مئوية ميسلون, ثقافة تواجه المخرز

مرّت خلال عام 2020 ذكرى مناسبتين مهمّتين في تاريخ سورية؛ الذكرى المئوية لولادة سورية والإعلان عن استقلالها دولة جديدة في 8 آذار/ مارس 1920، والذكرى المئوية لمعركة ميسلون واستشهاد يوسف العظمة في 24 تموز/ يوليو 1920، وهما لحظتان مؤسِّستان للوطنية السورية، وكان يُفترض ألّا تمر هاتان المناسبتان مرور الكرام أمامنا من دون ذكرهما أو الاحتفاء بهما؛ خصوصًا أنهما من المناسبات الجامعة للسوريين في ظل واقعهم البائس اليوم. للأسف، لم يفعل أي “طرف” سوري شيئًا يُعتدّ به احتفاءً بهاتين المناسبتين العظيمتين.
احتضن يوم الثامن من آذار/ مارس 1920 مناسبة سورية عظيمة، وربما الأعظم، هي ميلاد الدولة السورية ذاتها، فقبل هذا التاريخ لم تكن سورية موجودة كدولة، بل كانت جزءًا من إمبراطوريات كبرى، كانت آخرها الإمبراطورية العثمانية التي انتهت مع نهاية الحرب العالمية الأولى 1918. فقد قام محمد عزة دروزة، وهو من نابلس/فلسطين، بقراءة بيان استقلال سورية الكبرى باسم (المملكة السورية العربية) على المحتشدين في ساحة المرجة أمام مبنى بلدية دمشق، رافضًا الانتداب الفرنسي المعلن.
وقد صدر هذا البيان عن (المؤتمر الوطني السوري) الذي امتدّ عمره من 7 حزيران/ يونيو 1919 إلى 19 تموز/ يوليو 1920، وكان أول سلطة تشريعية سورية، وأول صيغة برلمانية في المنطقة العربية. فقد شكّل المؤتمر لجنة لوضع دستور دائم للبلاد، ونصّ بيانه على تحويل البلاد إلى دستورية مدنية، وكفالة الحريات السياسية والاقتصادية، وحقوق الطوائف الدينية، والتساوي بين المواطنين، وعلى لا مركزية الإدارة. كما تطرق البيان لحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، ومبادئ الرئيس الأميركي ويلسون، ورفض المشاريع الصهيونية أو أي تقسيم لسورية.
ضمَّ المؤتمر نحو تسعين عضوًا من أنحاء سورية الكبرى كلها، ومن بينهم محمد فوزي باشا العظم، إلياس عويشق، سعد الله الجابري، محمود البارودي، يوسف لينادو (من يهود دمشق)، هاشم الأتاسي، خالد البرازي، رياض الصلح، إبراهيم هنانو…، وغيرهم. وضمت خارطة الدولة السورية الوليدة آنذاك أراضي سورية الحالية، ولبنان وفلسطين والأردن، إضافة إلى بعض المناطق في جنوب تركيا الحالية. ودامت هذه الدولة أقل من خمسة أشهر، إلى أن دخلت القوات الفرنسية إلى دمشق في 24 تموز/ يوليو 1920، بعد معركة ميسلون.

بين الولادة وميسلون: تجربة ديمقراطية متقدمة
عاشت خلال المدة بين إعلان استقلال سورية في 8 آذار/ مارس 1920، ومعركة ميسلون في 24 تموز/ يوليو 1920، تجربة ديمقراطية متميزة، تكاد تكون مغيّبة عن ذاكرة السوريين.
نشرت المؤرخة الأميركية إليزابيث ف. تومبسُن، أستاذة تاريخ الشرق الأوسط الحديث في الجامعة الأميركية بواشنطن، كتابها الجديد بعنوان (كيف سرق الغرب ديمقراطية العرب)، مؤخرًا في نيسان/ أبريل 2020، وقد أهدت كتابها “إلى كل السوريين”، ربما تضامنًا معهم من واقع مأساتهم ومحنتهم اليوم، وربما من جانب ثانٍ تذكيرًا لهم بقدرة أجدادهم في العصر الحديث على بناء تجربة ديمقراطية متقدمة حتى عن واقعهم اليوم، وكأنها تريد أن تقول لنا أنتم متأخرون مئة عام عن أجدادكم.

يتناول كتاب تومبسُن التجربة الدستورية الديمقراطية خلال المدة 1918-1920، بعد الإعلان عن (الحكومة العربية في دمشق) في 5 تشرين الأول/ أكتوبر 1918، ومن ثمّ تشكيل “المؤتمر السوري العام” في حزيران/ يونيو 1919، والذي تحوّل إلى مجلسٍ تأسيسي، وشكَّل لجنة لوضع أول دستورٍ للبلاد، وقد رأَسه محمد فوزي العظم، والد رئيس الوزارة المعروف خالد العظم، حتى وفاته في تشرين الأول/ أكتوبر 1919، وجاء بعده هاشم الأتاسي، ومن ثم غادره الأخير ليشكل الوزارة، وليخلفه الشيخ محمد رشيد رضا، مؤسِّس مجلة المنار في القاهرة، وهو من قرية القلمون قضاء طرابلس الشام، وصولًا إلى إعلان “المؤتمر السوري العام” استقلال سورية في 8 آذار/ مارس 1920، باسم (المملكة السورية العربية)، على أساس نظام حكم ملكي دستوري نيابي، يقوم على تثبيت نمط الحكم اللامركزي.
وكان الدستور المعتمد، أو قانونه الأساسي، من أكثر النظم الدستورية تقدمًا في المنطقة العربية والشرق الأوسط، خصوصًا إذا ما قورن بالدستورين الإيراني والتركي؛ فقد استلهمته نخب المؤتمر السوري من دستور الولايات المتحدة الأميركية والدساتير الأوروبية، تلك النخبة التي آمنت بقيم الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة. وتشير تومبسُن أيضًا إلى أن بعض أعضاء المؤتمر السوري قدّموا إلى لجنة كينغ-كراين في صيف عام 1919 مشروعَ دستور متكاملًا لـ “الولايات السورية المتحدة”، إيمانًا منهم بنظام الحكم اللامركزي.
تشير تومبسُن إلى الدور المهم للشيخ رشيد رضا في نجاح المؤتمر وإقرار هذا الدستور المتقدم، فقد كان رئيس المؤتمر الذي وفّق بين اتجاهين رئيسين فيه؛ اتجاه علماني ينادي بحكم نيابي مدني، وآخر إسلامي يبحث عن مكانة مميزة للإسلام في الدستور والدولة. وكانت حصيلة النقاشات إقرار دستور يكتفي بالإسلام دينًا لرأس الدولة فحسب. أثار هذا غضب رجال الدين آنذاك، فاحتجوا لرشيد رضا، فما كان من الأخير إلا أن قال: “تم تكليفي بإعداد دستور للسوريين، وهم من المسلمين والمسيحيين واليهود. فهل تريدون مني إعداد دستور للمسلمين فقط؟”. هذا الموقف لرشيد رضا يرفضه اليوم، في سورية وغيرها، معظم من ينتمون إلى الاتجاه الإسلامي. ليس هذا فحسب، بل إن حوارات “النخب السورية” اليوم أقل فاعلية من حوارات نخبهم آنذاك، ولم تنجح في بناء صورة عقلانية وواقعية، طوال العقد الفائت، لعلاقة الدين بالدولة، والدولة السورية المنشودة، فإذا كنا متأخرين عن تاريخنا نفسه مئة عام، فكيف سيكون حالنا ونخبنا إذا ما قارنا أنفسنا بالعالم اليوم؟!
يروي كتاب تومبسُن قصة لحظة محورية في تاريخنا، عندما “أسس العرب ديمقراطية تمثيلية – وكيف سحقها الغرب”؛ فقد قُطعت هذه التجربة الديمقراطية المتقدمة بالقوة العسكرية الفرنسية، وفكّكت فرنسا المؤتمر السوري، واعتقلت السلطات الفرنسية بعض رموزه، فيما عملت على احتواء بعض رموزه الأخرى في مناصب حكومتها الانتدابية. وبحسب تومبسُن، لم تكتفِ فرنسا باحتلال دمشق، وإنهاء هذه التجربة الفريدة، إذ تكشف في الوثائق الفرنسية التي حصلت عليها، عن أن رئيس الحكومة الفرنسية، ألكسندر ميرلاند، أوعز للجنرال غوابييه، الذي دخل دمشق بعد يوم على معركة ميسلون، باقتحام مقرّ المؤتمر السوري، ومصادرة والتخلص من كلّ ما يجده هناك من وثائق ومتعلقات خاصة بـ “المملكة السورية العربية”.

محطة ميسلون في التاريخ
تحتلّ معركة ميسلون، 24 تموز/ يوليو 1920، مكانة فريدة في تاريخنا، ويمكن القول إنّها من المحطات العظيمة في سرديّة الوطنية السورية، فهي تحمل الكثير من الرسائل والمعاني والدلالات التي من المفيد اكتشافها وتثبيتها. فما لا يجري الانتباه إليه هو أن ميسلون كانت معركة مزدوجة، داخليًا من أجل الدفاع عن تجربة ديمقراطية وليدة، وخارجيًا الدفاع عن الوطن ضد الغازي والمحتل. وتكتسي أهمية استثنائية في اللحظة السياسية الحالية؛ كوننا نعاني هزيمة كبيرة على المستوى الداخلي تجلّت بفشلنا في إنجاز التغيير الوطني الديمقراطي، وعجزنا عن بناء الدولة الوطنية السورية من جهة، وكون بلدنا أصبحت محتلة من عدة جيوش، وأقرب إلى التشظي والتذرر من أي مستقبل آخر من جهة ثانية.

كانت مرحلة الحرب العالمية الأولى، وما بعدها، مرحلة فاصلة تمخضت عن سقوط الدولة العثمانية وإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط؛ اتفاقية سايكس بيكو في 9 و16 أيار/ مايو 1916 بين فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصرية لاقتسام منطقة الهلال الخصيب، ولتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا، وتقسيم الدولة العثمانية التي كانت المسيطرة على تلك المنطقة، ووعد بلفور في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1917، وفي نيسان/ أبريل 1920 أُعلنت مقرّرات مؤتمر سان ريمو الذي شرعن صفقتَي سايكس بيكو، وجورج ـــــ كليمنصو، وإعلان بلفور، وأقرّ مُسودة ما سيصبح معاهدة سيفر، لتقاسم تركيا.
في هذه الأجواء، جاء إنذار غورو إلى الملك فيصل في دمشق، في 14 تموز/ يوليو 1920، الذي تضمن خمسة بنود، يمكن تكثيفها بعبارة واحدة: الاستسلام بلا قيد أو شرط. وهنا تنوعت مواقف فيصل وحكومته، وراوحت ما بين رفض الإنذار كليًا، والقبول به مع محاولة تخفيف آثاره. لكن الملك قبلَ أخيرًا بالإنذار في 17 تموز/ يوليو، وأوعز بتسريح الجيش، وعطّل جلسات المؤتمر السوري تحت ذريعة إثارته للرأي العام، الأمر الذي قد يؤدي إلى صدام مع الفرنسيين، وفي الوقت نفسه أوفد الملك وزير المعارف، ساطع الحصري، إلى الجنرال غورو لمعالجة الموقف دبلوماسيًا، لكن مهمّة الحصري انتهت في يوم 23 تموز/ يوليو من دون نتائج، ليدرك فيصل أنّ غورو عازم على احتلال دمشق في الأحوال كلها، فتوجّه إلى الجامع الأموي، وخطب في الناس مبرّرًا تنازلاته، تاركًا لهم خيار الدفاع عن بلدهم.
وكان يوسف العظمة من فريق الرافضين لإنذار غورو، ومن الداعين إلى مواجهته بالإمكانات المتاحة، فأمر بإيقاف تنفيذ قرار الحكومة بتسريح الجيش، وباحتشاد الجنود المنسحبين عند منطقة خان ميسلون، فاندفع المئات من الرجال بأسلحة فردية قديمة، وبالعصي، للانضمام إلى ما تبقى من الجيش في ميسلون. وفي فجر 24 تموز/ يوليو، كان العظمة قد جمع نحو 4000 جندي ومتطوع، مقابل جيش غازٍ قوامه 9000 جندي فرنسي، مزود بطائرات ودبابات ومدافع، بقيادة الجنرال غوابيه. ومع خيوط الضوء الأولى، بدأت المعركة بمبارزة مدفعية حامية وغير متكافئة، وسرعان ما تدخّل الطيران أيضًا، ليعقبه تقدّم الخيالة والمشاة والمدرعات. وهنا بدأت خطوط المدافعين بالتصدّع. وبدأ التراجع بعد نحو ستّ ساعات من القتال. استشهد يوسف العظمة في المعركة، ومعه نحو 300-400 من زملائه، وأصيب 1000 آخرون، ودخل الفرنسيون إلى دمشق في 25 تموز/ يوليو 1920.
يُحكى أن يوسف العظمة، بحسب ما يروي ساطع الحصري في كتابه (يوم ميسلون)، قد تقدم إلى الملك فيصل رافعًا التحية العسكرية، قائلًا: إنّي مستعدٌ يا صاحب الجلالة للدفاع عن الوطن بكل قواي حتى النفس الأخير، إذا أوليتموني ثقتكم. وأنه جاء إلى مقرّ الحكومة، قبل ذهابه إلى ميسلون، وكان آخر كلام له: أنا ذاهب! إني أترك ليلى (ابنته الوحيدة) أمانة لديكم، أرجوكم ألّا تنسوها.

في معاني ميسلون
في كل زمن، وكل بلد، هناك دائمًا من يرفع لواء التحدي، وآخر يرفع لواء التكيّف والتأقلم، وبينهما سلسلة يصعب حصرها من المواقف، ولا يمكن إخضاع هذه المواقف إلى أحكام قيمية بسيطة وسريعة، باستثناء تلك المواقف التي تشارك المحتل أو المستبد، في ممارساته أو انتهاكاته للحقوق الفردية أو الجماعية، أو في التبرير أو الترويج لهما. كان العظمة مدركًا لاستحالة مهمّته منذ البداية، وكانت لديه خيارات مختلفة، مثل الابتعاد موقّتًا عن المواجهة المباشرة بحكم اختلال ميزان القوى، وانتظار فرصة أخرى يتابع فيها كفاحه المسلّح، وهو ما فعله بعض أصدقائه، مثل فوزي القاوقجي وسعيد العاص، أو السير في طريق النضال السياسي، كما فعل ياسين الهاشمي. لكنه حسم خياره في المواجهة المباشرة، بحكم ما لهذه المواجهة من أثر بعيد في أرواح وعقول الناس، وما يمكن أن تؤديه على مستوى التأسيس المستقبلي، بما يضع الناس في خيار رفض ومواجهة الواقع القائم بأشكال وأساليب متنوعة.
وعلى النقيض من موقف العظمة، والاتجاهات النضالية الأخرى التي تصب في المآل في الطريق ذاتها، كان هناك اتجاه آخر داعم أو مروِّج للاحتلال، تألَّفت قاعدته من أصحاب المصالح، مثل بعض الأعيان والتجار الذين جرّوا عربة القائد الفرنسي بعد يوم واحد على استشهاد يوسف العظمة، وعلى بعد كيلو مترات قليلة من ميسلون، على الرغم من أن الأكثرية الساحقة من أبناء دمشق كانوا في اتجاه يوسف العظمة وزملائه. بمعنى آخر، نظر يوسف العظمة إلى الواقع بوصفه متحركًا ومتغيرًا، وهو لم يكن مغامرًا وانتحاريًا كما رأى بعضهم، خصوصًا أنه تعلّم في المدارس العسكرية، وتخرج منها ضابطًا، وأتقن العربية والتركية والفرنسية والألمانية والإيطالية والإنكليزية، في حين نظر من جرَّ عربة غورو من السوريين إلى الواقع على أنه ثابت، وأن فرنسا لن تقهر.
في الواقع السوري اليوم، هناك من ينظر أيضًا إلى خيار العظمة ورفاقه بوصفه خيارًا ساذجًا، ويدافع بعضهم أيضًا عن الانتداب الفرنسي بحكم ما أوصلتنا إليه الحكومات “الوطنية” منذ الاستقلال إلى اليوم، خصوصًا خلال نصف القرن الأخير من حكم نظام الأسد. هذه قراءة مقلوبة للتاريخ والمسؤوليات؛ فالمشكلة لا تكمن، بالطبع، في خيار العظمة ورفاقه، بل فيمن جاء بعدهم، في عدم استكمال خياره بعد الاستقلال، وعدم استكمال التحرر الوطني بإنجاز التغيير الوطني الديمقراطي، والعودة بسورية إلى نمط محدَّث من الحكم السلطاني، بعد عام 1970 بصورة خاصة.

تغييب التاريخ
عمل الفرنسيون، منذ دخولهم، على تغييب كل ما له علاقة ببناء لحظة وطنية سورية، إذ فضلًا عن إخفاء ما يتعلق بالمؤتمر الوطني السوري وتجربة الحكم الديمقراطي والدستوري، عملوا على تغييب يوسف العظمة ورفاقه عن المشهد السوري، إلى درجة إخفاء شهداء ميسلون، بمن فيهم يوسف العظمة نفسه، ولا يزال المكان الذي دُفنوا فيه غير معروف بالنسبة إلى السوريين، في حين تحتفظ به فرنسا في سجلاتها، والغريب هو عدم وجود مطالبة رسمية سورية جدية بهذا الأمر إلى يومنا هذا.
بعد انقلاب عام 1970، غُيِّبت ولادة سورية واستقلالها في 8 آذار/ مارس 1920 من الذاكرة الجمعية، وغُيِّبت تجربتها الديمقراطية الأولى، لمصلحة الاحتفاء بانقلاب 8 آذار/ مارس 1963 الذي أتى بالعسكر إلى السلطة، وأصبح مصدر كل شرعية. ويلاحظ سعي السلطة الحاكمة لمحو ذاكرة السوريين قبل تاريخ 8 آذار 1963، وكأن سورية ولدت في يوم ميلاد البعث، وما قبله “مرحلة جاهلية” لا أكثر، وحتى المدة ما بين 1963 و1970 جرى اختزالها لمصلحة التركيز على شخص الأسد فحسب، مثلما تجري اليوم أيضًا محاولات محو ذاكرتهم، وتشويه النقاط المضيئة بعد آذار/ مارس 2011، لمصلحة تعزيز حضور سردية واحدة تتوافق مع مصالح السلطة والمتنفذين فيها.
فعليًا، لا يعرف السوريون إلا القليل عن تاريخ بلادهم منذ تأسيسها؛ ما يثير الاستغراب والاستهجان حقًا تغييب شخصيات مثل يوسف العظمة وإبراهيم هنانو وعبد الرحمن الشهبندر، وغيرهم عن المشهد السوري، وعن كتب المدارس، وإن ذُكرت فإنها تُذكر بصورة خجولة وعابرة. يكفي أن نعلم أن تحويل بيتَي يوسف العظمة، في منطقتي المهاجرين وحي الشاغور بدمشق إلى متحفين، قد احتاج إلى حملات ومناشدات عديدة، وبعد ذلك تحولا إلى متحفين مغلقين لا يعلم بهما إلا عدد قليل من السوريين. وأكثر من ذلك أيضًا، هو أن ميسلون تكاد تكون غائبة في الأدب والسينما والموسيقا والأعمال الفنية التاريخية. هذا كله ليس مصادفة، بل عمل مقصود انتهى، فعلًا، بمنع السوريين من تشكيل ذاكرة وطنية جمعية.

روح ميسلونية
لا شك في أن إعادة قراءة تاريخ سورية، بل وإعادة بنائه، على أسس ومرتكزات موضوعية وعلمية، بصورة مستقلة عن مصالح السلطة الحاكمة وغاياتها، عمل ضروري ومهم، نحتاج إليه في سياق إعادة بناء ذاكرتنا وهويتنا الوطنية، بل وفي سياق مشروع ثقافي وطني سوري أيضًا، بتنا أحوج ما نكون إليه في ظل مسار التشظي والتفتت الذي يكاد يقضي علينا وطنًا ودولةً وبشرًا.
في 2011 و2012، خرج المتظاهر السوري إلى الشارع، في مناطق سورية كلها، رافعًا صوته، ومطالبًا بالحرية في مواجهة الاستبداد، ينشد بناء دولة وطنية ديمقراطية على أنقاض الدولة/المزرعة، على الرغم من وجود احتمال كبير للاعتقال أو الموت؛ ليس هناك من اسم لهذه الحالة سوى الروح الميسلونية، تلك الروح التي تتجلى بأشكال وألوان مختلفة عبر العصور.
في أحوال واقعنا اليوم، نحتاج أكثر كثيرًا إلى هذه الروح، لتلهمنا وتساعدنا في استعادة السيادة الوطنية، والحفاظ على وحدة سورية، وطرد القوات الغازية، وإنهاء الاستبداد، والسير في طريق التغيير الوطني الديمقراطي، وبناء سورية الجديدة. فكما كانت ميسلون لحظة قاومت فيها العينُ المخرز، نحتاج إلى مشروع وطني ديمقراطي نواجه بوساطته ثلاثية الاحتلال والاستبداد والتطرف التي يتغذى أطرافها من بعضهم بعضًا. نحتاج إلى ثقافة تواجه المخرز.
آن لنا أن نتجاوز تلك النظرة التي ترفض سورية، وتظل تنظر إليها بوصفها ابنة الخطيئة، ابنة اتفاقية سايكس بيكو، وتلك الرؤى التي تذهب نحو هويات فوق سورية أو ما دون سورية. سورية هي الحد الأدنى والحد الأعلى المشترك بين السوريين، فيما تصب الرؤى والأيديولوجيات الأخرى في حقل الأدوار السياسية المنوطة بالدولة السورية المستقبلية في المنطقة والعالم، أو في حيز الأيديولوجيات والأفكار التي يُفترض أن يكون المجتمع السوري المدني منفتحًا عليها جميعها، وعلى الحوار الديمقراطي فيما بينها، وليتحقق ذلك ينبغي لهدف الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة أن يكون حاضرًا في برامج ورؤى السوريين جميعهم.

مشاركة: