حوار مع الكاتب الروائي مصطفى خليفة

1- بين أوائل عام 1979، تاريخ اعتقالك الأول، وأواخر عام 1994، تاريخ نهاية اعتقالك الثاني، أمضيت ثلاثة عشر عامًا في سجون نظام الأسد. بعد مرور نحو ثمانية وعشرين عامًا على الإفراج عنك، ومع معرفتنا بأنّ \نهاية روايتك “القوقعة” تترك انطباعًا بأن المساحات داخل السجن وخارجه غير قابلة للتمييز، ماذا بقي من السجن في روحك؟ على الرغم من مرارة وآلام تجربتك في الاعتقال والسجن، فقد قلت إنك محظوظٌ لأنك خضت هذه التجربة، هل ترى حقًا أنّ من خاض مثل هذه التجربة القاسية محظوظٌ أم أنّ رأيك يرتبط بتجربتك الشخصية ورؤيتك إليها؟

ماذا بقي من السجن في روحك؟ نعم، هذا سؤال وجيه. بُعيد خروجي من السجن، ولمدة ليست بالقصيرة، كانت هناك لحظة، بقدر ثانية أو حتى أقل من ثانية، عند الاستيقاظ من النوم كان يُخيَّل إليَّ أنني ما زلت في السجن، وفي دردشة عن هذه الحالة مع أحد الأصدقاء تساءلت يومها: هل قُدِّر لنا إما أن نسكن السجن، أو يسكن السجن فينا؟!
ولكن سؤالك عن تأثير الزمن في تخفيف مفاعيل السجن، صحيح، الآن خفتت هذه الأحاسيس والمشاعر – خاصة بعد الخروج من سوريا- ولكن هل انتهت، الجواب هو لا.
أما في ما يتعلق بقولي إنني كنت محظوظًا خلال تجربة السجن القاسية والوحشية فهو تحديدًا يخصّ نوعية الناس اللذين عشت معهم وبينهم طوال هذه السنوات الطويلة، فهؤلاء الناس لم يكونوا عينة عشوائية من المجتمع السوري “قطعًا لم نكن ملائكة، بل مجموعة بشرية مليئة بالأخطاء والنواقص والعاهات”، ولكن كمية الإيثار والغيرية والنبل اللتي وجدتها لدى هذه المجموعة وفي هذا المكان لم أجده في مكان آخر، وفي الحصيلة أن تصبح صديقًا وأخًا طوال العمر لهم فيه الكثير من الحظ.

2- حقّقت “القوقعة، يوميات متلصص” 2008، هذه الرواية، أو الوثيقة/ الشهادة، شهرة فائقة، إن لم نقل بأنها أمست الرواية الأشهر بين روايات أدب السجون. تناولت الحياة في سجن تدمر بالتفاصيل الدقيقة، سعيًا لكشف الغموض الذي يحوطه، ووضع الناس في صورة الإذلال الذي تعرّضوا له، وفضح هذا العار الذي خلقته السلطة. أظهرت الرواية أن الاعتقال والتعذيب لا يؤدّيان إلى المعاناة الجسدية والآلام النفسية للمعتقل السياسي شخصيًّا فحسب، بل إنه يطال أيضًا أسرته وبيئته الاجتماعية أيضًا، وينجم عنهما تبعاتٌ لا يمكن حصرها. أين تقع، في رأيك، الأهمية الأولى لأدب السجون؟ هل تكمن الأهمية في جعل السجون مرئيةً لمن يقرؤون مذكّرات وروايات وقصص أدب السجون؟ هل ما تزال هناك أهمية لأدب السجون اليوم بعد أن أصبحت الجرائم علنية وعلى مرأى ومسمع العالم كله؟

كل ماورد في مقدمة هذا السؤال صحيح، لا بل يمكن القول دون مبالغة، إن تاريخ سوريا منذ عام 1970، هو تاريخ سجون ومعتقلات وإعدامات ومجازر، ونسبة قليلة من العائلات السورية هي التي لم تكتوِ بهذه النار بشكل أو بآخر.
والكتابة عن كل ذلك هي قبل كل شيء واجب، واجب أخلاقي ووطني وانساني، وجعل كل ذلك مرئيًا من الجميع، كما تقول، هو بالأساس لمقاومته والسعي لبناء وطنٍ خالٍ من كل ذلك.
أما حول ما إذا كان أدب السجون لا يزال مهمًا بعد أن أصبحت الجرائم علنية، فأقول نعم، يظلّ أدب السجون ضروريًا ما دامت هناك سجون مستمرة، وفي المآل النهائي إن وظيفة الأدب هي التعبير عما هو موجود في الواقع.

3- قدّمت شريعة طالقاني، باحثة أميركية من أصل إيراني، في كتابها “أدب السجون السوري؛ شاعرية حقوق الإنسان” في أثناء تناولها لروايتك “القوقعة”، تحليلًا لمسألة التعذيب في السجن، إذ ترى أنه على الرغم من أنّ الهدف من التعذيب هو الحصول على المعلومات من المعتقل، إلّا أن الهدف الأساس هو تحطيم المعتقل وتفكيكه وتطويعه ليصبح متوافقًا مع صوت السلطة ونهجها ولو ظاهريًّا، ولجعله كائنًا غير بشري، لأنّ وحشية التعذيب تؤدّي إلى تقويض إحساس الفرد بنفسه، وبإنسانيته، وبالبشر حوله وبواقعه أيضًا. لذلك أكدت طالقاني أن عملية تصوير التعذيب في أدب السجون طريقة للاستشفاء من هذه التجربة القاسية، وتحدّيها، وتجاوزها. هل كتبتَ القوقعة لتوثِّق ما جرى أم كانت طريقك إلى شيء من الاستشفاء؟

للأسف لم أطّلع على كتاب السيدة شريعة طالقاني، ولكنني أتفق تمامًا معها من حيث الغايات التي يسعى إليها النظام من خلال التعذيب في السجون، ولكن أكثر من ذلك أعتقد أن لسياسة الإذلال التي اتبعها الأسد أبعاد أكثر من انتزاع المعلومات وضمان الإذعان والموالاة، وبالمناسبة هي ليست مقتصرة على من هم داخل السجون فحسب، بل هي معمّمة في كامل المجتمع السوري، حتى بطانته المؤلفة من كبار المسؤولين كانوا أذلاء بامتياز، وهنا أشير إلى نقطة لم تعطَ الأهمية المطلوبة، وهي البنية النفسية للدكتاتور، وإذا كان الأدب يستطيع أن يفسر هذا قليلًا فإن هذه المسألة أعتقد أنها من مهمة علم النفس، باحثين ودارسين وعلماء.
أما دوافع كتابة القوقعة، فإضافة إلى كونه واجبًا، هي كل ما ذكرت في سؤالك.

4- قلت في مقابلة لك: أحلم فقط أن أرى سورية حرة. الآن، وبعد ما شهدته الثورة السورية من انزياحات وتعرجات، وما آلت إليه من هزيمة مؤسفة، قد لا يزال هذا الحلم حاضرًا لديك، ولدينا، لكن هل هو ممكن التحقّق فعلًا؟ هل الحلم ذاته ممكن اليوم أصلًا بعد سلسلة الموت التي شهدناها؟ خصوصًا أنك صورت تأثير الموت في أنفسنا، في رواية “القوقعة” 2008، أي قبل مشهد الموت الكثيف الذي يحوطنا، عندما قلت “يا لينا أنا أؤمن أن الإنسان لا يموت دفعة واحدة، كلما مات له قريبٌ أو صديق أو واحد من معارفه، فإن الجزء الذي كان يحتله هذا الصديق أو القريب يموت في نفس هذا الإنسان، ومع الأيام ومع تتابع سلسلة الموت تكثر الأجزاء التي تموت داخلنا، تكبر المساحة التي يحتلها الموت، وأنا يا لينا أحمل مقبرة داخلي! تفتح هذه القبور أبوابها ليلاً، ينظر إليَّ نزلاؤها، يحادثوني ويعاتبوني.”

أتفق معك في ما يتعلق بسلسلة الموت التي شهدناها، والتي لم تكن لتخطر على بال أي منا في أكثر كوابيسنا رعبًا وبشاعة.
ولكن لن نتنازل عن حقنا بالحلم في أن نرى بلدنا حرة، أما أن يكون الحلم قابلًا للتحقق الآن أم لا فهذه مسألة أخرى.
وبكل الأحوال يجب أن نفرِّق بين الاعتراف بالهزيمة وبين الاستسلام، فالاعتراف بالهزيمة يستلزم شجاعة وواقعية، وهو أمر لا بدّ منه إذا أردنا القيام من كبوتنا والانطلاق من جديد.
وقد لا تكون أحلامنا قابلة للتحقق في المدى المنظور، ولكن من واجبنا أن نسعى لتحقيقها.

5- قلت في مقابلة لك، إن نظام الأسد قد أتى عن طريق العنف، واستمرّ بالعنف، وهذا معروف لدى الجميع، لكنك أكدت أيضًا أنّ هذا النظام لن يسقط إلّا بالعنف. ألا تعتقد، بعد تجربة العقد الماضي 2012-2022، أن العنف فشل في إسقاط النظام، وأن العنف هو الملعب الذي يبرع فيه النظام أكثر من الجميع؟ ألا تعتقد أن هزيمة النظام تبدأ من وجود نخبة ثقافية سياسية سورية، مستقلة وديمقراطية، وهو ما لم يتوافر إلى يومنا هذا؟

أتمنى أن يكون كلامي خاطئًا، ولكن الأمنيات والرغبات شيء والحقائق العنيدة الموجودة على الأرض شيء آخر.
منذ عام 2011، تدمرت سوريا، هُجِّر أكثر من نصف شعبها، والنصف الآخر الذي لا يزال تحت سيطرة النظام يعيش مجاعة حقيقية، وعلى الرغم من كل هذا، فإن “النظام – العصابة” لم يقدم أي تنازل حتى لو كان تنازلًا شكليًا.
قد لا يكون من المناسب في هذه العجالة الجدال حول وجود أو عدم وجود نخبة ثقافية سياسية مستقلة وديموقراطية، ولكن إن وُجدت، ماذا ستفعل؟ هل ستنزل إلى الشارع حاملة كل ياسمين دمشق وتحاصر القصر الجمهوري؟ ماذا سيكون مصيرها؟ أم أنها سوف تستجدي المجتمع الدولي ليسقط لها الأسد؟!
هناك شيء أخير عن تجربة العقد الماضي وفشل العنف في إسقاط النظام. أقول يا صديقي إن من امتلك العنف في هذا العقد هم – إضافة إلى النظام – داعش وأخواتها، وهؤلاء لم يكن هدف إسقاط النظام من أولوياتهم، بل على العكس كان على رأس اهتماماتهم ضرب القوى الساعية لإسقاط النظام.

6- أقتبس من رواية “القوقعة”: “أهذا هو الشعب الذي يتكلم عنه السياسيون كثيرًا، يتغنون به، يمجِّدونه، يؤلِّهونه؟ ولكن، هل من المعقول أن هذا الشعب العظيم لا يعرف ماذا يجري في بلده؟ إذا لم يكن يعرف فتلك مصيبة، وإذا كان يعرف ولم يفعل شيئًا فالمصيبة أعظم، استنتجت أن هذا الشعب إما أن يكون مخدرًا أو أبلهًا”. السؤال هنا، على أيٍّ من هذين الاحتمالين استقرّ استنتاجك؟ وهل تصلح هذه الكلمات اليوم لمقاربة حالة شريحة واسعة نسبيًّا من “الشعب السوري” في داخل سورية؟

لا هذا ولا ذاك، وهذا الكلام ما هو إلا عبارة عن صرخة ألم وقهر، وأستطيع أن أزعم أن كل سجين جرى نقله من سجنه إلى مكان آخر لأي سبب كان “سجن آخر، فرع أمن، مستشفى…” ومرّ من شوارع المدينة ورأى الناس في الشوارع والحياة تسير سيرها الطبيعي، وكأن لا سجون ولا سجناء في هذا البلد، إلا وانتابه هذا الإحساس وصرخ مثل هذه الصرخة.
ولا أعتقد أيضًا أن هذا الوصف ينطبق على هذه الشريحة الواسعة من الشعب السوري، وأظن أن الأمر في مكان آخر، شيء له علاقة بوعي المواطن وثقافته، وأن يكون مهتمًا بالشأن العام لبلده، وليس من أصحاب ثقافة “امشي الحيط الحيط… “.
وعلى سبيل المثال: منذ بضع سنوات عندما أفشل الشعب التركي محاولة الانقلاب العسكري، علق أحد الأصدقاء قائلًا: لو أن آباءنا في عام 1970 فعلوا كما فعل الأتراك لكانوا جنبوا سوريا هذا الخراب المعمّم.

7- منذ بداية اعتقاله في تدمر، كانت حياة موسى، في رواية “القوقعة”، مهدَّدة ليس من حراس السجن الذين يمارسون التعذيب والإذلال والإهانة بحق المعتقلين بلا توقّف فحسب، ولكن أيضًا من المتطرفين الإسلاميين في زنزانته الذين يعتقدون أنّه كافرٌ يجب إعدامه، ولذلك ظلَّ معزولًا لعشر سنوات داخل السجن. أليست هذه حال الوطنيين الديمقراطيين اليوم خارج السجن، هم محارَبون من النظام والمتطرفين في آنٍ معًا، ومعزولون عن السوريين أو هم عزلوا أنفسهم؟! بعد سقوط مدينة الطبقة بيد “داعش”، سكن منزلك “أمير داعشي”، كسياسي يساري أولًا، وكروائي ثانيًا، ما الأثر الذي تركته هذه المفارقة في عقلك وروحك؟

ليس حال الوطنيين الديموقراطيين فقط، هي حال جميع الناس في منطقتنا، هذه الثنائية –استبداد وعسكر، إسلاميين – تبدو وكأنها قدر المنطقة القاتل.
في الجزائر أعطت هذه الثنائية العشرية السوداء وعشرات آلاف الضحايا، في مصر وبعد ثورة شعبية ناجحة أطاحت بالدكتاتور، أيضًا برزت هذه الثنائية القاتلة والشعب المصري هو من يدفع الثمن، وأمامك أيضًا نظام طالبان للإسلام السني ونظام العراق للإسلام الشيعي، وهكذا كل المنطقة تدفع تكلفة حصارها بين طرفي هذه الثنائية.
أما سؤالك عن منزلنا، نعم هذا صحيح، وقد خسرنا الكثير من ذكرياتنا ومتعلقاتنا الشخصية، ولكن هذا لا شيء قياسًا بما حلّ بالسوريين وخسائرهم الجسيمة.

بُعيد خروجي من السجن، ولمدة ليست بالقصيرة، كانت هناك لحظة، بقدر ثانية أو حتى أقل من ثانية، عند الاستيقاظ من النوم كان يُخيَّل إليَّ أنني ما زلت في السجن، وفي دردشة عن هذه الحالة مع أحد الأصدقاء تساءلت يومها: هل قُدِّر لنا إما أن نسكن السجن، أو يسكن السجن فينا؟!

إن تاريخ سوريا منذ عام 1970، هو تاريخ سجون ومعتقلات وإعدامات ومجازر، ونسبة قليلة من العائلات السورية هي التي لم تكتوِ بهذه النار بشكل أو بآخر

يجب أن نفرِّق بين الاعتراف بالهزيمة وبين الاستسلام، فالاعتراف بالهزيمة يستلزم شجاعة وواقعية، وهو أمر لا بدّ منه إذا أردنا القيام من كبوتنا والانطلاق من جديد

منذ بضع سنوات عندما أفشل الشعب التركي محاولة الانقلاب العسكري، علق أحد الأصدقاء قائلًا: لو أن آباءنا في عام 1970 فعلوا كما فعل الأتراك لكانوا جنبوا سوريا هذا الخراب المعمّم

مصطفى خليفة

مصطفى خليفة

روائي وكاتب سياسي سوري، مواليد 1948 في جرابلس، سوريا. درس خليفة الفن والإخراج السينمائي في فرنسا، واعتقل في مطار دمشق بمجرد عودته من باريس. احتُجز خليفة من عام 1982 إلى 1994، دون محاكمة في مختلف سجون أمن الدولة، بما في ذلك سجن تدمر سيئ السمعة. هاجر في عام 2006 إلى الإمارات العربية المتحدة، ثم انتقل إلى فرنسا - حيث لا يزال يعيش اليوم، وفي عام 2015 نال جائزة ابن رشد لحرية الفكر. نشر أولى رواياته في سنة 2008 بعنوان "القوقعة: يوميات متلصص"، وهي واحدة من أكثر روايات أدب السجون العربية شهرة، وصرّح خليفة مرات عديدة أنه يعتبر روايته هذه عن سجن تدمر "وثيقة وشهادة". نُشرت الرواية أول مرة بالفرنسية بعد أن ترجمته ستيفاني دوجول عن طريق الناشر الفرنسي "Actes Sud"، لأن الناشرين العرب كانوا حذرين في البداية من نشرها. وبعد عام نشرت دار الناشر العربية دار الآداب في بيروت الكتاب بلغته العربية الأصلية. تمت ترجمة الكتاب بعد ذلك إلى اللغة الإنجليزية بواسطة بول ستاركي ونشرته إنترلينك بوكس. كما تمت ترجمته إلى عدة لغات أخرى، بما في ذلك الإيطالية والإسبانية. في عام 2019 تم نشره باللغة الألمانية أيضًا. صدرت له رواية "رقصة القبور: السرداب" عام 2016 عن دار الآداب للنشر والتوزيع ببيروت، استهلّها بطرح سؤال وهو "ماذا لو لم يكن حافظ الأسد موجودا؟"، فاتحًا الأبواب أمام تخيّل واسعٍ لمجريات التاريخ السوري، في ربط لمعالمه المتخيّلة بفروض تاريخية حملت في طياتها حكايات من الأساطير الشعبية، عن قصص العرب القديمة بعد الإسلام وصراعاتهم.

عرض مقالات الكاتب

مشاركة: