حوار مع الكاتب القصصي إبراهيم صموئيل

1- تتناول ميريام كوك في الفصل السابع (خَفِّف الوطء) من كتابها (سورية الأخرى: صناعة الفن المعارض) تجربة أدب السجون في سورية، خاصة تجربتي غسان الجباعي وإبراهيم صموئيل، وترى أن أدب السجون السوري “يوفر منظارًا إلى الحياة تحت الحكم الاستبدادي”. وتنقل عنك قولك “حياة السجن ليست جائرة أكثر من الحياة خارجه. السجن موشوم في روحي لذا فهو يتدفق في دم كل شيء أكتبه. قد تذهب الضربات، لكن ألم الروح يبقى إلى الأبد”. بعد مرور مدة طويلة على خروجك من السجن، هل ما زال السجن قابعًا في روحك؟ ألم يتحوَّل إلى مُلهم لك في كتاباتك؟

بالتأكيد، لم يعد السجن قابعًا في روحي. فلو مكث السجن فيها لكنتُ إلى اليوم داخله أُعاني ما أُعاني، رغم خروجي منه. آثار تجربة السجن لديَّ متداخلة وشائكة بعض الشيء. ففي اليوم الذي خرجتُ فيه من السجن، دلفتُ إلى حياة أُخرى، فلم يبقَ منه إلاّ ما تحفظه ذاكرتي، أمّا روحي فقد اغتسلتْ من كابوسه ووطأته. في ما يتعلَّق بي شخصيًّا – ولا أُعمّم – فإنَّ التجربة أفعمت قلبي بحبّ تفاصيل الحياة، الصغيرة جدًّا منها والكبيرة. وربما ليس بمستغرب أن الحصار والضّيق والحرمان والقسر والتعذيب والمصادرة وجراح الأعماق وغيرها من مُفردات السجن قد أوقدت في نفسي نقيضَها. خرجتُ من السجن عاشقًا كما لم أعشق، ومُقبِلًا كما لم أُقبِل، ومُقدّرًا كما لم أُقدّر، ورائيًا كما لم أرَ.
هل مُؤدّى كلامي “التطييب” لتجربة الاعتقال والزجّ في السجون؟ بالقطع والمُطلق: لا! بل لطالما قلتُ: لا أرضى بالسجن حتى لأشدّ الحيوانات عدوانية وافتراسًا. فالسجن أخسُّ وأحطُّ وأشقى ما اخترعته البشرية، حتى القتل نفسه لا يفوق السجنَ قهرًا وبؤسًا وتوحّشًا. فالقتل يُنهي حياةَ المقتول ويعدم مشاعرَه… أمّا السجن العُرفي في قبضة المُستبدّ فيزجُّ بالسجين – بكامل فيض مشاعره وتوقه وحواسّه وذكرياته وأحلامه.. – تحت أنقاضٍ هائلٍة، من دون أن يدري إنْ كان سيخرج من تحت الركام والأنقاض يومًا أم سيقضي فيه؟ وبذا يتمُّ تحويله إلى كائن لا هو من بين الأحياء ولا هو في عِداد الموتى!!
أمّا عن تحوّل السجن إلى مُلهِم لي في ما كتبتُ، فقد يكون كذلك.. لكنه – فيما أحسب وأشعر – على مقدار ما تكون الشرارة علَّة ألسنة النيران المُندلعة في الغابة. أيًّا كان، فإنّ الحمل بالقصص وولادتها تمَّا حين كنتُ مُنفردًا داخل الزنزانة في الاعتقال الثاني، فاحتفظ رأسي بها إلى يوم إطلاق سراحي.

2- قلت عن أدب السجون في أحد الحوارات الصحفية: “أدب السجون له حساسية بالغة، إذ من الممكن أن يؤدي إلى تخويف القارئ وبث الهلع فيه من تجربة السجن، ولكن في الآن نفسه لا بدّ من فضح وتعرية قسوته وآلامه وكوابيسه الواقعة على السجناء.” وقد عبَّرت شريعة طالقاني عن هذا الأمر عندما عرضت الانتقادات الموجَّهة إلى أدب السجون، وذكرت أن بعض النقّاد يرى أنَّ “أدب السجون” قد ساهم، بطريقة أو أخرى، في تسويق السجون وممارساتها القمعية، وفي التطبيع مع الانتهاكات الجسدية والنفسية، ومن ثمّ فإن الضحايا الذين يتحدثون عن التعذيب الذي تعرّضوا له، قد يساهمون في بثّ الرعب في الأنفس من حيث لا يدرون، ما يشكِّل كابحًا أمام مشاركة الناس في تغيير واقعهم. بينما ترى طالقاني، أنّ التحدث عن التعرّض للتعذيب وآثاره التدميرية الجسدية والنفسية هو محاولة لتفكيك الوظائف أو الأهداف الرئيسة للتعذيب نفسه المتمثِّلة بتحطيم الفرد المعتقل، وتغييب صوته وتدجينه سياسيًّا. ما رأيك؟

مرةً أخرى، نحن أمام معادلة شائكة، معقَّدة بعض الشيء.
بلى، أدب السجون له حساسيّة بالغة، تنبع – في آنٍ – من الكاتب وزاوية النظر لديه وطريقته في الطرح وأسلوبه في التعبير من جهة، ومن القارئ ووعيه الفكري وبنيته النفسية وإمكانات مخيّلته من جهة أُخرى. نحن أمام ثلاث حقائق ومُعطيات لا فكاك منها: لا محال من اعتقال الناس الواقعين تحت سلطة الأنظمة الاستبداديّة – فما بالك بالواقعين تحت طغيان العصابات المُتسلّطة كما الحال في بلدنا – ولا محال من أنْ يُعبّر الشخصُ المُعتقَل، كاتبًا كان أو غير كاتب، عن محنته التي عاشها وآلامه الروحية والجسدية، ولا مهرب من أنْ يسمع أو يقرأ أو يُشاهد غيرُ المعتقَلين من الناس تلك المحن ومُكابدات أصحابها.
والحساسية، بعد ذلك، ستتجلَّى بشكل رئيس في الـ: كيف؟ كيف ينظر صاحب التجربة إلى معاناته، وكيف يُعبّر عنها؟ وكذا، بأيّة بُنية وخلفية نفسية وذهنية واجتماعيّة يتلقى المُتلقي نتاج تجربة الكاتب؟

3- عن رائحة الخطو الثقيل، كتب الأديب ممدوح عدوان: ما يلفت الانتباه في هذه المجموعة من القصص القصيرة التي تنزف بفعل السياسة، أنها تخلو من كلمة سياسية واحدة، وقال أيضًا إنك اكتشفت قضيتك في السجن. هل قضيتك، وما عبَّرت عنه في أعمالك القصصية، هما أشياءٌ خارج السياسة؟

بداية، أودُّ أن أعبّر عن مشاعر العُرفان والامتنان لروح المبدع ممدوح عدوان إزاء ما رآه في تقديمه لمجموعتي الأولى “رائحة الخطو الثقيل”، إذ وضع نصُّه كلَّ الأصابع على كلّ الجروح.
ثانيًا، طرحتْ مُقدّمتُه رؤى وأفكارًا حول أدب السجون بعامّة، وأدب السجون كما تجلى في الكتابة لديَّ، وعبَّرتْ عنه قصصُ مجموعتي، وذلك على نحوٍ مُتشابك، يستدعي – في رأيي – الوقوف مع التقديم كاملًا.
أما عن سؤالك “هل قضيّتُك، وما عبّرتَ عنه في أعمالك القصصيّة، هما أشياءٌ خارج السياسة” فالجواب المؤكّد هو: لا! وهو كذلك سواء في ما رآه وقاله ممدوح عدوان نصًّا في مقدّمته من أن “هذه القصص تنزف بفعل السياسة..” أو سواء في ما أراه شخصيًّا وأحسبه عندي.
ولكنْ، يتراءى لي أن خلف سؤالك تساؤلًا يدفعني إلى التوقّف معه. الشائع والمعروف أن لكلّ موضوع علاقة بالسياسة من بعيد أو من قريب، وهذا لا خلاف عليه من جهتي. بيد أن مربط الفرس هنا، ليس الإقرار إنْ كانت للقضايا والموضوعات علاقة بالسياسة أم هي خارج السياسة، بل في التقارب الشديد – إلى حدّ التطابق وامّحاء الحدود أحيانًا – بين النصوص الأدبية من جهة، والشهادات التوثيقيّة التي يُدلي بها السجناء والمُعتقلون من جهة أخرى! بين اللغة في ميدان السياسة من جهة، والتعبير في حقول الأدب من جهة أخرى! وسنلاحظ ذلك في أعمالٍ عديدة صادرة في سياق أدب الحروب وأدب الثورات والانتفاضات! وهذا ما أشار إليه ممدوح في مقدمته “هناك فخّ وقع فيه كتَّابٌ كثيرون [وبوقوعهم هذا] فإنّهم حولوا الأدب إلى شهادة قضائيّة أدّى ادّعاء الحياد والموضوعية فيها إلى غياب الحياة” ولعلّي أُضيف: وإلى غياب الأدب منها أيضًا!!
ثمّة مشكلة كبيرة في هذا السياق، يمكن التعبير عنها بسؤال: إذن، ما المختلف والخاصّ في النتاج الأدبي؟ بل وما ضرورة هذا النتاج، إذا كان نسخة مُكرَّرة، أو شديدة الشبه، عن نتاج أعمال السياسيين والباحثين الاجتماعيين والمفكّرين والناشطين، وفق لغتهم ومفرداتهم وتعابيرهم وأساليبهم السردية؟! إذ رغم عمق وأهميّة ما كتبه المفكّرون والباحثون الاجتماعيون والسياسيون، وما جاء في تحليلاتهم… فإنّه لا يمكن لنا بحال أن نعدَّ أعلامَهم من نجوم الكتَّاب والروائيين في حقل الأدب العربي!
ولنلاحظ، أنّ التقارير الإعلاميّة المُصوَّرة من عين الحدث في الحروب والكوارث والمواجهات، ومن قلب شوارع وساحات الانتفاضات والثورات، وتسجيلات الشهادات التي يُدلي بها المخطوفون والمعتقلون والمُنتفضون، وكذلك صور التعذيب المُسرَّبة من السجون والمعتقلات…إلخ لهي أكثر صدقية، وأشدّ تأثيرًا، وأبقى في الذاكرة والوجدان، وأجمع للمتلقين المتابعين… لكنَّها، برغم ذلك كلّه، لا يمكن أن تُعدَّ بحال في جملة النتاجات والأعمال الأدبيّة الصادرة من رواية وقصة وشعر.

4- تذكر شريعة طالقاني، باحثة أميركية من أصل إيراني، في كتابها “أدب السجون السوري” أن هناك العديد من أعمال أدب السجون العربي المعاصر التي لا تجعل التعذيب محورًا رئيسًا للكتابة عن تجارب المعتقلين السياسيين، إذ يعمد بعض الأدباء، مثل إبراهيم صموئيل، إلى تهميش أو تجنب التصوير المباشر كليًّا لأعمال التعذيب وتفاصيلها والمعاناة التي تنجم عنها بصورة مباشرة، وتركِّز قصصه بدلًا من ذلك على كيفية إدراك شخصياتها لفقدان الكرامة والأذى النفسي والعاطفي الذي يسبِّبه نظام الاعتقال عمومًا، علاوة على تأثير الاعتقال في حياة أقارب المعتقل خارج السجن. ما رأيك في مقاربتها لقصصك؟

مقاربة دقيقة وعميقة من دون شكّ. وإنّي لأشكرها لما بذلته من بحث وتقصّ، ومن جهد بالغ، ولما في ضميرها من إخلاص حيّ لموضوعها عن المعتقلين والسجناء السوريين وأدبهم.
لقد سُئلت أكثر من مرّة عن هذا، فكنتُ – لغاية تكثيف الجواب – أعرض لمُحدّثي رسمًا، يختصر ويُعبّر عن رؤيتي لكتابة القصص القصيرة. يُظهر الرسم أبًا يُخرج ذراعيه من خلال قضبان شُبَّاك السجن، دافعًا بهما إلى أقصى ما يستطيع؛ فيما يتطاول ابنه – من خارج السجن – على ساقيه ورؤوس أصابع قدميه، مادًّا ذراعيه نحو ذراعي أبيه إلى أقصى ما يستطيع أيضًا… ولكنْ، من دون أن تتلامس الأصابع التوَّاقة لكليهما، لعجزهما عن تجاوز المسافة القصيرة الفاصلة بين أصابع أيديهما.
في بؤرة ولبّ هذه المسافة القصيرة، العصيَّة، الفاصلة، ومن احتدام لجَّتها كتبتُ قصصي.

5- في سورية، في زمن سابق، نُشر ووُزِّع عددٌ من الأعمال الأدبية لكتاب معارضين بموافقة السلطة، مثل مجموعتيك القصصيّتين “رائحة الخطو الثقيل” و”النحنحات”. ماذا تريد السلطة من هذا السلوك، هل كان يهمها أن تظهر بصورة ديمقراطية أم أنها كما تقول ميريام كوك في كتابها “صناعة الفن المعارض في سورية”، نقلًا عن ليزا وادين في كتابها “السيطرة الغامضة”، إن السلطة تستخدم هذا السلوك كنوع من أنواع “التنفيس”؟ فبحسب وادين، يُستخدم مصطلح “التنفيس” لوصف “التصوّر” عن الأفلام والمسلسلات التلفزيونية التي تمثل انتقادًا مسموحًا به للسلطة السياسية، ويمكن أن يُنظر إلى “التنفيس” بوصفه صمّام الأمان الذي يحافظ على هيمنة قمع النظام، من خلال السماح بالتنفيس عن الإحباطات التي يمكن، في حال لم يُسمح بالتعبير عنها، أن تُترجم إلى عمل سياسي معارض. ما رأيك؟

هذا الموضوع من التعقيد ما يجعلني عاجزًا عن الجواب، لأنّ ما صدر وعُرض داخل سوريّة من مطبوعات ونتاجات أدبية وفنية، هو بموافقة السلطة ومن دون موافقتها، في آنٍ معًا!! أما كيف؟ فهو بالضبط وجه التعقيد.
ولطالما سُئلتُ، خاصة من الأجانب الدارسين للثقافة العربية: وكيف تحكي عن كلّ هذا الحجم من الاستبداد في سورية وفي الوقت نفسه كتبك، بل وقصصك عن السجون، مطبوعة وصادرة في بلدك؟! ثمَّ، كيف تُريدنا أنْ نقنع بكلامك وقد نُشر في الصحف الحكوميّة عديدٌ من المقالات عن قصصك!!
وفيما كانت عيونهم تُفعم بالدهشة والتعجُّب بل وشبه التكذيب، كنتُ أُفعم، بدوري، بالحيرة والارتباك وشبه العجز في كيف أشرح وأُفسّر هذا الذي يبدو لهم متناقضًا حقًا!
وحينها – اختصارًا لمتاهة الشرح الطويل العريض – كنتُ ألجأ – كما أفعل الآن – إلى إجابةٍ بالغة الدلالة لمحمد الماغوط، في قصيدة له تسأله فيها العجوز: ومن أيّ البلاد أنت يا بنيَّ؟ فيُجيبها بأبلغ وأكثف ما يدلُّ: آه يا جدتي…

6- في قصتك “الناس.. الناس”، تصف نهج التواطؤ الشائع في ظل وجود نظام سيء يرفضه الناس، ولكنهم يتجنبون مواجهته. ربما أردت أن تقول إن هؤلاء الذين يقفون بشجاعة في وجه بطش أي نظام يجب ألّا يتوّقعوا أي شكرٍ على فعلهم، بل إن النظام لن يكون وحده من سيعاقبهم على معارضتهم بل سيشاركه جزء من الناس في ذلك أيضًا، ففي النهاية من السهل جدًا أن يتصرَّف كثير من الناس وكأن كلّ شيءٍ على ما يرام، فعلى الرغم من معرفتهم بأنهم يستطيعون أن يقاوموا النظام، يفضل معظم الناس عكس ذلك، فالإذعان للنظام هو الأمر الأسهل مهما كان مؤلمًا لهم. هل هذا ما أردت قوله؟ وهل ترى أن هذا يفسِّر اصطفاف بعض الناس إلى جانب الاستبداد خلال الربيع العربي؟

نعم، ما سردته في سؤالك هو مناخ القصة ومؤدَّاها.
أمّا سؤالك عن علة اصطفاف بعض الناس إلى جانب الاستبداد خلال الربيع العربي، فلأكثر من سبب وعلَّة. إضافة إلى أن الاصطفاف كان جاريًا، من قبل، ومن بعد، وخلال الفصول كلّها.
بيد أن ما يثير استغرابي حقًا، هو موقف مثقفٍ، نصف إنتاجه الأدبي والفنيّ، وأحيانًا معظمه، مُغطَّسٌ تغطيسًا كاملًا في معارضة الاستبداد تعريةً وفضحًا وإدانةً… ونجده مؤيّدًا، منحازًا، جهارًا نهارًا، دون أنْ يرفَّ له جفنٌ لا جرَّاء تأييده للاستبداد والانحياز.. بل ممّا كتب وأنتج وظهر له من أعمالٍ تُعرّي وتدين الطغيان والطغاة!!
والآن، بصرف النظر عن التذرّع بهذي الجماعة، أو ذاك الفصيل، أو تلك الهيئة. السؤال: مَنْ هو الطاغية الذي كان المُثقف المُنحاز يعنيه في أعماله إذن؟ واستبداد أيّ سلطةٍ كان يُعارض؟!!

7- قلت عن أعمالك القصصية “كل كلمة في القصة، وكل فاصلة، هي من لحمي ودمي وروحي، هي عني ومني، وهي أنا..” هل يمكن أن نقول إن صدقك في التعاطي مع الحياة، والقصة القصيرة أيضًا، هو السبب وراء قلة إنتاجك القصصي مقارنة بكثير من كتاب القصة في المنطقة العربية؟

لسببين اثنين، أوّلهما ما ذكرته في سؤالك، إذ إنني عاهدتُ نفسي – منذ أوّل قصّة ضممتُها إلى كتاب – ألاَّ أكتب من القصص إلاّ ما تفيض به روحي وينبع من ذاتي وينمو داخلي تلقائيًّا، دون أيّ تدخّل أو إملاء من العقل أو الإرادة أو الواجب أو الضرورة.
ومع علمي الأكيد، بأنّ عدد الكتب الصادرة لدى بعض الكتَّاب يفوق عددَ سنوات أعمارهم منذ ولادتهم (وهذا شأنهم الخاص طبعًا) فإنني لم أنكث عهدي مع ذاتي، ولا حانت منّي التفاتةُ قلقٍ إزاء مبلغ ما صدر لي، بل وحتى تَمَكُّني نفسُه من كتابة القصة القصيرة، الذي نما عَبْرَ السنوات، لم يُغرِني قطّ بإنتاج المزيد من القصص.
أما ثانيهما، فيتعلَّق مباشرة بالمحنة الهائلة التي اجتمع لها كلُّ أبالسة وشياطين وأقدار الحياة بمآسيها لتصُبَّها على رؤوس وحيوات ومسارات ومصائر ومآلات وأحلام الشعب السوريّ، وتحشره حشرًا في نفق جهنَّم تغريبته الذي لا يدري بنهايته أحدٌ حتى يومنا هذا..
ارتدادات ذلك وحيثيّاته ومنعكساته وظلاله وتجاوز حالاته وفواجعه حدودَ العقل… قلَّبتْ في أعماقي ما قلَّبت، وغيَّرت عندي ما غيَّرت، وخلَّفت فيَّ ما خلَّفت.. بما لا قدرة لي على شرحه وبيانه، في سياق حوارنا هذا.

8- هل يمكن للأدب أن يلمّ بالحدث السوري الرهن؟ لاحظنا خلال العقد الماضي مساهمات أدبية كثيرة، لكن عددًا قليلًا منها يمكن أن يُدرج في خانة الإبداع الأدبي، بعضه مبتذل، وبعضه مكرَّر، وبعضه مباشر جدًا ومنفِّر. هل هذا صحيح؟

بلى، لاحظتُ أن ثمَّة الكثير من الأعمال الصادرة بائسة جدًا. ولكنْ أريد أنْ أضيف ما هو في المتن والصلب والصميم من موضوعنا هنا، وهو أن محنة التغريبة السوريّة على مدار عقد مضى وإلى اليوم (بل، وربّما إلى الغد البعيد) عصيَّةٌ العصيان كلّه عن أنْ يلمَّ بحالها، أو يُعبّر عنها، أو يصوّرها، جنسٌ أدبيّ أو لون فنّيّ، كائنًا مَنْ كان صاحبه. بل وأذهب إلى القول بأقصى اختصار: عبثًا تُجرى المحاولات بهذا الصدد!
أقول هذا، مع قبولي التَّامّ أن يكون بعض ما أذهب إليه – أو كلّه – مجرَّد إثم بإثم.

خرجتُ من السجن عاشقًا كما لم أعشق، ومُقبِلًا كما لم أُقبِل، ومُقدّرًا كما لم أُقدّر، ورائيًا كما لم أرَ.

لا أرضى بالسجن حتى لأشدّ الحيوانات عدوانية وافتراسًا. فالسجن أخسُّ وأحطُّ وأشقى ما اخترعته البشرية، حتى القتل نفسه لا يفوق السجنَ قهرًا وبؤسًا وتوحّشًا

إنني عاهدتُ نفسي – منذ أوّل قصّة ضممتُها إلى كتاب – ألاَّ أكتب من القصص إلاّ ما تفيض به روحي وينبع من ذاتي وينمو داخلي تلقائيًّا، دون أيّ تدخّل أو إملاء من العقل أو الإرادة أو الواجب أو الضرورة

إن محنة التغريبة السوريّة على مدار عقد مضى وإلى اليوم (بل، وربّما إلى الغد البعيد) عصيَّةٌ العصيان كلّه عن أنْ يلمَّ بحالها، أو يُعبّر عنها، أو يصوّرها، جنسٌ أدبيّ أو لون فنّيّ، كائنًا مَنْ كان صاحبه

إبراهيم صموئيل

إبراهيم صموئيل

كاتب وقاصّ سوري، من مواليد 1951 بدمشق، يحمل إجازة في الدراسات الفلسفية والاجتماعية من جامعة دمشق عام 1982، ومعتقل سياسي سابق. من أشهر أعماله: رائحة الخطو الثقيل 1988، النحنحات 1990، الوعر الأزرق، فضاءات من ورق، المنزل ذو المدخل الواطئ 2002. قامت الهيئة العام لقصور الثقافة في مصر بطباعة مجموعته الأولى والثانية وأصدرتهما ضمن سلسلة "آفاق الكتابة" عام 1999. تُرجمت مجموعته الأولى إلى اللغة الإيطالية وصدرت عام 1992، كما ترجمت قصص متفرقة إلى اللغات الإنكليزية، والفرنسية، والصينية وغيرها.

عرض مقالات الكاتب

مشاركة: