ابنة السطح..قصة قصيرة

سبقتُها إلى محطةِ الحافلاتِ، حاذرتُ التزحلق ببقايا الثلج، ركنتُ ما اشتريته لغداء هذا اليوم جانبًا، أزلتُ قبعتي وحرّرتُ كفي من جيبي علّي أخفف غموضَ هيئتي لو صافحتها، أخذت نفسًا عميقًا بعد إحساسي بنظرتها تثقب ظهري، استدرت، لا أحد. ترصدت المنطقةَ بنظرات عشوائية، الرياح شمالية والوجوهُ بالكاد مكشوفة، لهاثُ “الصباحيين” خلف الوقت وهلعهم من عدم اللحاقِ يقبضُ صدري.
ظهرت أخيرًا، نظرتُها الحيادية التي أعرفُها جيدًا منذ طفولتها تدلني عليها.. حواجب عريضة، حبيبات متفجرة في جبهتِها وأثر غمازات لو ابتسمتْ. تجاهلتني، هبتْ الحمى في بصلات شعري. بسلاسة الحلزون انزلقتْ مع المعاطف القاتمة وذابتْ خلفَ زجاج الحافلة المتسخ، تركتني ككل مرةٍ متلبسةً بجريمة مراقبتِها، حملتُ أكياسي التي غمرها رَشقُ الوحل..

  • أنقذتك حافلتُها من موقف محرج.
    التفتتْ سيدةٌ عابرة معتقدة أنني خاطبتُها، رافقني كلبٌ شاردٌ حتى الحديقة، عبرتْ شاحنةٌ مجنونة، صرختُ مع ضجيجها لتهدأ روحي. ما أطيب رائحة الأشجار حتى في عريّها، ملأتُ صدري منها.
    اخترتُ مقعدًا سالمًا من الكسر، سحبتُ برتقالة من أكياسي، وخزتها بمشبِك شعري، ضغطت عصيرَها وامتصصتُه.
    ستّ سنواتٍ عبرت منذ تعرفتُ إليها طفلةً عند بوابة شقتهم على ذاك السطح، أغلبنا سكن هذا المجمع قبل استكمال شققه، جّرني بكاؤها، قطعت راكضةً بضعة دكاكين فاغرة وشارعًا وأدراجًا متسخة بالرمل، وصلتُ ملحق بنايتهم.. رمتني بحصى الرمل واستغاثت “ماما.. ما ما” ضربتْ بوابتهم الموصدة بقدميها، اقتربت لأطمئنها، تراجعت، بالتْ على ثيابها وتجمدت مع دمعتها، أحرجني ذعرُها، أخبرتها أنّ لدي أبناء بعمرِها سيحبونها لو تعرفوا إليها، قفزتْ كخروف هاربٍ من الذبحِ نحو مصدر صوتِ أمها اللاهث على الدرج، شكرتني السيدة بتوترٍ وعجل، تمنيت اللحاق بهما لأطمئن الطفلةَ أكثر لكنَّ الباب أُقفل وتبعثرت عتاباتُهما داخل منزلهم.
    تسرب عصيرُ البرتقالة تحت أكمامي ولَدعتْ مرارةُ قشرتها شفتيّ. ثلاثة تلاميذ تسلقوا شجرةً عارية ودارتْ “سيجارة” بين أصابعهم الغضة، قفزوا بتحدٍ في رامة من وحل عند رؤيتي، ركلوا حقائبَهم الثقيلة بأقدامهم، زعقوا وضحكوا وغابوا..
    منذ ذاك اللقاء وعيوني لمْ تفارقْ سطحَهم، وشغفُ رعايتي لها ولو عن بعد تعزّز بعزلتها، تقفزُ مع الحبل، تلقنُ دروسَها لملابسِ الغسيل وصحنِ “الستلايت” تمضغُ عرائسَها وقبل انهيارِ الشمسِ تراقبُ الطريقَ من الأعلى ثم تختفي مع ذوبان بحرِ العتمة.
    أشهرٌ واندفعت العائلات من مدنٍ ومناطقَ مفجوعةٍ بالمجازرِ والحرب المجنونة، امتلأتْ الطوابقُ الفارغة ولم تعد هذه الصغيرة وأمها الوحيدتان بوحشتهما في حيّنا وتكرّستْ قوانين الحذر، لا تأمنْ لغريب، لا تفتحْ الباب، إن سمعتَ صوتًا أليفًا تأكدْ من أنّ الذئب لم يُحلِّ صوته بالعسل، إن لمحتَ جانبًا منه تحققْ من أن الذئبَ غيَّر هيئته بالطحين الأبيض.
    وجاء الذئبُ مرات آخرها يوم نُهشت أشرطة الكهرباء بعشوائية في بنايتنا، نُتفتْ، حُرمنا بلا رحمة من شهقة الغارقِ، هي ستون دقيقة من طاقة الكهرباء تتمزق على يومنا، نغسل، نطبخ، نزور ونستقبل. أنهكنا الرعبُ من غموضِ الفاعل؟ ويا خجلي من الشكِّ الجاثم في لقمتِنا وأنفاسِنا، عذرًا يا أمومتي ترى هل يختبئ الذئبُ خلفَ طفلة؟ لكنّ الذئبَ كان أولادي. “كنا نمزح.. نلعب.”.. فرّغوا غضبَهم فينا، أدركوا بحسهم العميق قدرتنا السرياليةَ على التحمل، الواقعُ المذلُّ الذي نعيشُه عبث في “الجينات”.. غيَّر ملامحنا، لا حدود للقسوة، للرقة، للجوع، للشبع، للأنوثة والذكورة، للطفولة.. للحياد، وجوهنا معجونة بكل هذا.. وتشبه وجهك يا قمر.
    أعتقد أن اسمَها قمر… التقيتها مرةً في سوق ِ الخضار، كبرتْ قليلًا وصار في مقدورها دحرجة عبوة الغاز، جمعتُ خصلات شعرِها الفالتة على خدودِها في ضفيرةٍ محكمة وهي ألقتْ نظرتَها الغائبة في عيني وغادرتني مع قرقعةِ عبوتِها وكأنها حُذرت من التورطِ بأي تودّد أو لطف.
    كلُّنا أنهكنا أطفالَنا بالتحذيرات، لكننا حرصنا على جمعِ ما أمكننا من روابطَ مشتركةٍ بين عائلاتنا.. البسمةُ هي مفتاح الأمان، استكملنا على مهل فراغاتِ حكاياتنا، تبادلنا المفاتيحَ مع البعض وأخفيناها عن البعض، وكلما ضاقَ الخِناق ازدادَ السعي إلى ما يجمعنا، إرسال ما تيسر لفقراء الحي، تكاتف في المرض، إعارة الأشياء الناقصة، تبادل أطباق الأطعمةِ مهما كانت صغيرة.
    أم قمر تعملُ طويلًا ولتحمي ابنتَها من ساعاتِ بقائها وحيدة، قصتْ شعرها الخرنوبي الطويل، ألبستها القمصانَ الفضفاضة و”الأفرولات” علمتها التايكوندو، وها هي هذا العام تلاكم الهواء، تقود دراجةً نارية وتجيدُ الصفيرَ للحمامِ السارحِ في الفضاء. وما شفع للأم سوى عبث أمنياتنا نحن الأمهات. يا ليتني أنجبت إناثًا كي لا تبتلعُهم الحرب، يا ليتني أنجبت ذكورًا خوفًا من ضباعِ الخطف وكمْ صارعتُ خوفي عليها وتواطأت مع صبيانيتها كلما سمعت نغمات صفيرها البارعة “يا طيور”.. مرجوحتي.. يا فجر.. دنجي، دنجي…
    جلستْ أمامي هرة فصفصت وتذوقت، ذبلت عيناها وأنا أغمضتُ آملة بسهوة.
    غيابُ “مازوت” المدافئ يراكمُ الأغطية فوق أجسادنا فتعجز أطرافنُا عن الحركة، نحن نغفو هلاكًا لا نعسًا. أمس كَنَنْا أنا والأولاد وأبوهم في فراش واحد بمجرد إحساسنا بالثلج يرمي ندفه علينا، بلع سكونُ الصبرِّ كلَّ صوتٍ حي. صفيرٌ بعيد أيقظني من سبات.. والنغمة “أنساك..” الظلامُ دامسٌ وأكرهُه، لكني نهضتْ، وشاحٌ ضخمٌ يدور تحت الثلج فيكشفُ جوانب من عريِّ أنثى تحملُ ذراعُها بومه، حبست أنفاسي خوفًا من صرختي، أردتُ ضمّها، حمايتَها، أشعلتُ ولاعةً عسى يأمرُها الضوء بالاختفاء، مدتْ شباكُ المطر استغاثتي، تكورتْ الصبية، اختفتْ وأنا هرعتُ إلى فراشي وأشباحُ غطائها ترفرف حولَ نوافذي وأغطيتي.
    تشققت البرتقالة بين أصابعي المرتجفةِ من البرد، قشَرتُها بأظافري، تلقفتُها مع حمامةٍ حائرة.. أكره البومَ وتجاوزي لتلك الخرافةِ يبدو أنه مجردُ ادعاءات. أخطّئ نفسي، كانتْ عتمة. أردّ، للثلجِ ضوء. أحارب عينيَّ، إن مَسحة الضوءِ تلك لم تكنْ كافية لأميزَ العريَّ عن الملابس الضيقة والبومةَ عن الحمامة.
    جففتُ فمي وذقني وخدودي بلفحتي.. وحسمتْ..
    -ما رأيته كان حلمًا، كابوسًا، وهمًا.
    لسعني الصقيع، أزحتُ كيسَ قمامةٍ فتكتْ به الأصابعُ الجائعة، قطفتُ صمغًا من شجرة الفلفل، قطعت ورقة، تنشقت طيبتها..
  • تريدينه وهمًا؟ قبلتِ بها ضحية؟ ما الذي أفزعك، الضباع؟ أم أنوثة استيقظتْ في حيٍ ينامُ عنوة؟
    الغيوم قاتمةٌ فوق قاسيون ورغبة في البكاء.. ترى هل صرتُ وجهًا مبهمًا؟ كيف تراني تلك الطفلةُ وزوجي وأبنائي؟؟
    نفرَ الدمُ من أنفي، ونفرَ معه ضوء رقيق في القلب، أنا متورطة بوحشتك يا قمر أم بسحرٍ نضجَ فيك هزّ ثلجي وطيني.
    وصلتُ بيتَهم، أصص وردٍ وخزانة أحذية، قرقعات طبخٍ، منشر غسيل يحمل ملابس رضيع.. من خلفِ قصبانِ باب حديدي ظهرَ فتى بوجه بشوش وعيون ذكية، أخبرني أنّ من أسأل عنهم رحلوا منذ أكثرِ منْ عام.. علا صفيرُ ارتفاع الضغطِ في أذني..
  • من هي تلك التي سكنتْ رأسي وعيوني وأذني ورؤوس أصابعي إذًا؟.. ومن هي قمر؟!

مشاركة: