ للشّعر والخطاب الفكريّ. وفي هذا الصّدد يتطرّق الكتاب إلى رأي الشّاعر والعالم الإنسانيّ [بيترو بيمبو] الذي حسب نظريّته، أن الشّعر والنثر الإيطاليين، لم يكونا ليحققا تفوقًا، لولا أنهما حاكيا أهم الأعمال المكتوبة باللغة اللاتينيّة.

وماذا عن ارتباط الأدب الإيطالي بالواقع السياسي والاجتماعي لإيطاليا:

لا ينفصل الأدب الإيطالي عن الواقعين السياسي والاجتماعي فالكتاب يقدم ويناقش جميع الأعمال في ضوء خلفيتها السياسية والاجتماعية. لقد التصقت السياسة بالأدب الإيطاليّ منذ نشأته الباكرة، فرواية [محادثة في صقليّة] للروائي إليو ڤيتوريني عام 1938، لم تكن سابقة، على الرغم من أهميّتها، في رمزيّتها السياسية، ضدّ الفاشيّة، والتي تسببت في سجن ڤيتوريني فيما بعد. لقد سبقه قبل ذلك بقرون دانتي في [الكوميديا الإلهيّة]. يناقش الكاتبان هنا رحلة سيلڤيسترو، بطل رواية ڤيتوريني، ورحلة دانتي في الكوميديا، فطرح ڤيتوريني السياسيّ وتلميحه، مشابه لطرح دانتي في أن الكنيسة هي رمز الفساد. يتحايل الكاتبان في التملّص من قول رأيهما، لكن الإسهاب في تناول الكوميديا يوضّح للقارئ العمق السياسي في الأفكار، كما لا نغفل أنها كُتبت في القرن الثالث عشر.

علاقتي مع الكتّاب الأصليين:

لم يسبق أن تواصلت مع كاتب أي عمل قبل ترجمته، تقتصر علاقتي مع الناشر والنص الذي بين يديّ، فأغلب الأعمال التي ترجمتها، قامت دار النشر بشراء الحقوق من الكاتب الأصلي ولم أضطر للتدخل، لكني أتطلع في الأيام القادمة للتواصل مع الكاتبة البريطانية “جودي بيكولت” لشراء حقوق بعض رواياتها وترجمتها بعد أن أتفق مع دار نشر عربية تتبنى هذه الفكرة.

حركة الترجمة:

ما تزال حركة الترجمة غير مرضية في العالم العربي، فهي تسير ببطء مقارنة بحركة الترجمة العالمية، على الرغم من تسارع بعض الدور مؤخرًا لشراء حقوق أهم الروايات عالميًا، لكن هذا لا يكفي. كما نفتقر إلى مشاريع كبيرة تدعم المترجمين أو مؤسسات تحمي حقوقهم. ونفتقد للتنسيق بين دور النشر، فيحدث أحيانًا أن يُترجم عمل واحد من قبل مترجمَين في آن معًا، دون علمهما طبعًا، وفي هذا إهدار لجهد المترجم ومضيعة لوقته.  

الصعوبات التي أواجهها:
تتطلّب الترجمة مقوّمات كثيرة من صبر ورباطة جأش ليخرج العمل بصورة جيّدة وشبه متكاملة، فهي عمل شاق ومُرهق، وتستدعي تركيزًا كبيرًا وهدوءً وتوازنًا نفسيًا وصفاء في الرؤية، كما تتطلب جرأة من المترجم ليتغلغل عميقًا ويكشف أبعاد النص ويتحايل عليه من دون أن يحيد عن المدلول الصحيح؛ فهو أمام مسؤولية أخلاقية ومهنية. جميع هذه المقوّمات تستدعي شروطًا ملائمة وجاهزية لوجستية ليتمكن المترجم من أداء عمله، وفي ظروف صعبة كبلد يعيش أزمات متتالية مثل سوريا، أجد نفسي أتحايل بمشقّة على انقطاع التيار الكهربائي الدائم لساعات طويلة وما يترتب عليه من انقطاع للإنترنت وتوقف اللابتوب عن العمل بعد تفريغ البطارية، أعود أحيانًا إلى الأساليب القديمة؛ فأستخدم القلم والورقة إلى جانب الموبايل عوضًا عن شاشة اللابتوب المريحة، أستخدم القواميس الورقية، أترجم على الورق ثم أكتبه في ملف الوورد في اليوم الثاني. يضعني هذا دائمًا في مأزق التأخّر في تسليم العمل. أجاهد بصعوبة كي أخلق ظروفًا وبيئة تجعلني هادئة على الدوام لأتجاوز العوائق النفسية الاقتصادية في سوريا لمهنة تحتاج الصبر كالترجمة.

مشاركة: