الهزيمة السوريّة، وما بعدها

انطلقت الثورة السوريّة بصورةٍ عفويّةٍ، في آذار/ مارس 2011، لكن بالتجاوب مع سياق عربيّ دافع باتجاه التحركات الشعبيّة، فلولا ما حدث في تونس ومصر ما كان، على الأرجح، يُتوقَّع أن تكون هناك تظاهرات على الساحة السوريّة، على الرغم من أنَّ كلَّ الأسباب الموضوعيّة للثورة كانت ناضجةً منذ زمنٍ. كانت الثورة السوريّة في وجه النظام السوريّ الدكتاتوريّ عملًا أسطوريًّا مدهشًا ومفاجئًا، للسوريين أنفسهم بالدرجة الأولى قبل أيِّ أحدٍ آخر، فما كان متوقَّعًا لدى أكثرهم تفاؤلًا أنَّهم قادرون على تحدِّيه، ومن ثمَّ زلزلة كيانه. أحدثت الثورة تغييراتٍ جسيمةً في الواقع والعقل، ولن تظهر آثارها كلُّها إلَّا بعد زمنٍ لا نستطيع تقديره الآن، فقد كانت، في الحدِّ الأدنى، أداةً لكنس كثيرٍ من الشعارات والأوهام والقوى والشخصيات والأيديولوجيات التي أكلت رؤوس أهل المنطقة. مع ذلك، كان مسار الثورة طوال ما يزيد على اثني عشر عامًا خلت مسارًا انحداريًّا وصولًا إلى اللحظة الراهنة بما يعتمل فيها من إحباطٍ وتخبّطٍ، إلى جانب كونه مسارًا قاسيًا ومؤلمًا ومكلفًا بطريقة قلَّ نظيرها عبر التاريخ. إن النِّقاش حول سؤال ما إذا كانت الثورة السوريّة قد هُزمت أم لا، تحكمه داخل الأوساط السوريّة المعارضة، في أغلب الأحيان، أنماط تفكيرٍ غير عقلانيّةٍ ورؤى انفعاليّة متناقضة وتصورات متخمة بالتخبّط والضياع، وهذه كلُّها من أعراض الهزائم الشديدة، فضلًا عن أنَّها كانت أصلًا من أسبابها على المستوى الذاتيّ.

الهزيمة في الوعي الاستبداديّ والوعي الديمقراطيّ
هناك فروقٌ كبيرةٌ وعديدةٌ، وفي مستوياتٍ مختلفةٍ، بين الاستبداد والديمقراطيّة، وفي هذا الشأن كُتبت دراساتٌ ومؤلّفاتٌ عديدةٌ تناولت هذه الفروق من زوايا متعدِّدة. لكن، أعتقد أنَّ هناك فرقًا حيويًّا وذا دلالة خاصة، من المفيد تسليط بعض الضوء عليه، يتمثل بأنَّ الديمقراطيّة تسمح بنموِّ مناخٍ يتقبَّل الاعتراف بالهزيمة أكانت على مستوى السلطة أو الدولة أو المجتمع أو الفرد، وهذه فضيلةٌ كبرى، فيما الاستبداد لا يفعل ذلك، فهذا الأخير لا مكان فيه إلَّا للانتصارات المطلقة.
ليس ثمَّة هزيمة في معاجم الأنظمة المستبدّة التي اعتادت على تقديم كلِّ هزيمةٍ تتعرَّض لها، داخليًّا أو خارجيًّا، على أنَّها انتصارٌ استثنائيٌّ أو إلهيٌّ، والأمثلة أكثر من أن تُحصى في هذا السياق؛ يكفينا أن نتذكَّر على سبيل الماثل انتصارات نظام صدام حسين في “أمّ المعارك”، وانتصارات الأنظمة العربيّة في حزيران/ يونيو 1967، وانتصارات نظام الأسد ضد “المؤامرة الكونية” و”الإرهاب”، ولا يهمُّ إن كان كلٌّ من العراق وسورية قد تحوَّل إلى حطامٍ وأطلال في هذه الانتصارات. فمع الخراب السوريّ الشامل الذي تشهده سورية اليوم ما يزال النظام السوريّ رافعًا لواء “الانتصارات”.
نحن أمام طرفٍ، النظام السوريّ، لا يمكن أن يقرّ بالهزيمة أو يعود خطوةً إلى الوراء أمام أيِّ حراكٍ شعبيٍّ، فهو يولي اهتمامًا كبيرًا بـ “هيبته” التي يرى أنَّها تتأتّى من صلابته التي لا تتجاوب مطلقًا مع أيِّ ضغطٍ داخليٍّ، وهذه “الهيبة”، بالنسبة إليه، أهمُّ وأعلى رتبةً من أيِّ مصلحةٍ وطنيّةٍ أو عامّةٍ. ولذلك، هناك خطر حقيقيّ في الدخول في معركةٍ مع طرفٍ لا تكون الهزيمة لديه احتمالًا ممكنًا، لأنَّه سيكون مستعدًا، في حال حُشر في الزاوية، لحرق الأخضر واليابس، خصوصًا عندما تكون السلطة، كلُّ السلطة، مركَّزةً بين يديه.
تنتقل عدوى إنكار الهزيمة في الأنظمة السلطويّة الشموليّة إلى معارضيها بالضرورة، وإلى البشر العاديّين أيضًا؛ فحتى البشر العاديُّون في النظام الشموليّ لا يقبلون الاعتراف بالهزيمة، لا أحد يتراجع خطوة إلى الوراء، ربما لأنَّ هذه الأنظمة لا تسمح، على ما يبدو، بنموِّ كائناتٍ إنسانيّةٍ طبيعيّةٍ، كائناتٍ مجبولةٍ من قوة وضعف، من انتصار وهزيمة، عنفوان وهشاشة، في آنٍ معًا. إنَّها لا تسمح، غالبًا، إلَّا بنموِّ كائناتٍ مشوّهةٍ على المستوى الإنساني، والسياسيّ أيضًا.
في سورية، “المعارضة” أو “المعارضات” الغارقة حتى أذنيها في الهزيمة لم تُهزم، وما زالت مستمرَّة، وجماعة “الثورة مستمرّة” ما زالت مستمرَّة أيضًا لكن من دون الثورة؛ الثورة وُضعت على الرَّف أو صارت وراءنا. كلُّ هذا التمزق في جسد الثورة والمعارضة، وفي بنيان الدولة ونسيج المجتمع، لكنَّ الثورة مستمرَّة! أصبحت الثورة أقنومًا مقدسًا مثل النظام السوريّ، لا تنحلُّ ولا تُهزم ولا تتغيَّر، حالة فوق الواقع وخارج التاريخ. يكتسب الكلام والمفردات في الظواهر الاستبداديّة، السلطويّة والمعارضة، أهميةً أكبر وأهمّ من الواقع. يكفي أن نكرِّر أنَّ الثورة مستمرّةٌ لنظنَّ أو نقنع أنَّها مستمرّة فعلًا، أما الأسئلة الجوهريّة: أين هي مستمرّة؟ وكيف وبمن وإلى أين؟ فهي مكروهةٌ أو مؤجّلةٌ أو لا قيمة لها.
في الاستبداد يحكمنا، نظامًا ومعارضة/ات، قانونُ الكلِّ أو لا شيء. لنا الصدر دون العالمين أو القبر، الموقع الأوَّل أو الأخير، مع أنَّ الدرجات بينهما لانهائيّة. في الديمقراطيّة نتعلم التسويات والحلول الوسط والتدرّج اللانهائيّ والألوان المتعددة. المعنى العميق للسياسة هو الديمقراطيّة، لكن السياسة ممنوعةٌ في سورية، كلاهما النظام والمعارضة لا يمارسان السياسة؛ عندما يرتكز خطاب كلٍّ منهما على سحق الآخر، وعندما يكون لديهما معنى الانتصار نفسه، وعندما تكون فكرة الهزيمة أو الاستسلام أو التراجع غير واردةٍ أبدًا في معاجم أيٍّ منهما، فهذا يعني حكمًا أنَّ السياسة لا وجود لها. في السياسة يقولون إنَّ من لا يتقن فنَّ التراجع لا يتقن فنَّ التقدّم إلى الأمام. ولذلك، يأخذ الصراع بين السلطة والمعارضة طابع معركة كسر عظمٍ مدمِّرةٍ لا يقتصر تأثيرها على السلطة والمعارضة وحسب، بل تطال الدولة والمجتمع أيضًا. نحن هنا لا نساوي بين النظام والمعارضة/ات على مستوى الجرائم المرتكبة خلال السنوات الماضية، فهذه لا أحد يستطيع أن ينافس النظام فيها أبدًا، إن من ناحية الكمِّ أو من ناحية النوع، لكنَّنا نقارب بينهما من حيث منطق التفكير؛ فالديمقراطيّة بوصفها نمط حياة وثقافة، وليست صندوق اقتراع فحسب، غائبةٌ عند الطرفين.
ليس نادرًا في الحياة الديمقراطيّة أن تتراجع حكومةٌ ما عن قرارٍ قوبل باعتراضات مواطنيها، فيما لا تقبل أيُّ سلطةٍ في الأنظمة الألوهيّة التراجع عن أيِّ قرارٍ اتَّخذته أو سلوكٍ اتَّبعته. أكثر مسألة تُفرح نظام الاستبداد، ومواليه، أنَّه لم يتنازل عن شيءٍ أو يتراجع خطوةً. هذا سلوك عنفيٌّ عدوانيٌّ. يؤمن بوتين مثلًا بأهمية وجود طاولة بعشرة أمتارٍ تفصله عن المسؤوليّن الروس وغيرهم، لخلق الهيبة والزعامة. ويراهن مثلًا على احتجاجات وتظاهرات الشعوب الأوروبيّة ضدّ حكوماتها، لكنَّه لا يتوقَّع أن تحدث احتجاجات وتظاهرات مماثلة في روسيا، فهو يعترف ضمنيًا أنَّ هذه الأفعال يمكن أن تؤدّي إلى نتيجةٍ ما في الدول الأوروبيّة، مثل إجبار الحكومات على تغيير قراراتها أو تغيير الحكومات ذاتها.

معيار النصر والهزيمة
في سياق تقويم نتائج الصراعات الحاسمة، غالبًا ما تأخذ مسألة النصر والهزيمة موقعًا مركزيًا في نقاش البشر، وهم يختلفون حولها، ويقاربونها بطرائق متنوعة؛ فهناك من يعتمد على إحصاء خسائر الخصم أو العدو جاعلًا منها دليلًا حاسمًا على انتصاره، وهناك من يعتمد على النتائج السياسية التي حصل عليها معيارًا للدلالة على نصره أو هزيمته بصرف النظر عن خسائره البشريّة والماديّة، وهناك من يعتمد على المقارنة بين إمكاناته الضعيفة وإمكانات الخصم أو العدوِّ الكبيرة قبل بدء الصراع للتأكيد على أنَّ الهزيمة كانت من نصيبه سلفًا أو لتضخيم النصر الذي أحرزه ضدَّ طرفٍ قويٍّ وقادرٍ، وهكذا… إلخ. أما بالنسبة إلى حالة الصراع السوريّ، فإنَّ معادلات النصر والهزيمة، وحسابات الربح والخسارة، كانت، وستكون، أعقد من هذه المقاربات المعروفة.
في الحالة السوريّة، إذا أردنا أن نضع جملةً من المعايير التي تحدِّد معنى الهزيمة والانتصار، فإنَّنا نعتقد أنَّ وجود الدولة، ووحدة الشعب، والآمال أو الآفاق المفتوحة، هي العناصر الرئيسة التي يمكن الركون إليها في الحدِّ الأدنى. ويظهر من دون شكٍّ أنَّنا أخفقنا، نظامًا ومعارضةً وثورةً وشعبًا، في هذا السياق، حيث تلاشى ما تبقى من الدولة، الدولة التي كانت أصلًا ضامرةً خلال حكم النظام 1970-2011، فيما الشعب تمزَّق وتشظَّى، بعد أن كان الاستبداد هو العنصر الوحيد الموحِّد له، والآفاق تكاد تبدو مسدودةً على المستويات كافة، السياسيّة والاقتصاديّة.
استطاع النظام السوريّ منع الثورة من تحقيق أهدافها الأولى المعلنة، واستطاعت الثورة منع النظام من إعادة الأمور في سورية إلى ما قبل 2011، لكن الحصيلة كانت تدميريّة بالمعنى الوطنيّ العامّ. وبالطبع، يتحمَّل النظام السوريُّ القدر الأكبر من المسؤوليّة عن الأوضاع التي آلت إليها أحوال الدولة والشعب من جهة، وعن صوغه لمعادلة النصر والهزيمة العدمية التي سيطرت على الوعي العامّ من جهة ثانية.
رفض النظام السوريّ انتصار السوريّين عليه بالطبع، وواجههم بطريقةٍ لا تترك لهم مخرجًا سوى الاستمرار في المواجهة، لم يترك أمامهم فرصة لـ “استسلام” من نوعٍ ما، وكأنَّه كان يرفض استسلامهم أيضًا. كان يريد أن يرى الذين انتفضوا ضدّه قتلى أو لاجئين خارج البلد أو معتقلين فحسب، يريد أن يحاسبهم على جرأتهم، وأن يدفن أيَّ تفكيرٍ مستقبليٍّ بالتمرّد عليه. لم يُرِد النظام هزيمة الثورة وحسب، بل أراد دعسها وسحقها كليًّا أيضًا.
جرَّ النظام السوريّين الثائرين إلى صراعٍ عدميٍّ خالٍ من التفكير في التكاليف، وفي انعكاساته على الدولة والمجتمع والمستقبل. فقد اقتنعوا، وهم مرغمون، بأنَّه لا بدَّ من إزالة النظام كليًّا وإلَّا فإنَّه سيسحقهم سحقًا تامًّا، ومن ثمّ سيمرُّ زمنٌ طويلٌ إلى أن يتمكَّنوا من الثورة ضدَّه مرةً أخرى. هذا النوع من الصراع لا علاقة له بالصراع السياسيِّ العاديِّ المعروف في أعتى الأنظمة الاستبداديَّة، إنَّه يتوافق مع نوع خاصٍّ من الصراع؛ “الصراع على الوجود” أو “الصراع من أجل البقاء” الذي تصبح فيه كلُّ الأدوات والآليات والسلوكات مباحةً، من دون أيِّ حدودٍ ولا أيِّ اكتراثٍ بالجوانب الإنسانيّة. وهذا الصراع سيغيِّر بالضرورة من دوافع الثورة وأهدافها وأدواتها ونهجها، وسيأتي ببشرٍ من نوعٍ خاصٍّ إلى الواجهة، لهم علاقة بالقتال والأيديولوجيات المقاتلة على حساب السياسة وأدواتها.
إذا نظرنا إلى الوقائع فعلًا سنرى أنَّ أهداف كلٍّ من النظام والثورة لم تتحقَّق قطُّ، ومن ثمّ فإنَّ سائر الادِّعاءات بكسب المعركة لا قيمة لها. في الصراعات والمعارك، عادةً ما يعترف المهزومون بهزيمتهم، ويُعلن المنتصرون حصائل انتصارهم، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. في سورية لا الطرف المهزوم اعترف بهزيمته ولا المنتصر استطاع استثمار نصره سياسيًّا واقتصاديًّا. لم يحقِّق النظام السوريّ في حربه انتصارًا كاسحًا على السوريّين كما كان يأمل ويتوقَّع، لكنَّ هذا لا يعني بالطبع أنَّ الثورة انتصرت.
نعم، هُزمت الثورة ولم ينتصر النظام، وفي الحصيلة كنَّا أمام هزيمة سوريّة كليّة على جميع المستويات. نعم، الهزيمة اليوم سورية المولد والمنشأ والامتداد والتأثير والشمول، وهذه واحدة من النقاط الرئيسة التي يؤدِّي استبطانها على مستوى الوعي السوريّ العامِّ إلى توليد رؤية وطنيَّة خارج دائرة الاستقطابات السائدة كلِّها، الواقعيَّة والوهميَّة على حدٍّ سواء. سورية اليوم أقرب إلى أن تكون جثةً تنتظر الدفن، بلد مهشَّمة سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وأمنيًّا وجغرافيًّا وديموغرافيًّا، والنظام الذي يحتفي بالنصر بين الأنقاض مستمرٌّ فحسب لأنَّه الجهة المنظَّمة والمتماسكة والمعترف بها الوحيدة في سورية، لكنَّه منكسرٌ هو الآخر، ولم يبقَ منه سوى ذراعه الأمنيَّة وعلاقاته بروسيا وإيران. لكنَّ الأشد قساوة على السوريّين اليوم هو ضمور الأمل في المستقبل والآفاق شبه المغلقة، فما عاد ممكنًا الإلمام بالوضع السوريِّ اليوم، ولا التنبّؤ بمساراته وتطوراته، وكلُّ المقاربات والتحليلات ناقصةٌ أو عاجزةٌ، وهذا من دلائل الهزيمة السوريَّة الشاملة.

لماذا هُزمت الثورة؟
يمكننا أن نضع أسبابًا عديدة كانت وراء إخفاق الثورة؛ أهمها أنَّ النظام قد تخلَّص، عبر القتل أو الاعتقال أو الدفع إلى الهروب خارج البلاد، من القيادات الشبابيَّة، واستخدم كلَّ أنواع الأسلحة الفتاكة ضدَّ المتظاهرين من دون أيِّ رادعٍ، وفتح أبواب سجونه ليطلق آلاف الجهاديِّين، إضافةً إلى أنَّ انتصار ثورة وطنيّة ديمقراطيّة في سورية كان سيترك آثاره في النظام الإقليميِّ كلِّه، ما أثار مخاوف دولٍ عدة، وأنَّ العالم لم يكن جادًّا في إزالة النظام لعدم تبلور البديل الملائم الذي لا يترك سورية للمجهول. مع ذلك، فإنَّ هذه الأسباب مجتمعة، وغيرها، لا تنفي أيضًا أنَّ الثورة السوريّة قد سُحقت من داخلها بالدرجة الأولى، وهذا هو أهمُّ ما ينبغي لنا إخضاعه للنقاش والحوار، كونه المفيد بالنسبة إلى السوريِّين في سياق المراجعة وإعادة البناء.
لا تكمن المشكلة في بنية التشكيلات المعارضة، المجلس الوطنيّ، الائتلاف الوطنيّ، الهيئة العليا للمفاوضات، اللجنة الدستوريّة… إلخ، وطرائق توليدها وطبيعتها وأنماط أدائها فحسب، بل أيضًا في الوعي السوريّ العامّ، ومن ضمنه وعي النخب السوريّة، الثقافيّة والسياسيّة، الذي لا يخرج عمومًا عمَّا هو سائد في هذه التشكيلات. وليس صحيحًا أن يُختزل إخفاق هذه التشكيلات، كما هو سائد، في “فسادٍ” هنا أو هناك، فالمشكلة أكبر وأعمق، وتكمن في عقلها السياسيِّ ووعيها ورؤيتها وتحليلها وخطابها وأدائها، ولذلك لا تُحلُّ المشكلة باستبدال شخصيات تلك التشكيلات بشخصياتٍ أخرى “غير فاسدة”.
كان البديل المعارض المحتمل بديلًا مشوَّهًا عن النظام؛ معارضة أو معارضات تعاملت مع الثورة بوصفها أداةً للانتقام، لا بوصفها أداة تغييرٍ وبناءٍ وارتقاءٍ، وقدَّمت في مناطق نفوذها نماذج استبداديَّة وتابعة، وساهمت في نموِّ الصراع المسلَّح، وتبنَّت انحرافاته المتطرِّفة، واختزلت الثورة إلى بعد عسكريٍّ وحيد، وأبعدت النضال السياسيَّ والمدنيَّ. كانت الكيانات المحسوبة على الثورة والمعارضة: المجلس الوطنيُّ، الائتلاف الوطنيُّ، هيئة التفاوض، الحكومة المؤقَّتة، الفصائل المسلَّحة، الجيش الوطنيُّ، المجالس المحليَّة… إلخ، مرتهنة ولا تملك مشروعًا وطنيًّا حقيقيًّا تدافع عنه، حيث كلُّ كيانٍ أو فصيلٍ أو تنظيمٍ يدافع عن مصالح مموليه، أو خلافته أو دولته، ويسابق بعضها بعضًا على خدمة رؤى الدول الإقليميَّة ومصالحها.
كرَّر الإسلاميُّون السوريُّون أداءهم نفسه وممارساتهم ذاتها التي اعتمدوها في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، وكأنهم يتبعون “كتالوجًا” واحدًا لا يعرفون غيره، ومثلهم فعل النظام السوريُّ، وكذلك تيارات وشخصيَّات سياسيَّة سورية، يسارية وليبرالية، التحقت بالإخوان بطريقةٍ أو أخرى. لو كانت جماعة الإخوان المسلمين تفكِّر فعلًا في نجاح الثورة السوريَّة لأخذت الصف العاشر بدلًا من أن تتصدَّر المشهد السياسيَّ. ما زالت الجماعة تنتقل من هزيمةٍ إلى أخرى، وهي مستمرَّة في ترديد الكلام نفسه والحجج ذاتها، وتنتظر نصرها الحتميَّ المقبل.
لا يمكن النظر إلى الأخطاء السياسيَّة التي وقعت فيها المعارضة أو المعارضات بوصفها أخطاءً عابرةً أو بسيطةً تمكن معالجتها وتصحيحها، فنحن أمام معارضةٍ/اتٍ لديها حالة لاعقلانيَّة مزمنة في التفكير والأداء السياسيَّين، ولذلك لا يُتوقَّع منها أن تنتج إلَّا الأخطاء، تنهض من حفرةٍ وتقع في أخرى تليها. على مستوى التحليل السياسيّ، كان الخطأ في قراءة طبيعة النظام السوريِّ وقدراته وشبكة علاقاته وتوازناته وتحالفاته، من أكبر الأخطاء، ما جعل المعارضات تتوقَّع سقوطه بسهولة، وفي زمنٍ قصيرٍ. ومنها أيضًا الخطأ في النظر إلى الثورة بوصفها جاءت لتُنصف فصيلًا معيَّنًا أو لتُظهر صحّة رؤيته، مع أنَّ الثورة كانت وليدة حاجاتٍ سياسيّةٍ واقتصاديّةٍ لا علاقة لها بالماضي وقواه وثاراته وأيديولوجيَّاته.
افتقدت الثورة إلى مركزٍ ناظمٍ ومحرِّكٍ وموجِّهٍ ومعتمَدٍ وموثوقٍ، داخليًّا وخارجيًّا، فقد غابت القيادة السياسيَّة والرؤية السياسيَّة، وغاب البرنامج السياسيُّ والخطاب السياسيُّ والخطة السياسيَّة والأداء السياسيُّ والتنظيم السياسيّ. وهذا الغياب سببٌ رئيسٌ من أسباب الهزيمة على المستوى الذاتي. بُنيت تشكيلات المعارضة في معظمها بطريقةٍ اعتباطيَّةٍ، فكانت أقرب إلى “اللمَّة” أو “الشلَّة” لا التنظيمات السياسيَّة، وكانت الفوضى سيدة الموقف؛ فوضى الإعلام والمواقف السياسيَّة والعلاقات الدوليَّة، وكان عملها أقرب إلى العفوية و”الفزعة” من دون بذل جهدٍ مركَّزٍ ومنظَّمٍ وتراكميٍّ. ومن ثمَّ ظلَّ النظام السوريُّ العنوان الوحيد للشعب السوريِّ والدولة السوريَّة، وباءت جميع المحاولات من أجل صناعة عنوانٍ آخر بالإخفاق.
وُضعت الثورة، منذ البدايات، في مواجهة السياسة وفق فهمٍ سطحيٍّ وشعبويٍّ للثورة والسياسة في آنٍ معًا؛ شارك مثقفون وسياسيُّون في تصدير هذا الفهم، وكأنَّ الثورات لا تحتاج إلى السياسة والتفكير السياسيِّ والعمل السياسيِّ، أو كأنَّ الهدف الرئيس للثورات ليس إعادة بناء الحقل السياسيِّ والنظام السياسيِّ، وليس لهذا من دلالة سوى أنَّ النخب الثقافيّة السياسيّة لا يزيد وعيها على الوعي العامِّ أو أنَّها خانت عقلها وسارت في الطرق الانتهازيّة والشعبويّة، فمارست السياسة بطريقة السحرة والمشعوذين، واستبطنت الوهم، واقتنعت به، ودارت فيه وأنتجته، وصدَّرته.
ساد أيضًا نمطٌ من التفكير “الثوريِّ” المؤمن بحتميَّة انتصار الثورة، استنادًا إلى كونها ثورة مُحِقَّة، ولم يكن هناك أيُّ شكٍّ لدى القطاع الأوسع من السياسيِّين في انتصار الثورة؛ لو كانت “الأحقيَّات” هي التي تحكم الواقع والتاريخ أو تتحكَّم فيهما لكنَّا بألف خيرٍ، فهذا النمط من الحتميَّة، في ميدان حركة التاريخ والبشر، لا يجد سنده أو رصيده إلَّا في الوعي الخرافيِّ والحكايات الشعبيَّة. لم يُوضع إخفاق الثورة احتمالًا واردًا، ومن لا يخطر هذا الاحتمال في ذهنه ليس له أن يعدَّ نفسه مثقفًا أو سياسيًّا أو صاحب تفكير إستراتيجيٍّ، فوضع هذا الاحتمال في الذهن كان سيكون مفيدًا من حيث التفكير في مصائر سورية والشعب السوريّ في حال حدوث الإخفاق، وفي اختيار أنماط عملٍ لديها القابليَّة للاستمرار في مناخ الإخفاق كي لا تكون الهزيمة شاملةً وساحقةً. كان هناك، للأسف، شكلٌ من أشكال الترهيب الفكريِّ ضدَّ كل من يفكِّر خارج المعادلة القتاليَّة العدميَّة السائدة.

الهزيمة؛ من الإنكار إلى التفسير، ومن ثمَّ التبرير
اتَّهم النظام السوريُّ الثورة السوريّة في أسبوعها الأول بثلاثة اتِّهاماتٍ: الأول أنَّها ذات توجهاتٍ إسلامويَّةٍ طائفيّةٍ، والثاني أنَّها عنيفة ومسلَّحة، والثالث أنَّها مرتبطة بالخارج. في الحقيقة نفَّذ القسم الأكبر من المعارضة/ات هذه الاتهامات أو شارك في تحويلها إلى واقعٍ على الرغم من أنَّ الثورة في أشهرها الأولى كانت بعيدةً كليًّا عن هذه الاتهامات. لا يوجد إخفاقٌ أكبر من تنفيذ ما يريد خصمك أن تنفِّذه. هؤلاء هم أكثر من ينكرون هزيمتنا اليوم.
يمكننا أن نقول ببساطة إنَّ النظام السوريَّ هو الذي دفع الثورة والمعارضة دفعًا إلى السير في الخيارات الثلاثة السابقة، وهذا صحيح بالطبع بدرجةٍ ما كما أسلفنا، لكنَّ الاكتفاء بهذا التفسير معيبٌ من جانب اعترافنا بصورةٍ غير مباشرةٍ بأنَّ النظام قد جرَّنا إلى حيث يريد، وأنَّنا كنَّا منفعلين بما يحدث، تاركين عقولنا وراءنا.
مازال قسمٌ من المعارضين والثوريِّين يُنكر الهزيمة، رافعًا لواء استمراريَّة الثورة. كان صعبًا على هؤلاء قبول حقيقة أنَّ التاريخ قد غيَّر مجراه، فبدلًا من الإقرار بالهزيمة وخفض سقف التوقّعات والتركيز على الإنجاز في المعارك الصغيرة تحضيرًا لمستقبل آخر بالاستفادة ممَّا يسمُّونه أحيانًا “الأخطاء السابقة”، استمرُّوا في إطلاق الأمنيات التي تفتقد إلى أيِّ رصيدٍ واقعيٍّ.
بالطبع، ليست الهزيمة أمرًا سهلًا، ولا الإقرار بها أيضًا. نعم، الخسارة مؤلمة وصعبة الاحتمال، لكنَّ أسوأ ما يميِّز هزيمتنا اليوم ليس إنكارها، بل تكرار المهزومين لهذيان الأنظمة نفسه عندما كانت تبرِّر هزائمها أمام الأعداء الخارجيّين، الهذيان الذي كنَّا، وما زلنا، نسخر منه؛ المؤامرات التي لا تنتهي، خيانة الدول الصديقة للثورة، بيع القضية السوريَّة أو مقايضتها في السوق السياسيّة… إلخ.
في سياق تبرير الهزيمة يكثر أيضًا الحديث عن وجود “ثورة مضادة” أنهكت الثورة الحقيقيَّة، ونمت على حسابها، أو الحديث عن اختطاف الثورة أو السطو عليها من تياراتٍ معيَّنةٍ، والغريب أنَّ مثل هذه التعابير تُستخدم من الجميع ضدَّ الجميع في سياقٍ تبريريٍّ دفاعيٍّ لا تحليليٍّ، لتؤدِّي دورًا في مواساة أنفسنا أو التخفيف من إحساسنا بالهزيمة أو لتكون بمنزلة إعلان براءة من واقع الثورة اليوم. في مصر مثلًا، استخدمت التيارات والقوى العلمانيَّة هذا التعبير في وجه جماعة الإخوان المسلمين التي استلمت الحكم بعد ثورة 25 يناير، لتعود الجماعة وتستخدم التعبير ذاته ضدَّ نظام السيسي. وفي سورية ظهر تعبير “الثورة المضادَّة” بعد اتِّضاح هزيمتها أو على الأقل بعد عجز الثورة عن إسقاط النظام، واستُخدم في وجه الجماعات الإسلاميّة والفصائل المسلّحة مع أنَّ الكتلة الأوسع من الثورة كانت قد أيَّدت “المجلس الوطنيّ السوريّ” وفصائله المسلَّحة أو التحقت بهما في وقتٍ لاحقٍ، ما يعني في الحقيقة أنَّ “الثورة المضادة” كانت قابعةً أصلًا في رحم الثورة أو على الأقل ينبغي لنا الاعتراف بأنَّ “الثورة المضادة” قد انبثقت انبثاقًا عضويًّا من الثورة الأصل، ولم تكن غريبةً عنها كليًّا. جذر المشكلة هنا هو تأخُّر ثقافة المعارضة/ات والنخب السياسيَّة الثقافيَّة والمجتمع.
يرى بعضهم أنَّ الثورة لم تُهزم، وأنَّ الذي هُزم هو المعارضة/ات والجماعات والفصائل الملحقة بها. إذا كان الحديث يدور عن الثورة بتطلعاتها وأهدافها خلال أشهرها الأولى، فهذه لم يبقَ منها إلَّا بعض الجزر المحدودة داخل البلد وخارجه، وهي ما زالت مشتَّتة بطريقة لا تسمح بإيجاد ناظمٍ أو مركزٍ لها، ومن ثمَّ ليست لها فاعليَّة حقيقيَّة في مسار الواقع الراهن، على الرغم من كونها إحدى النقاط المضيئة في ظلِّ هذه الظلمة الحالكة. لكنَّها تلفت انتباهنا إلى مسألة مهمّة؛ ما دامت الثورات لا تموت بالسكتة القلبيَّة، خصوصًا إذا كانت عميقة ومؤثِّرة وقويَّة بمعطياتها الاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة، فإنَّ الأنظمة الحاكمة هي أيضًا كذلك. هذا يعني أنَّ الرؤى الراديكاليَّة التي بالغت في موقفها تجاه النظام السوريِّ، فطالبت بإسقاط كيانه وأركانه ورموزه وكلِّ ما يمتُّ إليه بصلة، هي رؤى خرافيَّة تخدم في “المزاودة” لا في السياسة. وعي هذه النقطة كان يمكن أن يكون مفيدًا في إنتاج خطابٍ سياسيٍّ عاقلٍ، وفي بناء تصوّرٍ يُعتدُّ به لأيِّ مرحلةٍ انتقاليَّةٍ مقبلةٍ.
أما إذا كان الحديث مركّزًا على “الثورة” التي أصبحت طرفًا في صراعٍ عسكريٍّ، محليٍّ وإقليميٍّ ودوليٍّ، رغمًا عن أنف أهلها وبدفعٍ من بعض أطرافها في آنٍ معًا، فهذه لا يمكن فصلها عن “المعارضة/ات” السائدة، لا على مستوى الوعي، ولا على مستوى التنظيم والتمثيل والأداء، ومن ثمَّ فإنَّ التمييز بين هذه “الثورة” و”المعارضة/ات” السائدة ليس أكثر من محاولةٍ رغبويَّة لا قيمة لها لتبرئة مصطلح “الثورة” ذاته من الدنس والإخفاق.
يدخل أيضًا في سياق الخطاب التبريريّ الدفاعيّ غير المفيد القول “إن سورية قد تغيَّرت، ولن يستطيع النظام إعادة سورية إلى ما قبل 2011” أو “إن الثورة السوريّة كسرت حاجز الخوف”. وهذا صحيح أيضًا، لكنَّه لا يعطي كلَّ الحقيقة، فالواقع مفتوحٌ على احتمالاتٍ متعدِّدة؛ سورية حتى الآن أسوأ ممّا كانت عليه قبل 2011، وقد تصبح أكثر سوءًا في المستقبل القريب أو أفضل في المستقبل البعيد. أما الخوف الذي تكسَّر فقد ظهرت بدلًا منه أنماطٌ جديدةٌ من الخوف: خوف من حكومات الدول الأخرى، خوف من الجماعات الإسلاميّة المتطرِّفة، خوف من الفصائل المسلّحة، فضلًا عن اشتداد مخاوف قديمة وجدت تربتها الملائمة؛ الخوف ممن ينصِّبون أنفسهم أوصياء على الدين، الخوف من تطييف المجتمع السوريّ، المخاوف المتبادلة بين الجماعات القوميّة المتعددة في سورية… إلخ.
أما تعبير “الدروس المستفادة من تجربة الثورة”، فعلى الرغم من صحَّته وأهميَّته، فإنَّه يظلُّ مرهونًا بطبيعة العقل الذي يعيد قراءة التجربة بقصد الاستفادة منها والمشاركة في إنتاج مستقبلٍ آخر، فلا أمل في عقلٍ لم يُراجع أوليَّاته ومسلَّماته مراجعةً نقديّةً أو لم يتحرَّر من سطوة الأيديولوجيا أو الانتماء الطائفيِّ أو القوميِّ الضيِّق أو من القابليّة للاستزلام أو التبعيَّة. هناك “أخطاء” أيضًا كانت واضحةً منذ البدايات، وقد غابت عن أصحابها إما بسبب عدم الخبرة أو اللاعقلانيَّة السياسيَّة أو ربَّما بسبب الانتهازيَّة السياسيَّة أو الخفة السياسيَّة والحسابات قصيرة النفس، ما يتطلَّب الاعتذار وإخلاء الساحة في الحدِّ الأدنى، فهؤلاء مؤهَّلون لإعادة إنتاج الهزيمة لا تجاوزها.

ما بعد الهزيمة
يتفاعل البشر مع هزائمهم بصور وطرائق متنوعة، تبعًا لمستوى وعيهم وانتماءاتهم ومواقعهم وخساراتهم. يصل بعض أصحاب التجارب أو الثورات المهزومة إلى التبرؤ منها أو إنكارها أو السخرية من شعاراتها وأهدافها، الديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة… إلخ، أو إلى شقِّ طريقٍ أخرى تُعلي من شأن الاهتمام بالمصلحة الشخصيَّة وحسب والتنكّر لجماعيَّة الحياة، فيما يبقى بعضهم الآخر مستغرقًا في الماضي يتغنَّى باللحظات الأولى البريئة للثورة، ويستذكرها بشيءٍ من الفخر أو الحنين أو الألم، أما غيرهم فينكرون الهزيمة ذاتها أصلًا، ويستمرّون في رسم صورةٍ مغايرةٍ لواقع الثورة، تتوافق مع انتماءاتهم أو أمنياتهم أو مصالحهم، محاولين بطرائق عديدة إقناع المتقاعسين أو المتردِّدين بالاستمرار في نضالاتهم وأعمالهم استنادًا إلى الأهداف ذاتها وباستخدام الآليَّات نفسها ومن خلال طرق الأبواب عينها.
لا شكَّ في أنَّ الإحساس الكبير والعميق بالظلم قد يمنع أيَّ مقاربةٍ عقلانيّةٍ وهادئةٍ للواقع والثورة، خاصةً مع الأوصاف التي رسخت في الوعي العامِّ للثورة السوريَّة؛ ثورة يتيمة، ثورة مغدورة، الثورة التي تآمر عليها الجميع، الثورة ذات التكاليف الهائلة بشريًّا وماديًّا… إلخ. إنَّ الثورة المهزومة، فضلًا عن هزيمتها، ستتعرَّض إلى ظلمٍ كبيرٍ يتمثل إما بتنكُّر بعض أهلها لها وإعلان براءتهم منها أو بلعنها من الأغلبيَّة وإلحاق كوارث الواقع كلِّها بها. هذا أمرٌ طبيعيٌّ، وحدث كثيرًا عبر التاريخ، ولن تحصل الثورة المهزومة على الإنصاف إلَّا عندما تتحقَّق أهدافها أو تنجح في ما سعت له، ولو بعد زمنٍ طويلٍ.
هناك قياداتٌ كثيرةٌ، في ثوراتٍ عديدةٍ عبر التاريخ، لم يُحتفَ بها إلَّا بعد أن أُعيدت كتابة التاريخ في ظلِّ واقعٍ آخر، وبعضها اتُّهم بالجنون في أثناء حياته إن لم يُقتل أو يُعتقل أو يُنفى، وهناك هزائم قد تتحوَّل لاحقًا إلى انتصاراتٍ فيما لو أُحسن الاستفادة منها. فعلى الرغم من أنَّ معركة ميسلون لم تنجح في منع الفرنسيّين من احتلال سورية فإنَّه لا يمكن إنكار دورها في تأسيس الوطنيَّة السوريَّة بعد انهيار الدولة العثمانيَّة. وهذا يجعلنا نؤكِّد على أنَّ كلَّ هزيمةٍ هي هزيمةٌ موقّتةٌ إذا عرف أهلها كيف يتجاوزونها ويستفيدون منها في بناء المستقبل.
على الرغم من غرقنا في الهزيمة، ينبغي علينا ألَّا نتنكَّر لأحلامنا، وألَّا نخجل من الاستمرار في العمل من أجل الأهداف الكبرى، لكن في المقابل، ينبغي لذكرياتنا عن الثورة السوريّة ألَّا تمنعنا من رؤية الواقع أو الراهن كي لا نصبح خارجه أو على هوامشه، ولنكون فاعلين ومؤثِّرين في مساراته. هذا يعني أنَّ التجاوز مختلفٌ عن النسيان؛ لا ينبغي لنا أن ننسى أو نتناسى الأماني والتطلُّعات والآلام بل أن نستمرَّ في العمل من أجلها، مع إدراكنا عيوب التجربة السابقة وعثراتها وأوهامها وسذاجتها وتناقضاتها ورعونتها.
نحتاج حقًا إلى ثورة في الثورة؛ بلورة ثورة ديمقراطيَّة من أحشاء التجربة السابقة. إنَّ أيَّ عملية بناء سورية مستقبليَّة لن تبدأ من الصفر، فالخبرات الكثيرة المتراكمة لدى قطاعاتٍ شعبيَّةٍ وسياسيَّةٍ عديدةٍ خلال المرحلة الماضية يمكن أن يكون لها دورها المهمُّ في إبداع مسارات جديدة. قد يكون فهم الماضي مدخلًا لفهم الحاضر، وبالتالي خطوةً من أجل النظر إلى المستقبل، لكنَّ طبيعة الوعي الذي يحمله المرء تبقى هي التي تحدِّد ما إذا كان سيستفيد من التجربة أم لا، فهناك من يكرِّرون الأخطاء إلى ما لا نهاية.
تحتاج المواجهة الفاعلة للهزيمة، أيِّ هزيمةٍ، أولًا وقبل أيِّ شيءٍ، إلى الإقرار بها. الاعتراف بالهزيمة هو أوَّلُ خطوةٍ باتجاه تخطِّيها، وهذا لا يعني النطق باعترافنا وحسب كما يتصوَّر بعضهم، بل يعني رمي أنماط تفكيرنا وأدائنا وطرائق عملنا التي أوصلتنا إلى الهزيمة وراءنا. يسألونك ما الحلّ؟ الحلّ يبدأ بالتفكير بطريقةٍ أخرى. تخيَّل أنك رميت من ذهنك أنماط التفكير والخطاب واللغة والمفردات والآليات والممارسات التي سادت طوال ما يزيد على اثني عشر عامًا، ثم ابدأ التفكير انطلاقًا من صفحة بيضاء؛ فكلُّ هزيمة تتعرَّض لها جماعة بشريَّة تعني أنَّ ثمَّة تفكيرًا زائفًا وغير عقلانيٍّ يقبع خلفها، وأنَّ تخطِّيها مشروطٌ بنقد هذا التفكير وإنتاج رؤىً ومقارباتٍ بديلةٍ. كان واضحًا طوال السنوات الماضية مثلًا أنَّ معايير الهزيمة والانتصار بالنسبة إلى النظام والمعارضة السائدة هي واحدة لأنَّ هناك ثقافة سياسيّة واحدة تجمعهما في الحصيلة.
لا بدّ من مرحلة صمتٍ أو تأمّلٍ بعد الهزيمة، مرحلة مراجعة الذات، لأنَّ الإمعان في الصراخ يزيد الهزيمة تكريسًا والمسار انحدارًا. كثرة الصراخ في مناخ الهزيمة تشبه ذلك الخائف الذي يسير ليلًا ويسلِّي نفسه بصوته. نحتاج، بعد ذلك، إلى اختيار التكتيكات الملائمة وساحات العمل المنتجة حتى لو كانت صغيرةً أو محدودةً، ليس بقصد التخلِّي عن الثورة الأصل وأهدافها، إنما بهدف الاستعداد لمرحلة كفاحيَّة جديدة، بطيئة وصبورة. في مراحل الركود والتراجع علينا أن نتقن العمل بهدوءٍ وانتظامٍ وثباتٍ، وأن نتقدَّم على أرضٍ صلبةٍ، خطوةً بعد خطوةٍ.
صحيحٌ، كما أسلفنا، أنَّ هناك أسبابًا عديدة لإخفاقنا، وبعضها أكبر من طاقة السوريّين أو فوق قدرتهم على التحكُّم فيها، لكن دائمًا وأبدًا كانت، وستكون، هناك أسباب تتحمَّل مسؤوليّتها الذات، والحديث عن إخفاق الذات وكيفية تجاوز مشكلاتها هو الحديث الوحيد المفيد في الحالة السوريّة الراهنة. الطبيب الجيِّد هو الذي يضع مسؤوليّة أيِّ إخفاقٍ على نفسه، على عقله وأدائه أولًا، لا على المريض أو المرض. من حيث المبدأ كلُّ المرضى قابلون للشفاء، وكلُّ الأمراض قابلة للمعالجة، وأيُّ إخفاقٍ هو مسؤوليَّة الطبيب. هذه الرؤية تدفع الطبيب ليبحث ويتعلَّم ويحاول ويغيِّر من مقارباته وأساليبه لعلَّه ينجح مستقبلًا في ما أخفق فيه، وأيُّ رؤيةٍ غيرها لن تكون سوى محاولة رديئة للتنصّل من المسؤوليَّة. ما يصلح في الطب يصلح في الحياة، وفي السياسة أيضًا.

مشاركة: