نوع من الاعتذار لصديقي غسان الجباعي

ليس كلُّ شيءٍ أسودَ بإطلاق، وإلا لسقط البياضُ، ومن ثمّ سقطَ المعنى، ولهذا فإنَّ اعتقالَكَ بالتمام والكمال غيرُ ممكن.
وليس كلُّ شيء أبيضَ بإطلاق، وإلا لسقط السوادُ، ومن ثمّ سقط المعنى، ولهذا فإن حريتَكَ بالتمام والكمال غيرُ ممكنة.
لا أبتغي هنا الثنائياتِ ولا المتناقضاتِ، بل أبتغي استحضارَ ميلِ غسان إلى رؤيةِ جدلِ الأمور، والتفاتتِهِ نحوي، وهزّةِ رأسه، وتحديقةِ عينيه، وابتسامتِه التي لا تضاهى.
أبتغي رؤيةَ طائرٍ تتباهى به ألوانُه وهو يمنح منقاره لغسان كي يخطَّ على صفحة الأفق ما يجعل غروبَ الشمس جميلًا كشروقها.
أقصى الخسارات ألا تكون حياتنا جديرةً بالموت، وألا يكونَ موتُنا جميلًا.
وها قد فاز غسان، إذ ملأ أقطابَ الحياة بالحب والجمال والأمل، وبكلِّ ما يجعلها ختامًا جديرةً بالموت.
الطغاة عمومًا ليسوا جديرين بالموت، ولولا أهميةُ ما تنطوي عليه الذكرى من دروس لقلتُ إنهم ليسوا جديرين بغير النسيان.
سيوافقني غسان كما لو أني أهجسُ ما كان يهجس به غسان مسبقًا.
غير أنّ ما يزيد وطأةَ حزني على رحيله هو أنني لا أعرف كيف أرثيه.
كأني لستُ صاحبَ لغتي وإن كنتُ صاحبَ قلبي، أعني صاحبَ غسان.
أتحايل على نفسي. أحاول أن ألتمس لها العذرَ بأن غسان عصيّ على الرثاء، أو أنه أكبرُ من الرثاء، أو أنه ضرَّج الكون بمراثيه، وضمَّخه بأحلامه، وألبسه من الجماليات ما يليق به. لا أعني ما يليق بالعالم، بل ما يليق بغسان أولًا وأخيرًا.
صوته عندي، حتى وهو يضحك، مضبوطٌ على أقصى ما في مقام الصبا من رهافةٍ وحزن.
ألا كلُّ حزنٍ جميلٌ
وكلُّ جمالٍ حزين
نادرًا ما أكملنا حديثًا بيننا. كانت كلمةٌ واحدةٌ، تتبعها نظرةٌ أو حركةُ يدٍ أو سحبةُ شهيقٍ أو زفرةٌ من ناي أنفاسه، تكفي لوصول المعنى إلى نهاياته.
كان يستطيع أن يبكي بعينين حجريتين حين يلزم الأمر، وكان ساحرًا في تشكيل الورود من دموعٍ وابتسامات، وكان حتى في تعبه أكثرَ جَلَدًا من جلاديه.
أن تكون مع غسان أو يكون غسان معك، من شأنه أن يجعل السموَّ أسمى وأقربَ إلى الحرية، وأن يجعلَ البؤسَ وحتى السجنَ أقلَّ بؤسًا، وأقلَّ ظلمةً ووحشةً، وأكثرَ إيمانًا بالحرية.
ولو أردنا اسمًا آخرَ لغسان فهو ليس الطائرَ الحرَّ، بل الحرُّ مجرَّدًا من الأوصاف والأحوال.
رسمتِ الأحوال والمقادير أسفارَ وهجراتِ معظمِ الأصدقاء، ولكن غسان تَمَتْرَسَ بنفسه، وخطَّ هجرته في اتجاه الداخل، عبر الحياة كما عبر الكتابة.
ما أوجعَ حزنَ مَن يحبّون غسان!
ما أوجعَ حزنَ الأغاني وخفقانَ الذكرياتِ والأطيافِ وزواجَ الريح والنايات!
لو كان غسان رمحًا وانكسر، أو طائرًا ألوى به جناحاه، أو سرابًا تهيأ لظوامي الرمال ثم غاض، لو كان وردةً أو نجمًا، لو كان غزالًا أو أغنية أو حلمًا، لهان الرثاء. أمَّا أن يكون غسان كلَّ هذا وأقربَ منه وأنأى، فلا حول ولا قوة إلا به شطحًا وأطيافًا وأملًا وذكريات مضى بعضُها وبعضُها سيأتي.
ملءَ سمعي ذكرياتُ غسان المقبِلة، غير أني أعرف أنه لن يأتي معها. تلك فداحةٌ إضافية تجعل الرثاء غيرَ ممكنٍ وليس بذي محلّ.
أستنجد بما ترك لنا غسان من حقول نُبل وجمال وإبداع، أستنجد بأهله وأصدقائه وكلِّ من أضاء في داخلهم قبسٌ منه، أستنجد بكَ يا غسان، بكل ما كان بيننا من مضائق العبارات ومحيطات الصمت.
سامحَتكَ صداقتُنا. سامحتك نفسُك يا غسان. كنتُ أظنُّني دائمًا أكبرَ من حزني، وأكبرَ من يأسي، وأكبر من شمس أو قمر في يمينك أو شمالي، لقد فضحتَ هشاشتي أو أوصلتَني إليها يا صديقي. وعليَّ الآن أن أتدرَّب على قبول غيابك. كان قلبي في عوني وعون محبِّيك.
ولتسامحني يا صديقي على الانسحاب من رثائك بكامل ما ينطوي عليه انسحابي من هزيمة وانكسار.

مشاركة: