شكَّل السجن السياسي أحد الهواجس الإنسانية عبر التاريخ، ولا تكاد تخلو أيُّ ثقافة من ثقافات الشعوب من هذه الظاهرة المؤرِّقة، لكنه تحوَّل اليوم في بلدانٍ عديدة إلى جزءٍ من الماضي بعد أن سارت شعوبها في دروب الحريات والديمقراطية، أما في المنطقة العربية فما زال السجن السياسي ظاهرةً حيّةً وطاغية، لأنّ الواقع المعيش متخمٌ بالسجون المرئية والسجون السرية ومراكز الاستجواب والتحقيق وغرف التعذيب تحت الأرض، وما يلحق بها من اعتقالٍ وقتلٍ خارج نطاق القانون والقضاء، ومن تدميرٍ يطال الحياة الإنسانية على المستويات السياسية والاجتماعية والنفسية.
على الرغم من أنّ السجون السياسية تتشابه، بشكلٍ أو آخر، من حيث الكوارث التي تخلقها، والبؤس الذي تنزله بأصحابها، إلّا أنّ لها مذاقًا خاصًّا واستثنائيًّا في البلدان العربية شرق المتوسط، سورية والعراق، إضافة إلى مصر وليبيا واليمن، تلك البلدان التي رفعت رايات “الاشتراكية” و”التقدّم” و”العداء للإمبريالية” في لحظة من اللحظات، من دون أن يعني هذا أنّ سجون البلدان العربية الأخرى بريئة من انتهاكات حقوق الإنسان أو لم ترتكب جرائم حقيقية ضد شعوبها في زمنٍ ما أو في الزمن الحاضر، لكنّ السجن السياسي كان أكثر حضورًا في حياة البشر في تلك البلدان “التقدمية” بحكم وجود درجة أعلى من الحراك السياسي الأيديولوجي لأسبابٍ تاريخيةٍ أو لطبيعة القضايا المطروحة على شعوبها. السجن هو إحدى العلامات النافرة في تاريخ سورية بدءًا من آذار/ مارس 1963، ولا يكاد يخلو بيتٌ سوريٌّ من حديث السجن أو ما يرتبط به، على الرغم من أن السجون السورية كانت دائمًا محاطةً بالسرية والغموض والرعب.
دوافع الكتابة عن السجن وأهميتها
كان أدب السجون ملازمًا أو موازيًا في نشأته للقمع والاعتقال والسجن عبر التاريخ، فحضر في اللغات والثقافات كلها، وفي الأزمنة جميعها، لكنه بدأ بالظهور بكثافةٍ في المنطقة العربية خلال الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، في أثناء المراحل الانتـقالية السياسية التي أعقبَتْ مرحلة التحرّر من الاستعمار، ومن ثمّ شهدت المنطقة غزارةً في الأعمال الأدبية التي تتناول عالم السجن وتجارب المعتقلين بحكم هيمنة أنظمةٍ سلطويةٍ تُحكِم قبضتها على رقاب مواطنيها جميعهم. وهكذا، يمكن النظر إلى أدب السجون في المنطقة العربية، في هذا السِّياق، بوصفه انعكاسًا لأزمة الديمقراطية، فهو يظهر عمومًا في بيئة قمعية استبدادية، لنكون أمام نوعٍ من الكتابة الخصبة والمؤثِّرة والعاطفية، تتناول موضوعات السياسة والاعتقال والسجن والأدب والتوثيق وعلم النفس والعواطف الإنسانية وحقوق الإنسان، وغيرها. كتب عبد الرحمن منيف روايته المعروفة (شرق المتوسط، 1977)، ثمّ روايته الأخرى (الآن هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى) متناولًا موضوع السجن، لكنه كتب في عام 1998 مقدمةً لطبعةٍ جديدةٍ من (شرق المتوسط) قال فيها إنّ الضرورة تقتضي العودة إلى هذا العالم الكئيب القاسي، لأنّ عار السجن السياسي أكبرُ عارٍ عربيٍّ معاصرٍ.
ارتبط عالم السجن دائمًا بالرغبة في التسجيل والتدوين والتوثيق. إن الزمن البطيء والأيام المتشابهة في السجن يجعلان من الكتابة وسيلةً فاعلةً لإمضاء الوقت الثقيل خلف القضبان، وطوقًا للنجاة ومقاومة العزلة، وهي أيضًا دليلٌ على توق المعتقل إلى الحياة وتشبّثه بها، حتى بالنسبة إلى هؤلاء الذين لم يكونوا يهتمّون بالكتابة أصلًا قبل دخول السجن. تعبِّر نوال السعداوي عن ذلك في كتابها (مذكراتي في سجن النسا) فتقول “لا يموت الإنسان في السجن من الجوع أو من الحرّ أو البرد أو الضرب أو الأمراض أو الحشرات، لكنه قد يموت من الانتظار، الانتظار يُحوِّل الزمن إلى اللا زمن، والشيء إلى اللا شيء، والمعنى إلى اللا معنى”. في السجن تولِّد كتابة الشعر مثلًا، بحسب ما لاحظت ريبيكا شريعة طالقاني، باحثة أميركية من أصل إيراني، خلال تحليلها لشعر بعض المعتقلين مثل فرج بيرقدار، مساحاتٍ خارج الزنزانة، مساحاتٍ تخيّليّة تسمح للسجين الشاعر بالاستمرار والمقاومة وتحدّي المآسي التي تواجهه.
الكتابة عن السجون والاعتقالات والتعذيب هي أيضًا وسيلةٌ رئيسةٌ لتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان، ومحاولةٌ حثيثةٌ من أصحابها لمقاومة نسيان المظالم، خصوصًا في ظلِّ ندرة الشهادات والروايات البديلة المستقلة عن السلطات التي توثِّق أوضاع السجون وأحوال المعتقلين في المنطقة العربية، إلى جانب هيمنة السلطات المطلقة على وسائل الإعلام ومحاصرتها المجتمع المدني وقمع ناشطي منظمات حقوق الإنسان، ما يمنح الروايات والقصص والكتابة المسرحية والمذكرات والشهادات والشِّعر دورًا مهمًّا في وصف أساليب الاعتقال والحجز والانتهاكات وطبيعة الحياة في عالم السجن. في سورية مثلًا، يكتسب أدب السجون أهمية كبرى لأنها ظلّت محكومةً من نظام الأسد السلطوي منذ عام 1970 إلى يومنا هذا، ولم يعرف السوريون أو غيرهم في العالم أيَّ أخبارٍ أو رواياتٍ عمّا يحدث في البلد إلّا عن طريق نظام الأسد أو من خلال ما يسمح به، وظلَّت سورية بلدًا مغلقًا أو صندوقًا مجهولًا حتى انطلاق الثورة السورية في آذار/ مارس 2011 التي ازدادت معها أعمال أدب السجون انتشارًا بين السوريين، وفي العالم.
تُظهر شهادات المعتقلين السابقين، إضافة إلى تقارير منظمات حقوق الإنسان العالمية والإقليمية، مثل منظمة العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش، صورةً ثابتةً ومتواصلةً للتعذيب والتحطيم والإذلال وامتهان الكرامة الإنسانية في السجون السورية، علاوةً على ممارسة القتل والإعدامات الميدانية خارج نطاق القانون، ولا يجد الضحايا أو ذووهم، أمام هذا المسلسل الدائم من الانتهاكات سبيلًا إلى نيل حقوقهم أو إلى العدالة والإنصاف. مع هذه الأحوال تصبح الكتابة فعلًا ضروريًّا وحاسمًا بالنسبة إلى المعتقلين أو إلى المطَّلعين على تجارب الاعتقال والسجن، لذلك عمل هؤلاء على نقل تجاربهم وراء الأسوار، وتجارب غيرهم، إلى الجمهور العام على هيئة أعمالٍ أدبيةٍ متنوعة الأشكال، الرواية والقصة والمسرحية والسيرة والشهادة والقصيدة، فكتبوا عن طبيعة الحياة داخل السجن، عن آلام الوحدة، وتجارب فقدان الحرية المرّة، وعمّا تفعله جُدُر السجن بأنفس القابعين في داخلها، وكيف تظل تحبس أنفسهم حتى بعد خروجهم إلى عالم النور.
لا تقلُّ الآلام التي يعيشها المعتقل خارج السجن بعد الإفراج عنه عن الآلام التي تعرّض لها في داخله؛ هذه واحدة من القضايا التي تناولها كثيرون ممّن كتبوا في أدب السجون. يذكر الطاهر بن جلّون في روايته (تلك العتمة الباهرة، 2001) أنّ أكثر اللحظات إيلامًا بالنسبة إلى الراوي كانت بعد الإفراج عنه، عندما جاءت لحظة تمكَّن فيها أوّل مرة، بعد مدةٍ طويلةٍ، من رؤية وجهه في المرآة، فيقول: “وللمرة الأولى منذ ثمانية عشر عامًا أقفُ قبالة صورتي، أغمضت عيني، أحسست بالخوف. خفتُ من عينيّ الزائغتين، من تلك النظرة التي أفلتت بمشقةٍ من الموت، من ذلك الوجه الذي شاخ وفقد سيماء إنسانيته”. “ما عادت تتملّكني الحاجة إلى النظر إلى صورتي في المرآة، إلى تصويب تفصيلٍ أو، ببساطةٍ، إلى التعرّف إلى ذاتي، إلى التثبت من أنّي ما زلت الشخص الذي اعتدت أن أكونه. تلك العادة المفقودة، المنسية، ما عادت تعنيني. فما جدوى أن يرى المرء نفسه؟ الظاهر أنّ على المرء أن يحبّ نفسه قليلاً لكي يحبّ الآخرين. أما أنا فليس لديّ من أحبه أو أكرهه.”
فيما حاول معتقلون سابقون أن يكتبوا عن السجن بطريقة تجعله في متناول أيديهم بأبنيته وبشره ونظامه وآلامه؛ جعلَ بعضهم سجن تدمر مثلًا مرئيًّا بالنسبة إلى الجمهور العام، فأعادوا بناء وتصوير تجاربهم، وكتبوا عن حياتهم وحياة الآخرين فيه، مثل مصطفى خليفة الذي كتب رواية “القوقعة؛ يوميات متلصِّص، 2008″، الرواية الشهيرة التي تناولت الحياة في سجن تدمر بالتفاصيل الدقيقة، سعيًا لكشف الغموض الذي يحوطه، ووضع الناس في صورة الإذلال الذي تعرّضوا له، وفضح هذا العار الذي خلقته السلطة. لا يؤدّي الاعتقال والتعذيب إلى المعاناة الجسدية والآلام النفسية للمعتقل السياسي شخصيًّا فحسب، بل إنه يطال أيضًا أسرته وبيئته الاجتماعية أيضًا، وينجم عنهما تبعاتٌ لا يمكن حصرها.
لا تعترف السلطة بالمعتقل بوصفه إنسانًا، ومن ثمّ من الطبيعي ألّا تعترف بحقوقه كإنسان. على الرغم من الاعتقاد بأنّ الهدف من الاعتقال والتعذيب هو الحصول على المعلومات من المعتقل؛ إلّا أن الهدف الأساس هو تحطيم المعتقل وتفكيكه وتطويعه ليصبح متوافقًا مع صوت السلطة ونهجها ولو ظاهريًّا، فالاعتقال والتعذيب هما وسيلتا السلطة لجعل الإنسان كائنًا غير بشري، ومخلوقًا غير مُعترف بحقوقه وضعفه وهشاشته، لأنّ وحشية التعذيب تؤدّي إلى تقويض إحساس الفرد بنفسه، وبإنسانيته، وبواقعه أيضًا. لذلك كانت عملية تصوير التعذيب في أدب السجون طريقةً للاستشفاء من هذه التجربة القاسية، وتحدّيها، وتجاوزها، وشكلًا من أشكال الوفاء لزملاء السجن الآخرين الذين لاقوا حتفهم تحت التعذيب أو ما زالوا يتعرّضون لهذه الممارسة غير الإنسانية، وتذكيرًا للجمهور العامّ ومنظمات حقوق الإنسان بوجود بشرٍ مغيّبين ما زالوا يدفعون ثمن الحرية من أجسادهم وأرواحهم.
مصطلح أدب السّجون
على الرغم من أهمية كتابات السجن والكتابات المرتبطة بالسجن إلّا أنّ تعبير “أدب السجون” لا يزال مصطلحًا إشكاليًّا من نواحٍ عديدةٍ:
تأثير أدب السجون في الوعي العامّ؛ يرى بعض النقّاد أنَّ مصطلح “أدب السجون” قد ساهم، بطريقة أو أخرى، في تسويق السجون وممارساتها القمـعية، وفي التطبيع مع الانتهاكات الجسدية والنفسية. يرى هؤلاء أنّ من مصلحة الأنظمة القمعية أن تخبر الناس، بصورة غير مباشرة غالبًا، ومباشرة أحيانًا، عن استخدامها التعذيب لإثارة الرعب والخوف في الأنفس، ومن ثمّ فإن الضحايا الذين يتحدثون عن التعذيب الذي تعرّضوا له، سيجدون أنفسهم في مأزق لا يحسدون عليه؛ فعندما يتحدثون في العلن عن تجاربهم في التعذيب سعيًا منهم لتحقيق العدالة، وكي لا تُنسى هذه التجارب، فإنهم بشهاداتهم هذه يعزِّزون من دون قصد قوة تلك الأنظمة، ويساهمون في بثّ الرعب في الأنفس من حيث لا يدرون، ما يشكِّل كابحًا أمام مشاركة الناس في تغيير تلك الأنظمة. بينما يرى آخرون، أنّ التحدّث عن التعرّض للتعذيب وآثاره التدميرية الجسدية والنفسية هو محاولة لتفكيك الوظائف أو الأهداف الرئيسة للتعذيب نفسه المتمثِّلة بتحطيم الفرد المعتقل، وتغييب صوته وتدجينه سياسيًّا، ما يعني أنّ تصوير التعذيب عبر الأدب والشهادات ضروريٌّ لاستعادة أصوات المعتقلين المعذّبين بعد تعرّضهم للتعذيب.
أدب السجون بوصفه نوعًا أدبيًّا؛ كلُّ تصنيفٍ فيه شيءٌ من القسر أو الخطأ أو الخلاف، ولذلك لا توجد تصنيفات ثابتة ونهائية. وهذا ينطبق على الأدب أيضًا؛ فهناك تحديات عديدة تواجه تصنيف الأنواع الأدبية، من حيث الاختلافات حول استخدامها عالميًا، والتطور التاريخي، إلى جانب مسائل المحتوى والشكل، علاوة على أن أي نص أدبي يمكن أن يُدرج في أصناف متنوعة في آن واحد، استنادًا إلى خصائصه الفنيَّة التقنية، والفكريَّة، فضلًا عن الاختلاف بين المؤلِّفين من حيث رؤيتهم إلى الأنواع الأدبية. لذلك، فإنّ تعبير أدب السجون مصطلحٌ خاضعٌ دائمًا للجدل من حيث تصنيفه نوعًا أدبيًا، لأنه نوعٌ غير محدَّدٍ بدقةٍ من حيث الموضوعات أو الأشكال الأدبية التي يتضمّنها، وهذا في الحصيلة أمرٌ طبيعيٌّ. مع ذلك، يفرض علينا المصطلح في الحصيلة، على الرغم من مخاطر التصنيف وأخطائه والاختلافات حوله، تحديد ما يجب وما لا يجب تضمينه في أدب السجون.
يُعرِّفه بعض النقاد بأنه أيُّ نصٍّ خيالـيٍّ أو غير خيالـيٍّ مكتوبٍ عن السجون؛ يقول الأديب والروائيّ المغربيّ مصطفى لغتيري معرِّفًا أدب السجون: “الكتابة التي تلامس تجربة الاعتقال السياسيِّ، وتتّخذُ من الكتابة وسيلةً لتصفية الحساب مع تجربةٍ إنسانيّة ووجوديةٍ ونفسيةٍ مريرةٍ، قد يكون المرءُ عاشها فعلًا أو سمع عن تفاصيلِها من أحد السجناء أو فقط عبارة عن تجربةٍ مُتخيَّلةٍ لها ما يدعمها في الواقع، مما حدث لكثيرٍ من السجناء، وتناقلته الألسنة أو وسائل الإعلام.. باختصار، إنه أدبٌ يحاول توثيق أبشع جرائم الإنسان تجاه الإنسان”.
يعني هذا التعريف أننا أمام ثلاثة أنماط من الكتابة التي يمكن أن تُدرج في خانة “أدب السجون”: الأول؛ الأدب الذي كتبه معتقلون لم يكونوا أدباء سابقًا، لكنهم كتبوا نصوصًا أدبية بسبب سجنهم، الثاني؛ الأدب الذي كتبه أدباء لك يُسجنوا لكنهم اتّخذوا من عالم السجن إطارًا لنصوصهم الأدبية، الثالث؛ الأدب الذي كتبه الأدباء السجناء، أي النصوص الأدبية التي كتبها أدباء عن عالم السجن في أثناء اعتقالهم أو بعد الإفراج عنهم. مع ذلك، هناك آخرون يربطون أدبَ السجون بنصوص التجارب المباشرة للأشخاص الذين اعتُقلوا فعلًا فحسب، على الرغم من أن آخرين يرون أن أدب السجن الذي كتبه المعتقلون له قيمة إيجابية، توثيقية واجتماعية، لكنه قد يفتقد إلى القيمة الأدبية الجمالية، علاوةً على أنَّ كتابه لم يصبحوا أدباء فعليِّين لأنّهم لم يواصلوا عملية الكتابة.
الموضوعات المتناولة في أدب السجون؛ فهناك أعمال أدبية تُصنَّف ضمن نوع أدب السجون على الرغم من أنّ تصوير السجن والاعتقال والتعذيب فيها لا يظهر إلّا في خلفية العمل الأدبي أو بصورة نادرة. ففي الوقت الذي يشكّل فيه تصوير التعذيب، بما يتضمنه من عقابٍ بدنيٍّ وإيذاءٍ نفسيٍّ، سدى بعض أعمال أدب السجون ولحمتها، فإنّ هناك عددًا من أعمال أدب السجون العربي المعاصر لا يجعل التعذيب محورًا رئيسًا للكتابة عن تجارب المعتقلين السياسيين، إذ يعمد بعض الأدباء، مثل إبراهيم صموئيل، إلى تهميش أو تجنب التصوير المباشر كليًّا لأعمال التعذيب وتفاصيلها والمعاناة التي تنجم عنها بصورة مباشرة، وتركِّز قصصه بدلًا من ذلك على كيفية إدراك شخصياتها لفقدان الكرامة والأذى النفسي والعاطفي الذي يسبِّبه نظام الاعتقال عمومًا، علاوة على تأثير الاعتقال في حياة أقارب المعتقل خارج السجن. كذلك، تناول الجزء الأول من مجموعة قصص عزت الغزاوي (سجينة، 1978)، معاناة أمِّ السجين التي تزور ابنها السجين في سجنه، وما ألمَّ بها، ما يعني أنّ موضوعات أدب السجون لا تقتصر على عالم السجن الداخلي، وعلى ما يجري داخل جُدُر السجن فحسب، بل إنها تمتدّ لتطال مساحة الحياة كلها، والموضوعات كافة، وهذا طبيعي لأنّ وجود السجن في الحياة العامة يحوِّل البلد كله في الحصيلة إلى سجن، وتطال المعاناة الجميع، سواء أكانوا داخل السجن الصغير أم خارجه في السجن الأكبر. عند هذه النقطة الأخيرة كانت النقطة التي ركّزت عليها نهاية مذكرات هبة الدباغ (خمس دقائق وحسب، 2007)، ونهاية رواية مصطفى خليفة (القوقعة؛ يوميات متلصِّص، 2008)، فقد تركت الروايتان انطباعًا بأنّ الحدود بين داخل السجن وخارجه أصبحت غائبة.
نطاق الأشكال الفنية لأدب السجون؛ يرى بعض النقاد أنّ مصطلح “أدب السجون” أوسع كثيرًا من أن يقتصر على الأنواع الأدبية المعروفة المكتوبة بلغة عربية فصحى، مثل الرواية والقصة القصيرة والمسرحية والشعر وغيرها، بل يمكن توسيع نطاقه ليشمل الشعر الشعبي والشهادات المصوَّرة والسير الذاتية، إضافة إلى الأفلام الدرامية والمسرحيات باللغة العامية. على الرغم من أن هذا الأمر موضع جدال إلّا أننا نستطيع الإشارة إلى الكثير من الأعمال الفنية التي تناولت الاعتقال والتعذيب والسجن السياسي بهذه الطريقة، فعلى مستوى الأفلام نجد فيلم (الكرنك، 1975) المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ، وهو من إخراج علي بدرخان، وسيناريو ممدوح الليثي، وفيلم (زوجة رجل مهم، 1988)، سيناريو رؤوف توفيق، إخراج محمد خان، وفيلم (العصفور، 1972)، سيناريو لطفي الخولي بالمشاركة مع مخرجه يوسف شاهين، وغيرها. وفي المسرح نجد الكثير من الأعمال الفنية، وكان من روّادها سعد الدين وهبة، لينين الرملي، صلاح عبد الصبور، ميخائيل رومان، محمود دياب، وغيرهم.
المشتركات بين أدب السجون وأدب المنفى؛ ربما باستثناء التعذيب الجسدي المباشر الذي يتعرّض له المعتقل على أيدي جلّاديه، تتشابه معاناة المعتقل مع معاناة المنفي في أمورٍ عديدةٍ، وكثيرًا ما تتماثل تجربتا المنفى والاعتقال من حيث الأسباب والملابسات والآثار، وهما تمثِّلان من حيث الجوهر وسيلتين للعقاب السياسي بما تنطويان عليه من إبعادٍ وعزلٍ واغترابٍ، وهذا ما يجعل موضوعات أدب السجون وأدب المنفى واحدة تقريبًا. السجن منفى، أو هو “المنفى الداخلي” بحسب تعبير جميل حتمل، حيث يُطرد المعتقل بالقوة ويختفي قسريًّا من ساحة الوطن أو من الساحة العامة. ولذلك تُظهر قصصه أنّه يمكن النظر إلى أدب السجون بوصفه أدب المنفى أيضًا.
جماليات أدب السجون؛ لا شكّ أن العديد من أعمال أدب السجون تحتوي جماليات أدبية عالية، وإبداعات فنية راقية، تجعل الناس يقبلون بكثافة على قراءتها والاحتفاء بها وتمجيد كتابها وأبطالها، لكن ينبغي في هذا السياق ألّا تغيب عنا، كما يشير إدوارد سعيد، العواقب الوخيمة والمأسَويّة للاعتقال السياسي والتعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان المختلفة في عالم السجن. والأمر نفسه ينطبق على المنفى، فعلى الرغم من أن إدوارد سعيد يشير إلى منافع المنفى بوصفها عناصر تعويضية، وتأكيده أن المنفى “عنصر قوي، بل وثري، من عناصر الثقافة الحديثة،” وعلى الرغم من إدراكه لوجود شكلٍ من أشكال الرؤية السحرية المرتبطة بشخصية “الكاتب المنفي”، إلّا أنه في المقابل يحذِّر من أن يقودنا الاحتفاء بجماليات المنفى والإعجاب برومانسية الكاتب المنفي إلى الاستهانة بمعاناة المنفيّين والتقليل من “حقيقة الرعب والخسارة التي يعانيها من لاذوا بالفرار للنجاة بحياتهم.”
أدب السجون وحقوق الإنسان
لا شكّ أنّ هناك أهميةً كبيرةً للعمل الذي تؤديه منظمات حقوق الإنسان الدولية والمحلية، بالاستناد إلى نظام حقوق الإنسان الدولي بما يحتويه من اتفاقاتٍ وبروتوكولاتٍ ولغةٍ وخطابٍ، خاصة أنه لا سبيل فعلًا إلى معرفة ما يحدث في سورية من انتهاكات وفظائع إلّا من خلال هذا العمل الخطر الذي يؤدّيه ناشطو حقوق الإنسان في توثيق وجمع البيانات والأدلة وتسجيل الشهادات. مع ذلك، يظهر هذا العمل قاصرًا عند الاطلاع على النصوص الأدبية التي كتبها المعتقلون والناجون، إذ ترى شريعة طالقاني مثلًا أن تقارير حقوق الإنسان التي تصدرها المنظمات الحقوقية لا تستوعب أو تحتضن أصوات المعتقلين والناجين من الانتهاكات وتعبِّر عنها، فالتركيز على التوثيق بطريقة منظمات حقوق الإنسان، في بعض الأوقات، يمكن أن يطمس من دون قصد أو يستثني أصوات المعتقلين وتجارب اعتقالهم التي عايشوها، ولا سيّما أساليب حياتهم التفصيلية وآلامهم الذاتية وهواجسهم وقلقهم تجاه ذويهم وعائلاتهم خارج السجن ولحظات ضعفهم ووسائل مقاومتهم وطرائقهم في محاربة الانتظار الثقيل والاستفادة من الوقت. هذا التجاهل قد يؤدّي عمليًّا ذلك إلى إخماد صوت المعتقل بوصفه إنسانًا قادرًا على الحديث والتعبير من دون قصد.
يساعدنا هذا الفهم في تقبّل افتتاح آفاق جديدة لحقوق الإنسان وإعادة التفكير فيها، وإحداث تغييرٍ في فهمنا لما يشكِّل حقًا من حقوق الإنسان في المجتمع الدولي في ضوء تغيرات الواقع والتطورات الحديثة، لكن مع تأكيد محورية “الإنسان” ضمن منظومة حقوق الإنسان وخطابها. وبمعنى آخر تأكيد ضرورة الإيمان بمفهومٍ طموحٍ لحقوق الإنسان يتّسم بالمرونة الكافية لاستيعاب الصيغ الجديدة والبديلة، ولتجاوز الفجوات الملموسة في القانون الدولي لحقوق الإنسان. ومن ثمّ، كما ترى شريعة طالقاني، لا بدّ من إعادة بناء منظومة حقوق الإنسان وإصلاح نظام حقوق الإنسان الدولي وإعادة هيكلته وجعله أكثر فاعلية في إطار عالمي، على أن تأتي هذه التغييرات من المعتقلين أنفسهم، أي يجب أن تأتي الطاقة اللازمة لحماية، وتوسيع، وإعادة صوغ، حقوق الإنسان من أولئك الذين أُفسدت حياتهم بسبب القمع والاضطهاد والاستغلال. ربما لو استمعنا إلى الأصوات النقدية والبديلة، وبحثنا عن أساليب تعبير أولئك الذين واجهوا الظلم؛ لأمكننا عندئذٍ البدء بصوغ مفهومٍ جديدٍ وممارساتٍ جديدةٍ ومتنوعةٍ وفاعلةٍ لحقوق الإنسان العالمية، من شأنها أن تؤدّي إلى مستقبلٍ تغيب فيه السلطات القمعية عن الوجود أو تتضاءل قدرتها كثيرًا على الإفلات من العقاب في الحدّ الأدنى.
يمكن النظر إلى أدب السجون في المنطقة العربية، في هذا السِّياق، بوصفه انعكاسًا لأزمة الديمقراطية، فهو يظهر عمومًا في بيئة قمعية استبدادية
لا تقلُّ الآلام التي يعيشها المعتقل خارج السجن بعد الإفراج عنه، عن الآلام التي تعرّض لها في داخله؛ هذه واحدة من القضايا التي تناولها كثيرون ممّن كتبوا في أدب السجون
حاول معتقلون سابقون أن يكتبوا عن السجن بطريقة تجعله في متناول أيديهم بأبنيته وبشره ونظامه وآلامه؛ جعلَ بعضهم سجن تدمر مثلًا مرئيًّا بالنسبة إلى الجمهور العام، فأعادوا بناء وتصوير تجاربهم، وكتبوا عن حياتهم وحياة الآخرين فيه
على الرغم من الاعتقاد بأنّ الهدف من الاعتقال والتعذيب هو الحصول على المعلومات من المعتقل؛ إلّا أن الهدف الأساس هو تحطيم المعتقل وتفكيكه وتطويعه ليصبح متوافقًا مع صوت السلطة ونهجها ولو ظاهريًّا
إنّ التحدّث عن التعرّض للتعذيب وآثاره التدميرية الجسدية والنفسية هو محاولة لتفكيك الوظائف أو الأهداف الرئيسة للتعذيب نفسه، المتمثِّلة بتحطيم الفرد المعتقل، وتغييب صوته وتدجينه سياسيًّا، ما يعني أنّ تصوير التعذيب عبر الأدب والشهادات ضروريٌّ لاستعادة أصوات المعتقلين المعذّبين بعد تعرّضهم للتعذيب
تتشابه معاناة المعتقل مع معاناة المنفي في أمورٍ عديدةٍ، وكثيرًا ما تتماثل تجربتا المنفى والاعتقال من حيث الأسباب والملابسات والآثار، وهما تمثِّلان من حيث الجوهر وسيلتين للعقاب السياسي بما تنطويان عليه من إبعادٍ وعزلٍ واغترابٍ
لا بدّ من إصلاح نظام حقوق الإنسان الدولي وإعادة هيكلته، على أن تأتي هذه التغييرات من المعتقلين أنفسهم؛ أي يجب أن تأتي الطاقة اللازمة لحماية، وتوسيع، وإعادة صوغ، حقوق الإنسان من أولئك الذين أُفسدت حياتهم بسبب القمع والاضطهاد والاستغلال