عندما أقرأ لغسّان

في “الكيكية” أحد أحياء ركن الدين الجبلية، تعرفتُ إليه عندما كان حلمًا لعائلته الصغيرة، حلمًا في عين الطفل (عمر) الواعدة التي عرفتْ باكرًا معنى زيارات السجن الموجِعة والمهلِكة، كنا جيرانًا، تعرفتُ إليهم قبل خروج غسان من السجن مع العديد من رفاقه بوقت قصير.
وبعد أن خرجوا كان سؤالنا الأول بمجرد لقائهم يصدر بروتينية رهيبة: “كم سنة؟”
ما كنا نسأل لكي نعرف فنحن نعرف: عشرة، ثلاثة عشر، خمسة عشر، تسعة. كنا نسأل لنشهق بأسف لنوكّد لهم ولأنفسنا هول هذه الكارثة.

لا أستطيع تذكّر تفاصيل اللقاء الأول بغسان في بيته، لكنني لا أنسى جعبته من منحوتات بذور الزيتون والدراق، وقصاصات صغيرة كتبت بحروف ناعمة صارت الآن ” كتبًا” وتجربة “عنبر رقم 6” التي قام بإخراجها في السجن، وكان السجناء أنفسهم أبطالها طبعًا.
قلقه وعدم استقرار جلسته وكأنه لا يزال سجينًا، أو أن هذا الهواء لم يملأ رئتيه كفايةً بعد، وهذه الحرية لن تكون إن لم يعمل في المسرح فورًا.
وفعلًا كانت تجربته الأولى” الشقيقة” مع دائرة الثقافة والإعلام الفلسطينية في دمشق. ومثّلتُ فيها بعد اعتذار الراحلة الغالية ” رائفة أحمد”.
كانت المسرحية أقرب إلى” المينودراما” سجين يعجن أيامه بالفخار ويصنع القوارير التي أصبحت صناديق ذكرياته، وكنت أنا الحبيبة الحلم، اشتغلنا العرض لنسافر به في نيسان/ أبريل 1997 إلى مهرجان الربيع في المغرب، لم يتمكن غسان من مرافقتنا فقد كان ممنوعًا من السفر حاله كحال جميع السجناء السياسيين في تلك الأيام، ترافقنا أنا والممثل الرائع والراحل “عبد الرحمن أبو القاسم”، والمخرج المساعد” الفنان منصور السلطي”
عرضنا عرضين، واحدًا في الرباط، وآخر في الدار البيضاء، ولاقى العرض قبول واستحسان الصحافة والجمهور. وكان الكاتب، المخرج الغائب حاضرًا معنا بقوة.
بعد ذلك بوقت قصير كنتُ مع غسان جباعي في مسرحية (جزيرة الماعز) للكاتب الإيطالي أوجوبتي، ومثّلتُ بدور “بيا” إلى جانب مجموعة من الفنانين المميزين، ومع هذه التجربة اكتملت صورة الفنان غسان بيننا، المخرج الذي لا يشعرك بمعرفته على الإطلاق، يدير الممثلين ويقدم رؤيته الإخراجية من خلال حرية الممثل ومن خلال فسحة واسعة يعمل فيها الممثل وكأنه وحده مَن يبني شخصيته، لكن ما أن يحين موعد العرض حتى يكون كل شيء مضبوطًا، متقنًا ومحبوكًا برؤية واحدة وصارمة. صار غسان بعد عدة أشهر من التحضيرات للعرض صديقًا للجميع.
أذكر قبل أيام من العرض حيث كان الديكور قد أُنجز، وكانت هناك نافذه صغيرة أرادها غسان بقضبان كما لو كانت سجنًا. وكنتُ قد بنيتُ علاقةً مع هذه النافذه التي تحولت مع توجيهات غسان إلى التوق إلى الحياة والخلاص من عزلة موحشة ومتوحشة.
خطر لي أن أربط منديلًا على أحد قضبانها ليكون إشارةً إلى وجود حياة في هذه الخرابة، واستغاثة من جحيم العزلة، لم يعلّق غسان، وعندما سألتُه عن رأيه، حرص على إبقائه.
“المنديل الرقيق الصغير هذا سيكشف للمشاهد: الحديد، وقسوة القضبان المعقود عليها، السجن”. وهذا ما عبر عنه السينمائي الراحل رياض شيا في أثناء تكريمه لغسان ولفريق العمل بدعوة في منزله.
عندما أقرأ لغسان أشعر بأجنحتي تنقر خاصرتي وتريد أن تطير.
مع الأسف. كل غدر الموت اليومي لا ينقذنا من ورطة الشعور بأننا نحيا إلى الأبد، فنؤجل السلام ونؤجل اللقاءات مع من نحترمهم ونحبهم، ونؤجل ونؤجل، ونفجع بالغدر، والرحيل. يا لهذا الموت المدهش كيف يجعلنا ننساه وهو رابط بيننا!

مشاركة: