هل للسجن أدب؟

في عام 1963 قاد الضابط “زياد الحريري” انقلابًا عسكريًا أسقط عهد الانفصال؛ كان وراءه ضباط ناصريون وبعثيون. عقب نجاح الانقلاب، باشر الضباط البعثيون احتكار الانقلاب لحسابهم، بتصفية الضباط الناصريين، بإبعادهم عن مناصبهم وتسريحهم.
بالعودة إلى عهد الانفصال، كانت المدارس والجامعة مراكز صراعٍ بين الانفصاليين والوحدويين. بعد الانقلاب، أو ما دعي بثورة 8 آذار، أصبحت مراكز صراعٍ بين الطلبة الوحدويين، بعدما انقسموا إلى ناصريين وبعثيين. كان الطلبة البعثيون منظّمين في الحزب، بينما بدأ الطلبة الناصريون بالتعرف بعضهم إلى بعض في المظاهرات، وقاموا بتأسيس منظمات صغيرة وخلايا، ويبحثون عن أحزاب تحتضنهم، إذا كان نشاطهم تلقائيًا يعتمد على التظاهر.
شاركتُ وأنا طالبٌ في التظاهرات ضد البعثيين، كانت حماسيةً من دون ارتباط بتنظيم، إحداها كانت اعتصامًا في داخل المدرسة، حوصرت بالمدرعات والجنود، وكادوا أن يقتحموها لولا تدخّل المدير “سعد الدين القواص” وكان شخصيةً مرموقةً في الجهاز التعليمي، توسّط لفضّ الاعتصام، ولم ينجُ بعض الطلبة من الاعتقال.
انضممت على الأَثَر مع أصدقاء التظاهر إلى خلية يرأسها طالب في البكالوريا، كانت من النوع الذي يُأسَّس اليوم، وينفرط بعد أيام؛ ضم التنظيم كما ظهر في ما بعد خليتان لا يزيد عدد أعضائهما عن عشرة طلبة، قُبض على خمسة، ولوحق الآخرون. هذا هو التنظيم كله. لم يتعدَّ نشاطه ثلاثة اجتماعات، من جرّاء إخبارية، إذ توسّم أحد اعضاء الخلية في شابٍ الإيمان بالوحدة، فدعاه إلى التنظيم، ليظهر في ما بعد أن أخوه كان بعثيًا وربما مخبرًا تذكرنا عقب القضاء على حركة 18 تموز/ يوليو التي سمعنا عنها في الراديو، مع أصوات الرصاص في ساحة الأمويين.
وهكذا تعرفتُ إلى السجن في وقت مبكر، لم أكن قد بلغت السادسة عشرة من عمري، كنتُ طالبًا في الصف العاشر في مدرسة التجهيز الأولى بدمشق “جودة الهاشمي”. اعتُقِلت في العطلة الصيفية في شهر آب/ أغسطس بسيارة فولكس فاكن صغيرة، وهي السيارة التي كانت المخابرات تستعملها، لا تتسع لاعتقال واحد أو اثنين، لملم عناصر المخابرات أعضاء الخلية الخمسة بالتقسيط كل واحد من بيته، اقتادونا إلى الفرع الذي كان في منطقة ركن الدين.
استُقبلت في الفرع، بالصراخ والوعيد، وُضِعَ الأصدقاء الذين سبقوني في غرف التحقيق. أما ماذا كان هذا التحقيق، فالترهيب أكثر من التعذيب، ولم يزد عن بضع صفعات أو فلقة كانت تتلاءم مع أعمارنا، فوجئوا بأننا مجرّد أولاد؛ ولكن كان القضاء على تظاهرات الطلبة مطلوبًا.
أخرج الضابط الذي حقّق معي -بغية التسريع في التحقيق- مسدسه وألصق فوهته برأسي، وهددني بإطلاق النار، كانت الحركة المسرحية واضحةً جدًا، لم يخفَ عليّ أنها تمثيل بتمثيل. لم يكن لدي ما أخفيه، خاصةً أنّ الوحدة مطلب وطني، فبماذا أعترف؟ تشاطر المحققون معنا وحاولوا ربطنا بحركة 18 تموز، وكان قد مضى على إخمادها بحسب ما أذكر حوالى شهر. كان من السخرية محاولة تلفيق مشاركتنا في هذه الحركة الدموية التي تتجاوز ما قد يكون لطلبة المدارس دورًا فيها.
طلب منا المحقق تعبئة بيانات مطبوعة، تحتوي على أسئلة خاصة بالشيوعيين، كانوا من زوار الفرع المداومين، وعندما نبهناه إلى أننا لسنا شيوعيين، أُعفينا منها، ووُجِّهَت إلينا الاتهامات المعروفة: الانتساب لتنظيم محظور، قلب نظام الحكم، التآمر على الدولة، وغيرها مما سيصبح عاديًا. لم نتردد في التوقيع عليها، فالاتهامات كانت سيريالية أكثر منها واقعية.
بعد انتهاء التحقيق والتوقيع على الاعترافات. تناقشتُ بكل حرية مع المحقق الذي اتخذ صفة رجل وطني بعثي وحدوي. دافعتُ بكل حماسة عن الجمهورية العربية المتحدة وعبد الناصر. وقد كان من بين عناصر الفرع من سمعني، ونصحني مشفقًا عليّ الانتباه إلى دروسي، ونبّهني عقب تحويلي إلى المحامي العام، وكان في البرلمان الذي احتله العسكر، بأن أنكر اعترافي، وقول إنني وقعته تحت التعذيب.
أمام المحامي العام، أنكرتُ اعترافي، فغضب وهدر وزمجر، وهددني بالضرب، كان بعثيًا قحًا، فأصررتُ، وأصرّ؛ لم أستجب له، فانزعج وطلب من كاتب الضبط تسجيل إنكاري على أنه ادعاء باطل.
بدا من المسلَّم به أنهم سيطلقون سراحنا بعد بضعة أيام لمجرد أننا طلبة، لكنّ الإفراج عنا كان مستحيلًا، في ظل عملية تنظيف الجيش ودوائر الدولة والمعامل والجامعة والمدارس من الناصريين. جرى تحويلنا إلى سجن القلعة تمهيدًا للمحاكمة، وكان الأمل أنهم عند المحاكمة سيفرجون عنا، ويطردوننا من قاعة المحكمة.
في الواقع، لم يكن الاعتقال ولا التحقيق تجربة سيئة، وإن كانت مريرةً في وقتها. الأمر الجيد، بالنسبة إلى أعمارنا، أنه لم يصعب ملاحظة مهزلة التحقيق، والمبالغات المفضوحة في التهويل علينا، لكن الصدمة الكبرى ستكون في السجن.
أُودعنا في سجن القلعة القاووش 14 وكان مخصصًا للموقوفين ريثما تجري محاكمتهم. بما أنني كنتُ أصغر الطلبة سنًا، قضيتُ ليلتي الأولى في القلعة أيضًا، لكن في سجن الأحداث. لم أنم طوال الليل، ما فيه كان راعبًا، غابة من الأولاد الجانحين، حليقي الشعر، سواء أكانت جرائمهم السطو أو الاعتداء والاغتصاب وربما القتل، فلا شعور بالذنب، بل التفاخر والزهو بما أقدموا عليه؛ يتشاجرون بلا سبب لمجرد التسلية وتزجية الوقت، يشتمون بعضهم بعضًا بعبارات فاحشة، ويتمازحون بخشونة وعنف، ولا غرابة في أن ينتحي ولدان جانبًا ليتلامسا على الملأ، أو يقف سجين في الثلاثين من عمره من عناصر السخرة عند قضبان المدخل الحديدية يغازل ولدًا في الخامسة عشرة من عمره، لا تثير هذه المناظر سوى سخرية الأولاد والتهليل. كان المهجع يغلي بالفوضى والضجيج في عالم منفلت من الضوابط الأخلاقية. كنتُ مجرد طالب يهوى القراءة ويؤمن بالوحدة العربية التي يهون في سبيلها الاعتقال والتعذيب، لا يتوقع وجود فساد بلا حدود، يخالف ما نشأ عليه، حتى إزاء ما سمع عنه من شرور.
في اليوم التالي نقلت بالواسطة إلى القاووش 14 حيث احتُجز أصدقائي، فانتهت مخاوفي تلك، وبدأت مخاوف أخرى، مذ اجتزت عتبة القاووش، طالعني اشتباك بين ثلة من المساجين، احتدم القتال بينهم، وأشرعت الكندرجيات وسالت الدماء. تدخلت الشرطة ونقلت اثنين إلى المستوصف لتضميد جراحهم، ثم إلى السيلول “المنفردة” عقابًا لهم.
خلال يوم واحد، انكشف عالم القاووش 14، كان يجمع مختلف أنواع البشر؛ مجرمون، منحرفون ومدمنون، لصوص ومحتالون، وأبرياء مساكين ارتكبوا مخالفات تافهة، باعة بسطات لمجرد تجاوزات على الرصيف، وربما شكوى كيدية، رماهم حظهم السيء في السجن، ورجال كبار في السن مذهولون وصامتون، لا يدرون ما الأقدار التي قذفت بهم إلى عالم موبوء، بينما المجرمون يتباهون بجرائمهم، فالرجولة بالجرائم والاتجار بالمخدرات، والسطو على المحلات.
كان للسياسيين مكانة خاصة، يتمتعون بالاحترام لأنهم ضد الدولة، بمعنى ما يشاركون المساجين التمرد على السلطة، يقلل من شأنهم أنهم كسبوا عداوتها، من دون مكاسب، لم يرتكبوا ما كان متعارفًا عليه: سرقة أو تحشيش أو قتل. يبدون بمنتهى السذاجة، أبرياء فعلا، ولو كانوا ضد الدولة. لا يزيد ما يفعلونه في القاووش، أكثر من التوزع في مجموعات، بصرف النظر عن اتجاهاتهم الحزبية الناصرية والشيوعية والإسلامية، يثرثرون مع بعضهم بعضًا، تعلو أصواتهم ويغضبون، عدا ذلك يفرطون في التدخين.
في المساء يعقد المساجين الجنائيين حلقات التحشيش والقمار وشرب العرق، يرافقها الغناء بأصوات مخمورة ومبحوحة. يمارسون الممنوعات كلها. غالبًا لا يمضي شهر، أو ربما أسبوع إلا وتدهم المهجع حملة من الشرطة على رأسها ضابط إثر إخبارية من جاسوس (عوايني)، يُعلَن عنها فجأةً بصوت يأمر المساجين بعدم التحرك من أماكنهم، فيتجمد الجميع، لتبدأ حفلة التفتيش، وينقلب المهجع رأسًا على عقب، ولا يجدون شيئًا عادةً.
إن لم يصدر حرمان، يُمضي المساجين يوميًا ساعتين في المشي والتشمس في “ساحة التنفس” حيث يتنفسون الصعداء، يتبادلون الأحاديث، ويعقدون الصفقات، وربما تحدث في الساحة تصفية حسابات، تؤدي إلى مقتلة وجرحى ودماء، تتدخل الشرطة وتشتبك مع الفاعل، ينجو منهم بتشطيب بطنه، وبدلًا من أن يؤخذ إلى السيلول مع لسعات الخيزرانات، ينقل إلى المستوصف، أو إلى المستشفى لتضميد جراحه.
تحادثت مع شاب أعتقد أنه من حزب التحرير الإسلامي، كان السجن بالنسبة إليه قدرًا وامتحانًا، لم يشكُ أو يتذمر، كان راضيًا وهانئًا، فالسجن لا يضيره بقدر ما يثبت إيمانه ضد دولة الكفر. كان صاحب بصيرة. قال لي: أنت لن تعود إلى السجن. وصدق في حدسه، فما اختمر في داخلي وقتها، أنني سأتجنب السجن بكافة الوسائل، السجن مضيعة للعمر، وإذا كان تجربةً فلا ينبغي لها أن تطول. هذا ما أدركته. وأعتقد أنه مهما طال عمر هذا الشاب، فقد كان يسعى للشهادة بقدم ثابتة، وروح وثابة ونفس مطمئنة. مع هذا ستثبت الأيام لكلينا، أنه مهما كانت نظرتنا صائبة، لن نستطيع التحكم في مصائرنا مع هذا النظام، كنتُ معرّضًا للاعتقال، بسبب رواياتي قبل الثورة، لكنني حاذرتُ أن أثير أي ضجة حول ما أكتبه، مع أن الوسط الثقافي امتلأ بهؤلاء الذين يثيرون صخبًا لما يكتبونه عن عمد، طلبًا للشهرة ولو كان لأسباب تافهة، كنتُ حذرًا، لم أسعَ إلى الشهرة، إذ كانت تعني التحقيق والملاحقة والسجن. كنتُ أعرف أن الشهرة تعني استرضاء السلطة أيضًا، ولم أكن على استعداد لهذا الأمر مطلقًا.
أمضيتُ في السجن 55 يومًا، خرجتُ منه بسند كفالة تحت المحاكمة، أُفرج عني قبل بدء الدوام المدرسي بأيام قليلة. بعد بضعة أشهر صدر عفو عام عن الجرائم المرتكبة، فشملني.
لعنة السجن لم تفارقني، وكانت أشبه بالنعمة، لم تذهب تجربتي هباءً، وكانت كافيةً، تجاوزتُها ولم أسعَ لنسيانها، انعكست في روايتي الأولى “موزاييك”، حيث أدى السجن دورًا مفصليًا في عدة مشاهد، فقد قضى الكابتن صولاني فترة سجنه في قلعة دمشق، وهي حادثة حقيقية بطلها حسني الزعيم، كذلك في روايتي “تياترو” باعتقال الشامي المتمصر حبيب رزق الله صبيحة اليوم الأول من الانقلاب، قضى عدة أشهر في “السيلول” من سجن القلعة. وفي روايتي الثالثة “صورة الروائي” استعدتُ الاعتقال والتحقيق وحفلات التعذيب، وكانت الذروة في “السوريون الأعداء”. وإذا كنتُ قد استقيتُ تفاصيل سجن تدمر من الخريطة، وما يدور فيه من المراجع في الفترة التي أعقبت مجزرة حماه، لكن ما دار في الوجدان والأذهان والأحلام من أفكار ورؤى وكوابيس، كان مما اسعفتني به ليس الذاكرة، بل من القدرة على التماهي مع الأجواء الرهيبة لسجن تدمر؛ لا شيء يذهب هباء، عندما نحتاجه، يُستدعى من حيث لا نتوقع.
بالعودة إلى الاعتقال والتحقيق معنا كطلبة بلا تنظيم، وعلى الرغم مما انتابنا من مخاوف، كانت تافهة قياسًا على ما كان يجرى طوال حكم البعث، إذ لم توجد رحمة حتى في ذلك الوقت. بينما لو أننا اعتقلنا في هذا الزمن، لأجبرنا ليس على التوقيع على اعترافات تملى علينا، وهو أهون الشرور، وإنما بالاعتراف على شاشة التلفزيون، بارتكاب ما شاء لهم من الجرائم.
أيضًا، مقارنة بالزمان الأسدي الذي بلغ القمع أقصاه خلال الثورة والحرب. تعتبر فترة اعتقالي وكأنها لا تزيد على نزهة، لكن بالنسبة إلى طالب في الصف العاشر، كانت مروعة، لم يعرف سوى مراجعة دروسه وهواية القراءة والهتاف لعبد الناصر والوحدة العربية، لذلك كانت بصمة السجن قوية، كوّنتْ لدي الانطباع الأول والراسخ عن دولة الطغيان في جحر المخابرات والسجن، والتعرف على فقدان الحرية، والافتقاد إليها، وأنه لا يمكن التنازل عنها؛ ولا يحق لأي جهة انتزاعها ولا حرماننا منها.
لا أدري إن كان يصحّ بأن يُفرد لتجارب السجن نوع أدبي خاص يطلق عليه “أدب السجون”، فالغرب لم يعرف هذا التصنيف، مع أن أوسكار وايلد الكاتب الشهير كتب عن السجن كتابه “من الأعماق”، وكذلك غيره، لكنهم لم يفردوا للسجن أدبًا خاصًا. أعتقد أن الذي ابتكر هذا التعبير، نحن العرب، بعدما أصبح السجن جزءًا من حياتنا، فلماذا لا يكون جزءًا من أدبنا، خاصةً أنه لا يستثني أحدًا، الكبار والصغار. الرجال والشبان والنساء والفتيات، والأطفال والرضع. كانت هناك مقولة تُكتب على اللافتات: “لكل مواطن دوره في المعركة” كنا نحرّفه ساخرين إلى “لكل مواطن دوره في السجن”، إذ للسجن حصةٌ في حياتنا، وربما النصيب الأكبر. وقد يكون السجن مقبرةً للسجين، يلفظ أنفاسه الأخيرة في داخله، ربما تحت التعذيب.
إذ كان من المعروف عن سجون ليبيا أنها سجون الموت، وعلى هذا المنوال سجون العراق وسورية، خاصة في زمن صدام، والزمن الأسدي، وبلغت حدودًا لا نظير لها في سورية زمن الربيع العربي، ولم يُشهد موت ممنهج يضارعه.
هل نطمح إلى تحويل سجوننا إلى إصلاحيات، بدلًا من أن تكون في أيام الاستقرار مدرسةً للإجرام، وفي زمن الاضطرابات مكانًا للتعذيب والقتل والموت السريع والبطيء. وإذا أصبح السجن مادة للأدب، فقد بات مادةً لتجرع الآلام. أما الأمل، فكي تعرف الأجيال القادمة ما دفعه هؤلاء الذين قضوا زهرة أعمارهم في السجن، وذاقوا العذاب والموت في سبيل أن يتمتع من يأتي بعدهم بالحرية.
الحرية ثمينة؛ ثمينة إلى الحدّ الذي تعادل الحياة نفسها.

مشاركة: